باب المساعد من الإخوان
ومن الأسباب المتمنَّاة في الحُب أن يهب الله عزَّ وجل للإنسان صديقًا مُخلصًا، لطيفَ القول، بسيطَ الطَّول، حسنَ المأخذ، دقيقَ المنفذ، متمكنَ البيان، مُرهف اللسان، جليل الحلم، واسع العلم، قليل المخالفة، عظيم المساعفة، شديد الاحتمال، صابرًا على الإدلال، جم الموافقة، جميل المخالفة، مستوي المطابقة، محمود الخلائق، مكفوف البوائق، محتوم المساعدة، كارهًا للمباعدة، نبيل المدخل، مصروف الغوائل، غامض المعاني، عارفًا بالأماني، طيب الأخلاق، سريَّ الأعراق، مكتوم السر، كثير البر، صحيح الأمانة، مأمون الخيانة، كريم النفس، نافذ الحس، صحيح الحدْس، مضمون العون، كامل الصون، مشهور الوفاء، ظاهر الغَناء، ثابت القريحة، مبذول النصيحة، مستيقن الوداد، سهل الانقياد، حسن الاعتقاد، صادق اللهجة، خفيف المهجة، عفيف الطباع، رحب الذراع، واسع الصدر، متخلقًا بالصبر، يألف الإمحاض، ولا يعرف الإعراض، يستريح إليه ببلابله، ويشاركه في خلوة فكره، ويفاوضه في مكتوماته.
وإن فيه للمحب لأعظمَ الراحات، وأين هذا، فإن ظفرتْ به يداك فشُدَّهما عليه شد الضنين، وأمسك بهما إمساك البخيل، وصُنْه بطارفك وتالدك، فمعه يكمل الأنس، وتنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونًا جميلًا، ورأيًا حسنًا؛ ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخففوا عنهم بعضَ ما حملوه من شديد الأمورِ، وطُوِّقوه من باهض الأحمال، ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدوا بكفايتهم، وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يَرِد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها.
ولقد كان بعض المحبين، لعدمه هذه الصفة من الإخوان، وقلَّة ثقته منهم لما جرَّبه من الناس، وأنه لم يعدم مَن باح إليه بشيء من سرِّه أحد وجهين؛ إما إزراءً على رأيه، وإما إذاعةً لسره، أقام الوحدة مقام الأنس، وكان ينفرد في المكان النازح عن الأنيس، ويناجي الهوى، ويكلم الأرض، ويجد في ذلك راحة كما يجد المريض في التأوُّه، والمحزون في الزفير؛ فإن الهموم إذا ترادفت في القلب ضاق بها، فإن لم يُنْضِ منها شيء باللِّسان، ولم يسترح إلى الشكوى، لم يلبث أن يهلك غمًّا ويموت أسفًا. وما رأيت الإسعاد أكثر منه في النساء؛ فعندهن من المحافظة على هذا الشأن، والتواصي بكتمانه، والتواطؤ على طيِّه إذا اطَّلعن عليه ما ليس عند الرجال، وما رأيت امرأة كشفت سرَّ متحابين إلا وهي عند النساء ممقوتة مستثقلة مرمية عن قوس واحدة. وإنه ليوجد عند العجائز في هذا الشأن ما لا يوجد عند الفتيات؛ لأن الفتيات منهن ربما كشفن ما علمن على سبيل التغاير، وهذا لا يكون إلا في النُّدرة، وأما العجائز فقد يَئِسن من أنفسهن؛ فانصرف الإشفاق محضًا إلى غيرهن.
خبر
وإني لأعلم امرأةً مُوسرةً ذات جوار وخَدَم، فشاع على إحدى جواريها أنها تعشق فتًى من أهلها ويعشقها، وأن بينهما معانيَ مكروهة، وقيل لها: إن جاريتك فلانة تعرف ذلك وعندها جلية أمرها. فأخذتها وكانت غليظة العقوبة فأذاقتها من أنواع الضرب والإيذاء ما لا يَصبر على مثله جُلداء الرجال؛ رجاءَ أن تبوح لها بشيء مما ذُكر لها، فلم تفعل البتة.
خبر
وإني لأعلم امرأةً جليلةً حافظةً لكتاب الله عز وجل ناسكة مقبلة على الخير، وقد ظَفرت بكتابٍ لفتًى إلى جاريةٍ كان يكلَف بها، وكان في غير ملكها، فعرَّفته الأمر، فرام الإنكار فلم يتهيأ له ذلك، فقالت له: ما لك؟ ومن ذا عُصم؟ فلا تُبالِ بهذا، فوالله لا أطلعت على سرِّكما أحدًا أبدًا، ولو أمكنتني أن أبتاعها لك من مالي، ولو أحاط به كله، لجعلتها لك في مكان تصل إليها فيه ولا يَشعر بذلك أحد. وإنك لترى المرأة الصالحة المُسنَّة المُنقطعة الرجاء من الرجال، وأحبُّ أعمالها إليها وأرجاها للقبول عندها سعيُها في تَزويج يتيمة، وإعارة ثيابها وحَلْيِها لعروس مُقلَّة.
وما أعلم علَّة تمكُّن هذا الطبع من النساء إلا أنهن متفرغات البال من كل شيء إلا من الجماع ودواعيه، والغزل وأسبابه، والتآلف ووجوهه، لا شغل لهن غيره، ولا خُلقن لسواه، والرجال مُقتسمون في كسب المال، وصحبة السلطان، وطَلب العلم، وحياطة العيال، ومُكابدة الأسفار، والصيد، وضُروب الصناعات، ومُباشرة الحروب، ومُلاقاة الفِتَن، وتحمُّل المخاوف، وعمارة الأرض. وهذا كله مُتحيف للفراغ، صارف عن طريق البُطْل.
وقرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم يوكِّل ثقةً له بنسائه يُلقي عليهنَّ ضريبةً من غزل الصوف يشتغلن بها أبد الدهر؛ لأنهم يقولون: إن المرأة إذا بقيت بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال، وتحنُّ إلى النكاح. ولقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني رُبيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرَهن، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حدِّ الشباب وحين تفيَّل وجهي، وهن علَّمنني القرآن، وروَّينني كثيرًا من الأشعار، ودرَّبنني في الخط، ولم يكن وُكدي وإعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدًّا إلا تعرُّف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك. وأنا لا أنسى شيئًا مما أراه منهن، وأصل ذلك غيرة شديدة طُبعتُ عليها، وسوء ظنٍّ في جهتهن فُطرتُ به، فأشرفتُ من أسبابهن على غير قليل، وسيأتي ذلك مفسرًا في أبوابه، إن شاء الله تعالى.