الكلام في ماهية الحب
الحب — أعزك الله — أوله هَزل وآخره جِد، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمُنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبد الرحمن بن معاوية لدَعجاء، والحَكَم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم وشغفهُ بطروب أُم عبد الله ابنه أشهرُ من الشمس، ومحمد بن عبد الرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف مَعلوم، والحكم المستنصر وافتتانُه بصبح أم هشام المؤيَّد بالله — رضي الله عنه وعن جميعهم — وامتناعُه عن التعرُّض للولد من غيرها، ومثل هذا كثير. ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة — وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزمُ وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قُصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم — لأوردتُ من أخبارهم في هذا الشأن غيرَ قليل.
وأما كِبار رجالهم ودعائم دولتهم فأكثر من أن يُحصَوا، وأحدثُ ذلك ما شاهدناه بالأمس من كلف المظَفَّر بن عبد الملك بن أبي عامر بواحدة، بنت رجل من الجبائين، حتى حمله حُبُّها أن يتزوجها، وهي التي خَلف عليها بعد فناء العامر بن الوزير عبد الله بن مَسلمة، ثم تزوجها بعد قتلِهِ رجلٌ من رؤساء البربر.
ومما يشبه هذا أن أبا العيش بن مَيمون القُرشي الحسيني أخبرني أن نزار بن معد، صاحب مصر، لم يرَ ابنه منصور بن نزار الذي ولي الملك بعده وادعى الإلهية إلَّا بعد مدة من مولده، مساعدةً لجارية كان يُحبها حبًّا شديدًا. هذا ولم يكن له ذَكَر ولا من يَرث ملكه ويُحيي ذكره سواه.
ومن الصالحين والفقهاء في الدهور الماضية والأزمان القديمة مَن قد أستغني بأشعارهم عن ذكرهم، وقد ورد من خبر عُبيد الله بن عُتبة بن مسعود وشعره ما فيه الكفاية، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد جاء من فُتيا ابن عبَّاس — رضي الله عنه — ما لا يحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عَقْل ولا قود.
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود — رحمه الله — عن بعض أهل الفلسفة: الأرواح أُكَرٌ مقسومة، لكنْ على سبيل مناسبة قواها في مقرِّ عالمها العلوي ومجاورتها في هيئة تركيبها.
وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال. والشكل دأبًا يستدعي شكله، والمِثْل إلى مِثْله ساكن، وللمُجانسة عملٌ محسوس وتأثير مشاهد، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تَشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالَمُها العالَم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعَّاد المعتدل، وسِنْخها المهيَّأ لقَبول الاتفاق والمَيل والتَّوق والانحراف والشهوة والنفار! كل ذلك معلوم بالفطرة في أحوال تصرُّف الإنسان فيسكن إليها، والله عز وجل يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا؛ فجعل علَّة السكون أنها منه. ولو كان علةُ الحب حُسن الصورة الجسديَّة لوجب ألَّا يُستحسن الأنْقصُ من الصورة، ونحن نجد كثيرًا ممن يُؤثر الأدنى ويَعلم فضلَ غيره ولا يجد محيدًا لقلبه عنه، ولو كان للمُوافقة في الأخلاق لَمَا أحب المرء من لا يساعده ولا يُوافقه؛ فعِلْمُنا أنه شيء في ذات النفس. وربما كانت المَحبة لسبب من الأسباب، وتلك تفنى بفناء سببها؛ فمن ودَّك لأمر ولَّى مع انقضائه، وفي ذلك أقول:
ومما يؤكِّد هذا القول أننا علمنا أن المحبة ضُروب، فأفضلها محبَّة المتحابِّين في الله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحلة والمذاهب، وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان.
ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابَّين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المُمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت. وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه، وذا السِّن المتناهية إذا ذكَّرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب، واهتاج له الحنين.
ولا يعرض في شيء من هذه الأجناس المذكورة، مِن شُغل البال والخَبل والوسواس، وتبدُّل الغرائز المركبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنُّحول والزفير وسائر دلائل الشجا؛ ما يعرض في العشق؛ فصحَّ بذلك أنه استحسان رُوحاني، وامتزاج نَفساني، فإن قال قائل: لو كان هذا كذلك لكانت المحبَّة بينهما مستوية؛ إذ الجزءان مشتركان في الاتصال وحظهما واحد. فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لَعمري معارضة صحيحة، ولكنَّ نفس الذي لا يحب من يُحبه مكتنفةُ الجهات ببعض الأعراض الساترة والحُجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية، فلم تُحس بالجزء الذي كان متصلًا بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلَّصت لاستويا في الاتصال والمحبة.
ونفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغناطيس والحديد، قوة جوهر المغناطيس المتصلة بقوة جوهر الحديد لم تبلغ من تحكمها ولا من تصفيتها أن تقصد إلى الحديد على أنه من شكلها وعنصرها، كما أن قوة الحديد لشدتها قصدت إلى شكلها وانجذبت نحوه؛ إذ الحركة أبدًا إنما تكون من الأقوى، وقوة الحديد متروكة الذات غير ممنوعة بحابسٍ، تطلب ما يشبهها، وتنقطع إليه، وتنهض نحوه بالطبع والضرورة، وبالاختيار والتعمُّد.
وأنت متى أمسكت الحديد بيدك لم ينجذب؛ إذ لم يبلغ من قوته أيضًا مغالبةَ المُمسك له مما هو أقوى منه. ومتى كثرت أجزاء الحديد اشتغل بعضها ببعض، واكتفت بأشكالها عن طلب اليسير من قواها النازحة عنها، فمتى عظُم جِرم المغناطيس ووازت قُواه جميعَ قُوى جِرم الحديد عادت إلى طبعها المعهود. وكالنار في الحجر لا تبرز على قوة الحجر في الاتصال والاستدعاء لأجزائها حيث كانت إلا بعد القدح ومجاورة الجِرمين بضغطهما واصطكاكهما، وإلا فهي كامنة في حَجرها لا تبدو ولا تظهر.
ومن الدليل على هذا أيضًا أنك لا تجد اثنين يتحابَّان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق الصفات الطبيعية، لا بد في هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المُجانسة وتأكَّدت المودة. فانظر هذا تراه عِيانًا، وقولُ رسول الله ﷺ يؤكِّده: «الأرواح جنود مجندة، ما تَعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.» وقولٌ مرويٌّ عن أحد الصالحين: «أرواح المؤمنين تتعارف.» ولهذا ما اغتم بقراط حين وُصف له رجل من أهل النقصان يُحبه، فقيل له في ذلك، فقال: ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه.
وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلمًا، فلم يزل يحتجُّ عن نفسه حتى أظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء؛ فما لك وله؟ فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل، غير أني أجد لنفسي استثقالًا لا أدري ما هو. فأدَّى ذلك إلى أفلاطون، قال: فاحتجتُ أن أفتش في نفسي وأخلاقي أجد شيئًا أقابل به نفسه وأخلاقه مما يشبهها، فنظرت في أخلاقه فإذا هو محب للعدل كاره للظلم، فميزت هذا الطبع فيَّ، فما هو إلا أن حركت هذه الموافقة، وقابلت نفسه بهذا الطبع الذي بنفسي، فأمر بإطلاقي وقال لوزيره: قد انحلَّ كل ما أجد في نفسي له.
وأما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئًا من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة.
وإن للصور لتوصيلًا عجيبًا بين أجزاء النفوس النائية، وقرأت في السفر الأول من التوراة أن النبي يعقوب عليه السلام أيام رَعيه غنمًا لابن خاله مهرًا لابنته شارَطه على المشاركة في إنسالها، فكل بَهيم ليعقوب وكل أغر للابان، فكان يعقوب عليه السلام يعمد إلى قضبان الشجر يسلخ نصفًا ويترك نصفًا بحاله، ثم يلقي الجميع في الماء الذي تَرده الغنم، ويتعمد إرسال الطروقة في ذلك الوقت فلا تلد إلا نصفين؛ نصفًا بُهْمًا ونصفًا غُرًّا.
وذكر عن بعض القافة أنه أُتى بابن أسود لأبْيضَين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما غير شك، فرغب أن يُوقَف على الموضع الذي اجتمعا عليه، فأُدخل البيتَ الذي كان فيه مَضْجعهما، فرأى فيما يوازي نظر المرأة صورةَ أسود في الحائط، فقال لأبيه: مِن قِبل هذه الصورة أُتيتَ في ابنك.
وكثيرًا ما يصرف شعراء أهل الكلام هذا المعنى في أشعارهم، فيخاطبون المرئيَّ في الظاهر خطابَ المعقول الباطن، وهو المستفيض في شعر النظَّام إبراهيم بن سيَّار وغيره من المتكلمين، وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
ومن ذلك أقول:
وكان بعض أصحابنا يُسمِّي قصيدةً لي «الإدراك المتوهم»، منها:
وهذا بعينه موجود في البغضة، ترى الشخصين يتباغضان لا لمعنًى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضًا بلا سبب. والحب — أعزك الله — داء عَيَاء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقامٌ مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يودُّ سليمُها البرءَ، ولا يتمنَّى عليلُها الإفاقة، يُزيِّن للمرء ما كان يأنف منه، ويُسهِّل عليه ما كان يصعُب عنده، حتى يُحيل الطبائع المركبة والجِبِلَّة المخلوقة. وسيأتي كل ذلك ملخصًا في بابه إن شاء الله.
خبر
ولقد علمتُ فتًى من بعض معارفي قد وَحِل في الحب وتورَّط في حبائله، وأضر به الوجد، وأنضحه الدنف، وما كانت نفسُه تطيب بالدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ في كشف ما به، ولا ينطق به لسانُه، وما كان دعاؤه إلا بالوصل والتمكُّن ممن يُحب، على عظيم بلائه وطويل همه، فما الظنُّ بسقيمٍ لا يريد فقْد سقمه. ولقد جالستُه يومًا فرأيت من إكبابه وسوء حاله وإطراقه ما ساءني، فقلت له في بعض قولي: فرَّج الله عنك. فلقد رأيتُ أثر الكراهية في وجهه.
وفي مثله أقول من كلمةٍ طويلةٍ:
خبر
وهذه الصفات مخالفة لما أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم بن محمد القرشيُّ، المعروف بالشلشي، من ولد الإمام هشام بن عبد الرحمن بن معاوية، أنه لم يُحب أحدًا قط، ولا أسِف على إلفٍ بانَ منه، ولا تجاوز حد الصُّحبة والأُلفة إلى حدِّ الحُب والعشق منذ خُلق.