الفصل الثامن
قال ييتس بعد واقعة الصابون ببضعة أيام وهو يتأرجَح في أرجوحته الشبكية في المخيم: «أقول لك شيئًا يا ريني، إنني أتعلم شيئًا جديدًا كل يوم.»
سأله البروفيسور متفاجئًا: «حقًّا؟».
«نعم، حقًّا. كنت أعرف أن هذا سيذهلك. إن سعادتي الكبرى في الحياة أيها البروفيسور هي إدهاشك. أحيانًا ما أتساءل لماذا يُسعدني ذلك، فهو يحدث بسهولة تامة.»
«لا تكترث بذلك. ماذا تتعلَّم؟»
«الحكمة يا بُني، الحكمة بكميات هائلة. بادئ ذي بدء، أتعلم الإعجاب بسعة حيلة أولئك الناس الذين يعيشون حولنا. فهُم يَصنَعُون كلَّ ما يَحتاجون إليه تقريبًا بأيديهم. إنهم أكثر الذين رمتني الأقدار وسطَهم اعتمادًا على أنفسهم على الإطلاق. أرى حياتهم الحياة المثالية.»
«أظنك قلت شيئًا كهذا في اللحظة الأولى التي أتينا فيها إلى هنا.»
«قلت هذا، أيها الأحمق، عن التخييم في العراء. أمَّا الآن فأتحدث عن حياة الريف. إن المزارعين يستغنون عن الوسطاء من التجار والحرفيِّين على نحوٍ واقعي جدًّا، وهذا في حد ذاته يُمثل شوطًا طويلًا نحو السعادة التامة. سأضرب لك مثالًا بصناعة الصابون، التي حدَّثتك عنها؛ فهكذا تحصل على صابون رخيص وجيد. وحين تصنع الصابون بنفسك، تعرف ماهية ما بداخله، ولتُزهَق روحي إن كنت تعرف ذلك حين تشتريه بثمن باهظ في نيويورك. هنا يصنعون كل ما يحتاجون إليه تقريبًا بأنفسهم، ما عدا العربة والأواني الفخارية، ولست واثقًا من ذلك، لكنهم كانوا يصنعونها أيضًا قبل بضع سنوات. والآن، حين يستطيع رجل بفأسٍ حادٍّ جيد وسكين قابل للطي أن يفعل أي شيء من تشييد بيته إلى نحت كرسي، يكون أكثر الرجال استقلالًا على وجه الأرض. لا أحد يعيش حياةً أفضل من هؤلاء الناس. كل شيء طازج وحلو وطيب. ربما يكون لهواء الريف تأثير في ذلك، لكني أرى أنني لم أتذوَّق في حياتي وجبات كتلك التي تُعدُّها السيدة بارتليت، على سبيل المثال. إنهم لا يشترون شيئًا من المتاجر سوى الشاي، وأنا شخصيًّا أعترف بأني أفضِّل اللبن. دائمًا ما كانت ميولي بسيطة.»
«وما الاستنتاج النهائي من ذلك؟»
«عجبًا لك، هذه هي الحياة كما ينبغي أن تُعاش. فهيرام العجوز لديه سندان وفُرن حدادة بسيط. لذا يستطيع إصلاح أي شيء معدني تقريبًا، وهذا يُغني عن الحدَّاد. وهوارد لديه دكة نجارة ومناشير ومطارق وأدوات أخرى، وهذا يُغني عن النجار. فيما تُغني النساء عن الخباز وصانع الصابون والكثير من المتطفلين الآخرين. والآن، حين تستغني عن كل الوسطاء من التجار والحرفيين، يتحقَّق لك الاستقلال؛ ومن ثم السعادة التامة. حينئذٍ لا تستطيع أن تُبعِد السعادة ببندقية.»
«ولكن كيف يُصبح مصير الحداد والنجار وبقية هؤلاء حينئذٍ؟»
«دعهم يحصلوا على أراضٍ ويشتغلوا بها ويحظوا بالسعادة أيضًا؛ يوجد كمٌّ وفير من الأراضي. الأرض تنتظرهم. وانظر حينئذٍ كيف سيزول أرباب العمل. هذا هو الخلاص الأجمل على الإطلاق. فحتى النجارون والحدادون عادة ما يُضطرُّون إلى العمل تحت رئاسة أحدهم، وإذا لم يُضطروا إلى ذلك، يضطرون إلى الاعتماد على الرجال الذين يُشغِّلونهم. أمَّا المُزارع، فلا يضطر إلى إرضاء أحد سوى نفسه. وهذا يُعزِّز استقلاله. وهذا هو ما يجعل هيرام العجوز مستعدًّا للتشاجر مع أول شخص يلتقيه من أقل استفزاز مُمكن. فهو لا يكترث بهوية مَن يُسيء إليه، ما دام شخصًا آخر غير زوجته. هؤلاء الناس يعرفون كيف يصنعون ما يحتاجون إليه، أمَّا ما لا يستطيعون صنعه، فيستطيعون تدبُّر أمورهم من دونه. وهذا هو السبيل إلى إقامة أمة عظيمة. فبهذه الطريقة تنشئ شعبًا مكتفيًا ذاتيًّا وقوي العزيمة ولا يُقهَر. فالسبب في تغلُّب ولايات الشمال على ولايات الجنوب أننا حشدنا معظم جيوشنا من طبقة المزارعين المعتمدين على أنفسهم، في حين أننا اضطُرِرنا لمُحاربةِ أناسٍ اعتادُوا تلبية احتياجاتهم بأيادي غيرهم على مدى أجيال.»
«لماذا لا تَشتري مزرعة إذن يا ييتس؟»
«لعدة أسباب. فأنا مُدلَّل جدًّا إلى حدٍّ يُعجزني عن الحياة هنا. إنني كالسكِّير الذي يُعجَب بحياة عفيفة، لكنه لا يستطيع أن يمرَّ بأي حانة دون أن يدخلها. إن فيروس المدينة يَجري في دمي. وكذلك ربما لستُ راضيًا تمامًا عن المنحى الذي تتَّخذه الحياة الريفية رغم كل شيء؛ فهي مع الأسف تمر بحالة انتقالية. إنها في مرحلة البيوت ذات الهياكل المصنوعة من عوارض خشبية، وستتطوَّر قريبًا إلى مرحلة الطوب الأحمر. وأنا أشتاق إلى زمن البيوت المبنية من جذوع الأشجار. فكلُّ ما كان المرء يحتاج إليه آنذاك كان يُصنع في المزرعة. وحين يحلُّ عصر البيوت المبنية من الطوب، سيَتفشَّى الوسطاء. لقد رأيت منذ بضعة أيام في بيت آل هوارد مجموعةً من الأحجار القديمة أثارَت اهتمامي بقدْر ما قد يُثير الرخام الآشوري اهتمامك. كانت أحجار رحًى قديمة منزلية الصُّنع، ولم تُستخدم منذ أن شُيدت البيوت ذات العوارض الخشبية. فطاحونة القمح والحبوب جعلت الزمن يعفو عليها. ولتُلاحِظ هنا بالضبط دهاء الوسيط الماكر. فالمزارع يأخذ حبوبه إلى الطاحونة، ولا يفرض الطحَّان عليه نقودًا نظير الطحن. بل يأخذ ثمن الطحن من أكياس القمح نفسها، ويتوهَّم المزارع أنَّه ينال خدمة الطحن بلا مقابل تقريبًا. الطريقة القديمة كانت الأفضل يا ريني يا بُني. لن يكون ابن المزارع سعيدًا في البيت المُشيَّد بالطوب الذي سيبنيه له البنَّاء كما كان جده سعيدًا في البيت المبني بجذوع الأشجار الذي بناه بنفسه. والحمقى يُسمُّون هذا التغيير تقدُّم الحضارة.»
قال رينمارك موافقًا إياه: «ثمة بعض المحاسن في الأوضاع الحياتية القديمة. وإذا استطاع امرؤ الجمع بين محاسن ما نُسميه الحضارة ومحاسن الحياة الريفية البسيطة، فسيُدشن وضعًا رائعًا وسارًّا بحق.»
صاح ييتس قائلًا بحماس: «بالضبط يا رينمارك، بالضبط! قصر من الحجر الرملي الأسمر في شارع فيفث أفينيو وكوخ من جذوع الشجر على شواطئ بحيرة ليك سوبيريور! سيناسبني هذا تمامًا. سأقضي كل نصف من العام في أحد المكانين.»
قال البروفيسور متأملًا: «نعم، كوخ من جذوع الشجر على الصخور وتحت الأشجار، وأمامه بحيرة، وسيكون من الرائع أن يلحق بالكوخ مكتبة جيدة.»
«وصحيفة يومية. لا تنسَ الصحافة.»
«كلا. هذا يتجاوز الحد الأقصى لما أسمح به هناك. فصحيفة يومية تعني وجود باخرة يومية أو قطار يومي. الأولى ستُرعب الأسماك وتُبعدها والثاني سيُعكِّر السكون بصافرتِه.»
تنهَّد ييتس. وقال: «لقد نسيت العقبات. هذه هي مشكلة الحضارة. لا تستطيع نيل ما تريده دون أن يَجلب في أثره الكثير ممَّا لا تريده. سأُضطرُّ إلى التخلي عن الصحيفة اليومية.»
«بل وتوجد عقبة أخرى أيضًا، أسوأ من الباخرة أو القطار.»
«ما هي؟»
«الصحيفة اليومية نفسها.»
انتصب ييتس في أرجوحته ساخطًا.
صاح قائلًا: «رينمارك! هذه إهانة للمُقدسات. فلتُقدِّس شيئًا ما يا رجل من أجل الرب. إن كنت لا تحترم الصحافة، فماذا تحترم؟ ليس أعزَّ مشاعري بالطبع، على أيِّ حال، وإلَّا ما كنت لتتكلم بهذه الوقاحة. إذا تحدثت بلطف عن صحيفتي اليومية، فسأتقبَّل مَكتبتك.»
«وهذا يذكرني بشيء: هل أحضرت أيَّ كتب معك يا ييتس؟ لقد طالعتُ معظم الكتب التي أحملها معي بالفعل، وإن كان العديد منها يَستحقُّ المطالعة مرة أخرى، ومع ذلك، لديَّ متَّسع هائل من الوقت إلى حدٍّ يجعلني أظنُّ أنني ربما أستطيع الانغماس في قدر بسيط من القراءة العامة. فحين أرسلت إليَّ تطلب منِّي لقاءك في بافالو، ظننتُ أنك ربما كنت تعتزم التسكُّع في البلاد؛ لذا لم أحضر معي من الكتب قدر ما كان ينبغي أن أحضر لو كنت أعرف أنك ستُخيِّم في العراء.»
هبَّ ييتس قافزًا من أرجوحته الشبكية.
«كُتب؟ حسنًا، بالتأكيد! ربما تظنُّ أنني لا أقرأ سوى الصحف اليومية. سأعرِّفك أنني قارئ مواظِب على القراءة بعض الشيء. يجب ألا تتصور أنك تحتكر كل الثقافة في البلدة يا بروفيسور.»
دخل الشاب إلى الخيمة، وعاد منها بعد وقت قصير حاملًا ملء ذراعَيه مجلدات صغيرة ذات أغلفة ورقية صفراء أخذ يُلقيها بغزارة عند قدمي الرجل الوافد من تورنتو. كان معظمها من روايات المغامرات الميلودرامية الرخيصة التي أصدرتها دار نشر «بيدل»، والتي حقَّقت مبيعات هائلة آنذاك.
قال: «هاك، لديك الكم والكيف والتنوع، كما أشرتُ من قبل. «سو القاتل من كالامازوو»، هذه رواية جيدة. إنها قصة هندية ستجعل شعرك يتوقف حرفيًّا من فرط الرُّعب. وهذه التي تنظر إليها قصة عن القراصنة، بناءً على صورة السفينة المُحترقة الظاهرة على غلافها. ولكن إذا كنتَ تريد قصصًا طويلة مُمتازة عن قُطاع الطرق، فهذه الطبعة الأخرى هي الأفضل. تلك مجموعة «سيكستين سترينج جاك». إنها ضخمة، وإن كان سعر الواحدة منها ربع دولار. يجب أن تبدأ بالمجلَّد الصحيح، وإلَّا ستندم. فكما ترى، إنها لا تنتهي أبدًا في الحقيقة، مع أنَّ كل مجلَّد من المفترض أن يكون تامًّا في حد ذاته. فالمجلدات تتوقف عند النقطة الأشد تشويقًا، وتُستأنف القصة في المجلد التالي. أرى هذه فكرة جيدة، لكنها مثيرة للغضب إذا بدأتَ من الكتاب الأخير. ستَستمتِع بهذا جدًّا. أنا سعيد بأنني أحضرتُها معي.»
قال رينمارك وقد ارتسم على شفتَيه شبح ابتسامة: «هذه نعمة. أستطيع القول بكل صدق إنها جديدة تمامًا عليَّ.»
صاح ييتس بنبرة متعالية ملوِّحًا بيده: «لا بأس يا بُني. استخدمها كأنها ملكك.»
قام رينمارك على مهل، وأخَذ كمية من الكتب.
قال: «ستكون هذه مُمتازة في إشعال نيران المخيم الصباحية. وإذا كنت ستَسمح لي بأن أعتبرها ملكي، فهذا هو الغرض الذي سأستخدمها من أجله. فأنت بالتأكيد لا تقصد القول إنك تقرأ هذه النفايات، أليس كذلك يا ييتس؟»
صاح ييتس ساخطًا: «نفايات؟ أستحقُّ ذلك. هذا جزاء مَن يعاملك بكرم وإحسان يا ريني. حسنًا، لستَ مضطرًّا إلى قراءتها، ولكن إذا وضعت أحدها في النار، فستتبعه أطروحاتك البحثية الغبية، إذا لم تكن أصلب من أن تُحرَق. إنك لا تُميِّز الأدب الجيد حين تراه.»
لم يرَ البروفيسور ضرورةً للدفاع عن ذوقه الأدبي؛ إذ كان مفعمًا بالثقة، ربما بسبب الزهو الذي عادة ما يَنتاب رجلًا يحوز شهادة دبلوم حقيقية من جلد الأغنام ممنوحة من جامعة مرموقة. فشغل نفسه بتقليم عصًا كان قد قطعها من إحدى أشجار الغابة وشكَّلها أخيرًا في هيئة عصا سير. كان رجلًا رياضيًّا، ولم يُناسبه كسلُ حياة المخيم كما ناسَبَ ييتس. اختبر العَصا بطرق مختلفة بعدما قلَّمها حسب رغبته.
سأل صاحبه المسترخي في الأرجوحة الشبكية: «أمستعدٌّ للسير عشرة أميال؟»
«يا إلهي، لا. فالمرء لا يُريد السير هنا بالأسفل إلَّا قليلًا، ولا يريد كذلك أن تبلغ مسافة مسيره عشرة أميال. فأنا رجل قنوع. أنت راحل، أليس كذلك؟ حسنًا، وداعًا. وأصغِ إليَّ يا ريني، فلتُحضِر معك بعض الخبز وأنت عائد إلى المُخيَّم. فهذا هو الشيء الوحيد الآمن الذي يُمكِن فعله.»