الفصل الخامس
صاح ييتس في نعاسٍ في صباح اليوم التالي حين استيقظ على طرقٍ شديد متواصِل على بابه: «ماذا جرى؟ ماذا جرى؟»
«حسنًا، أنت لم تنهض بعد.» فأدرك أنَّه صوت هيرام الصغير. «الفطور جاهز. لقد استيقظ البروفيسور منذ ساعة.»
قال ييتس متثائبًا: «حسنًا، سأنزل حالًا»، ثم أضاف في قرارة نفسه: «تبًّا للبروفيسور!» كانت أشعة الشمس تتدفَّق عبر النافذة الشرقية، لكنَّ ييتس لم يتذكر أنَّه رآها من قبل فوق الأفق على هذه المسافة القصيرة في الصباح قط. سحب ساعته من جيب صدريته التي كانت معلقة على أحد أعمدة السرير. لم تكن قد بلغت السابعة بعد. فوضعها على أذنه ظنًّا منه أنها توقفت عن العمل، لكنه وجد نفسه مخطئًا.
قال وهو عاجز عن كبح تثاؤبه: «يا لها من ساعة مبكرة للغاية!» كانت السنوات التي قضاها ييتس في إحدى الصحف الصباحية قد جعلت الساعة السابعة صباحًا كمُنتصَف الليل له. فلم يَستطِع النوم في الليلة الماضية إلَّا بعد الساعة الثانية صباحًا، أي وقت نومه المعتاد؛ لذا بدا له هذا الإيقاظ الوقح تصرُّفًا قاسيًا أحمق. ومع ذلك، ارتدى ثيابه، ونزل إلى الطابق السُّفلي متثائبًا.
كانوا جميعًا جالسين إلى مائدة الفطور حين دخل ييتس الغرفة الكبيرة، التي كانت غرفة طعام وغرفة جلوس في آنٍ واحد.
قال هيرام الصغير مُمازحًا: «في انتظارك»؛ إذ كانت هذه واحدة من مجموعة دعابات تُلائم مختلف المناسبات. جلس ييتس بالقرب من الآنسة كيتي، التي بدَت ناضرة ومتألقة كأنَّها جِنِّيَّة من جنيات الصباح.
قال ييتس: «أرجو ألَّا أكونَ قد جعلتُكم تَنتظرُون طويلًا.»
صاحت السيدة بارتليت: «إطلاقًا. إذا تأخَّر الفطور دقيقةً عن الساعة السابعة، سرعان ما نعرف ذلك من الناس من حولنا. فهم يتضوَّرون جوعًا بحلول ذلك الوقت.»
ردد ييتس قائلًا: «بحُلول ذلك الوقت؟ إذن هل يستيقظون قبل السابعة؟»
تعجَّبت السيدة بارتليت ضاحكة: «عجبًا! ما أغرب المُزارع الذي كنتَ ستكُونه يا سيد ييتس لو قُدِّر لك ذلك!»
يؤسفني أنك لا تؤمن بها يا سيد ييتس.»
قال ييتس ببعض السمو: «أوه، هذا صحيح، لكنِّي أودُّ أن أرى رجلًا مسئولًا عن إصدار صحيفة صباحية يتبع هذه القاعدة. إنَّ صحتي جيدة كفاية، وثروتي تُضاهي ثروة هذا البروفيسور تقريبًا، والجميع سيعترف بأنني أكثر منه حكمة، ومع ذلك، فأنا لا أخلد إلى النوم إلَّا بعد الساعة الثانية صباحًا، ونادرًا ما أستيقظ قبل الظهر.»
ضحكت كيتي لذلك، ونظر هيرام الصغير بإعجاب إلى النيويوركي، مُتمنيًا أن يكون بمثل براعته وذكائه.
صاحت السيدة بارتليت بلفظٍ نابٍ أنثوي حقيقي: «سُحقًا بحقِّ الأرض! ما الذي تفعله حتى وقتٍ متأخر هكذا؟»
قال ييتس باستخفاف: «الكتابة؛ كتابة مقالات تَجعل السلالات الحاكمة ترتعد في صباح اليوم التالي، وتُسبِّب إمَّا اعتذارات أو دعاوى قضائية بالتشهير، حسب الحالة.»
لم يكن هيرام الصغير يُطيق صبرًا على استمرار الحديث عن المهن. كان موضوع الخيمة ومكانها المستقبلي هو السؤال الذي يؤرقه. تمتم ببعض الكلمات عن أنَّ ييتس نام متأخرًا ليتجنَّب سماع دعاء الشكر في بداية الوجبة. وهنا تبيَّن لوالدَيه من تعليقه ذاك كيف أنَّ التعامل مع الخبثاء يفسد الأخلاق الحسنة؛ لأن الفتى، على ضخامة بنيانه، لم يكن يجرؤ من قبل على السخرية من موضوعٍ كهذا ولو بالتلميح. نظر والده الصامت إليه بعبوس مُتوعِّدًا إيَّاه، ووبخته أمه الفصيحة اللسان بحدة. كان يبدو أنَّ كيتي رأت تعليق الفتى مُضحكًا بعض الشيء، وأرادت أن تَضحك عليه. ومع ذلك، اكتفت بنظرةٍ خاطفة خبيثة إلى ييتس، الذي، مع أنَّ ذلك قد يبدو غير معقول، تورَّد خجلًا عند تلميح هيرام الصغير إلى الواقعة المحرجة التي حدثت في اليوم السابق.»
أمَّا البروفيسور، الذي كان رجلًا طيب القلب، فقرَّر أن يَصرف تركيزهم عن الأمر.
قال مغيِّرًا الموضوع: «لقد تكرَّم السيد بارتليت بالسماح لنا بالتخييم في الغابة الواقعة خلف المزرعة. خرجت إلى هناك هذا الصباح، وهو مكانٌ رائع بلا شك.»
قال ييتس: «نحن في غاية الامتنان لك يا سيد بارتليت. بالتأكيد ذهب رينمارك إلى هناك ليُبيِّن الفرق بين النملة والفراشة فقط. ستَكتشفين في المستقبل كم هو محتال يا سيدة بارتليت. يبدو شخصًا نزيهًا، ولكن انتظري وسترين بنفسك.»
صاح هيرام الصغير: «أعرف الموضع المناسب تمامًا للخيمة، بالأسفل في الوادي الصغير بجوار الجدول. لن تَحتاجا إلى نقل المياه حينئذٍ.»
قالت السيدة بارتليت: «نعم، ويُصابان بالحُمى والبُرَدَاء.» فلم تكن الملاريا قد اكتُشِفَت آنذاك. «اعملا بنصيحتي، وانصبا خيمتكما — إذا كنتما ستُنصِّبانها أصلًا — على أعلى أرض تستطيعان إيجادها. فنقلُ المياه لن يضيركما.»
«أتفق معكِ يا سيدة بارتليت. ليكن ذلك إذن. صديقي لا يستخدم المياه، يجب أن تري فاتورته في فندق بافالو. إنها لديَّ في مكانٍ ما، وسأُعلِّقها على الخيمة من الخارج كتحذير لشباب هذا الحي، وأيُّ مياه سأحتاجها أستطيع أن أحملها بسهولة من الجدول الصغير.»
لم يدافع البروفيسور عن نفسه، ومن الواضح أنَّ السيدة بارتليت لم تصدِّق الكثير من كل ما قاله ييتس. فقد كانت امرأة ذكية.
بعد الفطور، خرج الرجال إلى الحظيرة. ورُبِط الحصانان بالعربة التي كانت لا تزال تحمل الخيمة والتجهيزات الأخرى. ثم ألقى هيرام الصغير فأسًا ومسحاة وسط ثنايا الخيمة القماشية، وركب في مكانه، وقاد العربة مُعتليًا المسار المؤدِّي إلى الغابة، وتبعه ييتس ورينمارك سيرًا على الأقدام، تاركين المزارع في فناء حظيرته بتوديع مُبتهِج لم يرَ نفسه مُضطرًّا إلى الردِّ بمثله.
مرُّوا أولًا بحقل قمح، ثمَّ رقعة فسيحة من أعشاب التبن المتراقصة، التي كان أوان حشِّها بالمنجل قد اقترب، ثم مَرعًى كان فيه بعض المهور التي ركضت نحو سياجه، حيث حدَّقت لبرهة إلى الحصانين الملجومين وصهلت بتعاطف معهما، ثم ابتعدت في اللحظة التالية عن السياج ترفس بجموح بأعقاب مُحلِّقة في الهواء، مُبتهجة بما تنعم به من حُرِّية عكس هذين الحصانين، ووقفت عند الركن الأبعد من المرعى حيث نَخرت مُعلنةً تحدِّيها للعالم كله. وأخيرًا، وصلوا إلى الظلِّ الباردِ للغابة التي كان المسار يمتدُّ إلى داخلها فاقدًا هويتَه كطريق مخصص للعربات بتشعُّبه إلى مسارات متباعدة للماشية. كان هيرام الصغير يعرف المنطقة جيدًا، وقاد العربة مباشرة إلى مكانٍ مثالي للتخييم. كان ييتس مسحورًا. فقد ضَمَّ كل هذا الجزء من الريف في تلويحةٍ جارفة بيده، وقال فجأة بانفعال عاطفي شديد:
«شكسبير بتصرُّف.»
قال رينمارك: «أظنك مخطئًا.»
«إطلاقًا. لا يُمكن أن نجد مكانًا أفضل للتخييم.»
«نعم أعرف ذلك. فقد اخترتُه من بين البقاع الأخرى منذ ساعتين. لكنك كنت مخطئًا في الاقتباس الذي ذكرته. فهو ليس من تأليف شكسبير ولا تأليفك، كما يبدو أنك تظن.»
«ليس كذلك حقًّا؟ من تأليف شخص آخر، هاه؟ حسنًا، إن كان شكسبير راضيًا، فأنا أيضًا كذلك. أتعرف يا ريني، أظنُّ أنني لو عددت ما كتبته، سطرًا سطرًا، سأجدني قد كتبت قَدْر ما كتبه شكسبير حوالي عشر مرات. هل يعرف الأدباء هذه الحقيقة؟ إطلاقًا. هذا عالم جاحد يا ستيلي.»
«إنه كذلك يا ديك. والآن، ماذا ستَفعل بشأن نصب الخيمة؟»
«كل شيء يا ولدي، كل شيء. فأنا أعرف عن نصب الخيام أكثر مما تَعرفه عن العلم، أو أيًّا كان ما تُدرِّسه. والآن، يا هيرام يا ولدي، فلتقطع لي بعض الأوتاد المتينة بطول نحو قدمين. وأنت أيها البروفيسور، اخلع عنك ذلك المعطف وهذا التراخي، وأمسك بهذه المسحاة. أريد حفر بعض الخنادق.»
وبالطبع أثبت ييتس صحة كلامه. فقد كان يفهم نصب الخيام؛ لأنَّ تجربته في الجيش لم يكن قد مضى عليها وقت طويل. كان هيرام الصغير يحدق بإعجاب متزايد إلى براعة ييتس ودرايته الواضحة بما كان يفعله، بينما استطاع بالكاد أن يكبح احتقاره تجاه محاولات البروفيسور العقيمة لتحرير المسحاة حين علقت منه في بعض جذور الأشجار.
قال أخيرًا: «من الأفضل أن تُعطيني تلك المسحاة.» لكنَّ شخصية البروفيسور كان بها قدر من العناد. لذا ظلَّ يناضل لتحريرها بنفسه.
وأخيرًا، أُنجِز العمل؛ إذ دُقَّت الأوتاد، وشُدَّت الحبال، وحُفِرت الخنادق.
رقص ييتس، وأطلق صيحة الحرب الخاصة بأهالي الريف.
«هذا هو الشاعر لونجفيلو، أيها العجوز، لونجفيلو. أُراهن على ذلك بدولار!» ونَكَز ييتس التافه البروفيسور بمرفقِه في ضلوعه.
قال الأخير: «ريتشارد، لا أطيق تَحمل سوى قدرٍ معيَّن من مثل هذه الأشياء. لا أريد أن أصف أيَّ رجل بأنه أحمق، لكنك تتصرَّف بحمق إلى حدٍّ لافت.»
«فلتتحلَّ بالجرأة الكافية لقول ما تُريده مباشرة يا ريني؛ سَمِّ المسحاة مسحاة. يا إلهي! لقد رحل هيرام الصغير ونسي مِسحاته، والفأس أيضًا! ربما تعمَّد تركهما لنا. إنه شاب جيد، ذاك الفتى هيرام. أحمق؟ بالطبع أنا أحمق. هذا ما أتيت لأجله، وهذا ما سأكون عليه طوال الأسبوعين المقبلين. «أحمق، أحمق، قابلت أحمق في الغابة …» هذا هو المكان المناسب له تمامًا. مَن يُمكِن أن يكون حكيمًا هنا بعدما قضى سنوات وسط مباني الطوب والملاط؟»
ثم صاح قائلًا: «أين عيناك يا ريني وأنت تنظر حولك دون أن تخرج عن صوابك؟ انظر إلى ضوء الشمس المرقَّط المتسرِّب من بين أوراق الشجر، أصغِ إلى حفيف الريح وهي تُداعب الأغصان، اسمع صوت سريان المياه المتباطئ في الجدول بالأسفل هناك، شاهِد لُحاء أشجار الزان الأملس وغلاف أشجار البلوط المحزز، شُم روائح الغابة الصحية. أنت بلا روح يا رينمارك، وإلَّا ما كان من الممكن أن تكون بهذا الجمود. إنها كالجنة. إنها … ريني، يا إلهي! لقد نسيت تلك الجرة في مخزن الحبوب!»
«ستظل متروكة هناك.»
«حقًّا؟ أوه، حسنًا، إن كنت ترى هذا.»
«هذا ما أراه. لقد بحثت عنها صباح اليوم لتحطيمها، لكنِّي لم أجدها.»
«لماذا لم تسأل بارتليت العجوز؟»
«سألته، لكنه لم يكن يعرف مكانها.»
رمى ييتس نفسه على الأرض المكسوة بالطحالب، وضحك رافسًا بذراعيه وساقيه حوله مستشعرًا بهجة الحياة.
«بالمناسبة، هل أحضرت معك أيَّ ثياب قديمة حقيرة أيها البروفيسور المتحضر؟ حسنًا، إذن فلتدخل الخيمة وتلبَسها، ثم اخرج واستلقِ على ظهرك وانظر إلى الأعلى نحو الأوراق. أنت رجل جيد يا ريني، لكنَّ الثياب الرسمية المحتشمة تُفسدك. لن تعرف نفسك حين تضع على ظهرك هذه الثياب العتيقة. فالثياب البالية تعني التحرُّر، والحرية، وكل ما حارب أجدادنا لأجله. حين تخرج، سنُقرِّر مَن يُعِد الطعام ومَن يغسل الأطباق. لقد حسمت القرار بالفعل في قرارة ذهني، لكني لست أنانيًّا إلى حدِّ الامتناع عن مناقشة المسألة معك.»
حين خرج البروفيسور من الخيمة، قهقه ييتس. ابتسم رينمارك نفسه؛ إذ كان يعرف أنَّ النتيجة ستلقى إعجاب صديقه.
«يا إلهي! أيها العجوز، كان يجب أن أضع مرآة بين المعدات. فمظهر الوقار المتعلم وهو مُزيَّن بثياب متشرِّد حقير يصنع مزيجًا قاتلًا من شدة الضحك. حسنًا، لا يُمكنُك أن تُفسِد تلك الثياب على أيِّ حال. والآن تَمدَّد على الأرض.»
«أنا مرتاح جدًّا في الوقوف، شكرًا لك.»
«انبطح على ظهرك. أتسمعني؟»
«فلتجعلني أنبطح إذن.»
سأله ييتس وهو يجلس ناصبًا ظهره: «أتعني ذلك؟»
«بالتأكيد.»
«أصغِ إليَّ يا ريني، احذر. لا أريد أن أوذيك.»
«سأسامحك هذه المرة.»
«سأفعل ذلك على مسئوليتك.»
«تقصد على ظهري.»
صاح ييتس ناهضًا على قدميه: «لا بأس يا ريني. سيؤلمك هذا. ها أنت قد تلقيت تحذيرًا وافيًا منذ البداية. وقد أعذر مَن أنذر.»
اتخذ الشابان وضعية الملاكمة. حاول ييتس أن يفعل ذلك برفق في البداية، لكنَّه وجد أنه لا يستطيع لمس خصمه، فحاول مهاجمته بجِدِّية أكبر، وحذَّره تحذيرًا وديًّا مرة أخرى. استمر الحال على ذلك بلا جدوى لبعض الوقت، حتى لفَّ البروفيسور قدمه بحركةٍ سريعة وبسلاسةٍ رشيقة كأنه أستاذ في الرقص، ورَكَل ييتس خلف ركبته مباشرة، موجِّهًا إليه في الوقت نفسه نقرةً خفيفة على الصدر. فانبطح ييتس على ظهره في الحال.
«أوه، لم يكن ذلك عادلًا، يا ريني. لقد كانت هذه ركلة.»
«كلا، لم تكن كذلك. بل مجرد لمسة فرنسية صغيرة. تعلمتُها في باريس. إنهم يركلون هناك، كما تعلم، ومن الجيد أن تعرف كيفية استخدام قدميك بالإضافة إلى قبضتيك إذا هاجمك ثلاثة أشخاص، مثلما حدث لي ذات ليلة في الحي اللاتيني.»
جلس ييتس مُنتصبًا.
«أصغِ إليَّ يا رينمارك، متى كنت في باريس؟»
«عدة مرات.»
حدَّق إليه ييتس بضع لحظات، ثم قال:
«ريني، أنت تُحسِّن معرفتك واطِّلاعك. لم يَسبق لي أن رأيت شارعًا باريسيًّا في حياتي. يجب أن تُعلِّمني هذه الركلة الصغيرة.»
قال رينمارك وهو يجلس، بينما تمدَّد الآخر تمامًا: «بكل سرور. فالتدريس هو مهنتي، وسأسعدُ بممارسة أي مواهب ربما تكون لديَّ في هذا التخصُّص. وسعيًا إلى تعليم رجل من نيويورك، فالخطوة الأولى هي إقناعه بأنَّه لا يعرف كل شيء. هذه هي النقطة الصعبة. وبعدها يصير كل شيء سهلًا.»
«أيها السيد ستيلسون رينمارك، أنت تسعَد بأن تكون صارمًا. فلتعرف أنني أسامحك. فهذا الملاذ المبهج في الغابة ليس مناسبًا للخلاف الحاد، أو، بلغة بسيطة، الشجار. دَع الكلاب تبتهج، إن أرادت ذلك؛ فأنا أرفض أن تدفعني طبيعتك الشكَّاءة المُزعجة إلى التفوُّه بأي شيء سوى الرد اللطيف الليِّن. والآن لننتقل إلى العمل. حين يُخيم شخصان معًا، لا شيء يُعزِّز صداقتهما للغاية كتحديد الواجبات بينهما من البداية. أتتَّفق معي؟»
«تمامًا. ماذا تقترح؟»
«أقترح أن تطهو الطعام، وأغسل أنا الأطباق. وسيتناوب كلانا على إحضار الغذاء.»
«ممتاز. أوافق على ذلك.»
وهنا انتصب ييتس في جلسته فجأة، رامقًا صديقه بنظرة توبيخ. «أصغِ إليَّ يا رينمارك، هل أنت مصمم على أن تفرض أزمة دولية بيننا في اليوم الأول؟ هذه ليست فرصة عادلة لتمنح رجلًا إيَّاها.»
«ما تلك الفرصةُ غير العادلة؟»
«عجبًا، الموافقة على كلامه. إن لديك خسةً شديدة كامنة في أعماق شخصيتك يا ريني، ولم أتصور ذلك قَط. فأنت تعرف أنَّ الأشخاص الذين يُخيِّمون يعترضون دائمًا على جزء المهام الذي يُكلِّفونهم به رفاقهم في التخييم. وأنا اعتمدتُ على ذلك. سأفعل أي شيء سوى غسل الأطباق.»
«لماذا لم تقل ذلك إذن؟»
«لأن أي رجل عاقل كان سيقول «لا» حين اقترحتُ الطهي، لمجرد أنني اقترحته. ليس لديك أي قدر من حُسن التصرُّف يا رينمارك. والمرء لا يعرف من أين تُؤكَل كتفُك حين تتصرَّف هكذا. فعندما كنت سترفض أداء مهمة الطَّهي، كنت سأقول لك: «حسنًا، سأؤديها أنا.» وكان كل شيء ليصبح رائعًا، لكن الآن …»
استلقى ييتس على ظهره مرة أخرى مشمئزًّا. فثمة لحظات في الحياة تخذل فيها اللغة المرء.
قال البروفيسور: «إذن هل نتفق على أن تتولَّى الطهي، وأغسل أنا الأطباق؟»
«نتفق؟ أوه نعم، إن كان هذا رأيك، لكنَّ كل اللذَّة التي يجدها المرء في الحصول على ما يريده باستخدام ذكائه قد تلاشت. أكره أن يتفق أحدٌ معي بهذه الطريقة المهذبة البغيضة.»
«حسنًا، ها قد حُسِمت هذه النقطة، مَن سيبدأ دوره في إحضار الطعام، أنا أم أنت؟»
«كلانا يا سيدي البروفيسور، كلانا. فأنا أعتزم الذهاب إلى منزل آل هوارد، وأحتاج إلى مُبرر للزيارة الأولى؛ لذا سأؤدي جزءًا محدودًا من مهمة إحضار الطعام. سأذهب إلى هناك متظاهرًا بأنني أريد شراء الخبز. ونظرًا لأنني قد لا أحصل على أي خبز، فربما يتعيَّن عليك إحضار بعض منه من أي منزل ريفي تختاره مسرحًا لمهمتك. دائمًا ما يكون الخبز نافعًا في التخييم، سواء أكان طازجًا أم قديمًا. وحين يُراودك أدنى شك أو تردُّد، اشترِ المزيد من الخبز. فلا يُمكِن أن يكون اختيارك فاسدًا أبدًا، وكذلك الخبز.»
«ما الذي يتعين عليَّ إحضاره أيضًا؟ الحليب حسبما أظن؟»
«بالتأكيد، وبيض وزبد وأي شيء. ستُعطيك السيدة بارتليت نصائح بشأن ما يجب أن تُحضره أفضل من نصائحي.»
«هل لديك كل أواني الطهي التي تحتاج إليها؟»
«أظن ذلك. لقد قال الوغد الذي استأجرت منه المعدات إنها كاملة. لا شك أنَّه كذب، لكننا سنتدبر الأمر، على ما أظن.»
«رائع. إذا انتظرتني حتى أغيِّر ملابسي، سأمشي معك هذه المسافة الطويلة حتى الطريق.»
«يا رفيقي العزيز، كن حكيمًا، ولا تُغيِّر ملابسك. ستَحصُل على كل شيء بأرخص من ثمنه بعشرين في المائة إن اشتريته بهذه الثياب الرثة. وفوق ذلك، فهي تجعلك أكثر جاذبية بكثير. ربما تُنقذنا ثيابك من الجوع إذا نفد المال. فيُمكنُك الحصول على ما يكفي لكلينا بصفتك متشرِّدًا محترفًا. أوه، حسنًا، إذا كنت تُصر على رأيك، فسأنتظرك. إسداء نصيحة جيدة إلى أمثالك إهدار لها.»