الفصل الثامن عشر
من المفارقات أنَّ الرجل الذي أراد رؤية المعركة لم يرها، والرجل الذي لم يُرِد رؤيتها قد رآها. فقد وصل ييتس إلى ميدان القتال بعدما وضعت المعركة أوزارها، فيما وجد رينمارك رحى القتال تستعر من حوله قبل أن يُدرك حتى أنَّ الموقف قد تأزَّم.
حين وصل ييتس إلى الخيمة، وجدها فارغة وممزقة بالرصاص. كانت أحداث الحرب قد حطَّمت الجرة، وكان فُتات الجرة المكسورة متناثرًا أمام المدخل، وربما مَن نثَرَه رجلٌ مُحبَط كان قد حاول تذوق ما فيها ولم يجد شيئًا.
قال ييتس لنفسه: «سُحقًا! تُرى ما الذي حلَّ بالمساعدين الخمسة الذين أرسلتهم صحيفة «أرجوس»؟ إذا كانوا مع الفينيانيين وتقهقروا معهم، أو إذا كان الكنديون قد اعتقلوهم وهذا أسوأ، فلن يتمكنوا من الحصول على تقرير عن هذه المناوشة وإرساله إلى الصحيفة. والآن، من الواضح أنَّ هذا أهم سبق صحفي في العام؛ إنه دولي، يا إلهي! قد تتورط إنجلترا والولايات المتحدة في حربٍ إذا لم يصبح الطرفان أكثر اعتدالًا وحذرًا. لا أستطيع أن أجازف بترك الصحيفة عالقة في مأزق. دعني أفكِّر دقيقة. هل من الأفضل أن ألحق بالكنديين أم الفينيانيين؟ أيهما يركض أسرع يا تُرى؟ من الواضح أنَّ رجالي مع الفينيانيين، إذا كانوا قد وصلوا إلى مسرح الأحداث أصلًا. فإذا لاحقتُ أبناء الجمهورية الأيرلندية، سأعرِّض نفسي للحصول على نسخة مكررة ممَّا حصل عليه رجالي بالفعل، ولكن إذا لاحقت الكنديين، فقد يعتقلوني. ثم إنَّ نسبة المتعاطفين من قرَّائنا مع الفينيانيين أكبر من نسبة الكنديين؛ لذا فإن نشرنا التقرير وفق رواية الطرف الغازي، فسيحظى برواج أكبر. ومع ذلك، سيكون من الجيد الحصول على رواية الطرف الكندي عن الأحداث، لو كنت متيقنًا من أنَّ بقية الأولاد قد نجحوا في مهمتهم، ومن المرجح أنَّ الصحف الأخرى لن يكون لديها أي مراسل وسط صفوف الكنديين. يا إلهي! ما الذي ينبغي فعله؟ سأجري قرعة بالعملة المعدنية لأحسم قراري. إذا ظهر الوجه ذو الصورة، فسألحق بالفينيانيين.»
رمى العملة جاعلًا إيَّاها تدور في الهواء ثم أمسكها. «الوجه ذو الصورة! إذن فالفينيانيون هم فريستي. إنني أُخيِّم على آثار مسيرهم على أيِّ حال. وفوق ذلك، فهذا آمَنُ من ملاحَقة الكنديين، حتى بالرغم من أنَّ ستوليكر أخذ تصريحي.»
ومع أنَّه كان متعبًا، سار بخفةٍ وحيوية عبر الغابة. كانت رائحة الانفراد بسبق صحفي مُهمٍّ تملأ أنفه، وكانت تُحفِّزه كرائحة الشمبانيا. فما قيمة الحرمان من النوم مؤقتًا مقارنة بفرحة التفوق على الصحافة المعارضة؟
ربما كان أيُّ رجل، ولو أعمى، سيتمكن من اقتفاء أثر الجيش المتقهقر. فقد كانوا في أثناء مرورهم عبر الغابة يتخلَّصون من كل شخص يعترض طريقهم. وفجأةً بينما كان ييتس ماشيًا، وجد رجلًا مستلقيًا على بطنه ووجهه منكفئًا وسط الأوراق الذابلة المنتشرة على الأرض. فقَلَبه على ظهره.
قال ييتس وهو يمضي قُدُمًا في طريقه: «لقد انتهت متاعبه هذا المسكين.»
ثم جاءت صيحة من أمامه قائلةً: «قف! ارفع يديك!».
لم يرَ ييتس أحدًا، لكنَّه سرعان ما رفع يدَيه؛ إذ كان رجلًا سريع التكيُّف.
صاح قائلًا: «ما المشكلة؟ أنا أيضًا أتقهقر.»
«إذن فلتتقهقر خمس خطوات أخرى. سأعدُّ الخطوات. واحدة.»
خطا ييتس خطوة واسعة إلى الأمام، فرأى رجلًا وراء شجرة كان يُصوِّب نحوه بندقية. ثم أخذ خطوة ثانية فرأى آسرًا ثانيًا يرفع مطرقة ضخمة، كهرقل حاملًا هراوته. كان السواد يُخيِّم على وجهَي الرجلين، وكانا أشبه بشيطانين من شياطين الغابة السيئي السُّمعة. وكان معهما نصف دزينة من الأسرى البؤساء كانوا جالسين على الأرض مُشكِّلين نصف دائرة. تفوَّه حامل البندقية بألفاظ نابية بنبرة مرعبة، لكنَّ رفيقه ذا المطرقة كان صامتًا.
قال الرامي: «تعالَ أيها الوغد الحقير، واجلس مع رفاقك الأوغاد. وإذا حاولت الهرب أيها الحقير الفاسق، فسأملأ جسدك بالرصاص!».
صاح ييتس بعدما تعرَّف على هوية المتكلِّم، قائلًا: «أوه، لن أهرب يا ساندي. فلمَ عساني أهرب؟ طالما استمتعتُ برفقتك ورفقة ماكدونالد. كيف حالك يا ماك؟ أهذه غارة صغيرة تشنُّها بنفسك؟ مع أيِّ جانب تحارب؟ وبالمناسبة يا ساندي، ما وزن ذاك القضيب الحديدي القديم الذي تُمسكُه؟ فأنا أودُّ أن أحسم رهانًا. دعني أحمله، كما قلتَ في الورشة.»
قال ساندي بنبرة مُحبَطة وهو يخفض بندقيته: «أوه، أهذا أنت حقًّا؟ ظننتُ أننا قد قبضنا على واحد آخر منهم. أريد أنا والعجوز أن نَجعلهم دزينة كاملة.»
«حسنًا، لا أظنكما ستَأسران أيَّ شخص آخر. لم أرَ أحدًا وأنا آتٍ عبر الغابة. ماذا ستفعلان بهذه المجموعة؟»
فتكلَّم ماكدونالد للمرة الأولى قائلًا باقتضاب: «سنضربهم على رءوسهم.» ثم أضاف على مضض: «إذا حاول أيٌّ منهم الهرب.»
كان جليًّا أنَّ الأسرى كلهم كانوا مَنهَكين ويائسين إلى حدٍّ يُعجزهم عن الإتيان بأي محاولة لاستعادة حريتهم. غمز ساندي بعينه لييتس من فوق كتف ماكدونالد، وأومأ برأسه إيماءة جانبية طفيفة بدت تلميحًا إلى أنَّه يُريد محادثة المراسل الصحفي على انفراد.
سأل ييتس قائلًا: «لستُ أسيرًا لديكما، أليس كذلك؟».
فقال ماكدونالد: «نعم، لستَ أسيرًا. يُمكنك الذهاب إن شئت، ولكن ليس في الاتجاه الذي ذهب فيه الفينيانيون.»
«أظنُّني لن أحتاج إلى الذهاب أبعد من هنا خطوة واحدة، إذا سمحت لي بإجراء حوار صحفي مع أسراك. كل ما أريده هو الحصول على بعض المعلومات عن المعركة.»
قال الحدَّاد: «لا بأس، ما دُمت لن تُحاولَ مُساعدتهم. وإذا حاولت، فأنذِرك بأنَّ ذلك سيُحدث مشكلة.»
تبع ييتس ساندي إلى أغوار الغابة، بعيدًا عن نطاق سمع الآخرين، تاركًا لماكدونالد ومطرقته الثقيلة مسئولية الحراسة.
وحين صارا بعيدين بمسافة آمنة، توقَّف ساندي وأراح ذراعَيه على بندقيته، متخذًا وضعية مُستكشِف.
ثم استهلَّ الكلام بقلق، قائلًا: «بالمناسبة، ألا يوجد بحوزتك بعض البارود والرصاص؟»
«ولا مثقال ذرة. أليس لديك أي ذخيرة؟»
«لا، ولم يكن لديَّ طوال المعركة. كما ترى، فقد غادَرنا الورشة على عجل شديد فلم يخطر ببالنا إحضار بارود ورصاص. فحالَما جاء رجل على ظهر حصان صائحًا بأنَّ ثمة قتالًا يدور، التقط العجوز مطرقته وأخذتُ هذه البندقية التي كانت متروكة في الورشة لإصلاحها، وانطلقنا. لستُ متيقِّنًا ممَّا إذا كانت ستُطلِق النار لو كانت لديَّ ذخيرة، لكنِّي أود التجربة. لقد أخفتُ بها بعض الفينيانيِّين وكادُوا يموتون رعبًا، لكنِّي دائمًا ما كنتُ أخشى أن يصوِّب أحدهم بندقية حقيقية نحوي، ولا أعرف بالضبط ما الذي كنت سأفعله حينئذٍ.»
ثم تنهَّد ساندي، وأضاف بنبرة رجل أدرك خطأه لكنَّه لم يُرِد الاعتراف به: «في المعركة القادمة، لن تجدني ببندقيةٍ معيبة وبلا بارود. أفضِّل أن آخذ مطرقة الرجل العجوز. فهي لا تُخفق.» لمعت عيناه حين خَطر ماكدونالد بباله. ثم أردف بعد التفاتةٍ سريعة إلى الوراء من فوق كتفه: «بالمناسبة، الزعيم على أهبة الاستعداد للقتال في أروع حال، أليس كذلك؟»
قال ييتس: «بلى، لكنَّك أيضًا كذلك. تَستطيع أن تتفوَّه بالألفاظ النابية ببراعة تكاد تضاهيه. متى اكتسبت ذلك؟»
قال ساندي متأسِّفًا: «أوه، حسنًا، كما ترى، لا أستطيع فعل ذلك بتلقائية كالمضْغ، ولكن في كل الأحوال يجب على أحدٍ ما أن يتولَّى مسئولية السباب. والعجوز قد تابَ كما تعلم.»
«أوه، ألم يَرجِع عن توبته بعد؟»
«نعم، لم يرجع. كنتُ أخشى أن يُرجِعه هذا القتال عن توبته، لكنَّ ذلك لم يحدث، والآن أظنُّ أنَّه إذا تفوَّه شخصٌ على مقربة منه بالقليل من السباب — مع أنه لا أحد يقدر على السباب كالزعيم — فسيُمسك عليه لسانه. أظنه سيلتزم بالتوبة هذه المرة. كان يجب أن تراه وهو يَنقضُّ على أولئك الفينيانيين مؤرجحًا هراوته وهو يُغنِّي «إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون». ثم صمد لسانه طوال النهار دون التفوُّه بأي لفظ بذيء؛ لأنَّني كنت بجواره ألفظ كلمة بذيئة بين الحين والآخر حين تحتدم الأوضاع. صدِّقني لقد كان منظرًا جديرًا بالمشاهدة. لقد طرحهم أرضًا كالقناني الخشبية. كان يجب أن تكون حاضرًا وترى بنفسك.»
قال ييتس بحسرة: «نعم. لقد فاتَني ذلك، وكل هذا بسبب ستوليكر اللعين. حسنًا، لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، لكنِّي سأخبرك بشيء يا ساندي: مع أنني ليس لديَّ ذخيرة، سأعرِّفك ما لديَّ. لديَّ في جيبي واحدة من أفضل قطع التبغ التي ستَقضمها في حياتك.»
لمعت عينا ساندي. ولم يسعه سوى قول: «فليباركك الرب!» بينما انكبَّ على أخذ قضمة من قطعة التبغ التي أهداه ييتس إياها.
«كما ترى يا ساندي، تُوجد تعويضات في هذه الحياة رغم كل شيء، كنت أعرف أنَّك في أمسِّ الحاجة إليها.»
«لم أتناول قضمة طوال النهار. هذه هي مشكلة المُغادَرة على عجل.»
«حسنًا، يُمكنك الاحتفاظ بهذه القطعة، مع خالص تحياتي. والآن، أريد العودة وإجراء حوار صحفي مع أولئك الرجال. لا وقت لأضيعه.»
وحين وصلا إلى المجموعة، قال ماكدونالد:
«يوجد هنا رجل يقول إنه يَعرفُك يا سيد ييتس. يدَّعي أنه مراسل صحفي، وأنك ستؤكد صحة كلامه.»
تقدَّم ييتس خطوة واسعة، ونظر بقلق إلى الأسرى على أملِ أن يجد أحد رجاله هناك، وإن كان أمله ممزوجًا ببعض الخوف من ذلك. فقد كان رجلًا أنانيًّا وأراد الاستئثار لنفسه بكلِّ مجد تغطية أحداث اليوم. وسرعان ما تعرَّف على أحد الأسرى، وكان جيمي هوكينز الذي كان يعمل لدى صحيفة «نيويورك بليد» اليومية المنافسة. وكان هذا أسوأ ممَّا كان يتوقَّع.
قال: «أهلًا يا جيمي! كيف وصلت إلى هنا؟»
«لقد أسرني هذا الأحمق اللعين ذو الوجه غير المغسول.»
فصاح ماكدونالد بغضب وهو يُمسك مطرقته: «من هو الأحمق اﻟ…؟» تردَّد قليلًا حين وصل إلى كلمة «اللعين»، لكنَّه تجاوَزَها بسلام. كان جليًّا أنه كان على وشك الوقوع في المحظور، لكنَّ ساندي هبَّ ليُنقذَه وشتَم هوكينز حتى اعتلى الشحوب كل الأسرى عند سماع هذا السيل الجارف من الشتائم. نظر ماكدونالد باستحسانٍ مَمزوج بالحزن إلى تلميذه، غير مُدرك أنَّه تحت تحفيز التبغ الذي تناوله للتو، ومُتسائلًا كيف وصل إلى هذه البراعة في السباب؛ لأنَّه ككل الفنانين الحقيقيين لم يكن مُدركًا إطلاقًا لجدارته في هذا الشأن.
«قُل لهذا المُمسك بالمطرقة إنِّي لست سندانًا. قل له إنِّي مراسل صحفي، وإنِّي لم آتِ إلى هنا لأقاتل. فهو يقول إنه سيُطلِق سراحي إذا أكَّدتَ له أنِّي لست فينيانيًّا.»
جلس ييتس على جذع شجرة ساقط بجبين عابس. فقد كان يودُّ أن يُسديَ إلى زميله في المهنة صنيعًا حين لا يُكبِّده ذلك أي عناء شخصي، لكنَّه لم ينسَ قَط أنَّ العمل يظل عملًا.
قال بنبرة مُهدِّئة: «لا أستطيع أن أجزِم له بذلك وأنا مُرتاح الضمير يا جيمي. فأنَّى لي أن أعرف أنك لست فينيانيًّا؟»
صاح هوكينز غاضبًا: «هُراء! مرتاح الضمير؟ تفكر في الضمير كثيرًا حين تُوجَد معلومة صحفية تحتاج إلى الحصول عليها.»
أردف ييتس بنبرة حانية: «لا أحد منَّا يرقى إلى أحسن طباعه يا جيمي. كلُّ ما نستطيعه أن نبذل أقصى جهدنا لنبلغها، وهذا ليس كثيرًا. لأسبابٍ قد لا تفهمها، لا أرغب في المجازَفة بالكذب. أظنك تُقدِّر تردُّدي يا سيد ماكدونالد، أليس كذلك؟ لن تَنصحني بتأكيد شيء لست متيقنًا منه، أليس كذلك؟»
قال الحدَّاد بجدية: «كلَّا بالطبع.»
صاح مُراسل جريدة «بليد» الساخط: «تُريد أن تبقيني هنا لأنَّك خائف منِّي. تعلم علم اليقين أنَّي لست فينيانيًّا.»
«معذرة يا جيمي، لكنِّي لا أعرف شيئًا من هذا القبيل. حتى إنِّي أشك في أنَّني ربما أكون ذا ميول فينيانية. فأنَّى لي إذن أن أتيقن من ميولك؟»
سأله هوكينز بمزيد من الهدوء؛ لأنَّه أدرك أنَّه نفسه ما كان ليتوانى عن استغلال محنة مُنافسِه لو كان مكانه: «ما خطتك؟».
«خطَّتي هي إرسال تقرير صغير مُتقَن عن هذه الواقعة التاريخية إلى «أرجوس» عبر البرق. فكما ترى يا جيمي، اليوم هو يومي الحافل بالعمل. وحين تنتهي مهمتي، سأكرِّس نفسي لخدمتك وأنقذك من الإعدام، إن استطعت، مع أنني سأفعل ذلك دون محاباة، كما يقول المحامون؛ لأنني دائمًا ما كنت مقتنعًا بأنَّ هذا سيكون مصير كل موظفي «بليد».»
«أصغِ إليَّ يا ييتس؛ فلتتعامَل بنزاهة. لا تُقحم ترهات من قبيل مراعاة الضمير على حساب شخص أسير. فأنا أعرفك منذ سنوات عديدة.»
«نعم، ولم تستفِد من أيِّ قدوةٍ نبيلة إلَّا القليل. فمعرفتُك بي هي ما تجعلني أتعجَّب من توقُّعك أنني سأُخرجك من مأزقك دون أن أوليَ الأمرَ ما يَلزم من التفكير.»
«أترغب في إبرام صفقة؟»
«دائمًا ما أرغب في ذلك … حين يكون الفارق بين المكاسب والخسائر في مصلحتي.»
«حسنًا، إذا أعطيتني بداية عادلة، فسأمنحُكَ بعض المعلومات الحصرية التي لا تستطيع الحصول عليها بطريقة أخرى.»
«ما هي؟»
«أوه، لستُ طفلًا ساذجًا يا ييتس.»
«هذه معلومة مثيرة للاهتمام يا جيمي، لكنِّي كنت أعرفها من قبل. أليس لديك شيء أكثر جاذبية لتُقدمه؟»
«بلى، لديَّ. لديَّ تقرير كامل مكتوب عن البعثة الحربية والمعركة، وجاهز تمامًا للإرسال إذا استطعتُ أن أضعَ يديَّ على جهاز تلغراف. سأُسلِّمه إليك وأسمح لك بقراءته إذا أخرجتني من هذا المأزق، كما تُسمِّيه. سأمنحك إذنًا باستخدام المعلومات كما تشاء، إذا خلَّصتني، وكلُّ ما أطلبه هو بداية عادلة في سباقنا نحو مكتب التلغراف.»
فكَّر ييتس في الاقتراح لبضع لحظات.
وأخيرًا قال: «سأُخبرك بما سأفعله يا جيمي. سأشتري منك هذا التقرير، وأُعطيكَ أموالًا أكثر ممَّا ستعطيك إيَّاه صحيفة «بليد». وحين أعود إلى نيويورك، سأُعيِّنُك ضمن موظَّفي «أرجوس» براتبٍ أعلى ممَّا تتقاضاه من «بليد»، ستُحدِّد قيمته بنفسك وسأقبلها دون نقاش.»
«ماذا! وأتركُ صحيفتي عالقة في ورطة؟ مستحيل.»
«ستقع صحيفتك في ورطة على أيِّ حال.»
«ربما. لكنِّي لن أبيعها. سأَحرق تقريري قبل أن أدعك تُلقي عليه ولو نظرة خاطفة. ولا داعيَ لأن يكون ذلك عقبة أمام عرضك منصبًا أفضل عليَّ عند العودة إلى نيويورك، ولكن في الوقت الذي تعتمد فيه صحيفتي عليَّ، فلن أخذلها.»
«كما تشاء يا جيمي. ربما كنت سأفعل الشيء نفسه. فأنا دائمًا ما أكون ضعيفًا حين يتعلق الأمر بمصالح صحيفة «أرجوس». أليست لديك ورقة فارغة تُقرضني إيَّاها يا جيمي؟»
«لدي، لكنِّي لن أقرضها.»
أخرج ييتس قلمه الرصاص، وجذب طرف كم قميصه.
ثم قال: «والآن يا ماك، فلتُخبرني بكلِّ ما رأيته في هذه المعركة.»
تحدَّث الحدَّاد وأنصت ييتس بينما كان يُدوِّن علامة على طرف كمه بين الحين والآخر. كان ساندي يتحدث من حين لآخر، لكنَّ الغرض من مُعظَم حديثه كان ذكر مآثر المطرقة أو تأكيد شيء قاله الزعيم. أجرى ييتس حوارات صحفية مع الأسرى واحدًا تلوَ الآخر، وجمع كل المواد اللازمة لذلك التقرير المُمتاز الذي كُتِب «حسب رواية شهود عيان» ونُشر لاحقًا في أعمدة صفحةٍ كاملة أُفرِدَت له في صحيفة «أرجوس». كانت ذاكرته رائعة، وكان يَكتفي بتدوين رموز مُختصرة لم يُرِد أن يُثقل ذهنه بها. كان هوكينز يضحك ساخرًا بين الحين والآخر من الحقائق التي كانُوا يذكرونها لييتس، لكنَّ مُراسل «أرجوس» لم يكن يقول شيئًا، بل اكتَفَى بتدوين بعض الملاحظات المختصَرة عن المعلومات التي سخر منها هوكينز؛ إذ اعتبرها ييتس دقيقة ومهمة على الأرجح. وحين نال كلَّ ما يريده، نهض.
تساءل قائلًا: «هل أبعث إليك بمدد يا ماك؟».
فقال الحدَّاد: «لا، أعتقد أني سآخذ هؤلاء الرجال إلى الورشة وأحتجزُهم هناك إلى أن يستدعيهم أحدٌ. لا تستطيع أن تضمن هوكينز إذن يا سيد ييتس؟»
«يا إلهي، كلا بالطبع! بل أعتبره أخطر مَن في هذه المجموعة. فأنا أرى أنَّ هؤلاء المجرمين أنصاف المُثقفين، المُجرَّدين من أيِّ وازع من ضمائرهم، يُشكِّلون دائمًا خطرًا أكبرَ على المُجتمَع من شركائهم الأجهل المُتواطئين معهم. حسنًا، وداعًا يا جيمي. أظنك سوف تَستمتِع بالحياة في ورشة ماك. إنها أفضل مكان حللت به منذ جئتُ إلى هذه المنطقة. أبلِغ كل الفتية خالص محبَّتي حين يأتون للتحديق إليك. سوف أُجري تحقيقات دقيقة بشأن ميولك، وحالَما أقتنع بأنَّ إطلاق سراحك سيكون آمنًا على المجتمع، سآتي إليك وأفعل كلَّ ما بوسعي. وحتى ذلك الحين، وداعًا.»
كان كلُّ ما يتمناه ييتس آنذاك هو الوصول إلى مكتب تلغراف، وكتابة مقاله تزامنًا مع نقر عامل التلغراف على أزراره لإرساله. كانت لديه مخاوفه من ألَّا يكون عُمال التلغراف في الريف بالسرعة الكافية، لكنَّه لم يكن يجرؤ على المخاطرة بمحاولة الوصول إلى بافالو في ظلِّ اشتعال الوضع في البلاد آنذاك. وسرعان ما قرَّر أن يذهب إلى دار بارتليت ويستعير أحد الأحصنة لو لم يكن الفينيانيون قد سرقوها كلها إلى الأبد، ويركض به بأقصى سرعة ممكنة إلى أقرب مكتب تلغراف. وسرعان ما وصل إلى حافة الغابة وشق طريقه عبر الحقول وصولًا إلى البيت. وهناك وجد بارتليت الشاب عند مخزن الغلال.
كان أول سؤال طَرحه هو: «أتوجد أيُّ أخبار جديدة عن الخيول؟».
فقال بارتليت الصغير مغتمًا: «لا، أظنهم قد رحلوا بها بعيدًا.»
«حسنًا، يجب أن أحصل على حصان من أيِّ مكان لأذهب به إلى مكتب التلغراف. ما أرجح مكان يُمكن أن أجد فيه حصانًا؟»
«لا أعرف من أين تستطيع الحصول على واحد، إلَّا إذا سرقت الفرس الهزيل الخاص بفتى التلغراف، إنَّه في الحظيرة الآن يأكل.»
«أيُّ فتى تلغراف؟»
«أوه، ألم تره؟ لقد ذهب إلى الخيمة ليبحث عنك، وظننتُه قد وجدك.»
«لا، لم أذهب إلى الخيمة قط منذ وقت طويل. لعلَّه يحمل بعض الأخبار لي. سأدخل إلى البيت كي أكتب؛ لذا أدخله حالَما يعود. واحرص على ألَّا يرحل قبل أن أراه.»
قال بارتليت الصغير: «سأوصد باب الحظيرة، وهكذا لن يَحصل على حصانه بأيِّ حال من الأحوال.»
وجد ييتس كيتي في المطبخ، وبدا مضطربًا جدًّا إلى حدٍّ جعل الفتاة تصيح في قلق:
«هل يُطاردونك مجددًا يا سيد ييتس؟»
«لا يا كيتي؛ بل أنا الذي أطاردهم. بالمناسبة، أريد كلَّ ما لديكِ من ورق فارغ في البيت. أي ورق سيفي بالغرض ما دام سيتحمَّل الكتابة عليه بسنِّ قلم رصاص.»
«أيناسبك كتابُ نَسخٍ، كالذي يستخدمه التلاميذ في المدرسة؟»
«ذاك هو المطلوب بالضبط.»
وفي أقل من دقيقة، كانت الفتاة قد أعدَّت له كل المواد التي يحتاج إليها في الغرفة الأمامية بكلِّ همة ونشاط. خلع ييتس معطفه وانكبَّ على العمل كما لو كان في مكتبه الخاص في مقر صحيفة «أرجوس».
تمتم قائلًا لنفسه وهو يُحرِّك قلمه بسرعة البرق على سطح الورقة: «يا لها من … إجازة!». ولم يلاحظ الوقت حتى فرغ من الكتابة، ثم نهض وهب واقفًا.
صاح قائلًا: «ما الذي حلَّ بفتى التلغراف ذاك بحقِّ السماء؟ حسنًا، لا بأس، سآخذ الحصان من دون إذنه.»
ثم لملَمَ أوراقه وهُرع إلى المطبخ. ودُهِش بعض الشيء حين رأى الفتى جالسًا هناك يَلتهم المأكولات الطيبة التي دائمًا ما توافَرَت في هذا المطبخ.
«مرحبًا، أيها الشاب! منذ متى وأنت هنا؟»
أجابت كيتي نيابةً عن الفتى الذي كان فمه مكتظًّا إلى حدٍّ أعجزه عن الرد: «لم أكن لأسمح له بالدخول لئلا يُزعجك وأنت تكتب.»
«أوه، أحسنتِ صنعًا. والآن يا بُني، ابتلع هذا وتعالَ إلى الداخل، أريد أن أحدثك دقيقة.»
تبعه الفَتى إلى الغرفة الأمامية.
«حسنًا يا بني، أريد استعارة حصانك لما تبقَّى من النهار.»
قال الفتى من فوره: «لا يُمكنك أخذه.»
«لا يُمكنني أخذه؟! بل لا بد أن آخذه. سآخذه. أتتخيَّل حقًّا أنك تستطيع منعي؟»
نصب الفتى قامته، وعقد ذراعيه عبر صدره.
ثم سأل قائلًا: «لماذا تُريد الحصان يا سيد ييتس؟»
«أريد الوصول إلى أقرب مكتب تلغراف. وسأدفع لك مبلغًا مُجزيًا مقابل استعارته.»
«وما سبب وجودي هنا إذن؟»
«عجبًا، لتأكل بالطبع. سيُطعمونك طعامًا وفيرًا في أثناء انتظارك هنا.»
«مكتب التلغراف الكندي؟»
«بالطبع.»
قال الفتى بازدراء شديد: «لن يُفلح ذلك يا سيد ييتس. فهؤلاء الكنديون لن يَستطيعُوا إرسال كل ما كتبته ولو في أسبوعين. أعرفهم جيدًا. وفوق ذلك، فالحكومة تسيطر على كل أسلاك التلغراف، ولا يُمكنك أن تبعث برسالة خاصة إلى أن تتعافَى الحكومة من الرعب الذي انتابها.»
صاح ييتس مذهولًا: «يا إلهي! لم يخطر ذلك ببالي. أأنت متيقِّن يا فتى؟»
«تمام اليقين.»
«ما العمل إذن؟ يجب أن أصلَ إلى بافالو.»
فأضاف الفتى وهو ينصبُ قامتَه كما لو كان ينعم بحظوة خاصة من قِبل حكومة الولايات المتحدة: «لا تستطيع. لن تسمح لك قوات الولايات المتحدة بذلك. فهُم يمنعون كل شخص، عدا أنا.»
«أتستطيع أن توصل هذه البرقية؟»
«بالطبع! ولهذا عُدت. لقد عرفت حالَما نظرت إليك أنَّك ستكتب برقية من عمودين أو ثلاثة، ولعلَّك تتذكر أنَّ البرقية المُرسَلة إليك قالت: «لا تألُ أي نفقات.» لذا قلت لنفسي: «سأساعد السيد ييتس على ألَّا يألو أي نفقات. سآخذ خمسين دولارًا من ذلك الشاب؛ لأنني الشخص الوحيد الذي يستطيع المرور وإيصال البرقية في الوقت المناسب».»
«إذن، كنتَ متيقنًا من هذا، أليس كذلك؟»
«بكل تأكيد. والآن، قد أُطعِم الحصان وصار جاهزًا، وأنا قد أُطعِمْت وصرت جاهزًا، ونُضيِّع وقتًا ثمينًا في انتظار هذه الدولارات الخمسين.»
«لنفترض أنَّك قابلت صحفيًّا آخرَ يريد إرسال برقيته إلى صحيفة أخرى، ماذا ستفعل؟»
«سأطلب منه الأجر نفسه الذي طلبته منك. ولو قابلت اثنين آخرين من الصحفيِّين، سيكون الأجر حينئذٍ مائة وخمسين دولارًا، ولكن إذا أردت أن تضمن أنِّي لن أقابل أي مراسلين آخرين، دعنا نجعل الأجر مائة دولار، وسأخاطر بالاستغناء عن الخمسين الأخرى مقابل الحصول على النقود الجاهزة الفورية، وحينئذٍ، حتى لو قابلت دزينة من المراسلين الصحفيين، سأُخبرُهم بأنني ساعي تلغراف في إجازة.»
«موافق. أظنُّك ستستطيع الاعتناء بنفسك في هذا العالم القاسي الوحشي. والآن، أصغِ إليَّ أيها الفتى، سأثق بك إذا وثقتَ بي. لستُ دارًا متنقِّلة لسك النقود، كما تعلم. وفوق ذلك، فأنا أدفع وفق النتائج. إذا لم تستطِع توصيل هذه البرقية، فلن تَنال شيئًا. سأعطيك إيصالًا بمائة دولار، وفور وصولي إلى بافالو، سأدفع لك النقود. سوف أُضطرُّ إلى الذهاب إلى مقر «أرجوس» كي آخذ النقود من هناك حين أصل إلى بافالو، إذا وجدتُ مقالي هناك، فستحصل على نقودك، وإذا لم أجده، فلن تنال شيئًا. أفهمت؟»
«نعم، فهمت. لكنَّ هذا غير مقبول يا سيد ييتس.»
«لماذا؟»
«لأنني أقول ذلك. هذه معاملة نقدية. أي المال مقدمًا، وإلَّا لن تنال غرضك. سأوصلها كما اتفقنا بالتأكيد، ولكن لو أخفقت، فلن أخسر المال.»
«حسنًا، سآخذها إلى مكتب التلغراف الكندي.»
«حسنًا يا سيد ييتس. لقد خيَّبت أملي فيك. كنتُ أظنُّكَ حكيمًا بعض الشيء. ليست لديك أي حكمة إطلاقًا، لكني أتمنى لك التوفيق. حين كنتُ في خيمتك، رأيت رجلًا ذا مطرقة يُخرج مجموعة رجال من الغابة. وعندما رأى أحدهم زيَّ العمل الذي أرتديه، صاح بأنَّه سيُعطيني خمسة وعشرين دولارًا لآخذ رسالته وأوصلها. فقُلت إنني سأذهب إليه لاحقًا، وها أنا سأفعل. وداعًا يا سيد ييتس.»
«رويدك! إنك وغد صغير. سيَنتهي بك المطاف في سجن الولاية يومًا ما، ولكن ها هي نقودك. والآن، فلتركب جوادك وتنطلق بأقصى سرعة.»
وبعدما ظلَّ يشاهد الفتى المُغادِر إلى أن غاب عن ناظريه، انطلق ييتس عائدًا إلى الخيمة وهو يشعر بالارتياح. راوده بعض القلق حيال اللقاء الذي جمع الفتى بهوكينز، وتساءل بعد فوات الأوان عمَّا إذا كان الفتى يَحمل تقرير هوكينز في جيبه بعد كل ذلك. تمنَّى لو أنَّه فتَّشه. غير أن ذلك القلق لم يمنعه من النوم كجثة هامدة حالما استلقى في الخيمة.