الفصل الثالث والعشرون
وقف ييتس لحظةً متأملًا حالة صديقه المُحبَطة.
صاح قائلًا: «أيا أيها الرجل العجوز! لم أرَ في حياتي مَن هو أشبه بالمتشائم الذي يشعر باقتراب أجله مثلك. ما الخطب؟»
رفع رينمارك ناظرَيه نحوه.
«أوه، أهذا أنت حقًّا؟»
«بالطبع. أكنت تتوقَّع مجيء أي شخص آخر؟»
«لا. بل كنت أنتظرك، وأفكِّر في عدة أمور مختلفة.»
«تبدو كذلك. حسنًا يا ريني، فلتُهنئني يا فتاي. لقد صارَت لي وصرت لها، وهذان تعبيران مختلفان عن الحقيقة المُبهجة نفسها. أكاد أحلِّق في السماء من السعادة يا ريني. لقد خطبتُ أجمل وأحلى وألذ فتاة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. ما قولُك في ذلك؟ أظن يا رينمارك، أن لا شيء على وجه الأرض يضاهي ذلك. يجب أن تُصلح من نفسك وتقدم على الاستِمتاع بالوقوع في الحب. سيجعل منك رجلًا. فحتى نشوة الشمبانيا لا تقارن بنشوته. هيا انهض وارقص، ولا تقعد هناك مثل دُبٍّ يداوي يده المتألمة. هل تَعي أنَّي سأتزوَّج أحبَّ فتاة في الدنيا؟»
«فليُعِنها الرب!»
«هذا ما أقوله أنا أيضًا. فليُباركها الرب في كل يوم من حياتها! لكنِّي لا أقوله بهذه النَّبرة إطلاقًا يا رينمارك. ما خطبك؟ قد يظن المرء أنَّك واقع في حب الفتاة نفسها، لو كان شيء كهذا مُمكنًا.»
«ولِمَ لا يكون مُمكنًا؟»
«إن كانت هذه أُحجية، أستطيع حلَّها من أول مرة. لأنَّك تقليدي متحجر عَفا عليه الزمن. أنت أشد فضيلة ممَّا يَنبغي يا ريني، لذا فأنت رتيب ومُملٌّ. والآن، لا شيءَ أحبَّ إلى المرأة من إصلاح رجل. لذا دائمًا ما تَنزعج المرأة حين تعرف أنَّ الرجل الذي تُعجَب به له ماضٍ لا تَستطيع أن تفعل شيئًا حياله. أمَّا إذا كان خبيثًا وكان بوسعها أن تُغيِّره تغييرًا جذريًّا نوعًا ما، كأنَّه ثوب قديم، فإنها تَستمتِع بهذه العملية. وتَفتخِر بنفسها إيمانًا منها بأنها تصنع منه رجلًا جديدًا، وتظن أنَّها تَملك هذا الرجل الجديد بحقِّ صُنعه. نحن مَدينون للجنس الآخر يا ريني بإعطائهن فرصة لإصلاحنا. لقد كنتُ أَعرف رجالًا كانوا يكرهون التبغ لكنَّهم بدءوا التدخين لمجرَّد أن يُقلعُوا عنه بسعادة غامرة من أجل النسوة اللواتي أحبوهن. أما لو كان الرجل مثاليًّا من البداية، فما الذي تَستطيع امرأة ملائكية خَدومة عزيزة أن تَفعله معه؟ لا شيءَ بالطبع. ومُشكلتك يا ريني أنَّك مَحكُوم بضمير يقظ ومُدرَّب جيدًا، وكل النساء اللواتي تَلتقيهن يُلاحظن ذلك بديهيًّا بطبيعة الحال، فيَنفرْن منك. فقليل من الخبث من شأنه أن يُحدِث فارقًا إيجابيًّا في شخصيتك.»
«إذن أنت ترى أنَّ الرجل، إذا أوعزت إليه نزعته بفعل شيء منافٍ لمبادئ ضميره، عليه أن يتبع نزعته وليس ضميره؟»
«أنت تصوغ المسألة بجدية لا داعيَ لها. أعتقد أنَّ إطلاق الرجل العنان لرغباته بين الحين والآخر مُفيد له. ولكن إذا راودتك أيُّ نزعة من هذا النوع، أرى أنك يَنبغي أن تَرضخ لها مرَّة، وترى الشعور الذي سيبثه ذلك في نفسك. فالرجل الأشد فضيلة ممَّا يَنبغي يغترُّ بنفسه.»
قال البروفيسور وهو يقوم: «أظنُّك مُحقًّا بعض الشيء يا سيد ييتس. سأعمل بنصيحتِك، وأرى الشعور الذي سيبثُّه ذلك في نَفسي، على حدِّ قولك. فضميري يُخبرُني بأنِّي يَنبغي أن أُهنِّئك وأتمنَّى لك حياة طويلة سَعيدة مع الفتاة التي … لن أقول اخترتَها، ولكن أجريتَ قرعة بالعُملة المعدنية للاستقرار عليها. ولكن على الجانب الآخر، تحثُّني نزعتي الطبيعية على تكسير كل عظمة في جسدك العديم القيمة. اخلَع مِعطفَك يا ييتس.»
«أوه، بالمناسَبة، أنت مجنون يا رينمارك.»
«ربما. فلتَكُن أكثر حذرًا، إذا كنتَ تَعتقدُ ذلك. فالمجنون أحيانًا ما يكون خطِرًا.»
«أوه، إليك عنِّي. أنت تحلم. إنك تتحدث وأنت نائم. ماذا! عِراك؟ والليلة؟ يا للهراء!»
«أتريدُني أن أضربك قبل أن تتأهَّب؟»
«لا يا ريني، لا. فرغباتي مُتواضعة دائمًا. لا أُريد العراك إطلاقًا، لا سيَّما الليلة. قُلت لك إنَّي قد اهتديتُ إلى صراط الصلاح. ولا أُريد توديع حبيبتي بعينٍ مُتورِّمة غدًا.»
«إذن، كُفَّ عن الكلام إن استطعت، ودافع عن نفسِك.»
«مُستحيل أن نتعارَكَ هنا في الظلام. لا تغترَّ بنفسك لحظةً وتتوهَّم أنِّي خائف. لتبدأ التشاجُر الخفيف مع نفسك وتمرينات الإحماء ريثما أُؤجِّج النيران ببعض الحطب. هذا سخيفٌ للغاية.»
جمع ييتس بعض الوقود، وتمكَّن من تأجيج الجمر الذي كان على وشكِ الخُمود.
ثم قال: «أرأيت، هذا أفضل. والآن، دعني أنظر إليك. لماذا تُريد أن تُعاركَني الليلة يا ريني بحقِّ السماء؟»
«أرفض ذكرَ السبب.»
«إذن، فأنا أرفُض خوض العراك. سأركض، وأستطيع أن أسبقك في الركض على الأقدام في أيِّ وقت. عجبًا، أنتَ أسوأ من والِدها. فهو على الأقل قد أخبَرَني لماذا عارَكني.»
«والِد مَن؟»
«والد كيتي بالطبع، حمايَ المُستقبلي. وهذا مأزق آخر في انتظاري. لم أتحدَّث إلى العجوز بعدُ بشأن هذه المسألة، وأحتاج إلى كلِّ ما لديَّ من جرأة قتالية من أجل ذلك.»
«عمَّ تتحدَّث؟»
«أليس كلامي واضحًا؟ إنه عادةً ما يكون كذلك.»
«مَن التي خطبتها؟ حسبما فهمت من كلامك، فهيَ الآنسة بارتليت. هل أنا مُحقٌّ؟»
«محق تمامًا يا ريني. هذه النيران تَخمد مجدَّدًا. بالمناسبة، ألا يُمكِن تأجيل عراكنا حتى طلوع الفجر؟ فأنا لا أريد جمْع مزيد من الحطب. وفوق ذلك، من المؤكَّد أن أحدنا قد يُدفَع بضربةٍ ما وسط النيران، وهذا سيُتلف ما تبقَّى من ملابسنا. ما رأيك؟»
«رأيي؟ رأيي أنَّني أبله.»
«مرحى! بدأ صوابك يعود يا ريني. أتَّفق معك تمامًا.»
«شكرًا لك. إذن، فأنت لم تَعرض الزواج على مار… على الآنسة هوارد؟»
«لقد لمستَ جرحًا مؤلمًا أحاول نسيانه يا رينمارك. تتذكَّر القرعة المَشئومة بالعملة المعدنية، أظنك أشرت إليها في كلامك منذ لحظة في الواقع، وقد كنتَ مُحقًّا في استيائك الغاضب منها آنذاك. حسنًا، لا أرغب كثيرًا في التحدث عما ترتَّب على ذلك من أحداث، ولكن كما عرفتَ البداية، فينبغي أن تعرف النهاية؛ لأنِّي أريد أن أنتزع منك وعدًا مقدسًا. لن تُخبِر أي إنسان أبدًا بواقعة القرعة، أو باعترافي لأي مخلوق. فإفشاء ذلك قد يحدث ضررًا ومن المُستحيل أن يأتي بأيِّ نفع. أتعدني بذلك؟»
«بالتأكيد. ولكن لا تُخبرني ما لم تكن تَرغب في ذلك.»
«لست متلهِّفًا إطلاقًا للحديث عن ذلك، ولكن من الأفضل أن تعرف حقيقة الموقف، كي لا تَرتكِب أي خطأ. ليس من أجلي كما تَعلم، لكنِّي لا أريد أن يصل ما حدث إلى مسامع كيتي. نعم، عرضت الزواج على مارجريت أولًا. لكنها رفضتني تمامًا. هل تستطيع تصديق ذلك؟»
«حسنًا، والآن ما دمت قد ذكرت ذلك، فأنا …»
«بالضبط. أرى أنَّك تستطيع تصديق ذلك. حسنًا، لم أستطِع ذلك في البداية، لكنَّ مارجريت حاسمة تمامًا من قرارها، ولا شك في ذلك. عجبًا! إنها مغرمة برجل آخر. لقد اكتشفتُ ذلك بالفعل.»
«أظنك قد سألتها.»
«حسنًا، مِهنتي هي اكتشاف الحقائق المستورة، وإذا كنتُ أفعل ذلك من أجل صحيفتي، فمن المُستبعَد بطبيعة الحال أن أتوانى عنه حين يتعلَّق الأمر بي. لقد أنكَرَت ذلك في البداية لكنها اعترفت به لاحقًا، ثم فرَّت هاربة.»
«لا بد أنك قد استخدمت قدرًا هائلًا من الذوق واللباقة.»
«اسمع يا رينمارك، لن أتحمَّل أي سخرية منك. أخبرتك بأنَّ هذا الموضوع قد آلَمني. لا أروي لك ما حدث حبًّا في ذلك، بل اضطرارًا. فلا تَستفزَّني وتُثير رغبتي في العراك يا سيد رينمارك. فإذا هممت بالعراك، فلن أبدأ بلا سبب ثم أتراجع بلا سبب. بل سأُواصِل حتى النهاية.»
«سأَنتقي كلماتي بحرص، واسمح لي بالرجوع عن كلِّ ما قلته. ماذا أيضًا؟»
«لا شيء آخر. ألا يَكفي ذلك؟ لقد كفاني وزيادة … آنذاك. صدقني يا رينمارك، لقد أمضيت نصف ساعة عصيبة جدًّا وأنا جالس على السياج وأُفكِّر فيما حدث.»
«كل هذا الوقت؟»
قام ييتس من أمام النيران غاضبًا.
فصاح البروفيسور على عَجَل قائلًا: «أرجعُ عن ذلك أيضًا. لم أقصده.»
«أنا مندهش من أنَّك صرت مرحًا جدًّا فجأة. ألا ترى أنَّ الوقت قد حان لنخلد إلى فراشينا؟ لقد تأخَّر الوقت.»
وافقه رينمارك الرأي لكنه لم يدخل الخيمة. بل مشى إلى السياج الدافِئ الجميل، واتَّكأ بذراعيه على طول العارضة العُلوية مُحدِّقًا إلى النجوم الدافئة اللطيفة. لم يكن قد لاحَظ مدى جمال الليل من قبل، بما لفَّه من سكون رائع، وكأنَّ العالم قد توقَّف كما تتوقَّف باخرة وسط المحيط. وبعدما سَكَنت روحه المضطربة برؤية النجوم التي تبعث الطمأنينة في النفس، تسلَّق السياج وسار على الطريق هائمًا بلا وجهة محددة. كان الليل الساكن رفيقًا مُهدئًا. ثم وصَل أخيرًا إلى قريةٍ نائمة من بيوت خشبية، حيث امتدَّ في وسطها مسار واحد من قُضبان سكة حديدية تَربط تلك القرية الصغيرة المجهولة بكل المُجتمَع الحضاري. وعبر هذا المسار ومض ضوءٌ أحمر وآخر وميضًا خافتًا، ليُعطيا بذلك الإشارة الوحيدة إلى أنَّ قطارًا قد سار على هذا المسار من قبل. وحين قطع رينمارك ميلًا أو اثنين، بدأ يشعر بنسيم البحيرة الكبيرة البارد، وبعدما عبر أحد الحقول، وصل إلى مشارف المياه فجأة ليجد أنَّه لا يستطيع مواصَلة المسير في هذا الاتجاه. فقد كان الشاطئ مُشكَّلًا من كثبانٍ رملية ضخمة مُغطاة بأشجار صنوبر كانت تصدر حفيفًا. وعند سفح الكثبان الرملية، امتد شاطئ عريض من الرمال الثابتة، وكان يَبدو خافتًا في مقابلة المياه المُعتمة، وعلى فترات مُتباعدة، كان سطح المياه يشهد تموُّجًا رقيقًا لأمواج الصيف الضعيفة ينساب إلى الشاطئ بهَمسٍ شبه نائم، ثمَّ يتلاشى هذا الهمس شيئًا فشيئًا إلى أن يذوب وسط الصمت المطبِق وراء الشاطئ. وبعيدًا في وسط سطح المياه المظلمة، تجلَّت نقطة ضوء، كنَجمة عائمة، حيث كانت إحدى البواخر تشقُّ طريقها ببطء، وكان سكون الليل مطبِقًا إلى حدِّ أنَّ رينمارك لم يكد يسمع ذبذبات محركاتها بل شعر بها. وكانت هذه العلامة الوحيدة على الحياة التي يُمكِن رؤيتها من هذا الخليج الساحر؛ خليج الشاطئ الفضي.
ألقى رينمارك بنفسِه على الرمال الناعمة عند سفح أحد الكثبان. وتحرَّكت نقطة الضوء تدريجيًّا إلى الغرب، متبعةً نجم الإمبراطورية، لا شعوريًّا بالطبع، وتلاشَت وراء اللسان البرِّي آخذةً معها شعورًا غامضًا بالرفقة. لكن العالَم صغير جدًّا، والمرء لا يكون أبدًا وحيدًا تمامًا فيها حين يظنُّ ذلك. فقد سمع رينمارك صوت بومة خفيضًا بين الأشجار، وذُهِل حين سمع الماء يردُّ على صياحها. فانتصَبَ في جِلسته وأنصت. وبعد قليل رسا قارب على الشاطئ وأحدثت عارضة قعره صريرًا على الرمال، وترجَّل منه شخصٌ ما على البر. فخرج من بين الأشجار ثلاثة رجال كانت هيئاتهم مُبهمة في الظلام. لم يَقُل أحدٌ منهم أي شيء، بل صعدوا في صمت إلى متن القارب، الذي ربما كان قارب «خارون» بناءً على أقصى ما استطاع رينمارك أن يَراه منه. ثمَّ تبع ذلك صوتُ قعقعةِ مساندِ ارتكازِ المَجاديف وصوت ارتطام المجاديف بسطح المياه، فيما كان صوت أحد الرجال يُحذِّر المُجدِّفين موصيًا إياهم بخفض الضجيج. كان جليًّا أن هؤلاء كانوا هاربين مُتخلِّفين يحاولون الهرب من سلطات البلدين. خَطَر ببال رينمارك وهو يَبتسم أنَّ ييتس، لو كان في مكانه، لكان سيُخيفهم على الأقل. كان التظاهر بإصدار أمرٍ حادٍّ إلى فرقة عسكرية من وحي خياله بتذخير أسلحتهم وإطلاق النيران كفيلًا بأن يَبلغ آفاقًا بعيدة في ليلة ساكنة كهذا، ويُثير انزعاجًا شديدًا في نفوس المجدِّفين لبضع لحظات. غير أن رينمارك لم يصدر أي صيحات، بل اعتبر هذه الواقعة جزءًا من الحلم الرُّوحاني الغامض، واستلقى على الرمال مجددًا. لاحظ أنَّ المياه في الشرق بَدَت وكأنها تشعر باقتراب حلول الصباح قبل السماء نفسها حتى. طلع الفجر تدريجيًّا، واكتسى ضَوءُه في البداية رويدًا بلون رمادي، إلى أن نثرت الشمس الآتية أشعَّتها الذهبية والقرمزية على سحابة رقيقة شفافة. شاهد رينمارك روعة شروق الشمس، وألقى نظرة واحدة طويلة على حُسن شاطئ الخليج المنحني، ثم نفَض الرمال عن ثيابه، وانطلق عائدًا إلى القرية ثمَّ المُخيم من بعدها.
كانت القرية في حالة هياج حين وصَل إليها. وفوجئ برؤية ستوليكر على ظهر حصان أمام إحدى الحانات. وكان معه مُساعدان يمتطيان حصانين أيضًا. بدا الشرطي منزعجًا حين رأى رينمارك، لكنه كان هناك لأداء واجبه.
صاح قائلًا: «مرحبًا! أراك قد استيقظت باكرًا. لديَّ مذكرة رسمية باعتقال صديقك، أظنك لن تخبرني بمكانه؟»
«لا يُمكن أن تنتظر منِّي معلومات ستضع صديقي في مأزق، أليس كذلك؟ لا سيما أنَّه لم يفعل أي شيء.»
فقال أحد المساعدين بجدية حادة: «ربما تَتبيَّن صحة ذلك أمام هيئة محلِّفين.»
صدَّق ستوليكر على كلامه وهو يَغمز خلسة للبروفيسور: «نعم. تقرير ذلك من اختصاص القاضي وهيئة المحلِّفين، وليس أنت.»
قال رينمارك: «حسنًا، لن أُفشيَ معلومات عن أي شخص، إلَّا إذا أُجبرت على ذلك، لكنِّي أستطيع توفير بعض العناء عليكم بإخباركم بالمكان الذي كنت فيه، وما رأيته هناك. أنا عائد الآن من عند البحيرة. إذا نزلتم إلى هناك، فسترَونَ أثر عارضة قعر قارب في الرمال، وربما آثار أقدام. لقد جاء قارب من الشاطئ الآخر في جنح الليل، وصعد رجل إلى متنِه. لا أجزم بهوية الرجل، ولا علاقة لي بالمسألة إطلاقًا سوى أنني شاهدتُها. هذا كل ما أستطيع الإدلاء به من معلومات.»
التفت ستوليكر إلى مُساعديه وأومأ برأسه. سألهما قائلًا: «ماذا قلت لكما؟ لقد كنَّا في أثره بالضبط.»
فصاح المُساعد، الذي تحدث من قبل، مُزمجِرًا: «قُلتَ السكة الحديدية.»
«حسنًا، كُنا على بُعد حوالي ميلين منه. هيا نَنزل إلى البحيرة ونتفحَّص الآثار. ثم يُمكنُنا استئناف تنفيذ مذكرة الاعتقال.»
وجد رينمارك أنَّ ييتس ما زال نائمًا في الخيمة. فأعدَّ الفطور دون أن يُزعجه. وحين انتهى من إعداده، أيقظ الصحفي وأخبره بلقائه مع ستوليكر، ناصحًا إيَّاه بالعودة إلى نيويورك بلا تأخير.
تثاءب ييتس بنعاس.
وقال: «نعم، كنتُ أحلم بذلك. سأجعل حماي يُوصِّلني إلى فورت إيري الليلة.»
«أتظن أنَّ تأجيل الرحيل طويلًا هكذا سيكون آمنًا؟»
«سيكون أكثر أمنًا من محاولة الهروب في وضح النهار. سأذهب إلى دار آل بارتليت بعد الفطور. يجب أن أتحدث إلى والدَيها، كما تعلم. وسأقضي بقية النهار في تعويضِ ما عانيته في هذا اللقاء بالحديث مع كيتي. لن يبحث ستوليكر عني هناك أبدًا، وأما وقد صار يظن الآن أنِّي رحلت، فمن المرجح أن يقوم بزيارة إلى الخيمة. ستوليكر رجل طيب، لكنه شديد التشبث بالواجب كما تعلم، وإذا تيقَّن من أنِّي رحلت، فسيبحث عني كي يكون جديرًا بالأموال التي يتقاضاها من بلاده. لن أعود على الغداء؛ لذا يُمكنُك استغلال وقتك في قراءة رواياتي الشعبية الرخيصة. لا أقصد الانتقاص من طهيك يا ريني وقد انتهت الإجازة، ولكن لديَّ تفضيلات، وهي تميل إلى تناول وجبة أخيرة مع آل بارتليت. لو كنت مكانك، لأخذت قيلولة. فأنت تبدو منهكًا بشدة.»
قال البروفيسور: «أنا كذلك بالفعل.»
كان رينمارك ينوي الاستِلقاء على الفراش بضع لحظات ريثما يَرحل ييتس عن المخيم؛ لأنَّه كان يعتزم إجراءَ زيارةٍ ما بعد ذلك، لكنَّ الطبيعة ثأرت منه حين ألقَت به في نوم عميق. فلم يَسمع ستوليكر ومساعديه وهم يُفتِّشون المخيم، تمامًا كما توقَّع ييتس أن يفعلوا، وحين استيقظ أخيرًا، دُهِش عندما رأى الظلام كاد يحلُّ على الأجواء. لكنَّه كان أحسن حالًا بكثير بفضل النوم، وتأنَّق بعناية أكثر من المعتاد.
تقبَّل هيرام العجوز الوضع ببلادة صبورة متجهِّمة كمَن تلقَّى صفعة من التدابير الإلهية التي كان يعرف أنها مُستعصية على الفهم. فقد عجز عن فَهمِ ما الذي اقترفه في حياته ليستحقَّ هذا المصير. ربط حصانيه بالعربة في صمت، ولأول مرة في حياته، ساقَهما إلى فورت إيري بلا أيِّ حجة منطقية للذهاب إلى هناك. عَقَل الحصانين في الركن المعتاد، وجلس بعدئذٍ في إحدى الحانات حيث شرب عدة أقداح من خمرٍ مُسكِر بشدة لم يُحدِث فيه تأثيرًا واضحًا. بل بلغ به الأمرُ أنَّه دخَّن سيجارَين يَحويان موادَّ غير شرعية، ومن يفعل ذلك يستطِع فعل أيِّ شيء. كان يرى أنَّ قبول ابنته التي ربَّاها بزواج رجلٍ من «الولايات المتحدة» بمحض إرادتها، وأن تأييد زوجته فعلًا كهذا وتحريضها عليه، مانحةً العدوَّ بذلك كل الراحة والتأييد، بمثابة خيانة لكل تقاليد عام ١٨١٢، أو أي عام آخر في تاريخ البلدين. راودته في بعض اللحظات أفكار جامحة بأن يثمل إلى أن يفقد صوابه ويعود إلى البيت فيكسر كلَّ ما هو قابل للكسر، لكنَّ صوت الحكمة كان يهمس له بأنَّه مُضطرٌّ إلى العيش بقية حياته مع زوجته، فكان يُدرك أنَّ تلك الخطة الانتقامية لها عيوبها. وأخيرًا، فكَّ رباط حصانَيه الصبورين بعدما دفع فاتورته، وقاد عربته إلى البيت في صمتٍ دون أن يَرُد أيًّا من التحيات التي حُيِّيَ بها في هذا اليوم، ولا بإيماءة حتى. شعر ببعض الارتياح لأنَّه لم يُسأل عن أي شيء، ولأنَّ زوجته أدركت أنه كان يمرُّ بأزمة. ومع ذلك، لمع بريق فولاذي في عينَيها بثَّ الخوف والقلق في نفسه؛ إذ بدا لسان حالها يُخبره أنَّه قد بلغ حدًّا سيلقى عواقبَ وخيمة إذا تخطَّاه. صحيح أنها سامحته، ولكن عليه ألا يَتجاوز أكثر من ذلك.
حين قبَّل ييتس كيتي عند البوابة متمنيًا لها ليلة طيبة، سألها بشيء من الخوف عمَّا إذا كانت قد أخبرت أي شخص بأمر خطبتهما.
قالت كيتي: «لا أحد سوى مارجريت.»
فسألها ييتس مُتظاهرًا بأنَّ رأي مارجريت غيرُ مهم في كلِّ الأحوال: «وماذا قالت؟».
«قالت إنها متيقنة من أنِّي سأكون سعيدة، وتعلم أنَّك ستكون زوجًا صالحًا.»
قال ييتس بنبرةِ رجل مُستعد للتنازل والاعتراف بمَحاسنِ فتاة أخرى غير فتاته، ولكن مع تأكيد أنَّه لا يعشق إلَّا واحدة في الدنيا كلها: «إنها فتاة لطيفة بعض الشيء.»
قالت كيتي بحماس: «إنها فتاة جميلة. أتساءل يا ديك عن السبب الذي جعلك تُحبُّني أصلًا في حين أنَّك تعرفها.»
«عجبًا! لا أرى عيبًا في مارجريت، ولكن مُقارنة بفتاتي …»
وأنهى عبارته بتوضيحٍ عملي لمشاعره.
وبينما كان يسير وحده على الطريق، خطر بباله أنَّ مارجريت قد تصرَّفت بنُبلٍ كبير، وقرَّر أن يمرَّ عليها ويودِّعها. ولكن حين دنا من المنزل، بدأت شجاعته تخذله، وارتأى أنه من الأفضل أن يَجلس على السياج، بالقُرب من المكان الذي جلس فيه في الليلة السابقة، وفكَّر في الأمر. ظلَّ يفكر فيه مليًّا. ولكن بينما كان جالسًا هناك، قُدِّر له أن يعرف معلومةً كان من شأنها أن تُسهِّل عليه فهْم كل شيء. فقد خرج شخصان من البوابة ببطء وسط الظلام المتزايد. تمشَّيا معًا على الطريق ومرَّا به لكنهما كانا منشغلَين بأنفسهما. فحين صارا أمام الصحفي مباشرة، أحاط رينمارك خصر مارجريت بذراعه، وكاد ييتس يسقط من فوق السياج. حبَسَ أنفاسه حتى ابتعدت مسامعهما عنه بسلام، ثم نزل منزلقًا من فوق السياج ومشى في الظل مُتثاقلًا يجرُّ قدمَيه حتى بلغ الطريق الجانبي، ثم سارَ عليه، مُتوقفًا كلَّ بضع لحظات منهمكًا في التفكير، ليقول: «حسنًا، سوف …» ولكن بدا أنَّ قدرته على النطق خذلته، فعجز عن التفوه بأي حرف بعد ذلك.
توقف عند السياج واتَّكأ عليه، مُحدِّقًا للمرة الأخيرة إلى الخيمة، التي اكتسَت ببريقٍ أبيضَ خافِت، كشبح مشوَّه، وسط الأشجار القاتمة. لم يكن لديه طاقة مُتبقية لتسلُّق السياج.
تمتم قائلًا لنفسه أخيرًا: «حسنًا، لست سوى قرد. يَستطيع أعلى مُزايد أن يَشتريني بلا تحديد سعر أدنى حتى. آه يا ديك ييتس، ما كنت لأصدق ذلك عنك. أأنت رجل صحافة حقًّا؟ أأنت مراسل ذو خبرة كبيرة؟ أأنت بارع كفاية؟ إنني خجلان من أن يراني أحد برفقتك يا ييتس! عُد إلى نيويورك، ودَع أصغر مُراسل آتٍ من صحيفة ريفية يتفوَّق عليك ويسرق منك الأضواء. ما أشدَّ دهشتي من أنَّ ذلك الشيء كان يحدث أمام عينيك القويتين مباشرة، ولم ترَه قَط! والأدهى أنَّك لم تشكَّ فيه مثقال ذرة في حين أنَّه كان يُدفَع إليك دفعًا عشرين مرة في اليوم، بل كاد رأسك الغبي يُهشَّم بسببه، لكنَّك كنت تَصيح باستمرار كالحَمَل الصغير الساذج الذي لا تَختلف عنه إطلاقًا، ولم تشكَّ قَط حتى! ديك، إن بلاهتك تكفي مُلصَقًا كبيرًا بالحبر الملون. ويا للعجب من أنَّ كليهما يعرف كل شيء عن عرض الزواج الأول! كليهما! حسنًا، حمدًا للرب على أنَّ تورنتو بعيدة كل البُعد عن نيويورك.»