الفصل الثالث عشر
كان أيُّ شخص يمرُّ بمنطقة كورنرز في ذلك المساء سرعان ما سيدرك أنَّ ثمة شيئًا مهمًّا يحدث. فقد كانت مركباتٌ من كل الأنواع مصطفَّة على الطريق، حيث سُحِبَت ناحية السياج الذي كانت خيولها مربوطة بقضبانه. وكان واضحًا أنَّ البعض أتى من مناطقَ بعيدة؛ لأنَّ القسَّ المَعني بتجديد الروح الدينية كان ذائع الصيت. كانت النساء عند وصولهن يَدخُلن مبنى المدرسة، الذي كان مُضاءً إضاءةً مُتوهِّجة بمصابيح الزيت. ووقف الرجال جماعاتٍ في الخارج، فيما جلس الكثيرون منهم مُصطفِّين على الأسيجة، وكانوا كلهم يتحدَّثون عن كل موضوع يُمكِن تخيُّله ما عدا الدِّين. يبدو أنَّهم تصرَّفُوا وَفق النظرية القائلة إنَّهم، على أي حال، سيتلقَّون قدرًا كافيًا من الدين لإشباع أشد الرجال تشددًا حين يَدخُلون. جلس ييتس على العارضة العلوية من السياج مع باري العصا، الذي كان قد استضافه في بيته. كانت السماء تُظلِم بشدة إلى حدٍّ يُعجز المرء عن برْي العصيٍّ كما يَشاء؛ لذا حاول الرجل ذو السكين القابل للطي تسلية وقته بحفر شقوق في العارضة التي كان جالسًا عليها. وحتى حين فشل ذلك في تسليتِه، دائمًا ما كان يجد متعةً في مجرَّد فتح سكين ذي زنبرك قوي في مُؤخرته وقفله باستمرار، ولذة إضافية في خطر احتمال جرح أصابعه. كانوا يتحدثون عن حركة فينيان، التي كانت تشغل بال الكنديين بعض الشيء آنذاك. وكان ييتس يُخبرهم بما يعرفه عن هذه الجماعة في نيويورك وعن قوَّتها، وبدا المستمعون إليه يميلون إلى التقليل من شأنها. فلم يكن أحد يصدِّق أنَّ الفينيانيين متهورون إلى حدِّ الإقدام على غزو كندا، لكنَّ ييتس كان يرى أنَّهم لو فعلوا ذلك، فسيُكبِّدون الكنديين عناءً أشدَّ من المتوقَّع.
قال أحدهم: «أوه، سنُطلِق بارتليت العجوز عليهم لو جاءُوا إلى هنا. سيرغبون بشدة في العودة إلى بلادهم لو تعامل معهم.»
فأضاف آخر: «بلسانه.»
قال باري العصا: «بالمناسبة، هل قال بارتليت الصغير إنه سيأتي الليلة؟ آمل أن يُحضِر أخته إذا أتى. ألم يطلب أيُّكم منه أن يُحضرَها؟ فلن يُفكر في ذلك أبدًا إذا لم يُطلَب منه. إنه لا يراعينا إطلاقًا.»
«لماذا لم تطلب أنت منه ذلك؟ سمعت أنك شخصيًّا قد اعتدتَ السير في هذا الاتجاه مؤخَّرًا.»
فقال الباري بلا مبالاة تامة: «مَن؟ أنا؟ لا فرصة لديَّ لفعل ذلك في هذا الحي، لا سيما حين يكون العجوز موجودًا.»
صدر صوت ترانيم من مبنى المدرسة. وفُتحَ بابها المزدوج على مصراعيه، وبينما كان الضوء يتدفَّق إلى الخارج بدأ الناس يتدفقون إلى الداخل.
سأل ييتس قائلًا: «أين ماكدونالد؟».
«أوه، أظنه قد ذهب إلى الغابة. إنه يَغسل وجهه ثم يَختفي. فمن شواهد حسِّه المنطقي السليم أنه يغسل وجهه أولًا؛ لأنه يعرف أنه سيُضطرُّ إلى المجيء. ستراه مجددًا قبل أن يبدءوا الترنيمة الثانية.»
قال أحدهم وهو يَنزل من على السياج ويُمدِّد ذراعيه فوق رأسه متثائبًا: «حسنًا يا أولاد! أظن أننا إن كنا نعتزم الدخول، فقد حان الوقت لذلك.»
فنزلوا واحدًا تلو الآخر من على السياج، وأغلق الباري سكينه بحركةٍ حادة مفاجئة على مضض ووضعه في جيبه بأسفٍ واضحٍ على قسمات وجهه. كانت المدرسة، رغم اتساع مساحتها، ممتلئة عن آخرها، وكانت النساء في إحدى جانبَي الغرفة، فيما كان الرجال في الجانب الآخر، مع أنَّ مثل هذا التقسيم لم يكن له وجود بالقرب من الباب؛ إذ كان كل شاغلي المقاعد الخلفية رجالًا وصبيانًا. كانت جماعة المُرنِّمين واقفة تُنشد ترنيمةً حين دخل ييتس ورفاقه؛ لذا لم يلحظ أحد دخولهم الهادئ. كان مكتب المدرِّس قد نُقِل من المنصة التي عادة ما يُوضَع عليها، وصار يشغل آنذاك أحد الأركان في الجانب المخصَّص للرجال من المبنى. وقد جلس عليه شخصان أو ثلاثة كانوا يَرغبُون في أن يكونوا قُرب المقدمة ويستطيعوا في الوقت نفسه مراقبة بقية الحاضرين. كان الواعظ المحلي واقفًا على حافة المنصة، يضبط الإيقاع بكتاب الترانيم الذي يُمسكُه ولكن من دون إنشاد؛ لأنَّه لم يكن ذا أُذُن موسيقية ولا صوت موسيقي، وكان يعترف بهذه الحقيقة بكل سرور. وكان قائد الإنشاد رجلًا واقفًا في وسط الغرفة.
في الجزء الخلفي من المنصة، بالقرب من الحائط، كان يوجد كرسيان، جلس على أحدهما القس المبجَّل السيد بيندرسون الذي كان من المقرر أن يُدير طقوس التجديد الديني. كان رجلًا ممتلئًا ضخم الشكل، لكن ييتس لم يَستطِع رؤية وجهِه؛ لأنه كان مدفونًا بين يدَيه، ولأنَّ رأسه كان محنيًّا من انهماكه في صلاةٍ صامتة. كان مفهومًا بين عموم الناس أنه كان ذا شرٍّ مُخيف في أيام شبابه، ودائمًا ما كان يصف نفسه بأنه شعلة انتُشلَت من وسط النيران. بل كان ثمة تلميحات إلى أنه كان يمارس لعب الورق في وقتٍ من الأوقات، ولكن لم يكن أحد متيقنًا من ذلك. كان العديد من الوعَّاظ المحليِّين يفتقرون إلى مَلكة الموعظة الحسنة؛ لذا كان رجلٌ مثل القس المبجل السيد بيندرسون، الذي طوَّر هذه الموهبة تطويرًا غير طبيعي، أنفس قيمة من أن يُحصَر في حدود محلية؛ ولذلك كان يقضِي عامَه متنقلًا من مكان إلى آخر، حيث كان يُعيد الأغنام الشاردة التي تحُوم في الضواحي إلى الحظيرة، بالترهيب تارة والترغيب تارة، وحالَما تعُود إلى داخل سياج الحظيرة الدينية، كان من المفترض أن يتولى القسُّ المحليُّ مُهمَّة إبقائها هناك. وهذا الأخير، الذي كان يُلقِي الترنيمة، كان رجلًا من نوعيةٍ مُختلفة تمامًا. فقد كان طويلًا وشاحبًا ونحيفًا، وكان معطفُه الأسود الطويل يبدو مُعلَّقًا عليه كما لو كان على عمود. وحين انتهَت الترنيمة وجلس الجميع، وجد ييتس ومَن معه أقرب ما استطاعوا إيجاده من مقاعد عند جانب الغرفة القريب من الباب. وكان هذا الجزء من القاعة هو الذي اجتمَعَ فيه المتهكِّمُون، لكنه أيضًا كان الجزء الذي يحصد معظم الفائدة إذا قُدِّر للتجديد أن يكون ناجحًا. رأى ييتس المكان مكتظًّا جدًّا ولاحظ دكتين شاغرتَين في المقدمة، فسأل الباري عن سبب فراغهما.
«ستُشغلان قريبًا جدًّا.»
«لِمَن حُجزتا؟»
«ربما أنت، وربما أنا، وربما كلانا. لا يُمكن الجزم أبدًا. فهذه دكَّة التائبين.»
جثا الواعظُ المحليُّ على المنصة وأدَّى صلاةً. ودعا الرب أن يُبارك جهود الأخ الحاضر معهم في هذه الليلة، وأن يُكلِّل عمله بالنجاح، ويهتدي بواسطته العديد من الخطاة الهائمين إلى الدرب القويم. وصدحت أرجاء القاعة بصيحات «آمين» و«باركي يا نفسي الرب» في أثناء أداء الصلاة. وعند قيامه، ألقى ترنيمة أخرى:
بدأ قائد الإنشاد تلاوة الترنيمة بصوت خفيض أكثر من اللازم. بدأ اللحن عاليًا، وانخفَضَ إلى أدنى السلَّم الموسيقي مع وصول الترنيمة إلى السطر الأول. وحين وصل المرنِّمون في خفض نبرتهم إلى ثُلثَي السلَّم الموسيقي، وجدوا أنهم لا يستطيعون خفضها عن ذلك، ولا حتى أولئك الذين كانوا يُرنمون بطبقة القرار الصوتية. فشعر القائد ببعض الارتباك واضطُر إلى رفع درجة النغم، ورأى أولئك المُستهترون الجالسون في مؤخرة القاعة سوء تقديره مُضحكًا للغاية. فُتح الباب بهدوء، والتفتوا جميعًا متوقعين رؤية ماكدونالد، لكن الوافد لم يكن سوى ساندي. كان قد غسل وجهه، دون تأثير ملحوظ، وأظهر انتفاخ خده، الذي كان كالدُمَّل، أنَّه لم يُلقِ التبغ من فمه قبل دخوله مبنى المدرسة. مشى على أطراف أصابعه إلى مكانٍ بجوار أصدقائه.
همس إلى أقرب شابٍّ جالس بجواره قائلًا وهو يضع يده بجوار فمه كي لا يُسمعَ الآخرين صوته: «العجوز في الخارج.» وحين التقَت عيناه بعينَي ييتس للحظة، غمز له غمزة ودية.
ازدادت الترنيمة جهارة وحيوية مع استمرارها، وتعافت تدريجيًّا من سوء التقدير البسيط الذي وقع في بدايتها. وحين انتهت، جلس الواعظ المحلي بجوار المُجدِّد. كانت مهمَّته قد انتهت؛ لعدم وجود تعريف رسمي بالمتحدث يُلقيه إلى الحاضرين. وبقي الآخر كما هو حاني الرأس لوقت بدا طويلًا جدًّا.
خيَّم صمت مُطبِق على كل الحاضرين. حتى الهمسات بين المتهكِّمين توقفت.
وأخيرًا، رفع السيد بندرسون رأسه ببطء، وقام ثمَّ تقدَّم إلى مقدمة المنصة. كان له وجه قوي مُهيمِن حليق ذو فكٍّ مشدود يوحي بأنه رجل عنيد؛ رجل لا يُهزَم بسهولة. قال بصوت هادئ: «افتحوا الباب.»
كان قد وجد هذه بداية فعَّالة في الجلسات القليلة الماضية التي عقدها. وكانت جديدة على الجمع الحاضر أمامه حاليًّا. فعادةً ما كانت مجموعة من الأشخاص تقف بالخارج، وحين كان يجدهم هناك، كان يدعوهم، عبر فتح الباب، إلى الدخول. وحين لم يكن يجد أحدًا هناك، يكون جاهزًا بعِبرة يُقدمها، قائمة على الظلام والسكون. أمَّا في هذه الحالة، فكان من الصعب تحديد أيهما كان أشد دهشة ممَّا حدث عند فتح الباب: المُجدد أم الحاضرون. فقد تقدَّم ساندي، الذي كان واقفًا على قدميه، إلى الباب وفتحه فجأة. فدُهِش أشد دهشة مما رآه إلى حدِّ أنَّه اختبأ بسرعة خلف الباب المفتوح. كان ماكدونالد واقفًا أمام الباب مباشرة في الظلام الحالك في وضعيةٍ رابضة، كما لو كان على وشك الوثب. من الواضح أنَّه كان يُحاول رؤيةَ ما يحدث في الداخل عبر ثَقْب المفتاح، وحين أُخِذ على حين غِرَّة بفتح الباب فجأةً هكذا، لم يكن لديه متَّسع من الوقت ليَستعيد وضعيته الطبيعية. ولم يكن التراجع مُمكنًا آنذاك. لذا وقف على قدمَيه بوجه شاحب مهزول كمن أفرط في الشراب، ودخل دون أن ينطق بكلمة واحدة. اقترب أولئك الجالسون على الدكة التي كانت أمام ييتس من بعضهم قليلًا ليُفسحُوا مكانًا للحداد، الذي جلس على المساحة الشاغرة التي تبقَّت على طرف الدكة. وفي خضم ارتباكه، سحب يده على جبينه وأحدث طرقعة عالية بإصبعيه وسط الصمت المطبِق. تبسَّم بعض الجالسين في الخلف، وكانوا سيَضحكُون لولا أنَّ ساندي، الذي أغلق الباب بهدوء، رمقهم بنظرة تهديد أخمدت مرحهم. فما كان ليسمح بالسخرية من «الرجل العجوز» في محنتِه، وكان كل الحاضرين يهابون قبضة ساندي لذا أذعنوا لنظرته كي لا يُعرِّضوا أنفسهم لخطر مواجهتها بعد انتهاء الجلسة. صحيح أنَّ ماكدونالد نفسه كان أولى أن يُخشى من خوض عراك معه، ولكن كان من المرجَّح أنَّهم سيكونون آمنين من هذا الخطر طوال الأسبوعين القادمين أو الثلاثة إذا أتى التجديد ثماره. أمَّا ساندي، فلم يكن قَط من التائبين؛ لذا كان يُخشى منه لأنه دائمًا ما كان متأهِّبًا للدفاع عن رب عمله، سواءٌ بالصوت أو بالضرب. لم يُوحِ هذا الحادث المُفاجئ الذي شهده السيد بندرسون إليه بأي كلام آنذاك؛ لذا اكتفى بالصمت لأنه كان رجلًا حكيمًا. فيما تساءل الحاضرون متعجبين عن الكيفية التي عرف بها سلفًا أنَّ ماكدونالد كان يقف وراء الباب، ولم يكن أحد منهم أشد تعجبًا من ماكدونالد نفسه. وبدا للكثيرين أنَّ المُجدِّد يَحظى بهبة التنبُّؤ بالغيب التي كانوا مَحرومين منها، وهذا الاعتقاد جعل أذهانهم أشدَّ استعدادًا من أيِّ وقت مضى للاستفادة من الخُطبة التي كانوا على وشك سماعها.
بدأ السيد بندرسون خُطبته بنبرة رتيبة خفيضة، لكن صوته تغلغل في كل شبر من الغرفة. فقد كان لديه صوت ذو طبيعة مُميزة؛ عذْب كنغمات إحدى طبقات التينور ويُطرب الآذان كالموسيقى، وكان يحمل بين الحين والآخر رنةً رجوليةً تثير الحماس والمتعة لدى المُستمِعين إليه. قال: «قبل أسبوع من الليلة، وفي مثل هذه الساعة بالضبط، كنتُ واقفًا بجوار فِراش موت شخص صار الآن وسط المُبارَكين. كان قد وجد الخلاص منذ أربع سنوات، برحمة من الرب وبواسطةٍ مُتواضِعة سخَّرها له في أقل عباده شأنًا. كان شرفًا أنعم الربُّ به عليَّ أن أرى هذا الشاب — أو هذا الصبي — يُسلِم رُوحه إلى يَسُوع. كان عمره أقل من عشرين عامًا حين أسلمَ رُوحَه إلى يَسُوع، وكانت آماله في عيش حياة طويلة في قوة آمال أصغر واحد بين الحاضرين هنا الليلة. ومع ذلك فارَق الحياة في مُقتبَل نضارة رجولته؛ فارق الحياة دون سابق إنذار تقريبًا. حين سمعت بمرضه الذي لم يَدُم طويلًا، ومع أنني لم أكن أعلم شيئًا عن خطورته، دفعني شيءٌ ما بداخلي للذهاب إليه، وفي الحال. حين وصلت إلى بيته، أخبروني بأنه كان قد طلب رؤيتي، وأنهم أرسلوا للتوِّ ساعيًا إلى مكتب التلغراف ببرقية إليَّ. فقلتُ: «لقد بعث الرب إليَّ ببرقية.» أخذوني إلى جوار فراش صديقي الشاب، الذي كان في آخر مرة رأيته فيها قبل تلك مفعمًا بالحيوية والقوة كأيِّ واحد هنا.»
ثم روى السيد بندرسون بصوتٍ مرتعش من شدة الانفعال قصةَ مشهد لحظات الاحتضار الأخيرة. كانت ألفاظه بسيطة ومؤثرة، وكان واضحًا حتى لأشد المستمعين قسوة وجمودًا أنه كان يتكلم من القلب وهو يصف المشهد الذي رآه بكلمات محزنة مثيرة للشفقة. دخلت فصاحته البسيطة غير المنمقة قلب كل مستمع مباشَرة، وضَاقت الكثير من الأعين من شدَّة التدقيق وهو يعرض أمامهم صورة بيانية للسكينة التي غشيَت نهاية حياة عاشها صاحبُها كما يَنبغي.
وتابع قائلًا: «بينما كنتُ آتيًا وسطكم الليلة، وبينما كنتم تَقفُون معًا جماعاتٍ خارج هذا المبنى، سمعت بالصدفة جملة عابرة قالها أحدكم. كان رجلٌ يتحدَّث عن جارٍ مشغول لم يستطِع نيلَ أي مساعدة في هذا الموسم الحافل بالعمل من العام. وأظنُّ أنَّ مَن كان يتحدث إليه هذا الرجل قد سأله عمَّا إذا كان ذلك الرجل المشغول موجودًا هنا، فكانت الإجابة: «لا؛ فليس لديهِ حتَّى دقيقة واحدة يستطيع القول إنها مِلكُه!» تُطاردني هذه الجملة منذ أن سمعتها قبل أقل من ساعة. «ليس لديه دقيقة واحدة يستطيع القول إنها ملكه!» كنت أفكِّر فيها وأنا جالس أمامكم. كنت أفكر فيها وأنا أنهض لأخاطبكم. وأفكر فيها الآن. من لديه دقيقة يستطيع القول إنها مِلكه؟» كانت نبرة صوت الواعظ الهادئة الرقيقة قد تبدَّلت إلى صيحةٍ مُدوية انعكس صداها من السقف إلى رءوس الحاضرين. «ألديكم؟ ألديَّ؟ ألدى أيِّ مَلِك، أو أي أمير، أو أي رئيس، أو أي حاكم للبشر دقيقة أو لحظة يستطيع القول إنها مِلكه؟ لا أحد. لا أحد من بين الملايين الذين تكتظُّ بهم هذه الأرض. الدقائق التي مضَت مِلكُكم. ففيم أفنيتموها؟ كل جهودكم، وكل صلواتكم، لن تُغيِّر أيَّ فعل فعلتمُوه في أيٍّ من تلك الدقائق التي مضت، وتلك هي الدقائق الوحيدة التي تملكُونها. فالأفعال التي أُوتيت في الدقائق الماضية صارت أبديةً راسخة كالنقش على الحجر. وهي محفوظة في كتاب إمَّا لكم أو عليكم. أمَّا تلك الدقائق المُقبلة، تلك الدقائق التي ستستطيعون من الآن فصاعدًا القول إنها ملكُكم حين تَفنى، فأين هي الآن؟ إنها بين يدي الرب؛ إما أن يُعطيَها أو يُمسكَها. فمن يستطيع أن يُحصيَها وهي بين يدي الرب؟ ليس أنتم، ولا أنا، ولا أحكم إنسان على وجه الأرض. ربما يستطيع الإنسان أن يُحصيَ الأميال من هنا إلى أبعد نجم مرئي، لكنه لا يستطيع أن يُخبرَك — أنت، لا أقصد جارك، بل أقصدك أنت — لا يستطيع أن يُخبرك أنت بما إذا كانت دقائقك المقبلة واحدة أم ألفًا. إنها موزَّعة عليكم، وأنتم مسئولون عنها. ولكن ستأتي لحظة — قد تكون الليلة وقد تكون بعد سنة — سيُغلِق فيها الرب يده وستكون قد استهلكتَ كلَّ دقائقك. حينئذٍ سيَنتهي وقتك في هذه الدنيا ويبدأ الخلود. فهل أنت مُستعد لتلك اللحظة الرهيبة، تلك اللحظة التي ستُمنَح فيها آخر دقيقة، وتُمسَك عنك الدقيقة التالية؟ ماذا لو جاءت الآن؟ هل أنت مستعدٌّ لها؟ هل أنت مُستعد لاستقبالها بصدر رحب كأخينا الذي مات في مثل هذه الساعة منذ أسبوع فقط؟ لم يكن احتضاره هو الوحيد الذي شهدته. فقد حُفِرَت بعض المشاهد الأخرى في ذهني برسوخٍ يَجعلني لا أنساها أبدًا. فمنذ عام، استدُعيت إلى فراش رجل يحتضر، كان طاعنًا في السن، وطاعنًا في الخطايا. كان يُوعَظ مرارًا، لكنه كان يصد المسيح عنه، قائلًا: «عندما يحينُ الأوان الأنسب.» كان يعرف الدرب، لكنه لم يَسِر فيه. وحين نفد صبر الرب أخيرًا وأصبح هذا الرجل طريح فراش الموت، لجأ، بحماقته التي لازمته حتى النهاية، إليَّ، أنا العبد الفقير بدلًا من اللجوء إلى الرب، ملك كل شيء. وحين وصلت إلى جانبه، كان خَتمُ الموت على وجهه. كان إصبع سكرات الموت المؤلمة الجارح قد رسم خطوطًا على جبينِه المُنهك الشاحب. كان باديًا عليه فزع هائل، وأمسك يَدِي بقبضة الموت الباردة نفسها. بدا لي في تلك الغرفة المظلمة أنني رأيت مَلَك السلام واقفًا بجوار الفراش، لكنه كان واقفًا منزويًا، كامرئ أُهين مرارًا. وتراءى لي عند رأس الفراش شيطان الظلام الأبَدي يَنحني فوقه ويَهمس في أذنه قائلًا: «فات الأوان! فات الأوان!» نظر إليَّ الرجل المحتضر؛ ويا لها من نظرة! أرجو من الرب ألَّا تروا مثلها أبدًا. قال لاهثًا: «لقد عشت … لقد عشت حياة مفعمة بالآثام والخطايا. فهل فات الأوان؟» قلت له مرتجفًا: «لا. قُل إنك مؤمن.» تحرَّكت شفتاه، ولكن لم يصدر صوت من بينهما. لقد مات على ما عاش عليه. لقد أُمسِكَت عنه الدقيقة الضرورية. أتسمعُون؟ لقد أُمسِكَت عنه! لم تكن لديه الدقيقة التي يَستطيع القول إنها ملكُه. لم تكن لديه تلك الدقيقة التي كان سيُزحزَح فيها عن اللعنة الأبدية. لقد … نزل … إلى الجحيم، ميتًا على ما عاش عليه.»
ارتفع صوت الواعظ حتى بدا كنفخةِ بُوق. لمعت عيناه، وكان وجهه مُتورِّدًا من حرارة موضوع خُطبته. ثم وصف بأسرع ما يُمكن أن تُنطَق به الكلمات صورةً حية رهيبة ومُروِّعة للجحيم ويوم الدين. سُمعت تنهدات وآهات في كل شبر من الغرفة. صاح قائلًا: «تعالَ … الآن … الآن! الآن هو الموعد المكتوب، اليوم هو يوم الخلاص. تعالَ الآن، وادعُ الرب وأنت تقوم أن يمدَّ لك برحمته في القوة والعمر لتصل إلى دكة التائبين.»
وفجأة سكت الواعظ عن الكلام. ثم مدَّ يديه وصاح فجأة بطبقة صوته التينور الرائعة ملقيًا الترنيمة الصاخبة بإيقاعها الحماسي الأشبه بإيقاع معزوفات المسيرات والفرق الموسيقية العسكرية:
وانضَّم إليه كل المرنِّمين. كان كل واحد منهم يعرف الكلمات واللحن. وبدا أنَّ الغناء بأعلى صوت يُخلِّصهم من المشاعر المكبوتة. ورفع أفراد الجوقة أصواتهم كأنهم في مسيرة نصر:
وبينما كان المُصلُّون يُرنِّمون، حثَّ الواعظ بنبرة جهورية الخطاةَ على البحث عن الرب ما داموا لم يجدوه بعد.
شعر ييتس برعشة إثارة في الأجواء، وشد ياقتَه كما لو كان يَختنق. لم يستطِع أن يفهم هذه النشوة الروحانية الغريبة التي حلَّت عليه. بدا وكأنه يَجب أن يصرخ بعلوِّ صوته. وكان كلُّ مَن حوله متأثرين أشدَّ التأثر. لم يَعُد يوجد آنذاك أي متهكمين في مؤخرة الغرفة. فقد بدا معظمهم خائفًا وظلوا ينظرون أحدهم إلى الآخر. لم يكن الأمر يحتاج إلَّا إلى بداية وكانت دكة التائبين ستكتظ بلا شك. كانت عيونٌ كثيرة مُسلَّطة على ماكدونالد. كان وجهه غاضبًا، وكان جبينه يتصبب عرقًا غزيرًا. قبضت يده القوية على ظهر المقعد الذي أمامه، وبرزت العضلات في الجزء المكشوف من ذراعه. كان يحدق في الواعظ كرجل منوَّم مغناطيسيًّا. وكان صفَّا أسنانه مُطبقَين بعضهما على بعض، فيما كان يتنفَّس بصعوبة، كما يتنفَّس شخصٌ مُنهمِك في صراع. وأخيرًا، بدَت يدُ الواعظ موجَّهة إليه مباشرة. فنهض مرتجفًا على قدميه، وسار مترنِّحًا في الممر نحو دكة التائبين، ثمَّ ارتمى بجوارها جاثيًا وواضعًا رأسه على ذراعيه، وهو يئنُّ بعلو صوته.
فصاح الواعظ قائلًا: «باركي يا نفسي الربَّ!».
وكانت هذه بداية الفيضان. فقد مشى الشبان والعجائز في الممر بوجوه شاحبة ودموع منهمرة من عيون الكثيرين منهم. ورأت الأمهات أبناءهن يخرُّون سُجَّدًا أمام دكة التائبين، بفرحة في قلوبهن ودعاء على شفاههن. وسرعان ما اضطُر التائبون والنادمون إلى السجود حيث استطاعوا. كانت ترنيمة الخلاص المدوية ذات الإيقاع الحماسي تملأ الأجواء مَمزوجةً بصيحات الفرحة والهتافات الناطقة بالتقى والورع.
صاح ييتس وهو يفك زر ياقته بعنف: «يا إلهي! ما خطْبي؟ لم يُخالجني شعور كهذا من قبل. يجب أن أخرج إلى الهواء الطلق.»
واتجه إلى الباب بسرعة، وهرب دون أن يَلحظه أحد في خضمِّ الإثارة السائدة آنذاك. وقف لبعض الوقت في الخارج بجوار السياج مُستنشِقًا الهواء البارد العليل بعمق. ثم وصَل صوت الترنيمة إليه خافتًا. فقبض على السياج خشيةَ السقوط لأنه كان على وَشكِ الإصابة بإغماء. وبعد أن استجمع بعضًا من عافيته أخيرًا، ركض بكلِّ ما أُوتيَ من قوة على الطريق، بينما كانت كلمات الترنيمة ترن في أذنيه: