الماء باعتباره جزيئًا حيويًّا
الماء جزيء حيوي
الماء أساسي للحياة، هذا ما يتكرر على مسامعنا. فجميع أشكال الحياة المعروفة تحتوي على نسبة عالية من الماء، وفي حين يدخل في تكوين كل منا بنحو ٧٠ في المائة، يتفوق علينا القنديل بمحتوًى من الماء يصل إلى نحو ٩٨ في المائة. لذا فليس من المُستغرَب أننا قد أصبحنا نعتقد أن الماء هو عنصر حاسم للحياة. يُقال لنا حيثما لا يوجَد ماء لا يمكن أن تكون حياة.
تمتدُّ هذه العقيدة إلى بحثنا عن الحياة خارج حدود الأرض، الذي يبدو أنه يتركَّز على البحث عن الأماكن التي قد يكون (أو كان) فيها ماء. فقد حاز البحث عن الماء على المريخ اهتمامًا مكثفًا لعقود. وعلى ما يبدو، هناك الكثير من الأدلة التي تُشير إلى أن الأشكال المألوفة للحياة لا تزدهِر في غياب الماء بالتأكيد. على سبيل المثال، كان تجفيف الطعام وسيلةً فعالة لزمنٍ طويل للحفاظ عليه من هجوم الجراثيم.
أما على الأرض، فبالطبع لا يُوجَد سائل يتوافر طبيعيًّا وبصفة مستمرة غير الماء؛ لذا فإن اعتماد أي شكلٍ للحياة على الأرض في تطوُّره على وسط سائل غير الماء أمر مستبعد. وإذا كانت الحياة التي نراها على الأرض تعتمد على الماء، فهل هذا ببساطة نتيجة حتمية لاتساع نطاق وجود الماء السائل على الأرض؟ أم لأن الماء قد يكون «فريدًا» في قُدرته على دعم وجود «أي شيء» نعرف أنه حي؟
بالنظر إلى هذا الاعتراف بالأهمية البيولوجية للماء، قد يكون من المدهش نوعًا ما أنَّ علم الأحياء يميل في إطاره التعليمي إلى الاعتراف بما يُسمَّى «جزيئات الحياة»، كالإنزيمات التي تُحفز التفاعلات الكيميائية التي تقوم عليها الحياة، والأحماض النووية التي تحمل الشفرة الجينية، والدهون التي تُشكل الخلايا التي يحدث فيها كثير من العمليات الحيوية. ولا يُلتفَت كثيرًا إلى الوسط المائي الذي يحدث فيه كثير من العمليات البيولوجية، إن التُفِت إلى هذا الأمر عمومًا.
قد نتساءل في أذهاننا في هذا المقام عن السبب وراء رغبة بيرنال في فهم السوائل (الفصل الرابع): لقد أراد فَهم الماء ودوره في العمليات البيولوجية. فإذا كانت الحياة بالفعل تعتمِد على الماء، فربما يجِب اعتبار جزيء الماء نفسه جزيئًا بيولوجيًّا في حدِّ ذاته، تمامًا كالبروتين أو الحمض النووي. وقد يصحُّ هذا أكثر إذا كان الماء بالفعل أساسيًّا لعمل هذه الجزيئات الحيوية الأكبر والأكثر رومانسية.
لماذا يُعَد الماء مهمًّا من الناحية البيولوجية؟
إذا كانت الحياة «برُمَّتها» تعتمد بالفعل على الماء، فيجب أن نكون قادرين على تفسير ذلك. مع بداية إدراك مزيدٍ من العلماء للأهمية البيولوجية للماء، شهدت السنوات الأخيرة تزايُد المؤتمرات العلمية وورش العمل حول «الماء في الأحياء». غير أنه نادرًا ما يبدو أن هذه الفعاليات تتساءل بالضبط عن «لماذا» يُعَد الماء مُهمًّا. ما الوظائف البيولوجية التي يُشارك فيها الماء على المستوى الجزيئي؟ هل الماء حقًّا ضروري؟ هل هناك شيء فريد في خواص الماء يعني أنه لا يمكن لمركَّب آخر أن يحلَّ محله؟
إذا لم نتمكَّن من الإجابة عن هذه الأسئلة، فكيف يُمكننا أن نتأكد من أن الماء «أساسي» للحياة؟ هل يمكن أن تقوم جزيئات أخرى بدورٍ مُماثل أو أدوارٍ مماثلة؟ هل يمكن استبدال وسط آخر بالماء في شكلٍ آخر للحياة في مكانٍ آخر في الكون، ويظلُّ بإمكانه القيام بعمليات التمثيل الغذائي والتكاثر؟
سنتناول بإيجازٍ هذَين السؤالَين الأخيرَين قُرب نهاية هذا الفصل. أما الآن، فسنتعمق في معرفتنا بالماء وتفاعُلاته، لنرى إن كان بإمكاننا الإجابة عن السؤالَين اللذَين ربما يكونان أقلَّ صعوبة: «كيف» يؤثر الماء في العمليات البيولوجية، و«ما» الخواص في جزيء الماء التي تُمكِّنه من القيام بذلك.
تثبيت بِنى البروتين
نظرًا لاتساع نطاق العمليات المهمَّة بيولوجيًّا الذي قد نتناوله، سنُركز على دور الماء في بنية الإنزيمات وطريقة عملها، لتوضيح طرُق مساهمة الماء في هذه العمليات.
الإنزيمات هي جزيئات بروتينية كبيرة، تتكوَّن من «سلسلة» من جزيئات (أحماض أمينية) أصغر، مُرتبطة معًا بروابط كيميائية. لكي يقوم الإنزيم بعملِه في تحفيز تفاعل كيميائي، مثل التعديل الكيميائي لجزيءٍ آخر — «الركيزة» التي يعمل عليها — يجب أن يتخذ أولًا بِنية تُمكِّنه من العمل. تحتاج السلسلة المُمتدة من الأحماض الأمينية إلى «الطي» لتشكيل ترتيبٍ أكثر انضغاطًا، حيث تكون أجزاء الجزيء النشطة في تحفيز العملية الكيميائية مكشوفة، بحيث يمكن للركيزة الأصلية الوصول إليه.
ثمة طريقة بسيطة لتخيُّل تفاعُل الإنزيم مع الركيزة، وهي أنها تنطوي على آلية القفل والمفتاح؛ يجب أن تتمكن الركيزة (المفتاح) من الالتصاق بالجزء النشط على الإنزيم (القفل) حتى يمكن للتفاعل الكيميائي (تدوير المفتاح) أن يتم. وكما نعرف من التجربة، إذا كان القفل تالفًا، فإن الروافع داخله لا تكون في المكان الصحيح، ولن يدور المفتاح. بالمثل، إذا لم يكن للإنزيم البنية الصحيحة، قد لا ترتبط الركيزة به، أو حتى إذا فعلت ذلك، فقد لا تحدث العملية الكيميائية.
وهكذا فإن «بنية» الإنزيم ضرورية لنشاطه. لذا من الطبيعي أن نركز أولًا على «بنية» هذا الجزيء الكبير، ونرى كيف يُمكن أن يكون الماء ذا صلةٍ بتشكيل هذه البنية والحفاظ عليها.
المذيب الشامل مرة أخرى
للقيام بهذا، نحتاج بالطبع إلى النظر في كيفية تفاعُل جزيئات الماء مع جزيئات أخرى.
عندما ننظر إلى بِنى جزيئات الإنزيم، نجد أنها تميل إلى الطي بحيث تتخذ شكل بِنًى مدمجة تُشبه الكرة (ليس بالضرورة أن تكون كروية الشكل؛ فكرات الرجبي أقرب في الشبَه لبعض الإنزيمات). ولكن ليس من الضروري أن تكون الأسطح ملساء وانسيابية على المستوى الجزيئي، وقد يكون هناك جيوب، خاصةً في المواقع النشطة حيث تحتاج الركيزة إلى الارتباط (وهي خاصيةٌ ربما تكون من بين أسباب استخدام تشبيه القفل والمفتاح). عندما تُطوى جزيئات الإنزيم في هذه البنية المدمَجة، تتفاعل مجموعات كيميائية مختلفة من الأحماض الأمينية بعضها مع بعض، على سبيل المثال من خلال الروابط الهيدروجينية المُشابهة لتلك التي تناولناها في حالة تفاعل جزيئات الماء بعضها مع بعض.
ولكن ستكون هناك على السطح مجموعات كيميائية مكشوفة. إذا كانت هذه المجموعات المكشوفة قادرة على الارتباط هيدروجينيًّا مع مجموعات أخرى، فمِن المُرجح أن تكون البنية غير مستقرة للغاية بالنسبة إلى البِنية غير المطوية، ومن ثم قد لا يُطوى الجزيء الكبير، ما لم تستطع تلك المجموعات المكشوفة العثور على مجموعةٍ قطبية للتفاعل معها.
وهنا يتدخَّل الماء ليُنقذ الموقف.
تلبية الاحتياجات المتبادلة
بعض جزيئات الماء — مثل تلك المُرقَّمة ٢١٧ و٢٢٤ — تبدو مكتملةً جدًّا؛ إذ ترتبط بجيرانها من خلال أربع روابط هيدروجينية كما في النمط الرباعي؛ حيث يحدُث تفاعل مع مانحَين اثنَين للهيدروجين، وآخر مع مُستقبِلَين اثنين للهيدروجين في كل حالة. عند النظر إلى جزيء الماء المرقم ٢١٣، نرى أنه يمنح كِلا ذرتَّيه من الهيدروجين إلى ذرات الأكسجين (القطبية) المكشوفة للمجموعات على تميم الإنزيم المرقم ٣٩ و٥٨، كما كنَّا نتوقع. بالمثل، يرتبط هيدروجين جزيء الماء المُرقَّم ٢١١ من خلال طرفه السالب من الأكسجين مع ذرات الهيدروجين (القطبية هي الأخرى) على مجموعات تميم الإنزيم المُرقمة ٤٠ و٥٩. لذا يبدو أن جزيئات الماء هذه تتفاعل مع جيرانها (من جزيئات الماء وغير الماء) كما كنا نتوقَّع أن تفعل.
إذا قُمنا بقياس بنية الماء في هذه الأنظمة المهمة بيولوجيًّا، نجد أنها لم تتغير على نحوٍ جوهري عن تلك الموجودة في السائل في حالته القياسية العادية. فجزيئات الماء ترتبط هيدروجينيًّا مع المجموعات القطبية للجزيئات الأخرى بطرُق تتَّسِق مع الطريقة التي تتفاعل بها جزيئاتها في سائلها الخاص. وهذا يشمل التكيف مع التناسق الثلاثي والخماسي حيث يكون هناك نقص أو زيادة (على التوالي) في ذرات الهيدروجين المتاحة لتكوين النمط الرباعي المثالي.
بعبارة أبسط، جزيئات الماء ضرورية للغاية في الحفاظ على البِنى النشطة للجزيئات الحيوية الأخرى. وتُعَد قدرة جزيء الماء على التنوُّع في تفاعُلاته مع الجزيئات الأخرى (تذكَّر الأطوار الستة عشر للجليد في الفصل الثالث، والعيوب، مثل الروابط الهيدروجينية المتشعِّبة في الفصل الرابع) خاصيةً في غاية الأهمية، تُمكِّنه من أداء الدور المُتمثِّل في تثبيت البنية.
«رُهاب الماء»
لماذا يُعَد هذا «التغليف» مُهمًّا؟ أولًا: لأنه يُظهر لنا أن الماء يظل بإمكانه ترتيب نفسه في بنية «مريحة» (أو مقبولة من ناحية الطاقة)، حتى عندما تكون المجموعات غير القطبية موجودة على سطح جزيء حيوي. ومن ثم، لن يتسبَّب وجود المجموعات غير القطبية بالضرورة في تقويض استقرار بِنية الجزيء الحيوي في الماء.
في هذه البنية، يحتفظ كل جزيء ماء بأربعة جيران. يظهر ثلاثة منها في الشكل داخل المدار، بينما يتصل الرابع بجزيئات الماء في موضع آخر في البنية. في إطار الشكل الهندسي التفصيلي للقفص، نرى حلقاتٍ خماسية تتوافق مع الهندسة المحلية شِبه رباعية السطوح لنمطنا الرباعي الأساسي المعروف. ويمنح كل جزيء ماء، حسبما يُفضِّل، رابطتَين هيدروجينيَّتَين، ويستقبل اثنتَين من جيرانه.
لذا، حتى عندما لا يكون هناك إمكانية للارتباط هيدروجينيًّا مع جزيءٍ غير قطبي أو مجموعة غير قطبية، يمكن للماء أن يتكيَّف مع وجود المجموعة غير القطبية من خلال هذا النوع من التغليف.
سد أنابيب الغاز
علاوة على ذلك، تُوجَد كميات كبيرة من الميثان متجمِّدة بصورة طبيعية في صورة كلاثرات موجودة في تكوينات التربة الصقيعية الدائمة التجمُّد، وفي أعماق المُحيط. وبما أن الميثان غاز دفيء أقوى بكثيرٍ من ثاني أكسيد الكربون، فإن الانطلاق المحتمل لغاز الميثان — على سبيل المثال عند ذوبان التربة الصقيعية — سيكون له تداعِيات مؤثرة على تغيُّر المناخ. وقد طُرح الانطلاق الهائل لغاز الميثان من أعماق البحر كتفسيرٍ لفقدان السفن في مثلث برمودا، المُحدَّد بحدودٍ غير دقيقة، تتمثل في مثلث رءوسه هي فلوريدا وبرمودا وبورتوريكو. ولكن على الرغم من وجود ترسُّبات ضخمة من هيدرات الميثان قبالة جنوب شرق الولايات المتحدة، لا يُعتقَد حدوث إطلاقات ضخمة للميثان يمكن أن تكون قد تسبَّبت في غرق سفينة خلال الخمسة عشر ألف سنة الماضية.
التفاعُل الكاره للماء
بقدْر ما يمكن أن تبدو هذه الأقفاص مثيرةً للإعجاب، فهي ليست مجرد «وجوه جميلة». فهي تقودنا على نحوٍ مُهم للغاية إلى التفكير فيما اعتقد الكثيرون لأكثر من خمسين عامًا أنه ظاهرة ذات أهمية بيولوجية كبيرة مُرتبطة بالماء. هذه الظاهرة هي ما يُسمَّى ﺑ «التفاعل الكاره للماء».
يعتمد التفسير التقليدي لهذا الانجذاب الظاهري بين المجموعات غير القطبية في الماء على افتراض أن جزيئات الماء المُشاركة في الأقفاص المحيطة تكون بطريقةٍ ما «أكثر انتظامًا» من تلك الموجودة في السائل. وإذا كان هذا صحيحًا، فبما أن جمع اثنين من المجموعات غير القطبية سيؤدي إلى طرد بعض جزيئات الماء من الأقفاص إلى السائل، فسيكون هناك إذن انخفاض عام في الانتظام في النظام. وهذا الانخفاض في الانتظام إيجابي من ناحية الطاقة؛ ومن ثم يشجع هذا التجمع للكيانات غير القطبية.
على الرغم من أننا لا نحتاج إلى الدخول في تفاصيل تقنية، سيؤدي تحرير بعض جزيئات الماء الأصلية في القفص، في لغة الديناميكا الحرارية، إلى زيادةٍ في خاصية مُرتبطة بالفوضى في النظام، تُسمَّى الإنتروبيا أو القصور الحراري. وبما أن تقليل الطاقة الحرة للنظام هو قوة دافعة لعملية (فيزيائية أو كيميائية) ما، والزيادة في الإنتروبيا ستساهم في هذه الخسارة، يُعتبر هذا التجمُّع للمجموعات غير القطبية في الماء عملية «مدفوعة بالإنتروبيا».
وماذا عن الأدلة التجريبية؟
يجدُر بي في هذا المقام أن أكون صريحًا وأشير إلى أن هذا التفسير يتعرض لتشكيكٍ مُتزايد، رغم أنه لاقى قبولًا طوال عقود. فعندما يُوضَع قيد الاختبار باستخدام قياسات تشتُّت النيوترون، لا يُرصد أي فرقٍ بنيوي بين الماء في الأقفاص والماء السائل العادي. فمن الصعب فعلًا إيجاد أدلةٍ تجريبية على حدوث أي تعزيزٍ بنيوي للماء بالقُرب من كيانٍ غير قطبي.
مهما كان تفسير هذه النزعة في الكيانات غير القطبية للتجمُّع معًا، فهي تُمثِّل تأثيرًا حقيقيًّا ذا أهمية بيولوجية.
أحجية ثلاثية الأبعاد
وصفنا الآن طريقتَين يمكن من خلالهما حدوث تفاعلٍ بين المجموعات الجزيئية التي تشكل بروتينًا مطويًّا في بيئةٍ مائية. قد ترتبط المجموعات القطبية في البروتين بواسطة روابط هيدروجينية مع مجموعاتٍ قطبية أخرى، أو مع جزيء ماء في مُحيطها. ونتيجة للتفاعل الكاره للماء (بغضِّ النظر عن تفسيره الفيزيائي)، قد تُفضِّل المجموعات غير القطبية أن تكون على اتصالٍ مع مجموعات غير قطبية أخرى في داخل البروتين، أو أن تُحيط بها شبكة من الجزيئات المائية على شكل قفصٍ إذا كانت على السطح. بالإضافة إلى ذلك، حيثما تُوجَد مجموعات ذات شحنة على بروتينٍ ما، يمكن أن تتفاعل هذه المجموعات إما مع مجموعاتٍ ذات شحنة مضادة، وإما مع جزيئات الماء. وفي بعض البروتينات التي تتضمَّن أحماضًا أمينية تحتوي على الكبريت، يمكن أن تكون هناك روابط تساهُمية داخلية من خلال روابط ثنائي الكبريتيد بين جزيئات الكبريت.
وبناء على ذلك، هناك عدد من الأنواع المُختلفة من التفاعلات الجزيئية يمكن أن تحدث عندما يُطوى البروتين إلى بِنيته النشطة، أو «الأصلية». ولكي يكون البروتين مُستقرًّا على مستوى بِنيته غير المطوية «المشوهة»، يجب أن تكون هذه الأنواع المختلفة من التفاعلات مكتملةً إلى حدٍّ كبير من خلال إنشاء روابط مناسبة. لذا قد يكون طي البروتين أشبه بحلِّ أحجيةٍ للصور المقطوعة الثلاثية الأبعاد. ولكنه أحجية مُعقدة نوعًا ما؛ لوجود أنواع مختلفة من القِطع يمكن أن تتناسب فقط مع أنواعٍ مُحددة (مُماثلة أو مختلفة) من القطع. فتتناسب القطع القطبية مع القطع القطبية الأخرى (في الاتجاهات الصحيحة)؛ وتتناسب القطع غير القطبية مع القطع غير القطبية الأخرى؛ وتتناسب الشحنات الموجبة مع السالبة؛ وتتناسب جزيئات الكبريت مع جزيئات الكبريت الأخرى. ولكن لكي يكون البروتين الأصلي مُستقرًّا، يجب أن تكون جميع هذه الأنواع المختلفة من التفاعلات مُشبعة إلى حدٍّ كبير.
إذن تعتمد سلامة بِنية البروتين النشطة بشدة على الماء. ليس فقط بسبب التفاعل الكاره للماء الذي يُروَّج له منذ الخمسينيات باعتباره القوة الدافعة الرئيسة في طي البروتين، ولكن بسبب تنوُّعه في تلبية التفاعلات التي لم تكن لتتمَّ في ظروف مغايرة. ربما يكون الأمر مربكًا، ولكنه رائع بالتأكيد!
يمكننا اتباع نهجٍ مُماثل عند النظر في التفاعلات بين الجزيئات الكبيرة والجزيئات الأخرى. عندما ترتبط ركيزة بالموقع النشط لإنزيمٍ ما، يمكن لجزيئات الماء أيضًا أن تكون مهمةً في ضمان تلبية مُتطلبات الترابط الهيدروجيني في مُركَّب الإنزيم والركيزة. فعندما يتفاعل جزيئان كبيران، فإنهما يحتاجان أيضًا إلى الاندماج معًا بطريقةٍ تلبِّي متطلبات الترابط بين الجزيئات للمجموعات المتلامِسة على الأسطح. بالنسبة إلى الجزيء الكبير الذي يتكوَّن سطحه المكشوف من خليطٍ من مجموعاتٍ قطبية وغير قطبية (كما هو الحال مع معظم البروتينات الكروية الشكل)، نتوقَّع أن تتفاعل المجموعات غير القطبية الموجودة على جزيءٍ ما مع المجموعات غير القطبية الموجودة على الجزيء المجاور له. كذلك نتوقع أن ترتبط المجموعات القطبية المكشوفة على أحد الجزيئات برابطة هيدروجينية مع المجموعات القطبية على الجزيء المجاور. وفي الحالات التي لا تكون فيها المجموعات القطبية قريبة بما يكفي، أو لا تكون محاذيةً بالشكل المناسب الذي يسمح بترابط هيدروجيني سليم، يمكن جلب جزيء دخيل أو اثنين من الماء لإنشاء الرابطة عن بُعد.
إذن فالجمع بين أُحجيتَين مكتملتَين معًا هو أحجية أخرى من النوع نفسه.
الحُجيرات البيولوجية
يتم قدْر كبير من النشاط البيولوجي في الخلايا، وهي حُجيرات تعجُّ بكثيرٍ من الجزيئات المختلفة. لا تفصل جدران هذه الحجيرات محتويات الخلية عن بيئتها الخارجية فحسب، بل تتحكم أيضًا في مرور الجزيئات التي وقعَ عليها الاختيار من وإلى الخارج. من خلال التفاعل الكاره للماء، تعتمِد هذه الجدران على الماء في الحفاظ على سلامتها.
يلعب الماء دورًا محوريًّا في تكوين هذه البِنى والحفاظ عليها. ويدخل أيضًا في الآليات التي تمرُّ الجزيئات الأخرى عن طريقها إلى الغشاء لأداء وظائفها البيولوجية.
بعض المحتويات الأخرى للملفِّ البيولوجي للماء
الأدوار البيولوجية للماء التي نوقشت حتى الآن هي أدوار ثابتة إلى حدٍّ كبير تتعلق بوظيفته في بِنية البوليمرات الحيوية واستقرارها.
يمكن أيضًا للماء أن يلعب دورًا أكثر نشاطًا، على سبيل المثال، هناك أدلة قوية على أن الماء شريك نشط في آلية ضخ البروتونات التي تنقل البروتونات عبر غشاء الخلية. كما يدخل كشريك نشط (كحمض أو قلوي على سبيل المثال) في بعض التفاعلات الكيميائية التي تُحفزها الإنزيمات.
هناك أيضًا دور للماء كوسط ناقل. لكي تتم العمليات البيولوجية، يجب أن تتحرك الجزيئات من مكانٍ إلى مكان. لذا فإنها تحتاج إلى وسط سائل مناسب للقيام بذلك فيه. ولا شك أن الماء يلعب مثل هذا الدور، وثمة أسباب وجيهة تُفسِّر قيامه بهذه المهمة على نحوٍ جيد.
أولًا: يجب أن يكون الوسط الحيوي الفعَّال مذيبًا جيدًا، وقد أوضحنا بالفعل لماذا يُعَد الماء مذيبًا جيدًا. فسماحيته العازلة تجعله مُذيبًا جيدًا للجزيئات المشحونة والقطبية. وهو قادر أيضًا على استيعاب المجموعات غير القطبية في المحلول.
ثانيًا: لكي يصل جزيء الركيزة إلى الموقع النشط لإنزيمٍ ما، يجب أن يكون في وسطٍ يُمكنه الحركة عبرَه. قد يبدو القول إن الماء هو في الواقع وسط سائل مناسب بديهيًّا، ولكن كما اكتشفنا في الفصل الرابع عند مناقشة الحركة الجزيئية، فإن التفاعل القوي نسبيًّا لرابطة الهيدروجين يعني أن الماء قد لا يكون وسطًا جيدًا للدرجة لحركة الجزيئات الأخرى. ولكن، كما وجدْنا في وقتٍ سابق، يبدو أن وجود عيوب الرابطة العابرة (الروابط المتشعِّبة) يوفر آليةً من شأنها أن تجعله يتصرف باعتباره سائلًا جيدًا ومُتنقِّلًا في درجة حرارة الغرفة، وهي الخواص اللازمة له من أجل وظائفه الكيميائية — ومن ثم البيولوجية — على الرغم من أن شبكته السائلة قوية نسبيًّا على مقياس البيكوثانية.
ثالثًا: لقد تجاهلنا تمامًا حتى الآن التأثير المُحتمَل لديناميكيات جزيئات الماء على العمليات الحيوية. وهذا مجالٌ يكثر فيه النقاش، وتتعدَّد فيه الآراء وتتباين (سنتناول بعضها مرة أخرى في الفصل السابع). ولكن بما أن البيئة المائية هي بيئة سائلة، فلا يمكن أن يكون هناك شك حقيقي في أن حركات الجزيئات في السائل يجب أن تكون مرتبطة بطريقةٍ ما بحركة البوليمرات الحيوية، سواء كانت بروتينات بنيوية، أو إنزيمات، أو أحماضًا متعددة النُّوِي، مثل الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)، أو أغشية خلوية، أو أي شيءٍ آخر.
وتظل مسألة الكيفية التي يؤثر بها هذا الارتباط الديناميكي في النشاط الحيوي مسألةً مفتوحة إلى حدٍّ كبير. هناك بعض الأدلة التي تُشير إلى أن ديناميكيات المذيب ربما تحفز ديناميكيات الجزيء الحيوي، ومن ثم تُحفز نشاطه؛ في هذه الحالة، سيكون الجزيء الحيوي تابعًا للمذيب وليس العكس، كما افترض الجميع عمومًا. وحتى لو لم تكن علاقة التابع والمتبوع هذه صحيحة، فمن المُحتمل جدًّا أن ديناميكيات جزيئات المُذيب ستعدِّل ديناميكيات الجزيء الحيوي، ومن ثَم تؤثر في نشاطه.
ولكن مهما كانت ماهية المذيب، فمن المُحتمل أن يكون هناك بعض التأثير المتبادل بين المذيب والجزيء الحيوي. وهذا يتَّفق مع الملاحظة التي تُشير إلى أنه حيثما يُستبدل المذيب غير المائي بمذيبٍ مائي إلى حدٍّ كبير، يمكن أن يتغير نشاط الجزيء الحيوي، ويكون التغيُّر جوهريًّا إلى حدٍّ كبير في بعض الحالات. غير أن مدى عزو هذا التغيُّر إلى الديناميكيات المتغيرة لا يزال غير واضح؛ إذ ستكون كل الأشياء الأخرى قد تغيَّرت، مثل سماحية العزل الكهربائي، وربما بعض التغيرات الطفيفة في بِنية الإنزيم.
ولكن ربما يُمكننا الدفع بحجةٍ معقولة، مفادها أن نشاط الجزيء الحيوي — بعد أن تطور في بيئةٍ مائية — سيكون قد تحسَّن ليتلاءم مع تلك البيئة.
ما الخواصُّ التي تُعتبَر مهمة حيويًّا؟
هل يُمكننا الآن استخلاص بعض الخواص الواعدة على المستوى الجزيئي التي قد تبدأ في الإجابة عن هذا السؤال؟
لقد واجهنا مرارًا وتكرارًا الترتيب الرباعي السطوح المثالي لهندسة التفاعُل الموضعية. وكان هذا هو المفتاح لفهم ما يُسمَّى بشذوذ الماء في الفصل الخامس. ويبدو أن هذه الهندسة أيضًا تلعب دورًا محوريًّا في التنوُّع البنيوي للجزيء الذي ذهبنا آنفًا إلى أهميته البيولوجية الكبيرة في تثبيت البِنى البروتينية واستقرارها. علاوة على ذلك، فإن التباين في توزيع الشحنة — بالنظر إلى كون طرف الجزيء ذي الشحنة الموجبة (مانح الهيدروجين) أكثر تقييدًا في التوجيه من الطرف ذي الشحنة السالبة (مُستقبِل الهيدروجين) — يساهم أيضًا في هذا التنوع البنيوي.
هذا التباين يجعل كلًّا من البِنى الموضعية الثلاثية والرباعية «مستقرة»، ويتيح للرابطة الهيدروجينية أن تكتمِل حتى في الحالات التي يكون هناك فيها تفاوت بين عدد الذرات المانحة والمُستقبلة المتاحة في بِنية مُعقدة لجزيءٍ كبير. لذا لا يقتصر الأمر على أن هذه الهندسة الرباعية — طبقات الجزيئات الأربعة المتجاورة المرتبطة هيدروجينيًّا، وتتكون من ذرتَين مانحتَين اثنتَين للبروتون، وذرتَين مُستقبلتَين له — مهمة حيويًّا للحفاظ على استقرار بِنى الإنزيم الأصلية، بل قد يكون طابعها غير المُتماثل ذا أهميةٍ أيضًا. لذا قد تفتقر الأنظمة الأخرى «الأكثر اكتمالًا» ذات التناسُق الرباعي، مثل السيليكا، أو السيليكون، أو الجرمانيوم، إلى خاصية مهمة يمتلكها الماء عندما يتعلق الأمر بكونها مذيبًا حيويًّا «داعمًا» ومفيدًا لمُتطلبات البِنى الحيوية.
ثانيًا: أشرْنا في الفصل الرابع إلى أن طاقة الرابطة الهيدروجينية تُعادل نحو عشرة أضعاف طاقة التذبذُب العادي في درجة حرارة الغرفة؛ ولذا نتوقَّع أن تكون حركة جزيء الماء في السائل أقل بكثيرٍ مما يتم رصده. فقد كان يُزعم أن وجود مجموعةٍ كبيرة من عيوب التناسُق الموضعي — لا سيما الروابط الهيدروجينية المتشعبة — يُفسِّر الحركة الجزيئية المرصودة. لذا يبدو أن لدَينا إطارًا جزيئيًّا قويًّا نسبيًّا، ولكن يتَّسم بحركةٍ أعلى بكثير مما كنا نتوقع. مرة أخرى، يبدو أن السبب في ذلك يتعلق بتفاصيل الهندسة الرباعية غير المُكتملة. لذا، إذا كانت العمليات الحيوية الجزيئية تتطلَّب إطارًا مذيبًا ثابتًا نسبيًّا، مع قدرة داخلية مدمجة على السماح بحركات جزيئية سريعة نسبيًّا، فيبدو أن الماء قد وضع نفسه في موقفٍ قوي يؤهِّله للقيام بالمهمة بفاعلية وكفاءة.
ثالثًا: الماء السائل ناقل جيد للبروتونات، ونقل البروتونات ضروري لبعض العمليات الحيوية الجزيئية. ويبدو أن عملية النقل تتطلَّب الإطار المرِن نسبيًّا الذي أشرْنا إليه للتو، على أن يكون مُتغيرًا نسبيًّا على المستوى الجزيئي الفردي. علاوة على ذلك، وكما أشرْنا في الفصل الخامس، قد يتم تسهيل خطوة نقل البروتون في حدِّ ذاتها بواسطة حركات النقطة الصفرية، مما يُقلل من ارتفاع حاجز الطاقة الذي يجب أن يعبره البروتون المنتقِّل.
لا شكَّ أن ضرورة هذه الخواص من عدمها لأي عمليةٍ حيوية جزيئية قد تكون مبنيةً على كيمياء مختلفة؛ هو أمر محلُّ جدل. ولكن فيما يتعلق بالطريقة التي تطورت بها الحياة في الماء، قد يتم التدليلُ على أنها تطورت بحيث تستغلُّ هذه الخواص بالذات، بالإضافة إلى الخواص الأكثر وضوحًا، مثل خواص الإذابة لسائلٍ ذي ثابت عزل كهربائي عالٍ. قد نتصور وجود جزيئات أخرى تتمتع ببعض الخواص المذكورة أعلاه. ولكن هل يُمكننا التفكير في جزيء واحد — بخلاف الماء — يتمتع بها «جميعًا»؟
في رواية «دليل المسافر إلى المجرة»، كُلِّف الكمبيوتر الفائق العملاق «ديب ثوت» بمهمة معرفة «الإجابة عن السؤال الأسمى للحياة، والكون، وكل شيء». وجد الكمبيوتر أنها مهمة مُستنزِفة للوقت، حتى بالنسبة إلى كمبيوتر فائق. وأخيرًا عاد بالإجابة: «٤٢». يروقُني أن أُفكر في هذه الإجابة باعتبار أنها تعني أربع روابط هيدروجينية، مع ذرتَين مانحتَين وذرتَين مُستقبلتَين. ربما تكون هذه الخاصية الأساسية للماء هي معنى الحياة.
هندسة المذيب الحيوي
من إحدى الوسائل لاستكشاف سبب أهمية الماء للعمليات الحيوية استبدال وسط آخر به. ثمة وسيلة أخرى هي نزع الماء من نظامٍ حيوي عامل. من خلال ملاحظة ما يحدث في كلتا الحالتَين، أو ملاحظة خواص الوسط البديل في الحالة الأولى، قد يُلقَى بعض الضوء على جوانب الماء ذات الأهمية الحيوية فعليًّا.
عيَّن روي دانيال — عالم الكيمياء الحيوية الذي عمل معي مدةً طويلة في نيوزيلندا — الماء في الأنظمة الإنزيمية في أربع فئات.
لنبدأ بالماء في الفئتَين الأولى والثانية، يُمكننا استبدال بعض الجزيئات العضوية الأخرى بمعظمه (وليس كله!) مع بقاء الإنزيم نشطًا. من هذا يُمكننا استنتاج أن البنية النشطة لم تُدمَّر. غير أن النشاط عادة ما يقلُّ بصورةٍ كبيرة، على الرغم من أنه من خلال اختيار المذيب على نحوٍ صحيح، يمكن تصميم أنظمة إنزيمات «أكثر» نشاطًا مما هي عليه في بيئة مائية.
من الأسباب التي تُفسِّر انخفاض النشاط أنه، في الأوساط ذات ثابتِ العزل الأقل (رُصد النشاط حيث كان ثابت العزل للوسط أقلَّ أربعين مرةً من الماء)، يكون الإنزيم أقل مرونة، مع ارتباط حركته بثابت العزل الخاص بالوسط. ومن المُحتمَل أن تساهم هذه الحركة المنخفضة على الأقل في خفض النشاط؛ على سبيل المثال، من المُحتمَل أن تكون الحركات الجزيئية المساهمة في عملية التحفيز أبطأ. إذا بدأنا الآن بإضافة جزيئات الماء مرة أخرى ببطء، شيئًا فشيئًا، تبدأ مرونة الإنزيم في الزيادة. ويزداد كذلك نشاط الإنزيم كما هو متوقَّع.
وهكذا يُمكننا أن نخلُص إلى أنه كلما زادت درجة التميُّؤ في نظام استُبدل فيه المذيب العضوي بمعظم الماء في البداية، يزداد كلٌّ من نشاط الإنزيم ومرونته. غير أن الإنزيم يظلُّ قادرًا على العمل — وإن كان ببطءٍ نوعًا ما — حتى عندما يكون معظم الوسط المحيط سائلًا عضويًّا «مناسبًا». لذا في بيئةٍ خالية تمامًا من الماء، قد لا يُثبَّط نشاط الإنزيم بسبب غياب الماء في حدِّ ذاته، بشرط أن يسمح المُذيب بالاحتفاظ ببنيةٍ قادرة على تحفيز التفاعُلات. في مثل هذه الحالات، قد لا يكون الماء ضروريًّا.
الجفاف التام
ماذا يحدث لنشاط الإنزيم عند إزالة الماء تمامًا؟ كيف تتأثر بِنيته؟ لقد ذكرنا أن الماء (أو أي وسط سائل عضوي مناسب) له أهميته في استقرار البنية النشطة تحفيزيًّا للإنزيم. لذا، قد نتوقع أن إزالة الماء ستتسبَّب في فقدان تلك البِنية، مما يؤدي إلى إنزيمٍ غير نشط.
من المُثير للاهتمام أنه ليس بالضرورة أن يكون الأمر كذلك. فمثلما يُقلل استبدال المذيب العضوي بالماء من حركة الجزيء الحيوي، كذلك تفعل إزالة الماء. وبما أن الإنزيم يحتاج إلى أن يكون مُتحركًا بما فيه الكفاية لتغيير بِنيته، فإن إزالة الماء منه من المُحتمل أن تُصعِّب عليه تغيير طبيعته وتشويهها. لذا، لا ينبغي أن نتفاجأ إذا «لم» يفقد بنيته العامة القادرة على التحفيز عند الجفاف، خاصةً إذا أُزيلَ الماء عن طريق التجفيف بالتجميد أو «التجفيد»، وهي عملية يتوقَّف فيها ضخُّ الماء بعد تجميد المُستحضر، وتقل حركة الإنزيم أكثر.
يمكننا تحديد جزيئات الماء التي تتحرَّر بسهولة أكبر عند التجفيف، ومتابعة كيفية تأثير إزالة بعض جزيئات الماء (على سبيل المثال، تلك المُرتبطة هيدروجينيًّا مع المجموعات الأميدية أو الكحولية على الإنزيم) على كلٍّ من كيمياء الإنزيم (العمليات اللازمة للتحفيز الفعال) وفيزيائيته (المرونة). غير أنه من الصعوبة بمكانٍ إزالة كل جزيئات الماء. على وجه الخصوص، سيكون من الصعب جدًّا زحزحة أيٍّ من جزيئات الماء الواقعة داخل البروتين المطوي (تلك التي تقع في الفئة الثالثة من فئات روي دانيال المذكورة أعلاه). فإذا تمكنَّا من إزالتها، فمن المُحتمَل أن نُدمر البنية الأصلية النشطة.
بافتراض أن بإمكاننا إزالة الماء في الفئتَين الأولى والثانية (السائل المُحيط والمياه الملامِسة لسطح الإنزيم)، إذا أردنا الآن قياس النشاط المُتبقي، فسنواجِه مشكلة صغيرة؛ إذ لم يعُد لدَينا وسط سائل يمكن من خلاله أن تنتشِر الركيزة والناتج إلى موقع الإنزيم النشط ومنه على التوالي.
حلَّت مجموعة روي دانيال هذه المشكلة على نحوٍ ممتاز عن طريق العمل مع ركائز ونواتج غازية بدلًا من السائلة. من خلال هذه الوسيلة الذكية، فصلوا دور الماء المتعلِّق بانتشار الناتج والركيزة عن أي مُتطلبات مُحددة من الماء في عملية التحفيز. وقد خلصت هذه النتائج بشكلٍ مُثير للاهتمام إلى أنه، في حالة النظام المُختار من الإنزيم المُحدد، لا توجد حاجة أساسية للماء في النشاط الحفزي لذلك الإنزيم بعَينه. ولم تكن مرونة الإنزيم التي يُعززها الماء، أو طبقة جزيئات التميُّؤ السطحي ضروريتَين للنشاط. ربما كان النشاط منخفضًا، ولكن الإنزيم كان لا يزال نشطًا. فماذا يُمكننا أن نستنتِج من هذا؟
الحياة كما «لا» نعرفها؟
تُوضِّح هذه التجارب على نشاط الإنزيم في المُستحضرات الخالية من الماء أن هناك على الأقل عملية مهمَّة بيولوجيًّا كنَّا نعتقد أنها تحتاج إلى الماء، بينما هي في الواقع ليست في حاجةٍ إليه. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع التعميم من مِثالٍ واحد لإنزيم يمكن أن يؤدي وظائفه دون ماء، فإن ذلك يعني أن بعض أنواع العمليات الحيوية اللامائية «قد» تعمل وتؤدي دورها، وإن كان تصوُّر كيفية نشأة مثل هذا النظام دون ماء مسألة أخرى.
غير أننا رأينا أيضًا أنه كلما أضفْنا الماء إلى إنزيمٍ جافٍّ، يزداد النشاط، وبالطبع تكون معدلات العمليات الإنزيمية مُهمةً في الحفاظ على العمليات الحيوية. وبما أن العمليات الحيوية التي نعتمِد عليها قد تطوَّرت في وسطٍ مائي، فإن معدلات هذه العمليات تكون متوافقة مع هذا الوسط. إن الحصول على إنزيم للعمل في بيئةٍ غير مائية، أو في وسط عضوي لا مائي مسألة مُستقلة. أما تحقيق التناغُم في العمل بين مائة ألف عملية مختلفة ومتَّصلة، فهي مسألة مختلفة تمامًا؛ إذ ينبغي لهذه العمليات أن تعمل في تناغُمٍ من أجل دعم وجودنا.
بينما يؤكد هذا على أهمية الماء الحيوية للحياة «كما نعرفها»، فإن هذا النقاش ربما يُشير إلى أنه لو كان هناك مُذيب مختلف موجود على الأرض (أو في أي مكانٍ آخر في الكون)، لربما استُغلت خواص هذا المُذيب المختلف في تطوير شكلٍ مختلف من الحياة. وقد دارت مناقشات مثيرة للاهتمام حول أنواع الخصائص التي قد يحتاجها هذا المذيب لتمكين عمليات التخليق الجزيئي، والأيض، والتكاثر التي تُميز الأشياء الحية. بعض هذه المناقشات مُدرَج في قسم «قراءات إضافية». وهي تُشير إلى أننا قد نُخفق في خِضمِّ بحثنا عن الحياة في مكان آخر في الكون إذا ركَّزنا فقط على وجود الماء كشرطٍ أساسي للحياة.