الفصل الثاني
كانت غرفة السماء، كما وصَفَها ييتس، تُطلُّ على منظرٍ شاسع جدًّا بلا شك. ويقع تحتها مباشَرة عدد هائل من الأسطح. وعلى مسافة أبعد، توجد مسارات السكك الحديدية التي أبدى ييتس استياءه منها، وصفٌّ من الصواري ومداخن مَراوح السفن ميَّز تعرُّجات مسار نهر بافالو الذي ارتفعَت على ضفتَيه عدَّة صوامع قمحٍ شاهِقة، كلٌّ منها مميَّزة بحرفٍ ضخم من حروف الأبجدية مرسومٍ بطلاء أبيض على اللون البني الداكن للمبنى الضخم. وعلى مسافةٍ أبعد ناحية الغرب، كان يوجد منظر أكثر إرضاءً وراحةً للنفس في يومٍ حارٍّ كهذا. فالبحيرة الزرقاء، التي تناثَرَت عليها أشرعة بيضاء وأثر دخانٍ يظهر من حين إلى آخر، كانت تتلألأ تحت أشعة الشمس الحامية. وعلى الجانب الآخر من المياه، عبر الضباب الصيفي البعيد، كان بالإمكان رؤية الحدِّ الخافِت للساحل الكندي.
صاح ييتس واضعًا يدَيه على كتفَي الآخر ودافعًا إيَّاه على كرسيٍّ بالقرب من النافِذة: «اقعد.» ثم أضاف واضعًا يده على زر الجرس الكهربائي: «ماذا تودُّ أن تَشرب؟»
قال رينمارك: «سآخذ كوبًا من الماء، إن كان يمكن الحصول عليه دون عناء.»
أسقط ييتس يدَه من على زر الجرس الكهربائي إلى جانبه يائسًا، ورمق البروفيسور بنظرة توبيخ.
صاح قائلًا: «يا ربَّ السماوات! فلتشرب مشروبًا خفيفًا. لا تتسرع وتشرب ماء بافالو قبل أن تعرف مكوناته التي صُنع منها. بل تَدرَّج في المشروبات حتى تصل إليه. جرِّب كوكتيلًا مُثلجًا أو مخفوق الحليب كبداية.»
«شكرًا لك، لا أريد. سيَكفيني كوبٌ من الماء تمامًا. اطلب ما تشاء لنفسك.»
«شكرًا، يُمكن الاعتماد عليَّ في ذلك.» وضَغَط على الزر، وحين ظهر الصبي، قال له: «أحضِر كوكتيلًا مثلجًا، وأضِفه على حساب البروفيسور رينمارك، غرفة رقم ٥١٨. وأحضِر كذلك إبريقًا من الماء المثلَّج على حساب ييتس، غرفة رقم ٥٢٠.» وأضاف في نشوة فرحة: «أرأيت، سأسجل كل المشروبات على حسابك، باستِثناء الماء المثلَّج. سأدفع الفاتورة، لكني سأحتفظ بإيصالها لأعايرك به مرارًا في المستقبَل. البروفيسور ستيلسون رينمارك المدين لفندق متروبوليتان جراند بثمن كأس من الكوكتيل المثلَّج وكأس من شراب الجِن وكأس من مزيج من الويسكي، وما إلى ذلك. والآن يا ستيلي، لنتحدَّث عن العمل. أفترضُ أنك لست متزوِّجًا، وإلَّا ما كنت لتستجيب لدعوتي بهذه السرعة.» هزَّ البروفيسور رأسه بالإيجاب. فأضاف ييتس: «ولا أنا أيضًا. لم تتوفَّر لديك الشجاعة قط لعرض الزواج على فتاة، ولم يتوفر لديَّ الوقت لذلك قَط.»
قال رينمارك بهدوء: «دائمًا ما كنتَ شديد الزهو بنفسك في الأيام الخوالي يا ريتشارد.»
ضحك ييتس. «حسنًا، لم يُعِقْني ذلك إطلاقًا، على حدِّ علمي. والآن، سأخبرك كيف سارَت حياتي منذ أن كنا معًا في أكاديمية سكراجمور العجوز قبل خمسة عشر عامًا. ما أسرع الوقت! حين تركتُ الأكاديمية، جربتُ التدريس لشهر واحد قصير. كانت لديَّ بعض النظريات عن تعليم شبابنا يبدو أنَّها لم تتناغَم مع الآراء الاعتباطية السابقة التي كانت مَجالس الأمناء في المدارس تتبنَّاها بالفعل بشأن تلك المسألة.»
اعترى البروفيسور اهتمامٌ تامٌّ في الحال. فإذا لمست وتر مهنة أحدهم في حديثك معه، عادةً ما يستجيب بإبداء اهتمامه.
سأله: «وما تلك النظريات التي كانت لديك؟».
«حسنًا، كنت أرى أنَّ المعلم يجب أن يعتني بصحة تلاميذه البدنية كما يَعتني بصحتهم العقلية. فلم أكن أقتنع بأنَّ واجبه تجاه رعيتِه من التلاميذ يَقتصِر على تعليمهم ما في الكتب فحسب.»
قال البروفيسور بحماس: «أتَّفق معك تمامًا.»
«شكرًا. حسنًا، لكن الأمناء لم يتفقُوا معي. كنت أشارك الأولاد في ألعابهم، على أمل أن أكون قدوة لها تأثير على سلوكهم في الملعب كما في حجرة الدراسة. لقد أعددنا ملعب كريكيت ممتازًا. ربما لا تَتذكر أنَّ أدائي في الكريكيت حين كُنا في الأكاديمية كان أفضل بعض الشيء من أدائي في الرياضيات أو اللغويات. وعن طريق تعويق تقدُّمي بضمِّ العديد من اللاعبين السيئين إلى فريقي، وضمِّ أفضل اللاعبين بين الصِّبية إلى الفريق الخَصم، شكَّلنا فريقين مُتكافئين تمامًا في قطعة الأرض رقم ١٢ ذات العوائد المخصَّصة للمدارس. وفي ظهيرة أحد الأيام، بدأنا مباراة. كانت أرضية الملعب مُمتازة، وكان صبية الفريق الخصم في أعلى مستوياته. وكان فريقي في أسوأ حالاته. كنت مُنهمكًا جدًّا، وحين دقت الساعة الواحدة، رأيت أنَّه من المؤسف أن آمر الأولاد بالعودة إلى المدرسة وأفسد مباراة رائعة وشائقة جدًّا. كان الأولاد كلُّهم مُجمِعين على الرأي نفسه. وكانت الفتيات سعيدات بالتنزُّه تحت الأشجار. لذا لعبنا الكريكيت طوال فترة ما بعد الظهر.»
قال البروفيسور بارتياب: «أرى أنَّ ذلك كان مُبالَغة بعض الشيء في تطبيق نظريتِك.»
«وهذا بالضبط كان رأي الأمناء حين سمعوا بما فعلته. لذا فصلُوني، وأظنُّ أنَّ رحيلي كان الحالة الوحيدة المُسجَّلة التي بكى فيها تلاميذُ رحيلَ مُدرِّسهم بصدق. نفضتُ غبار كندا عن قدمي، ولم أندم على ذلك قط. وطِئتُ أرض بافالو، وواصلتُ نفض الغبار عن قدمي في كل خطوة. (مرحى! ها هي مشروباتك قد جاءت أخيرًا، يا ستيلي. لقد نسيتُها، وهذا ليس من عادتي. حسنًا يا فتى، أضِفْها إلى حساب الغرفة رقم ٥١٨. آه! هذا بالضبط ما يُريده المرء في يوم حار.) حسنًا، أين وصلتُ في حديثي؟ آه نعم، عند بافالو. شغلت وظيفةً في إحدى الصحف هنا، بأجرٍ كان يكفي بالكاد للبقاء حيًّا، لكنِّي أحببتُ العمل. ثمَّ انتقلتُ إلى مدينة روشستر حيث عملت براتبٍ أكبر، ثمَّ إلى ألباني براتبٍ أكبر وأكبر، وبالطبع تقعُ ألباني على بُعد بضع ساعاتٍ فقط من نيويورك، حيث يحطُّ كل الصحفيين رحالهم في نهاية المطاف، إذا أثبتوا براعتهم وكفاءتهم. رأيتُ جزءًا صغيرًا من الحرب أثناء عملي مراسلًا خاصًّا، وأُصِبت، وأُودِعتُ في المشفى مع العديد من المصابين. ومنذ ذلك الحين، ومع أنني مجرَّد مُراسِل، أتربَّع على مشارف قمة هرمِ تلك المِهنة، وأجني ما يَكفي من الأموال لسداد ديوني في لعبة البوكر وشراء المشروبات المثلَّجة لتهدئة وطأة احتدام اللعبة. وحين تشهد البلاد أيَّ حدث مُهم في أيِّ مكانٍ فيها، أكون هناك مع زملاء آخرين لتأدية هذا العمل الشاق؛ إذ أكتب الأوصاف التصويرية الخلَّابة وأُحاور ذوي النفوذ. تَنتقِل مقالاتي ساخنةً وطازجة عبر أسلاك البرق، ولم تَعُد أظرفي تَعرف الطابع البريدي المتواضع. أعرفُ كل موظف استقبال فندقي، وهذا يُضاهي معرفةَ أيِّ شيء يحدث من نيويورك إلى سان فرانسيسكو. لو كان بإمكاني ادِّخار المال، لأصبحت غنيًّا؛ لأنني أجني الكثير، لكن الفتحة الموجودة في أعلى جيب سروالي أفقدتْني الكثير من النقود، ولا يبدو أنني قادر على رتْقها. والآن، لقد استمعتَ إلى حديثي بصبرك المعتاد كي تَمنح زهوي بنفسي، على حدِّ وصفِك، حريتَه الكاملة. أنا مُمتنٌّ لك. وسأردُّ لك الصنيع. ماذا عنك؟»
تحدَّث البروفيسور ببطء. بدأ حديثه قائلًا: «لم أَخُض مسيرةً مِهَنية مفعَمة بالمغامرة والإثارة كهذه. لم أنفُض الغبار الكندي عن قدمي، ولم أُحقِّق أيَّ نجاحٍ كبير. بل تهادَيت بخُطًى بطيئة وكدحت، ولستُ مُهددًا بأن أصير ثريًّا، مع أنني أظنُّ أنني أُنفق قليلًا كأي رجل. بعد طردِك … أقصد رحيلك عن الأكا…»
«لا تُشوِّه اللغة الإنجليزية القديمة الفصحى يا ستيلي. كُنتَ محقًّا في عبارتك الأولى. فأنا لستُ حساسًا. كنتَ تقول بعد طردي. أكمِل.»
«ظننتُ أنه ربما يكون موضوعًا مؤلمًا. فكما تتذكَّر، كنتَ ساخطًا للغاية آنذاك، و…»
«بالطبع كنتَ ساخطًا، وما زلت. فما حدَثَ كان ظُلمًا شنيعًا!»
«ظننتُ أنَّهم أثبتُوا أنَّك ساعدت في وضع المُهرِ في غُرفة المدير.»
«أوه بالطبع. هذا ما حدَثَ بالتأكيد. لكن ما أثار استيائي هو تعامُل المدير مع الأمر. لقد سمح لهذا الوغد سبينك بقلب الأدلة علينا، وقال سبينك بأنَّني الذي ابتدعتُ تلك الحيلة، في حين أنَّ ذلك شرفٌ لا أدَّعيه. لقد كانت تلك فكرةَ سبينك، وتقبَّلتُها وشاركت فيها، كما كنت أفعل مع أي مُقترح شائن وضيع. وبالطبع صدَّق المدير فورًا أنني المُجرم الرئيسي. هل تعرف إن كان سبينك قد أُعدم أم لم يُعدَم حتى الآن؟»
«أعتقد أنه رجل أعمال ذو سمعة طيبة جدًّا في مونتريال ويَحظى باحترام كبير.»
«ربما كان عليَّ أن أخمِّن ذلك. حسنًا، فلتُواصِل مراقبة أحوال سبينك المحترَم. وإذا لم يفشل يومًا ما، ولم يَجنِ أموالًا طائلة، فأنا لا أفقه شيئًا. ولكن أكمِل كلامك. فهذا انحراف عن الموضوع. بالمناسبة، اضغط ذاك الزر الكهربائي. فأنت الأقرب إليه، والجو شديد الحرارة إلى حدٍّ يجعل المرء لا يطيق التحرك. شكرًا. بعد طردي …»
«بعد رحيلك، حصلتُ على دبلوم. ودرَّست لأحد الصفوف الدراسية في الأكاديمية عامًا أو اثنين. وبعدئذٍ، بينما كنتُ أدرس في أوقات فراغي، حصلت على فرصةٍ للعمل مدرسًا في إحدى مدارس اللغويات بالقرب من تورنتو، وكان العامل الرئيسي وراء تلك الفُرصة هو توصية من سيادة المدير سكراجمور، حسبما أظن. حصلت على شهادتي بحلول ذلك الوقت. بعد ذلك …»
سَمعا طرقة خفيفة على الباب.
صاح ييتس قائلًا: «ادخل! أوه، هذا أنت. أحضِر كأسًا أخرى من الكوكتيل المثلج المنعش، أتستطيع ذلك؟ وأضفها، كالمشروبات السابقة، إلى حساب البروفيسور رينمارك، الغرفة رقم ٥١٨. حسنًا، بعد ذلك …»
«بعد ذلك جاء افتتاح كلية يونيفرستي كوليدج في تورنتو. وحالَفَني الحظ بتعييني فيها. ما زلت هناك، وأظن أنني سأبقى هناك. لا أعرف سوى قلة قليلة من الناس، وآلَفُ الكتب أكثر ممَّا آلف البشر. ومعظم أولئك الذين تشرَّفت بمعرفتهم أشخاص شديدو الولع بالتعلم والدراسة إمَّا تركُوا بصمتهم، أو سيتركونها، في عالم التعلُّم. لم أحظَ مثلك بلقاء قادة سياسيِّين حكوميِّين يقودون مصائر إمبراطورية عظيمة.»
«كلا؛ دائمًا ما كنتَ محظوظًا يا ستيلي. من واقع خبرتي، فالرجال الذين يقودون دفَّة الحُكم أكثر انشغالًا بجيوبهم، أو تقدُّمهم السياسي، من المصائر. ومع ذلك، يبدو أنَّ الإمبراطورية تأخذ مجراها غربًا. إذن، فقد كان سكراجمور العجوز صديقك، أليس كذلك؟»
«بلى، بالفعل.»
«حسنًا، لقد أهانَني منذ بضعة أيام فقط.»
«يا لَلعجَب! لا أستطيع أن أتخيَّل رجلًا على قدْرٍ كبير من التأدُّب والثقافة الأكاديمية كسيادة المدير سكراجمور قد يُهين أيَّ شخص.»
«أنت لا تَعرفُه كما أعرفه أنا. ما حدَث كالآتي: أردت معرفة مكانك لأسباب سأذكُرُها لاحقًا. ظللت أعتصِر دماغي، ثم خطَر ببالي سكراج العجوز. فكتبت إليه رسالة وأرسلتها في مظروفٍ مدموغٍ بطابع بريديٍّ ومُعنوَن، كما يَنبغي أن يفعل كلُّ مَن يُبادرُون بإرسال رسائل من تلقاء أنفسهم. وقد ردَّ عليَّ رسالتي. لكن ردَّه بحوزتي هنا في مكانٍ ما. يَجب أن تقرأه بنفسك.»
أخرج ييتس من جيبه الداخلي حزمة من الرسائل، وقلَّبها بإصبعه سريعًا، مُعلِّقًا عليها بصوتٍ خافت في تلك الأثناء: «أظنُّ أني رددتُ على تلك. ولكن لا يهمُّ. يا إلهي! ألم أدفع تلك الفاتورة حتى الآن؟ لقد انتهت صلاحية جواز المرور ذلك. يجب أن أحصل على واحد آخر.» ثمَّ ابتسم وتنهَّد وهو ينظر إلى رسالة مكتوبة بخطٍّ يدوي منمَّق، ولكن بدا واضحًا أنَّه لم يَعثر على الورقة التي كان يبحث عنها.
«أوه، حسنًا، لا بأس. إنها لديَّ في مكانٍ ما. لقد أعاد إليَّ المظروف الذي دفعت تكلفة إرساله مقدَّمًا، وذكَّرني بأن طوابع الولايات المتحدة لا تَصلُح للاستخدام في كندا، وهذا ما كان ينبغي أن أتذكره بالطبع. لكنه لم يدفع ثمن الطوابع الموضوعة على رسالته؛ لذا اضطررت إلى دفع تكلفة مُضاعَفة. ومع ذلك، فلا أمانع في قبول هذا التصرُّف إلَّا باعتباره مُؤشِّرًا على خسَّتِه. ثم أضاف قائلًا إنَّ من بين جميع أفراد دُفعتنا، كنتَ أنت … أنت! … الوحيد الذي جعلها مدعاةً للفخر. كانت هذه هي الإهانة. فكرة أن يصدر عنه عبارة كتلك بعدما أخبرته بأنني أعمل لدى صحيفة «نيويورك أرجوس»! أظنُّ ذلك مدعاةً للفخر للدفعة حقًّا! أتساءل عمَّا إذا كان قد سمع أي شيءٍ عن براون بعد طرده. من المؤكَّد أنك تعرف. لا؟ حسنًا، لقد صار براون، بمجهودِه الشخصي، رئيسًا لبنك «ألوم بنك» في نيويورك، ثم خربه وغادَرَ إلى كندا وبحوزته مبلغٌ صافٍ قدره نصف مليون. نعم يا سيدي. لقد رأيته في كيبيك منذ أقل من ستة أشهر. لديه أرقى حصانين وعربة في المدينة، ويعيش في قصر. يستطيع أن يشتري ألف رجل مثل سكراجمور العجوز دون أن يؤثِّر ذلك في أمواله أبدًا. إنَّه أكثر المتبرِّعين لقضية التعليم سخاءً في كندا. يقول إنَّ التعليم هو الذي صنعه، وإنَّه ليس الرجل الذي يَخذل التعليم حين يحتاج إليه. ومع ذلك، يأتي سكراجمور بكل وقاحةٍ ويقول إنَّك الرجل الوحيد في الدفعة الذي يجعلها مدعاةً للفخر!»
ابتسم البروفيسور بهدوء، بينما ارتشَفَ الصحفي المنفعِل رشفةً مُهدئة من الكوكتيل المثلج.
«أصغِ إليَّ يا ييتس، آراء الأشخاص تختلِف. قد لا يكون رجلٌ مثل براون مثاليًّا من وجهة نظر سيادة المدير سكراجمور. ربما يتبنَّى المدير معاييرَ محدودة منغلقة للنموذج المثالي للرجل الناجح، أو الشخص الذي يجعل تدريسَه مدعاةً للفخر.»
«محدودة؟ إنها كذلك بكلِّ تأكيد. أراها محدودة إلى حدٍّ لعين يجاوز المدى. سيكون مفيدًا لذلك الرجل أن يعيش في نيويورك عامًا. لكنِّي سأردُّ الإهانة له. سأكتب عنه مقالة. سأُخصِّص له عمودًا ونصفًا، وسترى بنفسك. سأحصل على صورته وأنشر رسمةً لوجهِه في الصحيفة. ولو لم يجعله ذلك يَرتعِد خوفًا، فهو إذن مخلوق عديم الحس. قُل لي، أليس معك صورة لسكراج العجوز تستطيع أن تُقرضني إيَّاها؟»
«معي، لكني لن أقرضها لك لهذا الغرض. على أيِّ حال، لا تشغل بالك بالمدير. أخبرني بخططك. أنا تحت أمرك لأسبوعين، أو أكثر إذا اقتضَت الحاجة.»
«ولد مُطيع! حسنًا، سأخبرك بحقيقة الأمر. أريد الراحة والهدوء والاستِجمام في الغابة، أسبوعًا أو اثنين. هكذا أخذت الإجازة: كنت أعمل بجدٍّ على قدم وساق بلا انقطاع، باستثناء مدة قصيرة قضيتها في المستشفى، وهذه لا تُعَد إجازة بمعنى الكلمة، كما ستُوافقني الرأي في ذلك. فالعمل يثير اهتمامي، ودائمًا ما أكون في مُعتركه. هكذا تسير الأمور الآن في مجال العمل الصحفي: رئيسك لن يقترح عليك أبدًا أن تأخذ إجازة. فعادةً ما يكون لديه نقصٌ في الموظفين وكمٌّ هائل من المهام التي يجب إنجازها؛ لذا إن لم تُلِح عليه ليمنحك إجازة، فلن يَكترِث بذلك إطلاقًا. بل دائمًا ما يكون قانعًا بترك الوضع على حاله. ثم دائمًا ما يكون معك في العمل شخصٌ يريد إجازةً لمسألة مُلِحة، كجنازة جدته وأشياء من هذا القبيل؛ لذا إن رضيَ أحد الزملاء بالعمل دائمًا بلا انقطاع، فسيرضَى رئيسه تمامًا بتركه على هذه الحال. هكذا سارت الأمور معي العمل طوال سنوات. منذ بضعة أسابيع، ذهبت إلى واشنطن لإجراء حوار صحفي مع أحد أعضاء مجلس الشيوخ عن الآفاق السياسية. بإمكاني أن أخبرك يا ستيلي، دون تفاخُر، أن هناك بعض الأشخاص المهمِّين في الولايات المتحدة لا يستطيع أحدٌ سواي إجراء حوار صحفي معهم. ومع ذلك، يقول سكراج العجوز إنني لست مصدرَ فخرٍ لدُفعته! عجبًا، لقد أُرسِلَت توقُّعاتي السياسية تلغرافيًّا إلى جميع أنحاء البلاد في العام الماضي، وتظهر في الصحافة الأوروبية منذ ذلك الحين. أليس هذا مدعاة للفخر! بربِّ السماء، لَكم أودُّ أن أواجه سكراج العجوز في حلبة ملاكمة مُرتديًا قفازين رقيقين لنحو عشر دقائق!»
«لا أظن أنَّه سيؤدي أداء رائعًا في ظروف كهذه. ولكن دَعك منه. لقد تحدَّث، في تلك المرة فقط، دون تروٍّ، وربما طَغت عليه ذكرياتٌ مُبالغ فيها لتصرفاتك المزعجة أيام الدراسة. ماذا حدث حين ذهبت إلى واشنطن؟»
«حدث شيءٌ غريب. حين أذِنَ لي بدخول مكتبة عضو مجلس الشيوخ، رأيت رجلًا آخر، ظننتُ أني أعرفه، جالسًا هناك. قُلت للسيناتور: «سآتي حين تكون وحدك.» فرفع السيناتور ناظرَيه نحوي متفاجئًا، وقال: «أنا وحدي بالفعل.» لم أقل شيئًا، لكني مضيت في حواري معه، وكان الرجل الآخر يدوِّن ملاحظات طوال الوقت. لم يُعجبني ذلك، لكني لم أقل شيئًا؛ لأن السيناتور ليس بالرجل الذي يُمكن إغضابه، كما أن عدم إغضاب هؤلاء الرجال هو ما يُمكِّنُني من الحصول على المعلومات التي أحصل عليها. حسنًا، خرج الرجل الآخر معي، وحين نظرت إليه، رأيت أنه أنا. لم أرَ ذلك غريبًا آنذاك، لكني ظللتُ أجادل معه طوال الطريق إلى نيويورك، وحاولت أن أبيِّن له أنه لا يُعاملني بإنصاف. كتبتُ نصَّ الحوار، مع تدخُّل من ذلك الرجل الآخر طوال الوقت؛ لذا تنازلت وكتبت نصف الموضوع باقتراحاته، والنصف الآخر بما أردته أنا. وحين تفحَّص المحرِّر السياسي الموضوع، بدا منزعجًا. أخبرته بصراحةٍ بما واجهته من تدخُّل في كتابته، لكنه مع ذلك ظل منزعجًا بعدما أنهيت كلامي. وفي الحال أرسل في استدعاء طبيب. تفحَّص الطبيب كل جزء منِّي، ثم قال لرئيسي: «كل ما في الأمر أنَّ هذا الرجل قد أُثقِل للغاية بالعمل. يجب أن يحصل على إجازة، وإجازة حقيقية، لا ينشغل فيها بأي شيء إطلاقًا، وإلَّا سينهار، وسيحدث ذلك بغتةً على نحوٍ سيفاجئ الجميع.» ما أدهشني أن الرئيس قد وافَقَ دون تذمُّر، بل ووبَّخني على أنني لم آخذ إجازة قبل ذلك. ثم قال لي الطبيب: «فلتحظَ في إجازتك برفيق، وليكن رجلًا بلا عقل، إن أمكن، لن يناقش السياسة، وليس له رأي في أي شيء قد يهتم أي رجل عاقل بالحديث عنه، ولا يستطيع أن يقول أي شيء ذكي حتى لو ظلَّ عامًا كاملًا يُحاول فعل ذلك. فلتحظَ برجلٍ كهذا وتَذهب معه إلى الغابة في مكانٍ ما. شمالًا في ولاية مين أو في كندا. بعيدًا قدر المُستطاع عن مكاتب البريد ومكاتب التِّلغراف. وبالمناسبة، لا تَترك عنوانك في مكتب صحيفة «أرجوس».» وهكذا تصادَف أن خطرت ببالي فورًا يا ستيلي، حين وصف الطبيب ذاك الرجل بمثلِ هذا التصوير المفصل.»
قال البروفيسور بشبح ابتسامةٍ لاحَت على وجهِه: «لا شكَّ أني في غاية السعادة لأنك تذكرتني فورًا من أجل مسألة كهذه، وإذا كان بوُسعي خدمتك، فسأسعد بذلك جدًّا. أفترض إذن أنكَ لا تعتزم المُكوث في بافالو؟»
«لا أعتزم ذلك بكل تأكيد. بل سأتوجَّه إلى الغابة البدائية، حيث أشجار الصنوبر والشوكران ذات الحفيف، الملتحية من أسفلها باللونين الطُّحلبي والأخضر في اﻟ… نسيت بقية القصيدة. أريد أن أتوقَّف عن الاستِلقاء على ورق الصحف، وأَستلقي على ظهري على المروج أو في حضن أُرجوحة شبكية. سأتجنَّب كل الأنزال أو المنتجعات الصيفية المبهجة، وأَستمتِع بهدوء الغابة.»
«لا بدَّ أن ثمَّة بعض الأماكن الجميلة على شاطئ البُحيرة.»
«لا يا سيدي. لا أريد شاطئ بحيرة. سيُذكِّرني بقضبان السِّكَك الحديدية في ليك شور حين كان هادئًا، وبشاطئ لونج برانش حين كان وعرًا. لا يا سيدي، الغابة ثمَّ الغابة ولا شيء سواها. لقد استأجرتُ خيمة والعديد من أدوات الطَّهي. سآخُذ تلك الخيمة إلى كندا غدًا، وبعد ذلك أقترح أن نستأجر رجلًا ذا عربة بحصانين ليَنقلَها إلى مكانٍ ما في الغابة، على بُعد خمسة عشر أو عشرين ميلًا. يجب أن نكون على مقربةٍ من بيت ريفي، كي نَستطيع الحصول على منتجات طازجة من زبد وحليب وبيض. صحيحٌ أنَّ هذا سوف يُعكِّر صفو الإجازة بالطبع، لكني سأُحاول الاقتراب من شخصٍ لم يَسمع قطُّ عن نيويورك.»
«قد تُواجه بعض الصعوبة في تحقيق ذلك.»
«لا أعرف. أعلِّق آمالًا كبيرة على قلة الذكاء لدى الكنديين.»
قال البروفيسور ببطء: «غالبًا ما يكون أضيق الناس أفُقًا وثقافة هم أولئك الذين يظنُّون أنفسهم الأكثر إلمامًا بالثقافات المختلفة.»
صاح ييتس، بعدما قلَّب ذلك التعليق في ذهنه قليلًا ورأى أنَّ لا شيء فيه ينطبق عليه، قائلًا: «أنت محق. حسنًا، لقد خزَّنت حوالي نصف طنٍّ من التبغ، واشتريت جرَّة فارغة.»
«فارغة؟»
«نعم. فمن بين الأشياء القليلة التي تَستحِق الاقتناء لدى الكنديِّين الويسكي الفاخر. وإلى جانب ذلك، فالجرة الفارغة ستُوفِّر علينا العناء في الجمارك. لا أظن أنَّ ويسكي الجاودار المُقطَّر الكندي سيكون جيدًا كنَظيرِه في كنتاكي، لكنَّنا سنُضطر، نحن الاثنان، أن نتعايش معه لبعض الوقت. وبمناسبة الحديث عن الويسكي، فلتضغَط الزر مرةً أخرى.»
ضغط البروفيسور على الزر قائلًا:
«أعتقد أنَّ الطبيب لم يذكر أي تعليق عن الإقلال من شرب الخمر أو التدخين، أليس كذلك؟»
«في حالتي؟ حسنًا، تذكرت الآن أنَّنا تحاوَرْنا بشأن هذا الموضوع. لا أتذكَّر حاليًّا ما أسفر عنه حوارنا في النهاية، لكن الأطباء كلهم لديهم بدعهم التافهة كما تعرف. ليس من المُستحسَن أن تجاريهم أكثر مما يَنبغي. أيها الصبي، ها أنتَ ذا مُجدَّدًا. حسنًا، البروفيسور يريد شرابًا آخر. فلتُحضِر شراب جِن فوَّارًا هذه المرة، وضَع الكثير من الثلج، ولكن لا تَغفُل عن إضافة الجِن إلى الحساب. بكل تأكيد، أضِفْه إلى حساب الغرفة رقم ٥١٨.»