الفصل السادس عشر
شعرَ الفينيانيون بأنهم مضطرون إلى الظهور بأفضل صورة مُمكنة أمام أسيريهما؛ لذا حاولوا في البداية أن يلتزموا بشيء أشبه بالنظام الإيقاعي العسكري في مسيرتهم عبر الغابة. ولكن سرعان ما اكتشفوا صعوبة ذلك. فلم تكن الغابات الكندية تُشذَّب وتُنمَّق باستمرار كالحدائق الإنجليزية. كان تيم يتقدمهم حاملًا المشكاة، لكنَّه تعثر ثلاث مرات فوق عائقٍ ما، وكان يختفي فجأة عن الأنظار متفوهًا بألفاظ نابية. وكُلِّلت محاولته الأخيرة في هذه السلسلة من المحاولات بإنجاز هائل. فقد سقط على المشكاة محطِّمًا إيَّاها. وحين باءت كل جهود إصلاحها بالفشل، سار الجمع بعشوائية على طريقةِ كلٌّ يمشي حسب هواه، ووجدوا أنَّهم بدون الضوء أبلوا بلاءً أحسنَ ممَّا أبلوا في وجوده. وفي الحقيقة، ومع أنَّ الوقت لم يكن قد بلغ الساعة الرابعة بعد، كان أول شعاع للفجر قد تسلَّل من خلال أوراق الأشجار بالفعل، وصارت الغابة أقل عتمةً بقدرٍ ملحوظ.
قال القائد: «لا بُدَّ أننا نقترب من المعسكر.»
سأله ميرفي: «هل أطلِق صيحةً، يا سيدي؟».
«لا لا، يستحيل أن نضلَّ الطريق إليه. واصِلوا السير كما أنتم.»
كانوا أقربَ إلى المعسكر ممَّا كانوا يظنون. وبينما كانوا يتخبَّطون وسط الشجيرات السفلية والأغصان الجافة التي كانت تُصدِر طقطقة من وقع أقدامهم عليها، تردَّد صدى فرقعة بندقية حادة عبر الغابة، ومرَّت رصاصة مُحدِثة صفيرًا من فوق رءوسهم.
صاح عضو مَجلس المدينة الذي عرف هوية مُطلِق النار، الذي كان يتراجع راكضًا آنذاك، قائلًا له: «على مَن تُطلق النيران بحق الجحيم يا مايك لينش؟».
فقال الحارس مُتوقفًا عن الفرار: «أوه، أهذا أنت حقًّا؟» وسار الكابتن نحوه غاضبًا بخُطًى واسعة.
وقال له: «ماذا تقصد بإطلاق النار هكذا؟ ألستَ على درايةٍ كافية لتسأل عن الإشارة السرية قبل إطلاق النار؟»
«بالطبع، لقد نسيت ذلك تمامًا أيها الكابتن. ولكن كما ترى، لا أستطيع إصابة أي شيء أبدًا؛ لذا فلا فارق كبير.»
أيقظت الطلقة المعسكر، وحلَّ به آنذاك هياجٌ شديد؛ إذ ظنَّ الجميع أنَّ الكنديِّين يُهاجمونهم.
وقعت أعين ييتس ورينمارك على مشهد غريب. فقد دُهشَ كلاهما لرُؤية عدد الرجال الذين كانوا تحت إمرة أونيل. ووجدا حشدًا متنوعًا مُتنافرًا. فكان بعض الرجال يرتدي ثيابًا رثَّة من زيِّ جيش الولايات المتحدة، لكنَّ السواد الأعظم منهم كان يَرتدي ملابس مدنية عادية، وإن كانت قلَّة منهم لديهم جدائل خضراء من الخيوط السميكة تُزيِّن ملابسهم. كان نوم هذا الحشد ليلتَين في العراء قد جعَلهم بمظهرٍ أشعث كأنهم مجموعة كبيرة من المتشرِّدين. ولم يكن مُمكنًا تمييز الضباط عن الرجال العاديين في البداية، لكنَّ ييتس لاحظ بعد ذلك أنَّ الضباط، الذين كان معظمهم يرتدي ثيابًا مدنية ويعتمر قبعات ذات حواف عريضة مرنة، كانوا يَتقلَّدون أحزمة سيوف مُثبَّتة حول أجسادهم بأبازيم، وكان بينهم واحدٌ أو اثنان يَحملان سيوفًا كان واضحًا أنَّها كانت تُستخدَم في سلاح الفرسان في جيش الولايات المتحدة.
صاح الكابتن مُخاطبًا الحشد المهتاج: «كل شيء على ما يُرام أيها الفتيان. كلُّ ما في الأمر أنَّ هذا الأحمق لينش أطلق النار صوبنا. لم يتأذَّ أحد. أين الجنرال؟»
فقال حوالي ستة رجال في صوت واحد: «ها هو قادم.» فيما كان الحشد يُفسح له الطريق.
كان الجنرال أونيل يرتدي ثياب مواطنٍ عاديٍّ، ولم يكن يَتقلَّد حزام سيف حتى. كان رأسه ذو الشعر الفاتح مكسوًّا بقبعة سوداء لينة من اللباد. وكان وجهه شاحبًا ومكتسيًا بالنمش. بدا أشبه بموظفٍ في محل بقالة من قائد جيش. وكان واضحًا أنَّ عمره يتراوح بين الخامسة والثلاثين والأربعين.
قال للقائد: «أوه، أهذا أنت حقًّا؟ لماذا عُدتَ؟ ألديك أيُّ أخبار؟»
وجَّه إليه القائد التحية العسكرية، وأجاب قائلًا:
«لقد أسرنا أسيرَين يا سيدي. كانا يُخيِّمان في خيمةٍ بالغابة. ويقول أحدهما إنه مواطن أمريكي، وإنه يعرفك؛ لذا أحضرتُهما إلى هنا.»
قال الجنرال بابتسامة باهتة: «ليتك أحضرت الخيمة أيضًا. كانت ستُصبح أفضل من النوم في العراء. هل هذان هما الأسيران؟ لا أعرف أيًّا منهما.»
فقال ييتس: «الكابتن مُخطئ في قوله إنني ادَّعيت أنِّي أعرفك شخصيًّا أيها الجنرال. كل ما قُلتُه أنَّك ستكون أسرع منه بعض الشيء في إدراك هويتي وأفضلية معاملتي بقدرٍ معقول من الاحترام. فلتُطلع الجنرال على البرقية التي أخذتها من جيب معطفي أيها الكابتن.»
أُخرِجَت الورقة وقرأها أونيل مرة أو اثنتين.
«أنت تعمل في صحيفة «أرجوس» بنيويورك إذن؟»
«بكل تأكيد أيها الجنرال.»
«آملُ ألَّا تكون قد تعرَّضت لمعاملة قاسية.»
«أوه، لا، كل ما فعلوه أنَّهم قيَّدوني بعُقدة جامدة مُحكَمة، وهدَّدُوني بالقتل رميًا بالرصاص، هذا كل شيء.»
«أوه، يؤسفني سماع ذلك. ولكن يجب أن تلتمس لهم بعض العُذر في وقتٍ كهذا. تعاليا معي وسأكتب لكما تصريحًا سيمنع وقوع أي خطأ مشابه في المستقبل.» وتقدمهما الجنرال إلى جوار نيران تخييم داخنة بلا لهب، حيث أخرج أدوات الكتابة من حقيبة سفر، وبدأ يكتب على الورقة مستخدمًا الحقيبة كمكتب. وبعدما كتب «مقر الجيش الأعظم للجمهورية الأيرلندية»، رفع ناظريه نحو ييتس وسأله عن اسمه الأول. وبعدما أجاب، سأله عن اسم صديقه.
تدخَّل رينمارك قائلًا: «لا أريد شيئًا منك. لا تضع اسمي على الورقة.»
قال ييتس: «أوه، لا بأس. لا تكترث به أيها الجنرال. إنَّه رجل مثقَّف لا يعرف متى يتكلم ومتى يصمت. حين ستَسير إلى خيمتنا، سترى جرَّة فارغة ستشرح كل شيء. إن رينمارك ثمل بكلِّ صراحة، ويتخيِّل نفسه رعية بريطانيًّا.»
رفع الجنرال الفينياني ناظريه نحو البروفيسور.
سأله: «هل أنت كندي؟»
«نعم، بكل تأكيد.»
«حسنًا، في هذه الحالة، إذا سمحت لك بمغادرة المعسكر، فيجب أن تعدَني بأنَّك، إذا التقيت أحدًا من قوات العدو، لن تُعطيَه أيَّ معلومات عن موقعنا أو أعدادنا أو أي شيء آخر ربما تكون قد رأيته أثناء وجودك معنا.»
«لن أعدك. بالعكس، إذا التقيتُ القوات الكندية، فسأخبرهم بمكانكم وبأنَّ عددكم يَتراوح بين ثمانمائة وألف جندي، وأنَّكم أبشع المُشرَّدين الذين رأيتهم خارج السجن مَظهرًا.»
عبس الجنرال أونيل، وظلَّ ينقل ناظرَيه بينهما.
«هل تُدرِك أنَّك بذلك تَعترف بأنك جاسوس، وأنَّ ذلك يُحتِّم عليَّ القضاء عليك وإعدامك رميًا بالرصاص؟»
«نعم، لو كانت هذه حربًا حقيقية. لكنَّ هذه ليست سوى حماقة بلهاء. وكلُّ مَن لن يهرب منكم إمَّا سيُسجَن أو سيُقتل بالرصاص قبل أربع وعشرين ساعة.»
«حسنًا، أقسم بكل الآلهة أنَّ هذا لن ينفعك إطلاقًا. سأرديك قتيلًا بالرصاص في غضون عشر دقائق وليس أربع وعشرين ساعة.»
صاح ييتس حين قام الجنرال غاضبًا وواجه الاثنين: «على رسلك أيها الجنرال، على رسلك! أعترف بأنَّه يستحق بشدة القتل بالرصاص، لو كُنتَ قاتلَ الحمقى، وأنت لست كذلك. لكنَّ قتله غير منطقي، سأتولَّى المسئولية عنه. كلُّ ما عليك أن تُنهيَ هذا التصريح من أجلي، وسأتولى أمر البروفيسور. ارمني أنا بالرصاص إن شئت، ولكن لا تلمسه. فهو ليس لديه أي عقل كما ترى، لكنَّ هذا ليس ذنبي، وليس ذنبك. لو اعتدت إطلاق النار على كل أحمق أيها الجنرال، فلن تتبقَّى لديك ذخيرة لغزو كندا.»
ابتسم الجنرال لا إراديًّا، واستأنف كتابة التصريح. ثم قال وهو يُعطي ييتس الورقة: «هاك. كما ترى، دائمًا ما نُحب أن نُرضي الصحافة. سأخاطر بترك صديقك العدواني، وآملُ أن تفرض عليه سيطرةً أشدَّ ممَّا استطعت أن تفرضها عليه هنا إذا قابلتما الكنديِّين. ألا ترى أنَّ من الأفضل عمومًا أن تبقيا معنا؟ سنبدأ المسير في غضون ساعتين، حين يكون الرجال قد نالوا قليلًا من الراحة.» وأضاف بنبرةٍ أخفضَ كي لا يسمعه البروفيسور: «أظنك لم ترَ أي شيء من أثر القوات الكندية، أليس كذلك؟»
«ولا أي أثر. كلا، لا أظن أنني سأبقى. فأنا أتوقَّع أن يحضر خمسة من زملائنا إلى هنا اليوم، وهذا سيكون كافيًا وزيادة. إنني في إجازة هنا في الواقع. كنتُ أسعى إلى الراحة والهدوء. بدأت أشعر بأنني أخطأت في اختيار المكان.»
ودَّع ييتس القائد وسار مع صديقه إلى خارج المعسكر. شقَّا طريقهما وسط الرجال النائمين وأكوام من البنادق المكدَّسة. وعلى سنِّ إحدى حراب البنادق عُلِقت قبعةٌ حريرية طويلة بدَت شاذة للغاية في مكانٍ كهذا.
قال ييتس: «أظن أننا سنذهب إلى طريق ريدج، الذي لا بُدَّ أنه يقع في مكانٍ ما في هذا الاتجاه. سيكون المشيُ فيه أسهل من المشي عبر الغابة، وفوق ذلك، أريد التوقف عند أحد البيوت الريفية والحصول على بعض الفطور. فأنا جائع كدُبٍّ بعد مسيرة امتدت لمسافة طويلة جدًّا.»
ردَّ البروفيسور باقتضاب قائلًا: «ممتاز.»
ظلَّا يمشيان بخطوات متعثرة إلى أن بلغا حافة الغابة، وبعد أن اجتازا بعض الحقول المفتوحة وصلا إلى الطريق بعد قليل، بالقرب من مكان الشجار الذي وقع بين ييتس وبارتليت. شعر الرفيقان آنذاك بارتياح أكبر، وسارا في صمتٍ على طول الطريق صوب الغرب، تاركين خلفهما الشرقَ الذي كان يزداد احمرارًا. كان المشهد كله هادئًا وساكنًا على نحو غريب، وبدت ذكرى المعسكر العجيب الذي تركاه في الغابة مجرد كابوس. كان نسيم الصباح عليلًا، وبدأت الطيور تغرد. كان ييتس يعتزم توبيخ البروفيسور بشأنِ ما أبداه من انعدام للباقة والمنطق السليم في المعسكر، لكن بطريقةٍ ما، لم يكن هذا الوقت المبكر للغاية من النهار مناسبًا للجدل، فضلًا عن أنَّ السكون التام قد هدَّأ رُوح ييتس. بدأ يُصفِّر لحن الأغنية الحربية الشعبية «سر، سر، سر، الفتية يتقدمون» بنبرة هادئة، ثم سأل فجأة قائلًا:
«بالمناسبة يا ريني، هل لاحظت تلك القبَّعة الطويلة التي كانت معلَّقة على سن الحربة؟»
أجاب البروفيسور قائلًا: «نعم، ورأيت خمس قبعات أخرى متناثرة في أنحاء المعسكر.»
«يا إلهي! كنتَ قويَّ الملاحظة. لا أستطيع أن أتخيَّل أيَّ شيء مثير للسخرية كرجلٍ يذهب إلى الحرب بقبعة حريرية طويلة.»
لم يردَّ البروفيسور، وغيَّر ييتس صفيره إلى لحن أغنية «التفوا حول الراية».
ثم قال أخيرًا: «أظنُّ يا رينمارك أنَّ محاولة إضفاء مزيدٍ من الحُسن على هذه الساعة الصباحية بأن أريك مدى الحماقة التي أبديتَها في المعسكر لن تُجدي نفعًا، أليس كذلك؟ لقد حِدتَ قليلًا عن دبلوماسيتك الطبيعية المعتادة.»
«أنا لا أعتمد الدبلوماسية في التعامُل مع اللصوص والمتشردين.»
«ربما يكونون متشردين، لكنِّي أيضًا كذلك. وربما يكونون رجالًا مُخطئين ذوي نوايا حسنة، لكنِّي لا أظنهم لصوصًا.»
«بينما كنتَ تتحدَّث مع ذلك الجنرال المزعوم، جاءت جماعةٌ إلى المعسكر ومعهم خيول مسروقة من المزارعين في الجوار، وغادرَت جماعةٌ أخرى لجلب مزيد من الخيول.»
«أوه، هذه ليست سرقة يا رينمارك، بل مُصادَرة. يجب ألَّا تستخدم هذه الألفاظ المتهورة. أظنُّ أنَّ الجماعة الثانية حقَّقت مبتغاها؛ فها هُم ثلاثة رجال كلهم يَمتطون أحصنة.»
أوقف الفرسان الثلاثة، الذين تكلَّم عنهم ييتس، خيولهم حين رأوا الرجلين قادمين عند منعطف الطريق، وانتظروا اقترابهما. وكانوا كالعديد من الآخرين لا يَرتدُون زيًّا عسكريًّا رسميًّا، ولكن كان اثنان منهم يُمسكان مسدسَين جاهزَين لإطلاق الرصاص. أمَّا الرجل الذي لم يُرَ معه مسدسٌ، فحرَّك حصانه إلى وسط الطريق نحو ييتس ورفيقه، بينما اتخذ كلا الرجلين الآخرين موقعًا على كلا جانبَي الطريق المخصص للعربات.
صاح الفارس المتصدِّر حين صار ييتس ورفيقه على مقربةٍ كافية للحديث معهما: «مَن أنتما؟ من أين جئتما وإلى أين تذهبان؟».
قال ييتس بمرحٍ وثقة: «كل شيء على ما يُرام أيها الكومودور، وطابَ صباحُك. نحن عابرا سبيل جائعان. لقد أتينا للتوِّ من المعسكر، وذاهبان لنَحصُل على شيء نأكله.»
«لا بد أن تعطيني إجابةً أكثر إقناعًا من تلك.»
رَدَّ ييتس وهو يُخرج ورقةَ تصريحه المطوية ويُسلمها للفارس: «حسنًا، هاك إذن.» فقرأها الرجل بإمعان. ثم قال له ييتس: «أظنك تجد هذا كافيًا تمامًا، أليس كذلك؟»
«كافيًا لاعتقالِكَ فورًا.»
«لكنَّ الجنرال قال إننا لن نتعرض لمزيد من المضايقات. هذا مكتوب بخطِّ يده.»
«أفترضُ أنَّه هكذا بالفعل، وهذا يزيد موقفك سوءًا. فخط يدِه ليس نافذًا كأوامر الملكة في هذه البلدة حتى الآن. أعتقلكما باسم الملكة. صوِّبا مسدسَيكما نحو هذين الرجلين، وأطلقا عليهما النار إذا أبديا أيَّ مقاومة.» وبعدما قال هذا، ترجَّل الفارس منزلقًا من على ظهر حصانه، وسرعان ما استلَّ من جيبه زوجًا من الأصفاد مربوطين بسلسلة فولاذية متينة، ثم ترك حصانه واقفًا وأمسك بمعصم رينمارك.
قال البروفيسور وهو يَلوي معصمه مُفلِتًا إيَّاه من قبضة الرجل: «أنا كندي. يجب ألَّا تُصفِّدَني.»
«بئس صُحبتك إذن. أنا شرطي من هذه البلدة، وإذا كنت كما تقول حقًّا، فلن تُقاوم الاعتقال.»
«سأذهب معك، ولكن يجبُ ألَّا تُقيِّدني.»
«أوه، حقًّا؟» وبحركةٍ سريعة تنُمُّ عن تمرُّس طويل في التعامُل مع المُجرمين المقاومين، فتح الشرطي أحد مشبكَي الأصفاد بحركة رشيقة ثم أغلقه بطقطقة حادة والتصاق مُحكَم كنباتٍ شائكٍ على إحدى يدَي رينمارك.
وهنا صار رينمارك شاحبًا كالموتى، ولمعَت عيناه ببريق خَطِر. سحب يده الحرَّة إلى الوراء قابضًا إيَّاها، مع أنَّ المسدسين المُشهَرين الجاهزَين للإطلاق كانا يَدنُوان منه أكثر فأكثر، ومع أنَّ الشرطي كان يقبض بعزمٍ شرس على يده المُصفَّدة المقاوِمة.
صاح ييتس مانعًا البروفيسور من لَكمِ مُمثِّل القانون، قائلًا: «مهلًا!». وصرخ قائلًا للرجل الذي كان يمتطي ظهر الحصان: «لا تُطلق النار، كل هذا مجرَّد خطأ بسيط سيُتدارك بسرعة. أنتم ثلاثة رجال مسلحين ورُكَّاب، ونحن اثنان أعزلان ومُترجِّلان. فلا داعيَ إلى استخدام أي سلاح. أصغِ إليَّ يا رينمارك، أنت الآن أشد تمرُّدًا من أونيل نفسه. الفارق أنَّه لا يَدين بأيِّ ولاءٍ لهذا الوطن، بعكسك أنت. ألا تَحترم أشكال القانون والنظام؟ أنت أناركي بداخلك، رغم كل تظاهُرك بعكس ذلك. كنت تُغنِّي «ليحمِ الرب الملكة!» في المكان الخطأ منذ فترة؛ لذا فلتَفرح الآن لأنَّها صارت لديك، أو بالأحرى لأنَّك صِرتَ لديها. والآن أيها الشرطي، أتريد عَقدَ الطرف الآخر من هذا الشيء حول معصمي، أم لديك زوج آخر لي؟»
«سآخذُ معصمك إذا سمحت.»
«حسنًا، ها هو.» شمَّر ييتس كُمَّ معطفه ومدَّ معصمَه. فأُغلِقَ الصَّفَد المتدلِّي حوله بسُرعة. ثم امتطى الشرطي الحصان الصبور الذي كان واقفًا ينتظره مُراقبًا إيَّاه طوال الوقت بعينٍ ذكية. وقف السجينان اللذان صُفِّدا معًا في وسط الطريق وقد أحاط بهما فارسٌ من كلِّ جانب، فيما كان الشرطي في المؤخِّرة، وهكذا سارُوا جميعًا، وكان البروفيسور مُغتمًّا بسبب هذه الإهانة التي لحقَت بهما، فيما كان الصحفي مبتهجًا كالطيور التي كانت مُستيقظة تمامًا آنذاك. قرَّر الجنود الاستطلاعيُّون عدم مُواصَلة التقدم نحو قوات العدو، وفضَّلوا العودة إلى القوات الكندية بأسيرَيهم. ساروا على الطريق صامتين جميعًا، عدا ييتس، الذي أحيا أجواء الصباح بغناء «جون براون».
فقال له الشرطي بفظاظة: «الزم الصمت.»
«حسنًا، سأصمت. ولكن أصغِ إليَّ، سنمرُّ بعد قليل بمنزل أحد أصدقائنا. نُريد أن نذهب إليه ونحصل على شيء نأكله.»
«لن تَنالا شيئًا تأكلانه إلى حين تسليمكما إلى الضباط المسئولين عن المتطوِّعين.»
«وأين هم، إن كان لي أن أسأل؟»
«لك أن تسأل، لكنِّي لن أجيب.»
قال ييتس لرفيقه: «أصغِ إليَّ يا رينمارك، أصعب ما في هذه الحادثة أننا سنُضطرُّ إلى المرور بمنزل بارتليت والاكتفاء بالتلذُّذ بذكرى المأكولات الطيبة التي دائمًا ما كانت السيدة بارتليت تَسعد بإغداقها على عابري السبيل. أصف هذا الشعور بالقسوة الخالصة.»
عندما اقتربا من منزل بارتليت، لمحا الآنسة كيتي في الشرفة تُظلِّل عينَيها بكفَّيها من الشمس المشرقة، وتُحدِّق بإمعان إلى الجمع القادم. وحالَما أدركت هوية مَن في هذا الجمع، اختفت داخل المنزل مُطلقةً صيحة. فخرجَت السيدة بارتليت فورًا ومن خلفها ابنها وتبعَهما الرجل العجوز نفسه بخُطًى أبطأ.
نزلوا كلهم إلى البوابة وانتظرُوا.
صاح ييتس مبتهجًا: «مرحبًا يا سيدة بارتليت! كما ترَين، لقد نال البروفيسور جزاءَه المُستحَق أخيرًا، وها أنا أشاطره مصيره كالكَلبِ الوفيِّ؛ لأنني عالق في صُحبة سيئة.»
صاحت السيدة بارتليت قائلة: «لِمَ كل هذا؟».
أومأ الشرطي، الذي كان يَعرف المُزارع وزوجته، لهما إيماءة ودية. ثم قال: «إنهما أسيران فينيانيان.»
صاحت السيدة بارتليت — فيما التزم العجوز الصمت متجهِّمًا كعادته حين تكون زوجته حاضرة لتتكفَّل بالكلام — قائلة: «هراء! إنهما ليسا فينيانيين. بل يُخيِّمان في مزرعتِنا منذ أسبوع أو أكثر.»
قال الشرطي بحزم: «ربما يكون هذا صحيحًا، ولكن لديَّ دليل قاطع ضدهما، وأظن إذا لم أكن مخطئًا، أنَّهما سيُعدَمان بسبب ذلك.»
أطلقت الآنسة كيتي، التي كانت ظاهرةً بعض الشيء من خلال الباب، صيحةَ تألُّم عند سماع هذه الجملة، واختفت مرة أخرى.
«لقد هربنا للتو من الإعدام بأيدي الفينيانيين أنفسهم يا سيدة بارتليت، وآملُ أنَّ يكون المصير نفسه في انتظارنا بأيدي الكنديين.»
«ماذا! إعدام؟»
«لا، لا؛ بل الهرب ليس إلَّا. وهذا لا يَعني أنِّي أمانع أن أُعدَم — فأنا آمل ألَّا أكون شديد الاكتراث بالتفاصيل التافهة إلى هذا الحد — ولكن يا سيدة بارتليت، ستتعاطفين معي حين أخبرك بأنَّ العذاب الذي أعانيه الآن هو ذكرى المأكولات الشهية التي أكلتُها في بيتِك. فأنا أكاد أموت جوعًا يا سيدة بارتليت، وهذا الشرطي القاسي يرفض السماح لي بأن أطلب منك أي شيء.»
خرجت السيدة بارتليت عبر البوابة إلى الطريق والسخط بادٍ عليها.
صاحت قائلة للشرطي: «ستوليكر، أنا خَجِلة منك! ربما يحقُّ لك أن تَشنُق رجلًا إن شئت، ولكن لا يحق لك تجويعه.» ثم قالت للأسيرين: «ادخلا معي حالًا.»
قال ستوليكر بنبرة حادة: «سيدتي، يجب ألَّا تُعرقِلي مسار القانون.»
فصاحت المرأة الغاضبة قائلة: «مسار الهراء والترَّهات الفارغة! أتظن أنني خائفة منك يا سام ستوليكر؟ ألم أطردْك من هذا البستان نفسه حين كنت صبيًّا تُحاول سرقة تفاحي؟ بلى، وضربتك على أذنيك أيضًا حين أمسكتك، وكنتُ آنذاك حمقاء كفايةً لأملأ جيوبك بأطيب التفاحات بعدما أعطيتك ما تستحقه من عقاب. مسار القانون، حقًّا! سأضربك على أذنيك الآن إذا تفوهت بكلمة أخرى. ترجَّل عن حصانك، وهيا لتأكل شيئًا أنت أيضًا. أظن أنَّك بحاجة إليه.»
همس ييتس لرفيقه المربوط به قائلًا: «هذا ما أُسمِّيه إنقاذًا.»
ما الذي يستطيع أحد حماة القانون المتشدِّدين فعله حين تتدخَّل في مجرى العدالة امرأة عنيدة وغاضبة اعتادت تسيير كل شيء حسب هواها؟ نظر ستوليكر بلا حول ولا قوة إلى هيرام، بصفته ربَّ البيت المُفترَض، لكنَّ العجوز اكتفى بهزِّ كتفَيه ولسان حاله يقول: «إنك ترى الوضع بنفسك. لا حول لي ولا قوة.»
سارت السيدة بارتليت بالأسيرَين عبر البوابة صعودًا إلى المنزل.
قال لها ييتس: «كلُّ ما أطلبُه منكِ الآن أن تمنحيني أنا ورينمارك كرسيين متلاصقين عند المائدة. فنحن لا نستطيع تحمُّل الافتراق عن بعضنا، ولو لثانية.»
وبعدما سلَّمت الأسيرين إلى عُهدة ابنتها، حثت إيَّاها بكلِّ حزم على أن تُعِد الفطور بأسرع ما يُمكن، ثم اتجهَت إلى البوابة مجددًا. كان الشرطي لا يزال على حصانه. كان هيرام قد سأله، على سبيل تسليته بموضوعٍ غيرِ مُثير للجدل، عمَّا إذا كان هذا هو المُهر الذي اشتراه من براون العجوز الذي يعيش في قطعة الأرض الثانية، ورَدَّ ستوليكر بالإيجاب. وبينما كان هيرام يقول إنه ظنَّ أنه ميَّز الحصان بأبيه، قاطعتهما السيدة بارتليت.
قالت: «هيا يا سام، لا مجال للعبوس والاستياء كما تعلم. ترجَّل من على حصانك وادخل. كيف حال أمك؟»
قال سام في حرج وهو يترجَّل مجددًا: «إنها بخير، شكرًا لكِ.»
قدَّمت كيتي بارتليت، التي تلاشى مرحها وحيويتها واحمرَّت عيناها، الطعام والشراب للأسيرَين، لكنها رفضت تمامًا أن تُقدِّم شيئًا لسام ستوليكر، الذي رمقتْه بازدراء شديد، دون أن تضع في حسبانها أنَّ الشاب المسكين كان يؤدي واجبه فقط، وكان يؤدِّيه كما يَنبغي.
قالت السيدة بارتليت: «انزع عنهما هذه الأصفاد يا سام ريثما يَتناوَلان الفطور على الأقل.»
فأخرج ستوليكر مفتاحًا وحلَّ الأصفاد، ثم دسَّها في جيبه.
قال ييتس وهو ينظر إلى معصمه الأحمر: «آه، الآن نَستطيع التنفُّس بسهولة أكبر! وأنا، عن نفسي، أستطيع أن آكلَ قدرًا أكبر.»
أمَّا البروفيسور، فلم يَقُل شيئًا. فالحديد لم يكن قد أحاط بمعصمه فقط، بل اخترق روحه أيضًا. ومع أنَّ ييتس حاول أن يجعل الوجبة الصباحية المبكرة مُبهجةً قدر المستطاع، لكنَّ المأدبة امتزجت بشيء من الكآبة. فقد بدأ ستوليكر، ذاك المسكين، يشعر بأنَّ دُروب الواجب مكروهة بين الناس. ودائمًا ما كان هيرام العجوز أهلًا لإضفاء كآبة وصمت على أيِّ مأدُبة حتى ولو كانت مأدبة عُرس؛ أمَّا البروفيسور، الذي لم يكن قَط أكثر الرفاق مرحًا وحيوية، فجلس صامتًا بجبينٍ متجهِّم، وضايق حتى السيدة بارتليت المرحة بفقدان شهيتِه الذي بدا واضحًا. وحين انتهت الوجبة العاجلة، لاحظ ييتس أنَّ الآنسة كيتي كانت قد غادَرَت الغرفة، فوثب من كرسيه وسار نحو باب المطبخ. فهبَّ ستوليكر فورًا وبدا أنَّه يَهمُّ باللحاق به.
وهنا تحدَّث البروفيسور لأول مرة قائلًا له بحدة: «اجلس. فهو لن يَهرُب. لا تخَف. إنه لم يفعل شيئًا ولا يخشى العقاب. دائمًا ما تعتقلُون الأبرياء أيها المسئولون الأغبياء. فكل أرجاء الغابة من حولك مليئة بفينيانيِّين حقيقيِّين، لكنَّك تحرص كل الحرص على الابتعاد عن طريقهم، وتُسلِّط اهتمامك على إيذاء أشخاص مسالمين تمامًا.»
فصاحت السيدة بارتليت قائلة بتشديد قوي: «لا فُض فوك يا بروفيسور! هذه هي الحقيقة بكل تأكيد. ولكن هل يُوجد فينيانيون في الغابة؟»
«ثمَّة مئات منهم. لقد جاءوا إلينا في الخيمة في حوالي الساعة الثالثة من صباح اليوم — أو بالأحرى جاءت إلينا إحدى السرايا الاستطلاعية — وبعدما كانوا يَتحدَّثون عن نيتهم إطلاق الرصاص علينا حيث كنا واقفَين، اقتادونا بدلًا من ذلك إلى المعسكر الفينياني. وحصل ييتس على تصريحٍ كتبه له الجنرال الفينياني كي لا نتعرَّض لأيِّ مُضايقات أخرى. وهذه هي الوثيقة الثَّمينة التي يظنُّها هذا الرجل دليلًا قاتلًا. لم يسألنا أيَّ سؤال قَط، بل أغلق الأصفاد على معصمَينا، فيما سلَّط الأحمقان الآخران مسدسَيهما على رأسَينا.»
رَدَّ ستوليكر بإصرار وعناد قائلًا: «ليس من مهامِّ وظيفتي طرح الأسئلة. تستطيع إخبار الكولونيل أو قائد شرطة المنطقة بكل هذا، وإذا سمحا لكما بالرحيل، فلن أتفوه بشيء يعارض ذلك إطلاقًا.»
في غضون ذلك، كان ييتس قد دخل المطبخ آخذًا حذره بإغلاق الباب وراءه. فالتفتَت كيتي سريعًا حين سمعت صوت إغلاق الباب. وقبل أن تَستطيع التفوُّه بكلمة واحدة، أمسكها الشاب من كتفيها الممتلئتين، مع أنَّ ذلك لم يكن يحقُّ له بالطبع.
قال: «كنتِ تبكين يا آنسة كيتي بارتليت.»
«كلا، وحتى لو كنت أبكي، فهذا ليس من شأنك.»
«أوه، لست متيقنًا من هذا. لا تُنكري. على مَن كنتِ تَبكين؟ البروفيسور؟»
«لا، ولا عليك أيضًا، وإن كنت أظنك مغرورًا كفاية لتَعتقِدَ ذلك.»
«أنا مغرور؟ قد أكون أي شيء إلَّا ذلك. والآن أخبريني يا كيتي، على مَن كنتِ تبكين؟ لا بُد أن أعرف.»
قالت كيتي مُحاوِلةً بكل جهدها الحفاظ على وقارها: «دعني أذهب يا سيد ييتس من فضلك.»
«اسمي ديك يا كيت.»
«حسنًا، واسمي ليس كيت.»
«أنتِ محقَّة تمامًا. والآن بعدما قُلتِ ذلك، سأناديكِ كيتي، فهذا أجمل كثيرًا من الاسم المُختصَر.»
«لم أقُل ذلك. دعني أذهب من فضلك. لا يحقُّ لأحدٍ أن يُناديَني إلَّا بالآنسة بارتليت. وهذا يعني أنَّ ذلك لا يحقُّ لك أيضًا، على أيِّ حال.»
حسنا ألا ترين يا كيتي أن الوقت قد حان لتمنحي شخصا ما هذا الحق؟ لماذا لا ترفعين عينيك وتنظرين إلى كي أعرف يقينا ما اذا كنت تبكين أم لا؟ ارفعي عينيك وانظري لي يا آنسة بارتليت.
«من فضلِكَ دعني أذهب يا سيد ييتس. ستأتي أمي إلى هنا في غضون دقيقة.»
«أمك امرأة حكيمة تُراعي الآخرين. سنُجازفُ على أمل أنها لن تأتي. وفوق ذلك، فأنا لستُ خائفًا منها إطلاقًا، وأعتقد أنَّك أيضًا لستِ خائفة. أظنُّها توبِّخ السيد ستوليكر الآن، وإلَّا كان سيَلحق بي حسبما أظن. لقد رأيت ذلك في عينيه.»
قالت كيتي منحرفة عن سياق الحديث: «أكره هذا الرجل.»
«وأنا أحبه، لأنه جاء بي إلى هنا، حتى وإن كنتُ مُصفَّدًا. لماذا لا تَرفعين عينيكِ وتَنظُرين إليَّ يا كيتي؟ أأنت خائفة؟»
فسألته كيتي وهي ترمُقُه بنظرة سريعة من عينَيها الزرقاوَين الجميلتَين: «ممَّ عساني أخاف؟ ليس منك بالطبع.»
«حسنًا، أرجو من أعماق قلبي ألَّا تكوني خائفة منِّي يا كيتي. والآن، يا آنسة بارتليت، أتعرفين لمَ أتيت إلى هنا؟»
قالت الفتاة بطريقة فكُاهية مُزعجة: «من أجل مزيدٍ من الطعام على الأرجح.»
«أوه، أرى في ذلك قسوة ووَحشية على رجلٍ أسير. وفوق ذلك، فقد تناولت فطورًا مُمتازًا، شكرًا لك. لم يأتِ بي إلى المطبخ سببٌ كهذا. لكنِّي سأخبرك بالسبب الحقيقي. ستأخذينه من شفتيَّ. هذا هو السبب!»
نفَّذ ما قاله حرفيًّا في الحال، وقبَّلها قبل أن تعرف ما سيحدث. ظنَّ ييتس، من واقع خبرته الهائلة، على الأقل، أنَّه أخذها على حين غرة. وغالبًا ما يُخطئ الرجال في مثل هذه المسائل البسيطة. فقد دفعته كيتي والسخط بادٍ عليها، لكنَّها لم تصفعه على وجهه، مثلما فعلت من قبلُ حين كان يحاول فقط تحقيق ما حقَّقه الآن بالفعل. وربما كان هذا لأنها بوغتت تمامًا.
هددته قائلة: «سأنادي أمي.»
«أوه، لا، لن تُناديَها. وفوق ذلك، فهي لن تأتي.» ثم بدأ هذا الشاب الطائش يغني هذا المقطَع الغنائي الوقح بصوت خفيض «نخبٌ في صحة الفتاة التي تنال قُبلة وتركض لتُخبر أمها.» وأنهى الغناء مُتمنيًا أن تعيش وتموت عانسًا عجوزًا ولا تنال أيَّ قُبلة أخرى. لم يكن يفترض أن تبتسم كيتي، لكنها ابتسمت، وكان ينبغي أن تُوبِّخه على طيشه واستخفافه، لكنها لم تفعل.
«أريد أن أتحدَّث إليكِ عن العواقب الهائلة الكارثية التي ستَنجم عن العيش والموت عانسًا عجوزًا. لديَّ خطة لمنع وقوع هذه الكارثة، وأودُّ نيلَ موافقتِكِ عليها.»
أفلت ييتس الفتاة من بين يدَيه؛ لأنَّها ظلَّت تتلوَّى لتتخلَّص من قبضته، ولأنه سمع حركة في غرفة الطعام، وتوقَّع دخول ستوليكر أو أحدٍ من الآخرين. وقفت الآنسة كيتي مولية ظهرها إلى الطاولة، مُحدِّقة إلى زهرةٍ ربيعية أخذتْها بلا وعي من مزهرية موضوعة على حافة النافذة. أخذت تُملس برفق على بتلات الزهرة جَيئة وذهابًا، وبَدَت مُنهمكة بشدة في تفحُّص النَّبتة إلى حدِّ أنَّ ييتس سألها عمَّا إذا كانت تُصغي إلى ما يقوله أم لا. ولا يسعنا هنا سوى تخمين ماهية الخطة التي كان سيطرحُها؛ لأنَّ القَدَر حكم بأن يُقاطعهما في هذه اللحظة الحاسمة الشخص الوحيد في العالم الذي كان يستطيع أن يجعل لسان ييتس يتلعثم.
فُتِح باب المطبخ الخارجي بقوة، ووقفَت مارجريت هوارد على العتبة، فيما كان وجهها الجميل يستشيط غضبًا وشعرها الداكن مُسدلًا على كتفيها، لتَتشكَّل بذلك صورةٌ جميلة حبست أنفاس ييتس. وبدا أنَّها لم تُلاحظ وجوده.
صاحت قائلة: «كيتي، لقد سرق هؤلاء الأشقياء البائسون كل خيولنا! هل والدكِ هنا؟»
سألتْها كيتي متجاهلة السؤال، ومندهشة من مجيء صديقتها المفاجئ: «أي أشقياء؟».
«الفينيانيون. لقد أخذوا كل الخيول التي كانت في الحقول، وخيولَكم أيضًا. لذا ركضتُ إلى هنا لأخبركم.»
«هل أخذوا حصانَكِ أيضًا؟»
«لا. فأنا دائمًا ما أُبقِي جيبسي في الحظيرة. لم يقترب اللصوص من المنزل. أوه، سيد ييتس! لم أرَك.» وبخيلاء المرأة اللاواعي، وضعت مارجريت يدَها على شعرها الأشعث، الذي رأى ييتس أنَّه قد صار أشعث من أن يُصفَّف مرةً أخرى.
احمرَّت مارجريت خجلًا حين أدركت، من إحراج كيتي الواضح، أنَّها اقتحمَت خلوة ثنائية بتهور.
فقالت على عَجَل: «يجب أن أُخبِر والدك بما حدث.» وقبل أن يستطيع ييتس أن يفتح لها الباب، فتحته بنفسها. ثم ذُهِلَت مجددًا حين رأت كثيرينَ جالسين إلى المائدة.
خيَّم صمت لحظي على الاثنين الموجودَين في المطبخ، لكنَّ حالة الافتِتان التي كانت بينهما قد أُفسِدَت.
قال ييتس مترددًا: «لا … لا أظنُّ أنه ستُوجَد أي مشكلة في استِعادة الخيول. وإذا فقدتموها، فسيتعيَّن على الحكومة أن تدفع تعويضًا.»
ردَّت كيتي ببرود قائلة: «أظن ذلك.» ثم أضافت: «معذرةً، يا سيد ييتس، يجب ألَّا أبقى هنا أكثر من ذلك.» وبعدئذٍ تبعت ماجريت إلى الغرفة الأخرى.
تنهَّد ييتس تنهيدة ارتياح طويلة. فقد كانت كل الصعوبات القديمة في تفضيل إحدى الفتاتَين على الأخرى قد عاودتْه حين فُتِح الباب الخارجي فجأة. شعر بأنَّه قد نَجا في اللحظة الأخيرة، وبدأ يتساءل عمَّا إذا كان قد ألزم نفسه حقًّا بالارتباط بكيتي. ثم اعتراه الخوفُ من أن تكون مارجريت قد لاحظَت ارتباك صديقتها الواضح، وخمَّنت سببه. وتساءل عمَّا إذا كان ذلك سيُساعدُه أم سيضرُّه في محاولات تودُّده إلى مارجريت، إذا قرَّر أخيرًا أن يُفضِّلها على الأخرى في الارتباط الجاد بها. ومع ذلك، قال لنفسه إنَّ الاثنتين فتاتان ريفيتان في النهاية، ولا شكَّ أنَّ كلتيهما ستكون متلهِّفة بشدة لقبول فرصة العيش في نيويورك. وهكذا استأنف عقله تدريجيًّا ثقتَه الطبيعية بنفسه، وارتأى أنَّ شكوك مارجريت، مهما كانت ماهيتها، لا يُمكِن إلَّا أن تَجعله أكثر قيمة في عينيها. فقد كان يعرف حالاتٍ مالَ فيها قلب المرأة إلى الرجل من بعد تردُّد حين شعرَت بأنها على وشك فُقدانه. وعندما بلغ هذا الحد، فُتِح باب غرفة الطعام وظهر ستوليكر.
قال الشرطي: «نحن في انتظارك.»
«حسنًا. أنا مُستعدٌّ.»
وحين دخل الغرفة، وجد الفتاتَين واقفتَين معًا وتتحاوَران بجدية.
صاحت السيدة بارتليت قائلة: «أتمنَّى لو أصبحتُ شرطية لأربع وعشرين ساعة. كنت سأطارد لصوص الخيول بدلًا من تكبيل أيادي الأبرياء.»
قال ستوليكر الجامد الشعور وهو يُخرِج الأصفاد من جيبه: «تعاليا معي.»
تابعت السيدة بارتليت: «إذا كنتم ثلاثة رجال لا تستطيعون أخذ هذين الرجلين إلى المعكسر أو السجن أو أي مكانٍ آخر دون تكبيلهما، فسآتي معكم بنفسي وأحميكم وأتأكَّد من أنهما لن يَهرُبا. يجب أن تخجل من نفسك يا سام ستوليكر لو كانت لديكَ أيُّ رجولة، وإن كنتُ أشكُّ في ذلك.»
«يجب أن أؤدي واجبي.»
وهنا نهض البروفيسور من كرسيه. وقال بعزم: «سيد ستوليكر، سآتي معك أنا وصديقي بهدوء. لن نحاول الهرب إطلاقًا؛ لأننا لم نفعل شيئًا يَجعلنا نخشى الاستجواب. لكنِّي أنذِرُك سلفًا بأنَّك إذا حاولت وضع الأصفاد على مِعصَمي مرةً أخرى، فسأسحقك.»
أطلقت إحدى الفتاتين صيحةَ رعب مُتوقِّعةً نشوب شجار وشيك، فأدرك البروفيسور المكان الذي كان فيه. فالتفت إليها وقال بنبرة ندم:
«أوه! لقد نسيت أنَّكما هنا. أستميحُكما عذرًا بكلِّ صدق.»
فصاحت مارجريت والشرر يتطايَر من عينَيها قائلة:
«لا تطلب العفو، بل اسحقْه.»
ثم وَعَت ما قالتْه للتو، وأخفت الفتاة المنفعلةُ وجهَها المتورد خجلًا في كتف صديقتها، بينما مسَّدت كيتي شعرها الداكن المتشابك بحنو.
خطا رينمارك خطوة نحو الرجال الثلاثة وتوقَّف. فهَبَّ ييتس بسرعته المعتادة لإنقاذ الموقف، وهدَّأ صوته المبتهج من توتُّر الموقف.
قال: «كُف عن هذا الهراء يا ستوليكر، لا تكن أحمق. لا أمانع إطلاقًا أن تُصفِّد يدي، وإذا كنت تتلهَّف لتصفيد شخصٍ ما، فلتُصفِّدني. يبدو أنَّ عقلك الألمعي لم يخطر به أنَّك لا تَملك أي دليل على صديقي، وأنني حتَّى لو كنت أخطر مجرم في أمريكا، فوجودُه معي ليس جريمة. الحقيقة يا ستوليكر أنني لا أودُّ أن أكون مكانك ولو أعطَوني الكثير من الدولارات. تتحدَّث كثيرًا عن أداء واجبك، لكنَّك تجاوزته في تعاملك مع البروفيسور. آملُ ألَّا يكون لديك مُمتلكات؛ لأنَّ البروفيسور يستطيع، إذا شاء، أن يجعلك تدفع تعويضًا باهظًا عن تصفيد يده دون إذن قضائي، أو حتى مثقال ذرة من دليل.» وأضاف مخاطبًا العجوز فجأة: «ما غرامة الاعتقال غير القانوني يا هيرام؟ أظنها ألف دولار.»
فقال هيرام متجهمًا إنه لا يدري. طَرَق كلام ييتس وترًا حساسًا لدى ستوليكر؛ لأنَّه كان يملك مزرعة.
«من الأفضل أن تعتذر من البروفيسور، ودعنا نمضي قدمًا. وداعًا للجميع. سيدة بارتليت، لقد كان هذا الفطور ألذَّ ما تذوقتُ في حياتي.»
ابتسمت المرأة الطيبة وصافحتْه.
«وداعًا يا سيد ييتس، وآمُل أن تعود قريبًا لتتناوَلَ فطورًا آخر.»
وضع ستوليكر الأصفاد في جيبه مرة أخرى وامتَطى حصانه. شاهدَتِ الفتاتان من الشرفة الموكب وهو يتحرك على الطريق الترابي. كانتا صامتتَين، بل ونسيتا حادث سرقة الخيول المثير.