الفصل العاشر
«أيا أنت! أنت! استيقظ! الفطووووور! كنت أعرف أنَّ هذا ما سيُوقظُك. يا إلهي! ليتني كنت أشغل وظيفتك مقابل دولار في اليوم!»
فرك ييتس عينيه، وجلس مُنتصبًا في الأرجوحة الشبكية. شعر للوهلة الأولى بأن الغابة تتداعى من حوله، ولكن حين استجمع تركيزه، لم يرَ سوى أنَّ بارتليت الصغير هو مَن جاء بصخبٍ عبر أشجار الغابة على ظهر حصان، بينما كان يقود حصانًا آخر بزمام مربوط برسن. كان صدى صيحاته القوية لا يزال يتردَّد في أعماق الغابة، وكان يرنُّ في أذنَي ييتس وهو يستفيق.
سأله ييتس بهدوء: «هل … آه … هل قلت أي شيء؟».
أُعجب الصبي بموهبة ييتس في عدم إبداء أي اندهاش أبدًا.
«ألا تَعرف أنَّ النوم في مُنتصَف النهار ليس صحيًّا؟»
«هل نحن في منتصَف النهار؟ ظننت الوقت متأخرًا عن ذلك. أتصور أنني أستطيع تحمُّل ذلك، ما دام منتصف النهار يستطيع. فأنا ذو بنيان قوي. والآن، ماذا تريد بالركض على حصانين إلى داخل غرفة نوم رجل بهذا التهور؟»
ضحك الصبي.
«ظننتك ربما تريد توصيلة. كنت أعرف أنك وحدك؛ لأنني رأيت البروفيسور يتمشَّى هائمًا على الطريق منذ قليل.»
«أوه! إلى أين كان ذاهبًا؟»
«لا أعرف إطلاقًا، وبدا أنه نفسه لا يعرف. إنه رجل غريب الأطوار، أليس كذلك؟»
«بلى. ليس بوسع كل شخص أن يكون راشدًا ووسيمًا مثلنا، كما تعرف. إلى أين أنت ذاهب بهذين الحصانين أيها الشاب؟»
«سأركِّب لهما حدوات. هلَّا تأتي معي؟ تستطيع امتطاء هذا الحصان الذي أمتطيه. فهو ذو لجام. وأنا سأمتطي الحصان ذا الرسن.»
«كم تبعد ورشة الحداد؟»
«أوه، ميلين تقريبًا، في الأسفل عند كروس رودس.»
قال ييتس: «حسنًا، فكرة لا بأس بها. أعتبر أنَّك تُقدِّم عرضك السخي بحُسن نية، وليس من أجل أن تجعلني محل عَرضٍ عامٍّ بالضرورة.»
«لا أفهم. ماذا تقصد؟»
«لا توجد دعابة خفية في الأمر، أليس كذلك؟ أنت لا تنوي أن تجعلني أركب على ظهر أحد هذين الوحشين كي تشهِّر بي أمام الناس؟ هل يعُضَّان أو يَركلان أو يقفزان فجأة بأقدامهما أو يلهوان بقلب الشخص من فوقهما عند التدحرج؟»
صاح بارتليت الصغير ساخطًا: «لا. هذا ليس سيركًا. عجبًا، حتى الطفل الرضيع يستطيع أن يمتطي هذا الحصان.»
«حسنًا، هذه هي نوعية الأحصنة التي أُفضِّلها تقريبًا. فكما ترى، أنا لستُ متمرِّسًا على ركوب الخيل بعض الشيء. لم أركب في حياتي شيئًا أشد جموحًا من الترام، وحتى الترام لم أركبه منذ أسبوع.»
«أوه، تستطيع الركوب بلا أي مشكلة. فأنا أتصور أنك تستطيع فعل معظم الأشياء التي تَعقِد العزم على فعلها.»
شعر ييتس بالإطراء من هذا الثناء، الذي بدا صادقًا، على قدرته، لذا نزل عن الأرجوحة. أمَّا الصبي، الذي كان جالسًا على ظهر الحصان مُرخيًا كلتا قدميه على جانب واحد منه، فأقام ظهره وانزلق من عليه إلى الأرض.
قال: «انتظر ريثما أُنزِل السياج أرضًا.»
ارتقى ييتس ظهر الحصان ببعض الصعوبة، وانطلق الاثنان يهرولان خببًا على الطريق. استطاع أن يحفظ توازنه على الحصان بقليل من عدم اليقين، لكن اهتزازه المتكرر صعودًا ونزولًا أقلقه. كان يبدو أنَّه ينزل في كل مرة على موضعٍ مُختلِف من ظهر الحصان، ما جعل توازنه على الحصان به بعض الحظ، مما أشعره بالحرج. كان يتوقَّع أنَّه سينزل في إحدى هذه المرات دون أن يجد الحصان أسفل منه. ضحك الصبي على طريقة ركوبه، لكنَّ ييتس كان أشد انشغالًا بالحفاظ على توازنه من أن يكترث بذلك.
«ﯾُ… ﯾُ… يُقال إنَّ …نَّ من خرج من داره قلَّ مقداره، و… و… وهذا ﻣ… ﻣ… ما ينطبق عليَّ.» بدا كلامه متلجلجًا بسبب اهتزازه على الحصان المهرول. «اسمع يا بارتليت، لم أعُد أستطيع تحمُّل ذلك. أفضِّل المشي.»
فقال الصبي: «أنت تُبلي حسنًا، سنجعله يركض أسرع قليلًا.»
ثم ضرب الحصان على خاصرته بالطرف الحر من زمام الرسن.
فصاح ييتس تاركًا اللجام من يده وممسكًا بعُرف الحصان: «يا أنت! لا تُسرِّع الحصان أيها الشيطان الصغير. سأقتلك حين أنزل، وسيحدث هذا قريبًا.»
كرَّر بارتليت الشاب كلامه قائلًا: «أنت تُبلي حسنًا»، ودُهش كثيرًا حين رأى أنَّ ييتس أيضًا صار مقتنعًا بذلك. فحين بدأ الحصان يَركض أسرع قليلًا، رأى ييتس أن الحركة صارت سهلة كالتأرجح في أرجوحة ومُهدئة ككرسي هزاز.
«هذا أحسن. ولكن علينا الحفاظ على هذه الوتيرة؛ لأنَّ هذا الوحش إذا عاد إلى الهرولة فجأة، فسأعاني بشدة.»
«سنُحافظ على هذه الوتيرة إلى حيث نرى قرية كورنرز، ثم سنُبطئ سرعتنا لتصبح مشيًا متمهلًا. فمن المؤكَّد أن ورشة الحدَّاد سيكون فيها الكثير من الرجال؛ لذا سندخلها على الحصانين بتمهُّل ورفق.»
قال ييتس: «أنت شابٌّ صالح يا بارتليت. لقد شككت في البداية في أنك تُدبِّر لي حيلةً ما. يؤسفني القول إنني لو كنت مع شخص آخر واقع في مأزق كهذا، لما أخرجته منه بسهولة كما أخرجتني. كان الإغراء سيكون أشد ممَّا يُقاوَم.»
وحين وصلا إلى ورشة الحدَّاد عند كورنرز، وجدا أربعة خيول في المبنى أمامهما. ربط بارتليت حصانيه في الخارج، ثمَّ دخل مع رفيقه إلى مدخل الورشة الواسع. كانت الورشة مبنية من ألواح خشبية غير مصقولة، وكان داخلها مسودًّا من أثر السخام. لم تكن جيدة الإضاءة؛ إذ كانت النافذتان محجوبتَين بكمٍّ هائل من الدخان إلى حدِّ أنهما أصبَحَتا بلا جدوى في تأدية الغرض الأصلي منهما، لكنَّ المدخل، الذي كان عريضًا كمدخل مخزَن حبوب، كان يَسمح بدخول كل الضوء الذي يَحتاج إليه الحداد من أجل عمله. وفي الجانب البعيد والرُّكن الأحلك ظُلمة من الورشة، كان يُوجد فرن صهر المعادن وصقلها، ومن خلفِه الأكيار الضَّخمة، التي كانت مُعظَم أجزائها مُستترة خلف المدخنة. كانت مساحة الفرن نحو ستَّ أقدام مربعة وكان ارتفاعه ثلاث أقدام أو أربعًا تقريبًا، وكان مبنيًّا من ألواح خشبية ومُمتلئًا بالتراب. كان أعلاه مُغطًّى بالرماد وهِباب الفحم، بينما توهَّج في منتصفِه لُبُّ النيران المُستعِر الذي كانت ألسنة اللهب الزرقاء تحُوم من فوقه. كان نافخ الأكيار يَمضغ التَّبغ، وكان بين الحين والآخر يَبصُق العصارة الناتجة من المَضغِ بدقة مُتناهية وسط النيران بالضبط؛ حيث كانت تُحدِث هسهسةً مؤقَّتة وبُقعة سوداء. كان المُتردِّدُون على ورشة الحدادة يُعجَبُون ببراعة ساندي في البصق، وحاول الكثيرون تقليدها بلا جدوى. كان الحسود يقول إنَّ هذه البراعة ترجع إلى التكوين المميز لأسنانه الأمامية؛ إذ كان الصف العُلوي بارزًا وكانت السِّنَّان الوسطيان مُتباعدتان إحداهما عن الأخرى، كما لو كان أحدهما مفقودًا. لكنَّ هذا كان محضَ غيرة؛ إذ لم يكن إتقان ساندي لهذه المهارة بسبب أيِّ مُحاباة من الطبيعة له، بل بفضلِ المُمارسة المستمرَّة الدءوبة. كان ساندي من حينٍ إلى آخر يَسحب قضيبًا حديديًّا خارج النيران ويتفحَّصه بدقَّة شديدة بيده اليُمنى المتصلِّبة الجلد؛ لأن يده اليسرى لم تكن تفارق ذراع الكير قط. وكان الطرف المتوهج من القضيب يُشع نُورًا أبيض يُذهب البصر من شدته وهو يُسحَب برفْق، ويُضيء رأس الرجل جاعلًا وجهَه الأمرد يَبدو، أمام خلفيتِه المُظلمة، أشبه بوجهٍ مُلطَّخ لشيطان ساخر متوهِّج بنيران مُنبعثة من داخله. ولا شك أنَّ الطرف الذي كان ساندي يُمسكُه من القضيب كان ساخنًا جدًّا على أيِّ مخلوق بشَريٍّ عاديٍّ، كما كان كلُّ مَن في الورشة يعلم؛ فكلُّ واحد منهم، في مُستهلِّ انضمامه إلى النادي الريفي، كان يُعطَى قطعة حديد سوداء من يدِ ساندي، وهذه القطعة يكون ساندي ممسكًا بها بكلِّ ثبات، لكن الشخص البريء الذي يأخذها منه عادةً ما يرميها فورًا وهو يصرخ. كانت هذه هي مُزحة ساندي المفضَّلة، وجعلته يرى الحياة تستحقُّ العيش. وربما لم تكن هذه المُزحة ترقى لمُستوى الحسِّ الدُّعابي للحدَّاد نفسه، لكن آراء العامة كانت مُنقسِمة حول هذه المسألة. فكل رجل عظيم لديه مجموعته الخاصة من المعجَبين، وكان البعض يقول — سرًّا بالطبع — إنَّ ساندي يَستطيع أن يَحنيَ حدوة حصان بإتقان كالحدَّاد ماكدونالد نفسه. غير أنَّ الخبراء، وإن كانوا يَعترفُون ببراعة ساندي العامة، لم يصلوا إلى هذا الحد.
كان حوالَي نصف دزينة من أعضاء النادي موجودين في الورشة آنذاك، وكان مُعظمهم يقفُون مُتَّكئين على شيءٍ ما واضعين أياديَهم في جيوب سراويلهم، فيما كان أحدهم جالسًا على طاولة الحداد مُدلِّيًا ساقيه إلى الأسفل. كانت الأدوات مُتناثرة بكثافة شديدة على الدكة إلى حدِّ أنه اضطر إلى إخلاء مكان قبل أن يستطيع الجلوس، وأثبت تصرُّفه بهذه الحرية أنه عضو قديم ومُتميز. جلسَ هناك حيث ظلَّ يَبري عصًا بلا هدف حتى جعَلَها ذات سنٍّ مُدبَّب، وتفحَّصها مرارًا بتمعُّن، كما لو كان منهمكًا في عملية دقيقة تتطلَّب تمييزًا كبيرًا.
أمَّا الحداد نفسُه، فكان منحنيًا وظهره إلى أحد الأحصنة، وكان حافر هذا الحصان الخلفي مُستقرًّا، من بين ركبتي الحداد، على مئزره الجلدي. كان الحصان هائجًا، وكان ينظر من فوق كتفه إلى الحداد مستاءً ممَّا يحدث. فسبه ماكدونالد بطلاقة، وأمره بالوقوف ساكنًا بينما كان يمسك بساقه بإحكام كما لو كانت بين شقي منجلته الحديدية، التي كانت مُثبتة على الطاولة بالقرب من سكين البَرْي. كان يُمسك بيده اليُمنى حدوة حصان ساخِنة متَّصلة بمِثقاب حديدي كان مَغروسًا في أحد الثقوب المخصَّصة للمسامير، وضَغَط هذه الحدوة على الحافر المرفوع، كما لو كان يَختم وثيقةً بختم ضخم. تصاعَدَ الدخان واللهب من تلامُس الحديد الساخن مع الحافر، وامتلأ الجوُّ برائحة قرن الحافر المحترِق التي لم تكن كريهة. كان كلٌّ من صندوق أدوات الحدادة، والمطرقة والكماشات والمسامير، مُستقرًّا على الأرضية الترابية في متناول يد الحدَّاد. كان العرق يتصبَّب من جبينِه المكسو بالسخام؛ لأنَّ المهمَّة التي كان يُؤديها كانت ساخنة، ولأن ماكدونالد كان مُعتادًا تأديةَ معظم عمله بنفسِه. كان يُوصف بأنه أكثر العمال اجتهادًا في ذاك الجزء من الريف، وكان فخورًا بذلك الوصف. وكان اجتهادُه دائمًا ما يُشعِر مُرتادي ورشته من العاطلين المتسكِّعين بالخجل من أنفسهم، وكان هذا يَمنحُه شعورًا بالسعادة حين يكون برفقتِهم. وفوق ذلك، لا بدَّ أن يكون للمرء جمهورٌ حين يكون خبيرًا في السب والألفاظ النابية. كان تفوُّه ماكدونالد بالألفاظ النابية تلقائيًّا جدًّا — موهبةً طبيعية إن جاز القول — ولم يكن يقصد به أي إساءة. ففي الحقيقة، حين كان يَستشيط غضبًا، كان دائمًا ما يَنسى أن يتفوَّه بألفاظ نابية، لكنها في لحظات هدوئه كانت تَنساب من بين شفتَيه بسلاسة وروعة، وكانت تُضفِي طلاقةً على كلامه. كان ماكدونالد يَستمتِع بالسُّمعة الرائجة عنه بأنه رجل سيِّئ الخُلُق، مع أنَّه لم يكن ذلك، كل ما في الأمر أنَّ لغته كانت عكس طبيعته. وكانت هذه السُّمعة محاطة بهالة من الغموض بسبب ماضيه المجهول في منطقة داون إيست الغامضة التي كانت مسقط رأسه. لم يكن أحد يعرف ما فعله ماكدونالد في ماضيه بالضبط، ولكن كان الجميع يُسلِّمون بأنه مرَّ ببعض التَّجارب الشنيعة بكل تأكيد، مع أنه كان لا يزال شابًّا وأعزب. فقد اعتاد أن يقول: «حين تمرُّ بما مررتُ به، لن تكون مُستعدًّا لبدء شجار مع أي شخص.»
لا شك أنَّ هذه العبارة كانت تحمل مغزًى معينًا، لكنَّ الحداد لم يكن يَأتمن أيَّ شخصٍ على أسراره قط؛ وكانت داون إيست منطقة غامِضة، أشبه بأرضٍ قفرٍ ليس لها حدود ولا موقع محدَّد، تقع في مكانٍ ما بين تورنتو وكيبيك. وكان من المُمكن أن يكون أي شيء تقريبًا قد حدث في هذه المنطقة من البلدة. كانت طريقة ماكدونالد المفضَّلة لإحراج أي خصم يُجادلُه أن يقول له: «حين تخوض بعضًا من تجاربي أيها الشاب، ستُصبحُ أحكمَ من أن تتحدَّث هكذا.» كل هذا أضفى بعض الجاذبية على مُصادَقة الحداد، وكان أبناء المزارعين يشعرون بأنهم يَلعبون بالنار حين يكونون برفقتِه؛ إذ كانوا يَنالُون لمحةً خاطفة عن الجانب الخَطِر من حياته، إن جاز القول. أمَّا العمل، فكان الحدَّاد يتلذَّذ به، وجعله آفته الوحيدة تقريبًا. كان يُؤدي كل شيء بأقصى جهده وطاقته، وكان اجتهاده، كما قيل سلفًا، مصدر إحراج دائم للعاطلين في كل أنحاء البلدة. فحين يكون بلا عمل يُؤديه، كان يَختلق عملًا. وحين يكون لديه عمل، كان يؤدِّيه بكل نشاط، ماسِحًا العَرق من على جبينه المتَّسخ بسبَّابته المعقوفة، وقاذفًا قطراته على الأرض بهزَّة سريعة من يده اليُمنى، مُرخيًا إياها من عند المِعصَم، بطريقةٍ جعلت سبابته وإبهامه تصطدمان بعضهما ببعضٍ بطقطقةٍ أشبه بفَرقعةِ سَوط. ودائمًا ما كانت هذه الحركة مصحوبة بنَفَس طويل عميق أقرب إلى تنهيدة، كأنَّ لسان حاله يقول: «ليتني أحظى بأوقات مُريحة كالتي تعيشونها أيها الرجال.»
لم يَرفع ناظرَيه حين دخل الوافدان الجديدان إلى ورشتِه، بل استمر بكل كدٍّ في تقليم الحافر بسكين غريب الشكل؛ إذ كان مُنحنيًا كخطافٍ عند سنه، وغَرَس الحدوة في مكانها بالحرارة، ودَقَّ على مساميرها ليُثبتها، وبَرَد الحافر بمبرد طويل عريض حتى ساوى أطرافَه مع الحدوة. ولم يتَفضَّل بإجابة استفسار بارتليت الشاب إلا حين ترَك قدم الحصان تسقط على الأرضية الترابية، وصفع الحصان النافد الصبر على خاصرته.
قال وهو يَعتصِر العَرق من على جبينه: «كلا، لن تَنتظرا كل هذه الأحصنة، ولن تُضطرَّا إلى المجيء الأسبوع المقبل. فهذا هو آخر حافر لآخر حصان. فلا أحدَ يَحتاج إلى المجيء إلى ورشتي ويُرَد خائبًا ما دُمت حيًّا. ولا أنجز العمل أيضًا بالجلوس على دكة وبَرْي عصًا.»
قال ساندي بضحكة مكتومة ونبرة إعجاب كأنه يلمح إلى أنَّ رب العمل حين يتكلم ينطق بالحكمة: «بالضبط. بالضبط. هذه نقطة محسوبة عليك يا سام.»
فقال الشخص الذي كان يَبري العصا من على الدكة في ردٍّ اعتُبِر أنه ينُم عن حضور البديهة: «أظنني أستطيع تحمُّل ذلك، إن كان هو يستطيع.»
فقال بارتليت الشاب: «تقصد أنك تستطيع تحمُّل ذلك جالسًا.» وضحك مع الآخرين على دعابته.
قال الحداد بحدة: «لكنَّ الحدوات نفدَت من عندنا، وسيتعيَّن عليكما الانتظار ريثما نحني بعض حدوات أخرى، هذا إن كُنتما لا تُريدان إعادة ضبط الحدوات القديمة. أهيَ جيِّدة كفاية؟»
«أظن ذلك، إن كنت تَستطيع معاينتَها والتحقُّق من ذلك بنفسِك، لكنَّ الحصانَين في الساحة بالخارج. بالطبع ما كنتُ لأجعلهما يَنتظِران هنا في الداخل، أليس كذلك؟» ثم تذكَّرَ واجباته فجأةً وقال مُقدِّمًا رفيقه تقديمًا عامًّا إلى كل الحاضِرين: «أيها السادة، هذا صديقي السيد ييتس من نيويورك.»
بدا الاسم وكأنه قد نزَل كمياهٍ باردة على مَرح الحشد الحاضر وبهجته. فقد تصوَّروا من طراز ثيابه أنَّه صاحب متجَر من إحدى القرى القريبة أو بائع بالمزادات من مكانٍ بعيد؛ إذ كانت هاتان المهنتان هما أعلى ما يَستطيع أن يصلَ إليه الرجل من مكانة اجتماعية. كانوا مُستعدِّين لسَماع أنَّه من ويلاند أو ربما سانت كاترينز، لكن نيويورك! كانت هذه صدمة ساحقة. ومع ذلك، لم يكن ماكدونالد رجلًا يقبل أن يبدو أقل مقامًا من شخص آخر في ورشته وأمام مُعجبيه. ما كان ليَترك هيبته تتفلَّت منه لمجرَّد مجيء رجل من نيويورك. لم يكن يَستطيع أن يدَّعي أنه يعرف المدينة؛ لأنَّ الغريب كان سيَكتشِف غشَّه سريعًا وربما يَفضحه، لكنَّ التعالي الطفيف الذي أبداه ييتس أزعجه، وأحرج الآخرين. حتى ساندي نفسه كان صامتًا.
قال ماكدونالد ببرودٍ فظٍّ كأنَّه يُريد إظهار أنَّ المرء، رغم كل شيء، يُمكِن أن يُقابل رجلًا من نيويورك ولا ينهار على الأرض من شدة الانبهار: «قابلت أناسًا من نيويورك في داون إيست.»
قال ييتس: «حقًّا؟ آمل أن تكون قد أحببتُهم.»
رَد الحدَّاد ببعض الاستخفاف قائلًا: «أوه، بعضُهم وبعضهم. ففيهم الجيد والسيِّئ، كبقية البشر.»
قال ييتس: «آه، لقد لاحظتَ ذلك إذن. حسنًا، كثيرًا ما ظننتُ ذلك أنا أيضًا. لا غضاضة في أن تُدلي بتعليقٍ كهذا؛ إذ لا يُوجد خلاف عليه في العموم.»
كان تعالي النيويوركي مثيرًا للغضب، وأدرك ماكدونالد أن البساط يُسحَب من تحت قدميه. فقد أثارت الوقاحة الهادئة التي امتزجت بنَبرة ييتس سخطَ الحداد بشدة إلى حدِّ أنه شعر بأنَّ أي كلام لديه غير كافٍ لصدِّها. وحينئذٍ حان أوان الدعابة العملية. فكان لا بُد من كسر غرور هذا الرجل. اعتزم الحداد تجربة حيلة ساندي، وإذا فشلت، فعلى الأقل ستَصرِف انتباه الحاضرين عنه إلى مُساعِده.
قال: «بما أنك من نيويورك، فربما تستطيع أن تَحسم رهانًا صغيرًا يودُّ ساندي هنا أن يخوضه مع شخصٍ ما.»
وسرعان ما فهمَ ساندي تلميح الحداد، فأخذ القضيب الذي كان دائمًا ما يُوضع بالقرب من النيران على نحوٍ كافٍ ليكون ذا سخونة مُؤلمة.
ثم قال وهو يُقدِّر وزنه بدقة تحليلية في يده المُتأرجِحة: «كم يبلغ وزن هذا في رأيك؟» فَعَل ساندي ذلك أفضل من أيِّ مرةٍ سابقة. فقد بدَت على وجهِه الجامد الساذج نظرة براءة تامة، وكان الحاضِرُون يراقبون ما سيحدث حابسين أنفاسهم في ترقب.
كان بارتليت على وشكِ التقدُّم لإنقاذ صاحبه، لكنَّ تحديقةً خبيثة من ماكدونالد منعته، وفوق ذلك، خالجه شعورٌ ما بأنه متعاطِف مع جيرانه وليس مع الغريب الذي أحضَرَه وسطهم. رأى في استياء أنَّ ييتس ربما كان من المُمكن أن يكون أقل تعاليًا وتَغطرُسًا. وفي الحقيقة، حين طلب منه المَجيء، تخيَّل أن تألقه سيحظى بإعجاب الحاضِرين في الحال، وأنه سينال ثناءهم واحترامهم. أمَّا الآن، فشعر الصبي بأن الاحتقار العام الذي لم يبذل ييتس أيَّ جهد لإخفائه قد شمله هو أيضًا.
رمق ييتس قضيب الحديد بنظرة خاطفة، وقال بلا مبالاة دون أن يُخرِج يدَيه من جيبَيه:
«أوه، أظنه يزن رطلين.»
قال ساندي في توسُّل وهو يمدُّ يده بالقضيب إليه: «احمله.»
رد ييتس بابتسامة: «لا، شكرًا. أتظنُّ أنني لم أُمسك حدوة حصان ساخنة من قبل؟ ما دُمت متلهفًا لمعرفة وزنها، فلماذا لا تأخذها إلى متجر البقالة وتزنُها؟»
قال ساندي بابتسامة واهية وهو يَرمي القضيب مُعيدًا إيَّاه إلى مستقرِّه على الفرن: «إنه ليس ساخنًا. فلو كان كذلك، لما استطعتُ حملَه وقتًا طويلًا.»
رد ييتس بابتسامة: «أوه لا، كلا بالطبع. أتخال أنَّني لا أعرف ماهية أيادي الحدَّادين؟ جرِّب شيئًا جديدًا.»
رأى ماكدونالد أنَّه لم يَنهزِم أمام جمهوره؛ لأنَّهم كلهم شعروا بأنهم تجرَّعوا مثله مرارة خيبة حيلة ساندي كما بدا واضحًا عليهم، لكنَّه كان متيقنًا من أنَّه إذا أفحم أي شخص في جدال مُستقبلي، فسوف يُذكِّره بواقعة النيويوركي ليُحرجَه. كان يُبدي غريزة نابليونية في أوقات الأزمات.
صاح قائلًا: «حسنًا، أيها الشبان، اللهو مُسلٍّ، ولكن عليَّ أن أعاود العمل. يجب أن أكسب عيشي على أي حال.»
كان ييتس مُستمتعًا بانتصاره، وقال لنفسه إنهم لن يُحاولوا «النَّيل منه» مرةً أخرى.
سار ماكدونالد بخطوات واسعة إلى الفرن وأخرج قضيب الحديد الذي كان أبيضَ من شدة سخونته. ثم أومأ بإيماءة تكاد تكون غير ملحوظة إلى ساندي، الذي دائمًا ما كان مُتأهِّبًا بعُصارة التبغ، فبصق على سطح السندان العُلوي مباشرةً بدقَّة مُتناهية. فوضع ماكدونالد الحديد الساخن فورًا على البقعة المبصوق عليها، وسرعان ما طرَقَه بكلِّ قوة بالمطرقة الثقيلة. فكانت النتيجة مُرعِبة. فقد انتشرَت على الفور مروحة من شظايا الحديد المُنصهِر أضاءت المكان كأنَّها وميضُ برقٍ. وصدَرَ صوتُ ارتطامٍ قوي كانفِجار قذيفة مدفعية. امتلأت الورشة للحظةٍ بوابلٍ من الشرر المتطاير اللامع، الذي طار مُنتشرًا كالنيازك في كل أركانها. كان كل مَن في الورشة مُستعدًّا لهذا الانفجار ما عدا ييتس. فانتفَض إلى الوراء مُطلقًا صيحة، وتعثَّر، ولم يكن لدَيه متَّسع من الوقت لاستخدام يدَيه ليُخفِّف وطأة سُقوطه؛ لذا خرَّ على الأرض وتدحرج إلى كُعوب الخيول. فهاجَت الحيوانات التي أرعبها الصوت المُدوِّي، وظلَّت تَضرب الأرض بأقدامها بقوة، واضطُرَّ ييتس إلى الزحف بسرعة على يدَيه وركبتَيه حتى بلغ مأوًى أأمَنَ، مُبديًا سرعةً وخفَّةً على حساب هيبتِه. لم يَبتسِم الحدَّاد قط، لكنَّ كلَّ مَن في الورشة قهقه ضحكًا. فها قد صارت سُمعة البلدة في مأمن بذلك. وانحنى جسد ساندي من شدة ضحكه الصاخب.
صاح قائلًا: «لا أحد كالرجل العجوز! أوه، يا إلهي! يا إلهي! إنه الأصلي وفريد من نوعه.»
نهض ييتس على قدميه ونفض عن نفسه الغبار ضاحكًا مع الباقين.
قال: «إذا كنتُ أعرف تلك الحيلة أصلًا من قبل، فقد نسيتها بالتأكيد. هذه نقطة محسوبة علي، كما قال هذا الشاب الذي يتشنج من شدة الضحك منذ لحظة. أيها الحدَّاد، فلنتصافح! سأدعو كل الحاضرين إلى مشروب على نفقتي الخاصة، إن كان يوجد مكان قريب من هنا.»