بعض الجدالات السابقة والراهنة
ما الذي تبقَّى لنفهمه؟
آمُل أن يكون قد بات واضحًا الآن بالدرجة الكافية وجود فهم جيِّد إلى حدٍّ كبير لبنية الماء وديناميكياته وخواصِّه في العموم. فلدَينا فكرة جيدة عن بِنيته، وكيف أن هذه البنية تُفسر السبب وراء اختلاف خواصِّه — التي يرتبط بعضها بأدواره في الحفاظ على الحياة على الأرض — عن خواصِّ أي سائل «عادي» في بعض الأحيان. ولكن يظلُّ هناك عددٌ من الإشكاليات لا تزال تطلُّ برءوسها، وتُشير إلى أنه ربما لا يزال هناك بعض الأمور حول الماء لم نفهمها بعد.
في وسائل الإعلام السائدة، تُقدَّم لنا مياه معالَجة بشكلٍ خاص، يُقال لنا إنها تتمتع بقدراتٍ رائعة على شفائنا من مختلف الأمراض، أو تجعلنا بصحَّة ممتازة. وهكذا يُمنَح الماء مكانة «سحرية» من نوعٍ ما، يبدو أننا سنكون أغبياء إذا لم نستفِدْ منها. ولكن أيضًا في الأدبيات العلمية الجادة، ثارت جدالات وخلافات مُثيرة للاهتمام. وقد أُنهيَ بعضها بفاعلية من خلال العمل التجريبي الجيد. ولا يزال البعض الآخر لم يُحسَم بعد.
تنقسِم هذه القضايا المُثيرة للجدل إلى نوعَين. يتعلق النوع الأول بالخواص المنسوبة إلى الماء، وتتعارَض إما مع فهمنا الحالي للماء نفسه، وإما — وهو الأخطر — مع المبادئ الفيزيائية الراسخة. النوع الثاني لا يكسر أيًّا من القوانين المعروفة للفيزياء، ولكنه لم يُحسَم تجريبيًّا بعد. سنُناقش أمثلةً من كل فئة، وسنبدأ بواحدةٍ من القضايا الملحَّة حقًّا.
«ذاكرة» الماء
تُعتبر هذه الفكرة القديمة الأساس لمزاعِم متنوعة حول الماء، وخاصة قيمته العلاجية المحتملة التي تتجاوز حاجتنا الحيوية الأساسية له. وتأتي هذه الفكرة في أشكالٍ مختلفة. على سبيل المثال، زُعِم أننا إذا وضعنا كلماتٍ أو نيَّات طيبة فيه، فإن بوسعنا أن ننقل إليه «ذبذبات الحب، والامتنان، والشفاء». ويزعم آخرون أنه من خلال غمر النباتات في الماء وتعريضها لأشعة الشمس، يمكن نقل «الطاقات الشافية» للنباتات والزهور إلى الماء. على ما يبدو أن بإمكاننا — من خلال القيام بشيءٍ ما للماء — أن نمنحه خاصية من نوعٍ ما، تبقى معه وتلازِمُه بشكلٍ ما؛ أي إن لدَيه ذاكرة. ويُقال لنا إننا يجب أن نختار نوع الماء الذي سيفيدنا على النحو الأفضل.
في ظل ما نعرفه عن الماء، يُصبح من السهل تمامًا رفض مثل هذه الادِّعاءات باعتبارها ادعاءاتٍ خيالية. غير أن نفس النوع من المفاهيم متأصِّل في الطب التجانُسي أو المعالجة المثلية، وهو نظام من أنظمة الطب البديل تطوَّر على مدى أكثر من ٢٠٠ عام، ولا يزال مُستخدَمًا حتى اليوم. (مما يثير الجدل أنه لا يزال بالإمكان الحصول على العلاج التجانسي في بعض مناطق المملكة المتحدة من خلال هيئة الخدمات الصحية الوطنية.)
يعتمد هذا العلاج على نظرية «علاج الداء بالداء»، بمعنى أن المادة التي تُسبِّب أعراض مرضٍ ما يمكن أن تشفِي أيضًا أعراضًا مُماثلة لدى المرضى. غير أنه بالنظر إلى أن الكميات الكبيرة من مثل هذه المواد تُسبِّب المرَض، تُذاب المادة المعنيَّة في الماء لتقليل تركيزها. ثم تُخفَّف مرارًا وتكرارًا؛ إذ يُعتقد أن التخفيفات الأكبر هي الأكثر فاعلية في العلاج. وعلى الرغم من أن بعض المُمارِسين يستخدمون تخفيفاتٍ تحتوي بالفعل على بعض جزيئات المادة الأصلية، فإن «المنتج النهائي» غالبًا ما يُخفَّف بحيث لا يحتوي على جزيءٍ واحدٍ من المادة الأصلية. إذن فإن أي فاعلية للمُستحضَر تعتمد حتمًا على احتفاظ الماء بذكرى ما لما كان مُذابًا فيه أصلًا.
كُتِب العديد من الأوراق البحثية العلمية عن ذاكرة الماء. ونُشِر واحد من هذه الأبحاث في دوريةٍ علمية كبرى، حتى بعد مُراجعتها من قِبَل خمسة خبراء مُستقلِّين أوصَوا برفضها لأسبابٍ علمية. كذلك مرَّت بي أوقات في مسيرتي العلمية كنتُ أُصاب فيها بالإحباط الشديد بسبب تجربة تتعلق بالماء لا تسير حسب فهمي للفيزياء. كنتُ محبطًا للغاية، حتى إنني في أحلك الساعات (أحيانًا في منتصف الليل خلال إجراء تجربة طويلة) ظننتُ أن تأثيرًا ما للذاكرة هو تفسير ذلك الأمر حتمًا.
في الواقع أن الماء يمتلك ذاكرة «بالفعل». ولكنها ذاكرة «قصيرة الأجل»، ذاكرة قصيرة جدًّا تصل إلى بضع بيكوثوانٍ، ما يُعادل بضعة ملايين من الملايين من الثانية. كما علِمنا في الفصل الرابع، يبلغ الوقت المعتاد الذي يستغرقه جزيء الماء لإعادة التوجيه ٢ بيكوثانية تقريبًا في درجة الحرارة المُحيطة. علاوة على ذلك، يبلغ متوسط الوقت الذي يستغرقه جزيء الماء للتحرُّك مسافةً مساوية تقريبًا للقُطر الجزيئي نحو ٧ بيكوثوانٍ. لذا تُخبرنا الفيزياء الأساسية أنه لا يمكن بأي حالٍ أن تتذكر عينة من الماء السائل لأكثر من بضع بيكوثوانٍ كيف يمكن أن تكون بِنيته قد تغيرت بواسطة مادة مُذابة سابقًا. بعبارة أخرى، إذا كان هناك تركيب للماء يُستحث بواسطة مادةٍ ما، وكان هذا التركيب نشطًا في علاج عَرَض مُعين، فإن فترة صلاحية «الدواء» هو بضعة ملايين من ملايين من الثانية.
الماء المُبلمَر
في منتصف ستينيَّات القرن العشرين، ادَّعى باحث في منطقة جبال الأورال أنه أنتج شكلًا من الماء أكثر كثافةً واستقرارًا من الماء العادي. أُنتِجت عيناته الصغيرة في أنابيب شعرية من الكوارتز معلقة فوق حمَّام مائي، يتبخَّر منها الماء ثم يتكثف في هيئة السائل «الجديد» في الأنابيب الشعرية. وفي ظلِّ العلم بأن كثافة الماء منخفضة نسبيًّا بسبب بِنيته الموضعية الأساسية الرباعية، بدا منطقيًّا أن تكون هناك طريقة أخرى قد تُرتِّب بها جزيئات الماء نفسها بكثافة أعلى. فنحن في نهاية المطاف لدَينا بِنًى جليدية غير متبلورة ذات كثافات أعلى من كثافة الماء (الفصل الرابع)؛ فلِمَ لا يكون هناك طور سائل ذو كثافة أعلى؟
كانت المشكلة هي الادِّعاء بأن الشكل الجديد المزعوم أكثر استقرارًا من الماء العادي. ولو كان الأمر كذلك حقًّا، لكان هناك خطر من أن يتحوَّل كل جزيء ماءٍ على الأرض إلى هذا الشكل الأكثر استقرارًا، وبالتبعية يمحو الحياة دفعةً واحدة. فهل يُصبح الماء سلاحًا للدمار الشامل؟
ربما لم يكن لهذا العمل أن يتقدَّم خطوة لولا أن تولاه بوريس ديرجيجن، أحد أبرز العلماء في القرن العشرين الذين أرسَوا قدرًا كبيرًا من أُسس علم السطوح الحديث. قام بوريس بتحسين تقنية الإنتاج، وقاس عددًا من خواصه. كانت نقطة التجمُّد حوالي −٤٠ درجة مئوية أو أقل، ونقطة الغليان حوالي ١٥٠ درجة مئوية أو أكثر. وكانت لُزوجتُه العالية تعني أن نمط تدفُّقه أقرب إلى شرابٍ سميك لزِج منه إلى الماء، وكانت الكثافة أعلى بنسبة ١٠–٢٠ في المائة من كثافة الماء العادي، ورغم أنه لم يتم التعرُّف عليه في ذلك الوقت، فلم يكن يختلف عن الثلج العالي الكثافة غير المُتبلور الذي تطرَّقنا إليه في الفصل الرابع.
قدم بوريس هذا العمل في مؤتمر في نوتنجهام في المملكة المتحدة في عام ١٩٦٦. ولو لم يتم تقديمه من قِبَل عالم بارز مِثله، لربما مرَّ دون أن يلتفت إليه أحد. ولكن النتائج المزعومة — التي حظِيَت بتأييد قطبٍ علمي عالمي مرموق ذي شأن — كانت غريبة لدرجة أن السباق للعثور على بِنية ما كان يُسمَّى ببساطة الماء «الشاذ» قد بدأ.
وفي يوم ما في أواخر عام ١٩٦٦، توجهت إلى فندق قريب من كلية بيركبيك بلندن لاصطحاب بوريس ديرجيجن من أجل خوض نقاشٍ مع بيرنال، الذي كنتُ أُعِد رسالة الدكتوراه حول بِنى السوائل تحت إشرافه. أحضر ديرجيجن معه صندوقًا صغيرًا يحتوي على أنبوب شعري من الماء الشاذ وقدَّمه لبيرنال. تلا ذلك مناقشة شائقة جدًّا، ترتَّب عليها تكليفي أنا وزميلي إيان تشيري (وبول بارنز، الذي انضمَّ إلينا في هذا المشروع لاحقًا) بمهمة معرفة ماهية هذا الشيء.
أما في بيركبيك، فقد واصلنا مواجهة المشاكل. لذا جربنا طرقًا أخرى لإنتاج المادة، دون تحقيق أي نجاح. بدأنا نبدو كما لو كنَّا باحثين غير أكفاء. وفي نهاية المطاف، وبعد أن تملَّكَنا اليأس، أخرجنا مصيدة البخار في خط الفراغ بين المُجفف ومضخة التفريغ و… أصبنا الهدف! كانت هناك أعمدة من سائلٍ في الأنابيب. إذن ماذا بعد؟
على الرغم من أننا لم نُطِق صبرًا لمحاولة معرفة كيفية ترتيب جزيئات الماء في هذه المادة، كان أول شيءٍ يجب القيام به هو التأكُّد من أننا نتعامل مع ماءٍ مبلمر نقي. لذا أرسلنا بعض «أفضل» عيناتنا إلى زملاء لنا لإجراء تحليلات المسبار الإلكتروني ومطياف الكتلة. وأتتنا النتائج؛ ما كان لدَينا هو زيتٌ من مضخة التفريغ، الأمر الذي فسَّر على الفور سهولة الإنتاج بمجرد أن أزلنا القطعة التي كانت مُصمَّمة لمنع مثل هذا التلوث للعينات.
كان الآخرون يصِلون إلى استنتاجاتٍ مُماثلة. كان لدَينا زيت من المضخة. وحصل البعض على سيليكا مُذابة من داخل الأنابيب، بينما وجد باحثٌ آخر أوجُهَ تشابهٍ مع العرق الذي يُفرزه شخصيًّا بعد مباراة كرة يد. كان ما تحصَّل عليه يعتمد على الطريقة التي حاولت بها صنع العينة والاحتياطات التي اتخذتها، أو لم تتخذها. في النهاية، أدَّى تراكم الأدلة التجريبية إلى انسحاب ديرجيجن من العمل الأصلي، مُسلِّمًا بأن «هذه الخواص (الشاذة) يجب أن تُنسب إلى وجود شوائب، وليس إلى وجود جزيئاتٍ من الماء المبلمر»، على الرغم من أنه بعد بضع سنوات، عقب نشر ورقتنا البحثية في مجلة «نيتشر» عن «الماء المبلمر والملوثات المبلمرة»، كتب إليَّ بيرنال قائلًا إننا يجب أن نُفصَل لعدم كفاءتنا.
وهكذا استطعنا أن نلتقِط أنفاسنا مرة أخرى. فلم نعُد بحاجة للقلق بشأن تحول كل الماء في العالم إلى شكلٍ أكثر استقرارًا، وربما غير نشط حيويًّا، إن لم يكن سامًّا.
انتظام السطوح
قد يكون هناك تأثير انتظام مُماثل متوقَّع بالنسبة إلى جزيئات الماء بالقرب من سطح مستوٍ. فقد نتوقَّع أن تكون جزيئات الماء مرتبةً هناك بطريقةٍ مختلفة قليلًا، قد يقول البعض إنها «أكثر ترتيبًا». وإذا كان الأمر كذلك، فقد تكون خواص جزيئات الماء البينية مختلفة ولو قليلًا عن تلك الجزيئات في الماء في حالته القياسية. وبالنظر إلى أن الكثير من الماء في الخلية الحيوية سيكون بالقُرب من نوع من السطوح، فإذا كانت الجزيئات البينية تتصرف بشكلٍ مختلف عن جملة السائل، فإن ذلك قد يكون له تأثيرات كبيرة على دور الماء في العمليات الحيوية. وفي إطار استكشاف هذه المسألة، من المفيد النظر على نحوٍ منفصل إلى كيفية تأثر: (أ) بنية الماء؛ (ب) ديناميكيات الماء، بوجود سطح «عادي».
إلى أي مسافةٍ يمتد تأثير هذا الترتيب من سطحٍ ما؟ هناك كثير من الأدلة التجريبية التي فُسِّرت على أنها تُظهر أن تأثير السطح لا يمتدُّ فقط إلى طبقةٍ جزيئية أو طبقتَين، بل يمتد إلى ما هو أبعد بكثير في السائل القياسي. إذا كان الأمر كذلك فعلًا، فإننا نتوقع لخواص الطور المائي الذي يقع على مسافةٍ ما من السطح أن تكون مُضطربة بشكل كبير عن خواص السائل في حالته القياسية. وسيكون لهذا تداعِيات على حركة الجزيئات المهمة بيولوجيًّا، مثل جزيئات ركيزة الإنزيم.
بالنظر إلى أن الخلية تحتوي على عددٍ كبير من البِنى المُتمايزة، لكل منها وظائفها الخاصة (مثل الريبوسومات، والميتوكوندريا)، وهي بالفعل تعجُّ ﺑ «الأشياء»، فكلما امتدَّ تأثير هذا «الترتيب»، زادت توقعاتنا بتأثُّر خواص الماء في الخلية. في الواقع، يذهب بعض الباحثين إلى أن خواصَّ «كل» الماء في الخلية تكون مُضطربة عن خواص السائل في حالته القياسية. ويكون الاضطراب كبيرًا بحيث يتصرَّف كسائلٍ لزج. وإذا كان الأمر كذلك، فسيكون هناك تأثيرٌ كبير على كلٍّ من حركة الجزيئات داخل الخلية، وعلى التفاعُلات بين مكونات الخلية المختلفة.
ولكن يجب أن نتذكَّر أننا لا نتعامل مع أسطحٍ متجانسة ومسطحة على المستوى الجزيئي. علاوة على ذلك، تميل الأسطح إلى التعقيد على المستوى الكيميائي؛ إذ تُعرِّض مزيجًا من المجموعات القطبية والمشحونة وغير القطبية للوسط الخارجي. ومن الأشياء التي تعلَّمناها من الدراسات البلورية العالية الدقة للبروتينات أنَّ الماء مُتنوِّع جدًّا على المستوى البنيوي، حتى إنه يتكيَّف بشكلٍ مريح جدًّا مع هذا التعقيد الهندسي والكيميائي. في تلك الحالات بين السطحية، تبدو بِنية السائل على السطح مشابهة جدًّا لبنية الماء في الحالة القياسية. لذا إذا كان هناك أي «انتظام» بنيوي للسائل، فمن المُرجَّح أن يكون محدودًا.
إذا كان الماء في الخلية أكثر لزوجةً من السائل النقي العادي، فإننا نتوقَّع أن يظهر هذا في قياسات ديناميكيات جزيئات الماء بالقُرب من الجزيئات الحيوية. ولكن تُشير الأدلة التجريبية هنا أيضًا إلى العكس.
يمكن القول إن أوضح البيانات عن ديناميكيات جزيئات الماء في الأنظمة المعقدة، وأقلها قابلية للتحدِّي والتشكيك، تأتي من قياسات الرنين المغناطيسي النووي. وهذه ليست بتقنية بسيطة عندما يتعلَّق الأمر بتفسير نتائج القياسات؛ في الواقع، كان التفسير التقليدي في السبعينيات من القرن العشرين أنَّ حركات جزيئات الماء بالقُرب من أي بروتين تتباطأ بمقدار مليون مرة تقريبًا. ولكن مع تطور التقنية، بدأ يتضح أن هذا الاستنتاج اعتمد بشدة على النموذج المُستخدَم لتفسير البيانات، وبدأت أبحاث أكثر تطورًا في إظهار التناقضات الكامنة داخل النموذج التفسيري المُستخدَم.
واختصارًا لقصةٍ طويلة مُعقَّدة، فإن الصورة الحالية أبسط بكثير. هناك جزيئات مائية في جيوب معزولة داخل بعض البروتينات يكون تباطؤها الحركي كبيرًا، قد يصِل إلى عدة قِيَم أُسِّية مقارنة بالماء في حالته القياسية. هذه الجزيئات المائية في الواقع هي أجزاء مكوِّنة لبِنية البروتين نفسه، وهي تلك الجزيئات التي ذكرناها في الفصل السادس، والتي لا يمكن إزالتها دون أن تتغيَّر طبيعة البروتين. وبما أنها معزولة داخل الجزيء الكبير، فلا يمكن أن تؤثر على العمليات التي تحدُث على سطح البروتين أو بالقُرب منه.
وفي تناقُض صارخ، تتباطأ الغالبية العظمى من جزيئات الماء في طبقة التميؤ لجزيئات البروتين نحو مرتَين فقط، مقارنة بالماء في حالته القياسية. لذا تظلُّ حركة هذه المياه السطحية عالية. ومن ثَم، يمكن أن تتم العمليات النشطة حراريًّا التي تحدث عند السطح البيني بين البروتين والطور المائي (مثل ارتباط الركائز، والتعرُّف، والتحفيز) بمعدلات معقولة. فنحن ما زلنا نعمل في سائل، وليس شرابًا لزجًا.
لذا لا يوجد في هذه النتائج الكثير مما يُشير إلى وجود تأثير كبير على نشاط الإنزيم، سواء من الانتظام البنيوي لجزيئات الماء أو من تباطؤ حركاتها بالقرب من سطح بيني حيوي. غير أن الحجج القوية لا تزال قائمة، خاصة فيما يتعلق بحالة الماء في البيئة المكتظة داخل الخلية.
سائلان «اثنان»؟
بالرغم من أن هذا الموضوع قد أُثيرَ بدايةً من عام ١٩٩٢، فإن أصله يعود إلى منتصف القرن العشرين. كان فهمنا لبِنية الماء حينها أكثر بدائيةً مما هو عليه الآن، وكان يهيمن عليه النماذج التي أُبطِلت منذ زمنٍ طويل في ضوء الأدلة التجريبية.
على الرغم من أن بعض هذه النماذج استمر في التطوُّر في ستينيات القرن العشرين، فقد تعرضت النُّسخ الأولى منها للنقد في بحث بيرنال وفاولر الكلاسيكي الذي نُشر عام ١٩٣٣ (انظر الفصلين الثالث والرابع)، باعتبارها «مصمَّمةً بطريقةِ الكيمياء الجزيئية أكثر مما ينبغي». وأشار كلاهما إلى أن هذا النوع من النماذج يُعطي وصفًا غير وافٍ للبنية الفعلية للسائل من حيث الترتيب النسبي للجزيئات. وكما رأينا في الفصل الرابع، كان بيرنال يفضِّل وضع الأساس لنموذج الشبكة العشوائية الذي نعتبره الآن نموذجًا مثاليًّا للبنية السائلة الفعلية.
إذا نظرنا بعُمق أكبر قليلًا في فكرة نماذج الخليط، يُمكننا أن ندرك لماذا كانت تُعَد طريقًا مغريًا لاتباعه في إطار محاولة فهم الخواص الشاذة ظاهريًّا للماء السائل. خذ حقيقة أن الماء يتقلص (على نحوٍ شاذ) عند تسخينه حتى درجة كثافته القصوى عند ٤ درجات مئوية، وبعد ذلك يتمدَّد بما يتماشى مع توقُّعاتنا للسائل العادي. في الفصل الخامس، شرحنا هذا السلوك في إطار نزعتَين متعارضتَين. إحدى هاتَين النزعتَين (وهي انحناء الرابطة) تتيح زيادة الكثافة عند تسخين البنية، بينما النزعة الأخرى (وهي تمدُّد الرابطة) تُقللها. فدون درجة حرارة الكثافة القصوى تُهيمن آلية انكماش الحجم، بينما فوقها تتولى عملية تمدُّد الحجم الدفة.
على النقيض من ذلك، يمكن لنموذج خليط بسيط أن يفسر هذا السلوك، لا من حيث النزعات المُتعارضة عند زيادة الحرارة، ولكن بالأحرى كتغييرٍ في نِسَب أو أعداد نوعَين مختلفَين من بِنية الماء، بما يُحقق التوازن. يمكن تصوُّر هذه الأنواع المختلفة من البِنى بعدة طرق، ولكن في الشكل الأبسط للنموذج، يُنظَر إلى السائل على أنه مُكوَّن من أشكالٍ «سميكة» و«ضخمة». وعلى الرغم من طرح أشكالٍ مختلفة أخرى، كان يُفترض في معظم هذه النماذج «ذات الحالتين» أن الأنواع الضخمة هي تجمعات من الجزيئات المرتبطة هيدروجينيًّا (ربما كانت مشوهة و«أشبه بالجليد»، وربما تُشبه الشبكة العشوائية الرباعية المثالية)، بينما كانت الأنواع السميكة تُعتبر متراصَّةً ومتقاربة أكثر (تذكَّر نموذج الرصِّ العشوائي النموذجي لسائل بسيط) وذات طاقة أعلى.
وبناء على ذلك، تُفسَّر خواص السائل في إطار التوازن بين الأنواع السميكة والضخمة، وهو توازن يتغيَّر بتغيُّر درجة الحرارة أو الضغط. ومع ضبط عوامل التغيُّر داخل النموذج على نحوٍ ملائم، يمكن استنساخ بعض البيانات الحرارية الديناميكية التجريبية. على سبيل المثال، تغيير الحرارة سيُغير الأعداد النسبية للنوعَين المختلفَين في الكثافة، مما يؤدي إلى إمكانية وصول الكثافة إلى أقصى قيمةٍ لها.
على الرغم من أن القياسات التجريبية اللاحِقة — التي اكتملت بتطوُّر النمذجة الحاسوبية — أثبتت أن نماذج الخليط هذه غير ضرورية، وتتعارَض مع البيانات التجريبية، فقد عاودت فكرة وجود بنيتَين سائلتَين مُحتملتَين مُختلفتَي الكثافة الظهورَ بشكلٍ مختلفٍ وأكثر دقَّةً في عام ١٩٩٢. كما رأينا في الفصل الخامس، على الرغم من وجودِ طرُق بديلة لشرح حالات شذوذ الماء التي ناقشناها حتى الآن، فإن سلوك الخواصِّ الأخرى للماء مع الحرارة أدَّى إلى فرضيات جديدة شائقة مُثيرة فكريًّا نوعًا ما.
ولكن لم يُحالفنا الحظ. فقانون ميرفي يفرض سيادته في هذا المقام! فنحن نصل إلى درجة حرارة التَّنوِّي المُتجانس عند حوالي −٤٠ درجة مئوية، ما يترتب عليه تبلور السائل الفائق التبريد.
هناك نظريات مُتناقضة حول الأسباب التي تؤدي إلى هذا الارتفاع السريع في قابلية الانضغاط (وأيضًا في الخواص الحرارية الديناميكية الأخرى القابلة للقياس). ولعل أكثر هذه النظريات إثارةً للجدل هي أننا ربما نقترِب من نقطة حرجة لسائلَين لهما بنيتان مختلفتان. تُعَد هذه الفرضية، في ضوء البيانات، معقولة بما فيه الكفاية؛ لذا يجِب أن نكون قادرِين على اختبارها بالتجربة. ولكن يتدخَّل قانون ميرفي مرةً أخرى؛ إذ يبدو أن النقطة الحرجة المُفترضة ستظهر في ظروفٍ من التبريد الفائق العميق لا يُمكننا الوصول إليها. فيصرُّ السائل على التبلوُر قبل أن نتمكَّن من الوصول إليها. فإذا كانت هذه النقطة الحرجة بين هذَين السائلَين موجودة أصلًا، فهي في «أرض مهجورة» لا يُمكننا الوصول إليها تجريبيًّا.
قبل تلخيص الحالة الراهنة بشأن هذه الفرضية عن الحالتَين السائلتَين للمادة، من الأفضل أن نتراجع قليلًا ونُفكر في الفرضية المطروحة. للوهلة الأولى، تبدو فكرة احتواء سائل على بنيتَين مختلفتَين، وانتقاله بوضوح بينهما، فكرةً غريبة. فالسوائل أنظمة مائعة، تكون الجزيئات فيها في حركةٍ مستمرة، وتُغيِّر مواقعها وجيرانها طوال الوقت. ومن ثَم نتوقَّع أن تكون هناك تغييرات طفيفة «مستمرة» في البِنية العامة للسائل (على سبيل المثال، عند تغيير الحرارة أو الضغط، كما ناقشنا في الفصل الرابع)، بدلًا من حدوث تغييرٍ مُحدَّد غير مستمر في بِنية السائل عند الوصول إلى درجة حرارة وضغط مُعيَّنَين.
غير أن هناك حججًا نظريةً جيدة لدعم مثل هذه الاحتمالية. فوجود بنيتَين سائلتَين مُتمايزتَين أمر مُمكن، بشرط أن تكون دالة الجهد بين الجزيئي — الطريقة التي تتفاعل بها الجزيئات بعضها مع بعض — ذات شكلٍ مُعين. توجَد أيضًا بيانات تجريبية تشير إلى أن سيناريو السائلَين ربما لوحِظ في بعض السوائل. فلماذا لا يسري على الماء؟ خاصةً عندما نعرف أن هناك بالفعل نوعَين على الأقل من الجليد غير المُتبلوِر في ظروف الضغط المحيط؛ الجليد غير المتبلور المُنخفض الكثافة، والجليد غير المتبلور العالي الكثافة. ربما كانت هذه هي البِنى (المثالية) لهذَين السائلين؟ قبل بضع سنوات، كان هذا الاقتراح يبدو معقولًا، حتى اكتُشِف الجليد غير المُتبلور الفائق الكثافة، حين سارع البعض إلى اعتماد ذلك كبِنية «مرجعية» للسائل ذي الكثافة الأعلى.
بما أننا لا نستطيع الوصول تجريبيًّا إلى المنطقة الحرجة المُفترضة، فهل يمكننا الوصول إليها عن طريق المُحاكاة الحاسوبية، حيث يُمكننا التحكم في النظام بطريقةٍ تمنعه من التبلور؟
بُذِلتْ بالفعل كثير من الجهود لإجراء مثل هذه الحسابات منذ التسعينيات. بل زعمت باكورة هذه المحاولات وجود ثلاثِ بِنًى سائلة مختلفة أو أكثر للماء المُحاكى حاسوبيًّا، ولكن يبدو أن الوضع قد استقرَّ على محاولة العثور على أدلةٍ جيدة على وجود سائلَين ذوَي بِنية مختلفة. فهناك مشكلات تقنية كبيرة ليس فقط في حساب حدود الطور، ولكن أيضًا في تحديد بِنًى سائلة مُختلفة في عمليات المحاكاة. وقد أُحرِز كثير من التقدُّم في معالجة هذه المسائل، ولكن مسألة وجود سائلَين بِبنيتَين مُختلفتَين في الماء لا تزال لم تُحسَم بعد.
وحتى لو أثبتت المُحاكاة الحاسوبية وجود سائلَين مختلفَين لنموذج حاسوبي معين للماء، فلن يسعنا إلا أن نستنتج وجود سائلَين لدالة الجهد تلك. فما زلنا لا نعرف دالة الجهد المائي بدقةٍ كافية لنكون واثقين أننا نحاكي شيئًا يُشبه الماء الحقيقي. لذا فالإجابة الواضحة عن السؤال عما إذا كان هناك انتقال بين حالتَين سائلتَين في الماء الحقيقي لا الماء المحاكى بالحاسوب، ستحتاج إلى بعض التجارب المُبتكَرة، التي تتحايل بطريقةٍ ما على مشكلة عدم القدرة على الوصول إلى تلك الأرض المهجورة. وهناك بعض المؤشِّرات على أن التجارب عند الضغوط السلبية قد تكون واحدةً من الطرق للمُضيِّ نحو تحقيق ذلك.
يبدو أن هذه المسألة ستظلُّ مثارةً لبعض الوقت.
الاستنتاجات؟
تُشير الشكوك المُتبقية حول الماء — والتي ناقشنا بعضها هنا — إلى أن هذا العنوان يجب أن يُذيَّل بالفعل بعلامةِ استفهام. ولكن يجب ألا ينتقِص ذلك من حقيقة أن بِنية الماء وسلوكه مفهومان بشكلٍ جيد جدًّا.
رغم أنه يمكن القول إن أُسُس أفكارنا عن الماء قد وضعها بيرنال وفاولر في تلك الليلة الضبابية في مطار موسكو في الثلاثينيَّات، فإن أفكارنا حول بِنية الماء تطوَّرت من خلال النماذج الكيميائية، ونماذج الخليط، والنماذج البلورية غير المُنتظمة، والنماذج الفراغية، لتصل إلى الصورة الحالية المُتعلقة بالشبكات العشوائية ذات التناسق الرباعي. ويتوافق هذا مع البيانات التجريبية عن بِنية السائل. وعلى نحوٍ خاص، كانت قياسات التشتت النيوتروني والأشعة السينية، التي أصبحت مُمكنةً بفضل التطوُّرات في كِلا المصدرَين وفي أنظمة الكشف، كانت أداةً رئيسة في الوصول إلى مُستوانا الحالي من الفهم. كما جرى تحسين تفسير هذه البيانات بصورةٍ أكبر من خلال استخدام موارد الحوسبة العالية القدرة بطريقة خلَّاقة ومبتكرة. والمُثير في الأمر أن بعض أفضل دوالِّ الجهد المستخدَمة في عمليات المُحاكاة الحاسوبية للأنظمة المائية — سواء أكانت من الماء النقي أم من الأنظمة الجزيئية الكبيرة المُعقَّدة والمهمة بيولوجيًّا — ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنموذج جزيء الماء البسيط الذي قدَّمه بيرنال وفاولر في بحثهما المؤثر عام ١٩٣٣.
عند مقارنة خواص الماء مع السوائل الأخرى، يُرى بعضها شاذًّا. ولحالات الشذوذ هذه أهمية في مجالات خطيرة، مثل التأثير على مناخنا وفي عمل الأنظمة الحيوية. ويُمكننا شرحها من حيث المبدأ في إطار البنية السائلة الموضعية. وقد نستطيع أيضًا شرحها من خلال سيناريو الحالتَين السائلتَين. ولكن بما أن هذه الصورة لا تبدو ضروريةً لفهم حالات شذوذ الماء، فقد نتساءل إن كان فهم تلك المسألة بالذات — الأمر الذي سيكون في حدِّ ذاته «إنجازًا» علميًّا كبيرًا — سيزيد بشكلٍ كبير من معرفتنا بأسباب تصرُّف الماء كما يتصرَّف.
احذر من الضجة!
في كتاب جون بولكينجهورن «نظرية الكم: مقدمة قصيرة جدًّا»، نجد عنوان القسم الأخير به «ضجة الكم». في هذا القسم، يُصدِر جون تحذيرًا على المستوى الصحي الفكري ضد استخدام الطبيعة الغريبة والمدهشة لنظرية الكم لشرح أشياء لا نفهمها، مثل التخاطر والوعي. وأجد في نفسي ميلًا لإصدار تحذيرٍ صحي مُماثل هنا بلفت الانتباه إلى «ضجة الماء». صحيح أن الماء سائل مُثير للاهتمام وغير عادي وضروري للحياة، ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن يكون له سمات سحرية، أو تلك الخصائص الشفائية أو المُعززة نفسيًّا الغامضة التي تُنسَب إليه بصور مختلفة.