الفصل الحادي والعشرون
رفض ييتس بكلِّ إصرار التخلِّي عن سعيه إلى الراحة والهدوء بالرغم من مشقَّة العيش في خيمة مثقوبة ومُمزقة من كثرة الرصاصات التي اخترقتها. وأعرب عن ندمِه على أنَّه لم يُخيِّم من البداية في وسط برودواي، معتبرًا إيَّاه مكانًا أهدأ وأقل اضطرابًا من المكان الذي اختارَه، ولكن أما وقد كان هذا اختياره، فقد قرَّر أن يبقى حتى النهاية. أمَّا رينمارك، فكان قد ابتعد شيئًا فشيئًا عمَّا ينبغي أن يكون عليه الرفيق. فكان صامتًا ومتجهِّمًا مثل هيرام بارتليت نفسه تقريبًا. وحين كان ييتس يُحاول أن يُسرِّي عنه بأن يُوضِّح له أنَّ وضعه أفضل بكثير من وضع ييتس نفسه، عادة ما كان رينمارك يُنهي الحديث بالخروج إلى الغابة.
كان ييتس يقول له: «كلُّ ما عليك أن تفكِّر في وضعي. فها أنا ذا أموت عشقًا في حب فتاتَين جميلتَين، وكلتاهما تنتظر منِّي مجرَّد كلمة. لقد كدت أُلزِم نفسي بالارتباط بإحداهما، وهذه الحقيقة تَجعل رجلًا بطباعي يميل بعض الشيء إلى الأخرى. ها أنا ذا متلهِّف بشدة إلى أن أعهد لك بأسراري ومُشكلاتي، لكني أشعر بأنَّك قد تتشاجَر معي كلما حدثتك عن تعقُّد موقفي. ليس لديك أي تعاطُف معي يا ريني في الوقت الذي أحتاج فيه إلى التعاطُف، في حين أنني أفيض تعاطفًا معك وأنت لا تَملِك ذرة منه. والآن، ماذا كنتَ ستَفعل لو كنت عالقًا في ورطتي؟ إذا أخذتَ من وقتك خمس دقائق وأوضحت لي أيًّا من الفتاتَين يَنبغي أن أتزوَّج، فسيُساعدني ذلك كثيرًا؛ لأنني سأكون متيقنًا حينئذٍ من الاستقرار على الأخرى. فالتردُّد هو ما يستنزف حيويتي استنزافًا بطيئًا لكنَّه مستمر.»
بحلول هذا الوقت، يكون رينمارك قد أنزل قبَّعته اللبادية اللينة على عينَيه، ثم يُتمتِم بكلماتٍ كانت لتُصدِر أصداء غريبة لو قيلت في القاعات الصامتة في مبنى الجامعة، ويغُوص في أغوار الغابة. وعادة ما كان ييتس يراقب هيئة صديقه المُبتعد عن الخيمة بتعجُّب طفيف ولكن دون غضب.
كان يقول متنهدًا: «حسنًا، إنه الأسوأ من بين كل الأشخاص غريبي الأطوار ذوي المزاج السيِّئ. من المحزن أن يرى المرء معبد الصداقة يتهدَّم من حوله هكذا.» وفي حديثهما الأخير من هذا النوع، قرَّر ييتس ألَّا يُناقش المشكلة مرةً أخرى مع البروفيسور، ما لم تَحدُث أزمة. وقد حدثت الأزمة مُتجسَّدة في صورة ستوليكر، الذي جاء إلى ييتس حين كان ذلك الأخير مُستلقيًا في الأرجوحة الشبكية يُدخِّن ويستمتع برواية رومانسية مُثيرة. كان العديد من هذه الكتب الأخَّاذة ذات الأَغلفة الورقية مُتناثرًا على أرض المخيم، وكان ييتس قد قرأ الكثير منها على أمل أن يصادف حالةً مشابهة لحالته، لكنَّه لم ينل مبتغاه حتى وقت مجيء ستوليكر.
«مرحبًا يا ستوليكر! كيف الأحوال؟ أتحمِل الأصفاد في جيبك؟ هل تُريد أن تذهب في جولة أخرى معي عبر البلدة؟»
«لا. بل جئت لأحذرك. ستَصدُر مذكرة رسمية باعتقالك غدًا أو بعد غد، ولو كنت مكانك، لانتقلت إلى الجانب الآخر من الحدود، ولكن يجب ألَّا تقول أبدًا إنني أخبرتُك بذلك. بالطبع إذا سلَّموني المذكرة فسأُضطرُّ إلى اعتقالك، ومع أنَّك قد لا يَطالُك أي ضرر في نهاية المطاف، فما زال البلد في حالة اضطراب، وقد تتعرَّض لبعض المُضايقة على الأقل.»
صاح ييتس وهو يقفز من الأرجوحة: «ستوليكر، أنت رجل نقيُّ السريرة! إنَّك شخص طيب يا ستوليكر، وأنا في غاية الامتِنان لك. إذا أتيت يومًا إلى نيويورك، فلتَزُرني في مكتب «أرجوس» — أيُّ شخص سيُرشدُك إلى مكانه — وسوف أمنحك أمتع وقت ستقضيه في حياتك. ومن دون أن يُكلفك ذلك سنتًا واحدًا أيضًا.»
قال الشرطي: «حسنًا. والآن، لو كنت مكانك، لغادرت غدًا على أقصى تقدير.»
قال ييتس: «سأفعل.»
ثم غادر ستوليكر إلى أن اختفى بهدوء وسط الأشجار، وفكَّر ييتس لحظة ثمَّ شرع بهمة في حزم أمتعته. حلَّ عليه الظلام قبل أن يَنتهي، وعاد رينمارك.
صاح المراسل بابتهاج قائلًا: «ستيلي، ستَصدر مذكرة رسمية باعتقالي. يجب أن أرحل غدًا على أقصى تقدير!»
صاح صديقه مذعورًا وقد انتابه تأنيب الضمير حين حانت لحظة الفراق؛ لأنَّه لم يكن لطيفًا مع رفيقه القديم: «ماذا! إلى السجن؟».
«لا، على حدِّ علمي. بل إلى بافالو، التي لا تختلف كثيرًا عن السجن. ومع ذلك، حمدًا للرب على أنني لن أضطرَّ إلى المُكوث هناك طويلًا. سأذهب إلى نيويورك قبل مرور عدة أيام أخرى من عمري. أتوق إلى الغوص بكلِّ ما أُوتيت من همة في غمار ميدان العمل مرةً أخرى. فالطمأنينة الساكنة الهادئة التي غمرتني بها هذه الإجازة كلها جعلتْني أشتاق إلى الإثارة مجددًا، ويُسعدني أنَّ مذكرة الاعتقال قد دفعت بي في خضم الاضطرابات.»
«حسنًا يا ريتشارد، يؤسفني اضطرارك إلى الرحيل في مثل هذه الظروف. ويُؤسفني أنني لم أكن رفيقًا حسن المعشر كالذي كنتَ تَستحقُّه.»
«أوه، أنت شخص جيد يا ريني. مشكلتك الوحيدة أنَّك رسمت دائرة صغيرة حول جامعة تورنتو، وقلت لنفسك: «هذا هو العالم.» لكنَّها ليست كذلك، كما تعلم. توجد أشياء جديرة بالاهتمام خارج كل هذه الدائرة.»
«لا شك أنَّ كل شخص لديه دائرته الصغيرة. ودائرتك مرسومة حول مكتب «أرجوس».»
«نعم، ولكن توجد أسلاك خاصة مُمتدة من هذه الدائرة الصغيرة إلى بقية أنحاء العالم، وسيمتدُّ منها كابل عبر المحيط الأطلسي قريبًا.»
«لا أعتقد أنَّ دائرتي كبيرة كدائرتك، ومع ذلك توجد أشياء جديرة بالاهتمام خارج نيويورك نفسها حتى.»
«بالتأكيد، والآن، وقد صرتَ أكثر تعاطُفًا معي، هذا ما أريد أن أحدِّثك عنه. هاتان الفتاتان خارج دائرتي الصغيرة، وأريد ضمَّ إحداهما إليها. والآن يا رينمارك، أيَّ الفتاتين كنت ستَختار لو كنتَ مكاني؟»
أخذ االبروفيسور شهيقًا حادًّا، وسكَت لحظة. ثم قال أخيرًا مُتحدثًا ببطء:
«يؤسفني يا سيد ييتس أنَّك لا تُقدِّر وجهة نظري تمامًا. ولأنَّك ربما تظن أني قد تصرَّفت بطريقة غير ودية، فسأُحاول للمرة الأولى والأخيرة شرح ذلك. أعتقد أنَّ أيَّ رجلٍ يتزوَّج امرأة صالحة ينال بذلك أكثر ممَّا يستحق، بصرف النظر عن مدى جدارته. فأنا أكِنُّ احترامًا عميقًا لكل النساء، وأرى أنَّ حديثك باستِخفاف عن الاختيار بين اثنتَين إهانة لكلتيهما. أرى أنَّ كلتيهما أفضل بكثير مما تَستحق، أو ما أستحقه أنا أيضًا.»
«أوه، أترى ذلك حقًّا؟ ربما تظنُّ أنَّك ستكون زوجًا أفضل منِّي بكثير. إذا كان الأمر كذلك، فاسمح لي بأن أخبرك بأنك مخطئ تمامًا. فإذا كانت زوجتك حسَّاسة، فستقتلُها بنوبات تجهُّمك وكآبتك. أمَّا أنا، فلن أنصرف إلى الغابة وألتزم الصمت الكئيب، على أيِّ حال.»
«إذا كنتَ تقصدُني، فسأَزيدُك من الشعر بيتًا وأقول لك إنني كنتُ مُضطرًّا إمَّا إلى الانصراف إلى الغابة أو طرحك أرضًا. لقد اخترتُ أخفَّ الضررين.»
«أتعتقد أنَّك كنت تقدر على ذلك حقًّا؟ أنت مغرور يا ريني. لستَ أول رجل يَرتكِب خطأ كهذا ويكتشف أنَّه اختار الشخص الخطأ بعدما يفوت أوان حصوله على أيِّ شيء عدا الضَّمادات ومُسكِّن الآلام.»
«كنت أحاول أن أوضح لك ماهية شعوري حيال هذه المسألة. ربما كان عليَّ أن أدركَ أنِّي لن أنجَح في ذلك. سنُنهي النقاش إذا سمحت.»
«أوه لا. لقد بدأ النقاش للتو. والآن، سأُخبرك بما تحتاج إليه يا ريني. أنت في أمسِّ الحاجة من أي رجل أعرفه إلى زوجة صالحة راشدة. لم يفُت أوان إنقاذِك بعد، لكنه سيَفُوت قريبًا. ستنمو عليك، عمَّا قريب، قشرة كالحلزون أو السَّلطعُون أو أي حيوان آخر من ذوات الدم البارد التي لديها صدفة تحيط بها. وحينئذٍ لن يكون ثمة شيء يُمكن فعله لإنقاذك. والآن، دعني أنقذك يا ريني قبل فوات الأوان. هاك اقتراحي: اختَر واحدةً من هاتين الفتاتين وتزوَّجْها. وسآخذ أنا الأخرى. وهذا لا يَعني أنِّي أُوثرك على نفسي كما قد يبدو؛ لأنَّ اختيارَك سيوفِّر عليَّ حيرةَ حسم قراري بنفسي. وحسب كلامك، فكلتا الفتاتين أفضل ممَّا تَستحِق، ولأول مرةٍ أتَّفق معك تمامًا. ولكن دعنا نتجاهَل ذلك. والآن، أيهما ستختار؟»
«سحقًا يا رجل! أتظن أنِّي سأَعقِد معك صفقة على زوجتي المستقبلية؟»
«نعم يا ريني. أحب سماعك تتفوَّه بألفاظٍ نابية. فهذا يُظهِر أنَّك لست الخلوق المتزمِّت الذي تريد من الناس أن يعتقدوك إيَّاه. ما زال الأمل في إنقاذك قائمًا أيها البروفيسور. والآن، سأذهب معك إلى أبعد من ذلك. مع أنَّني لا أستطيع الاستقرار على الفتاة الأنسب لي، أستطيع تحديد الفتاة الأنسب لك فورًا، وبذلك نضرب عصفورين بحجر واحد. أنت تحتاج إلى زوجةٍ تطويك تحت جناحها. تحتاج إلى زوجةٍ لا تتحمَّل نوبات غضبك، وتكون مرحة، وتجعل منك رجلًا. إذن، كيتي بارتليت هي الفتاة الأنسب. ستفرض سيطرتها عليك كما تُسيطِر أمها على الرجل العجوز. ستجعل البيت مثاليًّا، وتسعد بإعدادِ ألذِّ المأكولات لك. عجبًا، لقد صار كل شيء واضحًا تمامًا. وهذا يُبيِّن فائدة مُناقشة أي شيء. تزوَّج كيتي، وسأتزوَّج أنا مارجريت. هيا، لنتصافح بمناسبة اتفاقنا على هذا.» رفع ييتس يده اليُمنى استعدادًا لصَفعِها على راحة يد البروفيسور، لكنَّه لم يتجاوب معه. فأنزل ييتس يده إلى جواره مرةً أخرى، لكنَّه لم يَفقِد حماسه لاقتراحه. فكلما فكَّر فيه، بدا له أنسب.
«مارجريت فتاة راشدة هادئة رزينة؛ لذا ستكون الزوجة الأنسب لي لو كنتُ شخصًا تافهًا كما تقول. في شخصيتي أعماق لم تَخطر ببالك يا رينماك.»
«أوه، أنت عميق.»
«أعترفُ بذلك. حسنًا، من المؤكَّد أنَّ امرأة طيبة متَّزنة ستُخرِج أفضل ما بداخلي. والآن، ما قولك يا ريني؟»
«لا أقول شيئًا. سأَنصرِف إلى الغابة مرةً أخرى، مع أنَّها صارَت مُظلمة.»
قال ييتس متنهِّدًا: «أوه، حسنًا، من المُستحيل فعْل شيءٍ معك أو من أجلك. لقد بذلتُ كلَّ ما بوسعي، وهذا عزائي الوحيد. لا تذهب. سأَترك القدر يُقرِّر. حان وقت إجراء قُرعة بالعملة المعدنية.»
سحب ييتس نصف دولار فضيٍّ من جيبِه. ثم صاح قائلًا: «إذا ظهر الوجه ذو الصورة، فسأختار مارجريت!» فقبض رينمارك يده وتقدَّم خطوة ليَضربه، ثم كبحَ جماح نفسه متذكرًا أنَّ هذه هي آخر ليلة له مع الرجل الذي كان صديقه يومًا ما على الأقل.
أدار ييتس العملة في الهواء بابتهاج، ثمَّ أمسكها بيدٍ واحدة وصفع اليد الأخرى عليها.
«والآن، حانت لحظة التحوُّل في حياة كائنَين بريئين.» رفع اليد التي كانت تُغطِّي العُملة، وحدَّق إليها في الظلام المتزايد. «الوجه ذو الصورة. ستُصبح مارجريت هوارد السيدة ريتشارد ييتس. فلتُهنئني يا بروفيسور.»
وقف رينمارك بلا حراك كتمثال، مُجسِّدًا مثالًا عمليًّا لرباطة الجأش. فيما اعتمر ييتس قبعته بمزيد من المرح، ووضع في جيب بنطاله العملة المعدنية الفارقة في مصيره.
ثم قال: «وداعًا أيها العجوز. سألقاكَ لاحقًا وأخبرك بكل التفاصيل.»
ومن دون أن يَنتظِر ييتس الجواب؛ لأنَّه ربما كان يعلم أن لا جدوى من التأخُّر، سار نحو السياج وقفَز من فوقه واضعًا إحدى يدَيه على العارضة العلوية. أمَّا رينمارك، فوقف ساكنًا بضع دقائق، ثم جمع بعض الشجيرات السُّفلية والعصي الكبيرة والصغيرة في صمتٍ، وأضرم بعض النيران وجلس أمامها على جذع شجرة مَقطوع دافنًا رأسه بين يديه.