الفصل الثاني والعشرون
سار ييتس مُبتهجًا على الطريق وهو يُصفِّر لحنَ أغنية «لمسَ جيتاره ببهجة.» ربما لا توجد لحظة في حياة الرجل يكون فيها أعمق شعورًا ببهجة الحياة من اللحظة التي يَذهب فيها إلى فتاة لعرض الزواج عليها وهو متيقِّن بدرجة كبيرة من موافقتِها، إلَّا إذا كان في هذه اللحظة يهجر حبيبة أخرى مقبولة لقلبه. كان شيء من السحر كامنًا في تلك الليلة، التي كانت واحدة من ليالي يُونيو، بظلامها الناعم المخملي وهوائها اللطيف العذب المحمَّل بعطور الغابة والحقل. وقد ألقى سحر تلك الساعة تعويذته الفاتنة على الشاب، فقرَّر أن يَحيا حياةً أفضل، وأن يكون جديرًا بالفتاة التي اختارها، أو التي اختارها له القدر بالأحرى. توقَّف لحظةً متكئًا على السياج بالقرب من ضيعة آل هوارد؛ لأنَّه لم يكن قد استقرَّ على تفاصيل اللقاء في قرارة ذهنه بعد. قرَّر ألَّا يدخل؛ لأنَّه كان يعلم أنه سيُضطرُّ حينئذٍ إلى التحدث، ربما لساعات، إلى الجميع باستثناء الفتاة التي كان يَبتغي لقاءها. وإذا أعلن مجيئه وطلب لقاء مارجريت وحدها، كان بذلك سيُحرجها وهما لا يزالان في البداية. كان ييتس بطبيعته أكثر لباقة من أن يَستهلَّ حواره معها ببداية خرقاء كهذه. وبينما كان يقف هناك، مُمنِّيًا نفسه بمُصادفة تُخرجها من البيت، ظهر ضوء في النافذة البابية للغرفة التي كان يَعرف أنَّ الفتى الذي يتماثل للشفاء راقدٌ فيها. وشكَّل ظل مارجريت خيالًا على الستارة. فالتقط ييتس حَفنة من الرمل ورماها برفق على لوح النافذة الزجاجي. من الواضح أنَّ صوت طقطقة الرمال الخافت قد جذَبَ انتباه الفتاة؛ لأنَّ النافذة فُتحت بحرص، بعد سكوتٍ لحظيٍّ، وخرجت منها مارجريت بسرعة وأغلقتْها ثمَّ وقفت هناك في هدوء تام.
قال ييتس هامسًا بصوت مسموع بالكاد: «مارجريت.»
فتقدَّمت الفتاة نحو السياج.
وهمست بدورها قائلة: «أهذا أنت؟» بتشديدٍ على الكلمة الأخيرة أثار ييتس. فقد بدا أنَّ هذا التشديد يقول بوضوحٍ تمامًا كالكلام إنَّ هذه الكلمة تُشير إلى حبيبها الوحيد على وجه الأرض.
فأجاب ييتس وهو يقفز من فوق السياج ويدنو منها: «نعم.»
صاحت مارجريت وهي تَنتفِض متراجعة: «أوه!» ثمَّ تمالكت نفسها وقالت بسكتة لحظية في كلامها: «لقد … لقد أفزعتني … يا سيد ييتس.»
«لا تُناديني بالسيد ييتس بعد الآن يا مارجريت، بل قولي ديك. مارجريت، لقد أردت لقاءك على انفراد. وتعرفين سبب مجيئي.» حاول الإمساك بيديها، لكنَّها وضعتهما خلفها بإصرار، وبدا أنها تريد الانصراف وإن ظلَّت واقفة في مكانها.
«مارجريت، لا شكَّ أنَّكِ ترَين حالي منذ فترة طويلة. أنا أُحبُّك يا مارجريت، بكلِّ إخلاص وصدق. ويكأنني كنت أحبك طوال حياتي. من المؤكَّد أنِّي أحببتُكِ منذ أول يوم رأيتك فيه.»
«أوه، سيد ييتس، يجب ألَّا تُحادثني هكذا.»
«وأنَّى لي بطريقة أخرى أحادثك بها يا حبيبتي؟ من المستحيل أن يكون ذلك قد فاجأك يا مارجريت. فلا بد أنَّك تَعرفينَه منذ وقت طويل.»
«لم أكن أعرف، بالطبع لم أكن أعرف … إذا كنتَ جادًّا فيما تقول حقًّا.»
«جادًّا في ذلك؟ لم أكن جادًّا في أيِّ شيء قط كجديتي في ذلك. فذلك كل ما أبتغيه، ولا يُهمني شيء سواه. أعترف بأنني تسكَّعت كثيرًا في أرجاء العالم وخضت تجاربَ عديدة، لكنِّي لم أقع في الحب من قبل، ولم أعرف معنى الحب قَط إلى أن التقيتك. صدِّقيني إنَّ …»
«من فضلك، من فضلك، لا تقل أيَّ شيء آخر يا سيد ييتس. إذا كان ذلك صحيحًا حقًّا، فلا أستطيع أن أخبرك بمدى أسفي. أرجو ألَّا يكون شيءٌ مما قلتُ أو فعلتُ قد جعلك تعتقد أنَّ … أنَّ … أوه، لا أعرف ماذا أقول! لم أظنَّ قَط أنَّك من المُمكن أن تأخذ أي شيء على محمَل الجد.»
«مستحيلٌ أن تكوني قد أسأتِ الظن بي إلى هذا الحد يا مارجريت. لقد أساءه الآخرون، لكني لم أتوقَّع ذلك منكِ. أنتِ أفضل منِّي بكثير. ولا أحد يعرف ذلك جيدًا كما أعرفه. لا أدَّعي أني جدير بكِ، لكني سأكون زَوجًا مخلصًا لكِ.» وأردف ييتس بجدية مُنتحلًا كلام رينمارك: «صحيح أنَّ أي رجل يحظى بحب امرأة صالحة ينال بذلك أكثر مما يستحق، ولكن المؤكَّد أنَّي لا أمنحكِ حبًّا كحُبِّي لمجرد أن تدوسيه تحت قدميكِ بازدراء.»
«لا أعامل ﺣُﺒ… لا أعاملك بازدراء. كلُّ ما أشعر به هو الأسف إذا كان كلامك حقيقيًّا.»
«لماذا تقولين إذا كان حقيقيًّا؟ ألا تَعرفين أنه حقيقي.»
«إذن، فأنا آسفة جدًّا … آسفة جدًّا جدًّا، وأرجو ألَّا يكون لي ذنب في ذلك. لكنك ستَنساني قريبًا. حين تعود إلى نيويورك …»
قال الشاب بمرارة: «مارجريت، لن أنساكِ أبدًا. فكِّري فيما تفعلينه قبل فوات الأوان. فكِّري في مدى أهمية ذلك لي ومدى تأثُّري به. إذا استقررتِ في النهاية على رفضي، فستُدمرين حياتي. فأنا من الرجال الذين يُمكِن لامرأة أن تُصلحَ حياتَهم أو تفسدها. لذا أتوسل إليكِ ألَّا تفسدي حياة الرجل الذي يُحبك.»
صاحت مارجريت بغضب مفاجئ قائلة: «لستُ مبعوثة في مهمَّة دينية. وإذا دُمِّرَت حياتك، فسيكون ذلك بسبب حماقتك، وليس بسبب أيٍّ من أفعالي. أرى أنَّ قولك إني مَن سأتحمل مسئولية ذلك جبنٌ منك. لا أريد التأثير في مُستقبَلك بطريقة أو بأخرى.»
سألها ييتس بعتاب رقيق: «ليس إلى الأبد يا مارجريت؟».
«لا، بل إلى الأبد. فالرجل الذي يَعتمِد سلوكه الجيد أو السيِّئ على أي أحد سواه ليس هو الرجل المثالي الذي أتمنَّاه.»
«فلتُخبريني إذن بسمات الرجل الذي تتمنَّيْن إيَّاه، لعلَّني أحاول اكتسابها.»
التزمت مارجريت الصمت.
«أتظنين أنَّ محاولاتي لن تَنفعني بشيء؟»
«في رأيي، نعم.»
«أريد أن أسألك سؤالًا آخر يا مارجريت. ليس من حقِّي أن أسأله، لكنِّي أتوسل إليك أن تجيبيني. أأنتِ واقعة في حب شخص آخر؟»
صاحت مارجريت بانفعال غاضب قائلة: «لا! كيف تَجرُؤ على أن تسألني سؤالًا كهذا.»
«أوه، هذه ليست جريمة؛ أقصد أنَّ الوقوع في حب شخص آخر ليس كذلك. سأُخبرُك بالسبب الذي جرأني على هذا السؤال. أقسم بكل الآلهة أنِّي سأفوز بكِ، إن لم يكن في العام الحالي، فسيكون في العام القادم إذن، وإن لم يكن القادم، فالذي يَليه. لقد كان جُبنًا مني أن أقول ما قُلته، لكني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك آنذاك حتَّى. وكل ما أريد معرفته أنك لا تحبِّين رجلًا آخر.»
«أرى أنَّك شديد القسوة في إلحاحك هكذا، في حين أنَّك قد عرفت الإجابة. لقد قلت لا. كلا ألبتَّة! أبدًا! … لا العام الحالي ولا أي عام آخر. ألا يكفي ذلك؟»
«لا يكفيني. فكلمة «لا» من المرأة قد تعني «نعم» في النهاية.»
أجابت مارجريت وهي تَنصب قامتها كأنَّها تَهم بأداء غطسة أخيرة: «هذا صحيح يا سيد ييتس. هل تتذكر السؤال الذي سألته لي الآن؟ عمَّا إذا كنت معجبة بشخص آخر؟ لقد قلت «لا». تلك اﻟ «لا» كانت تعني «نعم».»
كان يقف بينها وبين النافذة؛ لذا لم تَستطِع الهرب بالطريقة التي جاءت بها. رأى أنَّها تفكر في الهرب، وبدا كأنَّه سيَعترضها، لكنها كانت أسرع من رد فعله. ركضت حول المنزل، ثم سمعَ بابًا يُفتَح ويُغلَق.
عرف أنَّ مسعاه قد خاب. فاستدار في إحباط نحو السياج، وتسلَّقَه ببطء من حيث قفز من فوقه بخفَّة شديدة قبل بضع دقائق، وسار على الطريق لاعنًا قِسمتَه ونصيبَه. ومع أنَّه اعترف لها بأنَّ كلامه عن تحطُّم حياته كان جُبنًا منه، فقد عرف في هذه اللحظة أنَّ كل كلمة قالها كانت صحيحة. فما الذي يحمله المستقبل له؟ ولا حتى حافز للعيش. وجد نفسه يسير صوب الخيمة، لكنَّه لم يكن يُريد لقاء رينمارك بحالته النفسية الحالية، فاستدار وخرج إلى طريق ريدج. كان مُتعبًا ومحطمًا، وقرَّر البقاء في المخيم إلى أن يعتقلوه. لعلها تُشفق عليه بعض الشيء حينئذٍ. مَن ذاك الرجل الآخر الذي تحبه؟ أم إنَّها قالت ذلك لمجرد أن تجعل رفضها نهائيًّا؟ وفي ظل حالة ييتس النفسية آنذاك، افترض الأسوأ، وتخيَّلها زوجة لأحد المزارعين من جيرانهم … وربما ستوليكر حتى. قال لنفسه إنَّ هؤلاء الفتيات الريفيات لم يؤمِنَّ قَط بأنَّ الرجل يستحق الإعجاب إلَّا إذا كان يَملك مزرعة. فعزم في قرارة نفسه على أن يدخر أمواله ويشتري أراضي الحي كله، وحينئذٍ ستُدرِك أيَّ رجل قد أضاعت من يديها. تسلَّق السياج ذا العوارض الأفقية المحاذي للطريق، وجلس على العارضة العُلوية ساندًا كعبَيه على عارضة سُفلية، كي يتسنَّى له الاستمتاع ببؤسه دون تعب المشْي. تصوَّر نفسه في خياله الخصب وقد صار يَملك مساحة كبيرة من ذلك الجزء من البلاد في غضون سنوات قليلة، مع امتلاك رهون عقارية على جزء كبير من المساحة المتبقية، يَشمل المزرعة المملوكة لزوج مارجريت. تصوَّرها الآن وهي زوجة مُزارِع ذابلة تأتي إليه متوسِّلة أن يمد مُهلة سداد الدَّين الذي تبلغ فائدته سبعة في المائة. كان يعرف أنَّه سيتصرَّف بشهامة في موقفٍ كهذا، ويوافق بسموٍّ مُبهِر على منح زوجها كل الوقت المطلوب. لعلها تدرك حينئذٍ الخطأ الذي ارتكبته. أو ربما ستكون الشهرة سبيله وليس الثروة. سوف يرنُّ اسمه في كل أرجاء البلاد. فربما يُصبح سياسيًّا بارزًا، ويُفلِس كندا بقانون تعريفة جمركية صارم. لم يَخطر بباله في هذه اللحظة ظُلم تعريض كل الأبرياء للمعاناة بسبب تصرف طائش من فتاة منهم؛ لأنه كان مُهانًا وجريحًا. لا مرارة أشد من تلك التي تظل تَفتِك برجلٍ رفضته الفتاة التي يعشقها ما دامت قائمة. هامت عيناه ناحية الكتلة السوداء التي شكَّلها بيت آل هوارد. كان البيت مُظلمًا كأفكاره. ثم التفت ببطء ورأى وميضًا خافتًا على الطريق من ضوءٍ مُرتعِش صادر من نافذة غرفة الجلوس في بيت آل بارتليت، فبدا له ذلك بارقة من الأمل. ومع أنه شعر بأن الزمن قد توقَّف بعد ما حدث، كان مُقتنعًا بأن الوقت ليس متأخرًا للغاية، وإلا لذهب آل بارتليت للنوم. من الصعب دائمًا على المرء إدراك أنَّ أبشعَ الكَوارث عادةً ما تَنتهي في بضع دقائق. بدا وكأنَّ دهرًا قد انقضى منذ أن غادَرَ الخيمة مفعمًا بالتفاؤل. وحين نظر إلى الضوء، خطر بباله أنَّ كيتي ربما تكون وحدها في غرفة الجلوس. على الأقل ما كانت لتُعاملَه بمثل ذلك السوء الذي عاملته به الفتاة الأخرى، و… وكانت حسناء أيضًا بالمناسبة. فطالما كان يُفضِّل الشقراوات على السمراوات.
لا يُعَد السياج ذو العوارض الأفقية مقعدًا مريحًا. بل يُستخدَم في بعض أجزاء البلدة ليُرسِّخ لدى الجالس عليه حقيقةَ ما يُسبِّبُه من مشقَّة شديدة، وليكون تلميحًا لطيفًا إلى أنَّ وجود هذا الجالس في هذا الجوار المُلاصِق غير مرغوب فيه. فطَن ييتس إلى ذلك بابتسامة وهو يَنزل مُنزلقًا من على السياج ويتعثَّر في مصرف المياه المُحاذي للطريق. كان باله منشغلًا جدًّا إلى حدٍّ أنساه المصرف تمامًا. وبينما كان يسير على الطريق نحو بارقة الأمل التي أرشدتْه وسط التيه، تذكَّر أنَّه قد تهور وعَرَض كيتي على البروفيسور القاسي القلب. ولكن في كل الأحوال، لم يكن أحد يعرف بالواقعة التي حدثت قبل لحظات إلَّا هو ومارجريت، وكان على قناعة بأنَّ مارجريت ليست بالفتاة التي تَتباهى بالرجال الذين استحوذت على قلوبهم. وعلى أي حال، لم يكن ما حدث مهمًّا. فالرجل سيد نفسه بالطبع.
حين دنا من النافذة، نظر إلى الداخل. فمِن عادة أهل الريف أنَّهم لا يهتمُّون كثيرًا بإسدال أستار نوافذهم. اعتراه بعض الإحباط حين رأى السيدة بارتليت جالسة هناك تَحيك باجتهادها المعتاد. ومع ذلك، كان عزاؤه أنَّه لم يلاحظ وجودَ أيٍّ من رجال الأسرة، وأنَّ كيتي كانت جالسة وشعرها المنفوش يغطي نصف وجهها وهي تقرأ كتابًا كان قد أعارها إيَّاه. طرق الباب، وفتحته السيدة بارتليت بشيء من الدهشة.
«يا إلهي! أهذا أنت يا سيد ييتس؟»
«نعم.»
«تفضَّل بالدخول. عجبًا، ما خطبك؟ تبدو وكأنَّك قد فقدت أعزَّ أصدقائك. آه، فهمتُ الأمرَ» — وهنا انتفض ييتس من القلق — «لقد نفدَ زادُك، ومن المؤكَّد أنك جائع كالدب.»
«لقد أصبتِ عين الحقيقة من المحاولة الأولى يا سيدة بارتليت. جئتُ لأرى إن كان بإمكاني استعارة رغيف خبز. فنحن لن نخبز قبل الغد.»
ضحكت السيدة بارتليت.
«سيكون خَبزكما طيِّبًا إذا جربتماه. سأُحضر لك رغيفًا في الحال. أأنت متيقن من أنَّ واحدًا سيكفي؟»
«سيكفي وزيادة، شكرًا لكِ.»
خرجت المرأة الطيبة مُسرِعة إلى الغرفة الأخرى لإحضار الرغيف، واستغلَّ ييتس غيابها المؤقت.
همس قائلًا: «كيتي، أريد لقاءك على انفراد بضع دقائق. سأنتظرك عند البوابة. هل بوسعك التسلل إلى الخارج؟»
احمرَّ وجه كيتي بشدة من الخجل، وأومأت بالإيجاب.
«لديهم مذكِّرة رسمية باعتقالي، وسأرحل غدًا قبل أن يَستطيعوا تنفيذها. لكني لم أستطِع الرحيل دون لقائك. سوف تأتين بالتأكيد، أليس كذلك؟»
أومأت كيتي بالإيجاب مجددًا بعدما نظرت إليه بقلق حين تحدَّثَ عن مذكرة الاعتقال. وقبل أن يُقال أي شيء آخر، دخلت السيدة بارتليت واستغرقت كيتي في كتابها.
«ألن تأكُلَ شيئًا الآن قبل أن تعود؟»
«أوه، لا، شكرًا لك يا سيدة بارتليت. كما ترين، فالبروفيسور ينتظرني.»
«دعه ينتظر، إذا لم يكن حكيمًا كفاية ليأتي.»
«ليس كذلك بالفعل. لقد عرضتُ عليه الفرصة.»
«لن يستغرق منَّا إعداد الطاولة دقيقة واحدة. إنه أمر بسيط للغاية.»
«أنتِ في غاية اللطف حقًّا يا سيدة بارتليت. لكني لست جائعًا الآن على الإطلاق. أنا مُنشغل فقط بالتفكير في يوم الغد. لا، عليَّ الذهاب، وشكرًا جزيلًا لكِ.»
قالت السيدة بارتليت وهي تُوصله إلى الباب: «حسنًا، إذا أردت أي شيء، تعالَ إليَّ وسأعطيك إياه إذا كان موجودًا في البيت.»
قال الشاب بشعور صادق: «أنتِ تُعاملينني بطيبة بالغة، ولا أستحق ذلك، لكنِّي قد أذكِّرك بوعدك غدًا.»
رَدَّت قائلة: «فلتحرص على ذلك. طابت ليلتك.»
انتظر ييتس عند البوابة ووضع الرغيف على عمودها، حيث نسيه، ما أدهش السيدة بارتليت بشدة في الصباح. لم يُضطرَّ إلى الانتظار طويلًا؛ إذ جاءته كيتي من حول المنزل تمشي في خجل وتردُّد، كما لو كانت على وشك الإتيان بأخبثِ فعلة منذ بدء الخَلق. فسارع ييتس ليَلقاها ممسكًا بإحدى يديها دون أن تُبدي أيَّ مقاومة.
استهلَّ الكلام قائلًا: «يجب أن أرحل غدًا.»
ردَّت كيتي بصوت هامس: «أنا حزينة جدًّا.»
«آه، لا يُضاهي حزنك نصف حزني يا كيتي. لكنِّي أنوي العودة، إذا سمحتِ لي بذلك. كيتي، هل تتذكَّرين الحوار الذي دار بيننا في المطبخ، حين كنا … حين قُوطِعنا، وحين اضطررتُ إلى الرحيل مع صديقنا ستوليكر؟»
أشارت كيتي إلى أنَّها تتذكر ذلك.
«حسنًا، تعرفين بالطبع ما أردت قوله له آنذاك. وبالطبع تعرفين ما أريد قوله لكِ الآن.»
ولكن بدا أنَّه كان واهمًا بشأن ذلك؛ لأنَّ كيتي لم يكن لديها أدنى فكرة، وأرادت دخول البيت لأنَّ الوقت كان متأخِّرًا ولأنَّ أمها ستُلاحظ غيابها.
«كيتي، يا عزيزتي المخادعة الصغيرة، تَعرفين أنَّي أحبك. لا بد أنَّك تَعرفين أني أهيم بك حبًّا منذ أول يوم رأيتك فيه، حين ضحكتِ عليَّ. كيتي، أودُّ أن تتزوجيني وتَجعلين منِّي إنسانًا ذا قيمة، إذا كان ذلك مُمكنًا. فأنا رجل تافه بلا قيمة، ولست جديرًا على الإطلاق بفتاة صغيرة محبوبة مثلك، ولكن يا كيتي، إذا قُلتِ «نعم» فقط، فسأُحاول، بل وسأبذل كلَّ ما بوسعي، لأكون إنسانًا أفضل ممَّا كنت عليه طوال حياتي.»
لم تقل كيتي «نعم»، لكنها وضعت يدها الطليقة التي كانت دافئة وناعمة على يده، وكان ييتس رجلًا يعرف جيدًا ما ينبغي فعله تاليًا في مثل هذه المواقف. قد يرى الأشخاص العمليُّون أنَّ ذلك شيء مُذهِل؛ لأنَّهم يعتقدُون أن لا داعي إلى إطالة اللقاء ما دام الغرض المرجو منه قد تحقَّق، ومع ذلك بقي الاثنان هناك، وروى لها الكثير عن حياته الماضية، وعن مدى ما كان عليه من وحدة وحقارة خلالها لأنَّه كان بلا أنيس يعتني به، فاغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع. شعرت بالفخر والسعادة لاعتقادها بأنها فازت بأول حبٍّ عظيم في حياة رجل موهوب بارع، وتمنَّت أن تُسعده، وبقدرٍ يعوِّض فراغه العاطفي فيما مضى من حياته. ورجت من أعماق قلبها أن يظلَّ مغرمًا بها دائمًا كما كان آنذاك، وعقدت العزم على أن تكون جديرة به إن استطاعت.
ومن الغريب القول إنَّ رغباتها قد تحققت وزيادة، وإنَّ قلَّة من الزوجات يعشن في سعادة أو فخر بأزواجهن كسعادة كيتي ييتس بزوجها أو فخرها به. وحتى المرأة الوحيدة التي ربما كان بإمكانها أن تعكر صفو حياة كيتي، اكتفَت بتقبيلها قبلةً حانية حين أخبرتها بالبهجة العظيمة التي حلَّت بها، والقول إنها كانت على يقين من أنَّ كيتي ستعيش سعيدة معه، وهكذا قالت مارجريت للمرة الثانية شيئًا عكس شعورها، لكنَّها كانت مخطئة في مَخاوِفِها لأول مرة.
سار ييتس إلى الخيمة مفعمًا بالمجد، تاركًا رغيفَه خلفه على عمود البوابة. لا يُدرك سوى قلة من الناس أنَّ سعادة المرء حين يُحَبُّ تكاد تُضاهي سعادته حين يُحِب. والفعل «يُحِب» يقترن بأشياء كثيرة. لم تكن الأرض التي يدوسها تشبه أي أرض سار عليها من قبل. ولم يكن سحر ليل يونيو بهذا السحر من قبل. سار بخطًى واسعة فيما كان رأسه يُحلِّق بأفكاره وسط السُّحُب، واعتنت به العناية الإلهية التي ترعى السكارى، وضَمِنَت أنَّ الحبيبة المقبولة لم تتأذَّ. قفَزَ من فوق السياج دون أن يستند إليه بيده حتى، وبعدئذٍ سرعان ما هبط إلى أرض الواقع مجددًا برؤية منظر رجل يَجلس دافنًا رأسه بين يديه بجوار نيران أوشكت على الانطفاء.