باب الواشي
ومن آفات الحُب الواشي، وهو على ضربين؛ أحدهما واشٍ يريد القَطع بين المتحابين فقط، وإن هذا لأفترهما سوأةً، على أنه السم الذُّعاف، والصاب المُمقر، والحتف القاصد، والبلاء الوارد. وربما لم يَنجع ترقيشه. وأكثر ما يكون الواشي فإلى المحبوب، وأما المحب فهيهات؛ حال الجريض دون القريض، ومنع الحَرَب من الطرَب؛ شغله بما هو مانع له من استماع الواشي. وقد علم الوُشاة ذلك، وإنما يقصدون إلى الخليِّ البال، الصائل بحوزة الملك، المتعتب عند أقل سبب.
وإن للوُشاة ضروبًا من التَّنقيل، فمنها أن يذكر للمحبوب عمن يحب أنه غير كاتم للسر. وهذا مكان صعب المُعاناة، بطيء البُرء إلا أن يوافق معارضًا للمُحب في محبته، وهذا أمر يوجب النِّفار، فلا فرج للمحبوب إلا بأن تُساعده الأقدار بالاطلاع على بعض أسرار من يُحب، بعد أن يكون المحبوب ذا عقل، وله حظ من تمييز، ثم يَدعه والمُطاولة، فإذا تكذَّب عنده نَقْل الواشي مع ما أظهر من الجفاء والتحفظ ولم يسمع لسره إذاعة؛ علم أنه إنما زور له الباطل، واضمحل ما قام في نفسه. ولقد شاهدت هذا بعينه لبعض المُحبين مع بعض من كان يحب، وكان المحبوب شديدَ المراقبة عظيم الكتمان، وكثر الوشاة بينهما حتى ظهرت أعلام ذلك في وجهه، وحدَث في حُب لم يكن، وركبته وجمة، وأظلته فكرة، ودهمته حيرة، إلى أن ضاق صدره وباح بما نُقل إليه. فلو شاهدت مقام المحب في اعتذاره، لعلمت أن الهوى سلطان مُطاع، وبناء مشدود الأواخي، وسنان نافذ، وكان اعتذاره بين الاستسلام والاعتراف، والإنكار والتوبة والرمي بالمقاليد، فبعد لأيٍ ما صلح الأمر بينهما.
وربما ذكر الواشي أن ما يُظهر المحب من المحبة ليست بصحيحة، وأن مذهبه في ذلك شِفاء نفسه وبلوغ وَطره. وهذا فصل وإن كان شديدًا في النقل فهو أيسر مُعاناة مما قبله، فحالة المحب غير حالة المتلذذ، وشواهد الوجد متفرقة بينهما. وقد وقع من هذا نُبذ كافية في باب الطاعة. وربما نقل الواشي أن هوى العاشق مشترك، وهذه النار المُحرقة، والوَجع الفاشي في الأعضاء، وإذا وافق الناقل لهذه المقالة أن يكون المُحب فتًى حسنَ الوجه، حُلو الحركات، مرغوبًا فيه، مائلًا إلى اللذات، دُنياوي الطبع، والمحبوب امرأة جليلة القدر سرية المنصب، فأقرب الأشياء سَعْيها في إهلاكه، وتصدِّيها لحتفه. فكم صريع على هذا السبب! وكم مَن سُقي السم فقَطع أمعاءه لهذا الوجه! وهذه كانت ميتة مروان بن أحمد بن حدير، والد أحمد المتنسك، وموسى وعبد الرحمن، المعروفَين بابنَي لبنى، من قِبل قَطْر الندى جاريته. وفي ذلك أقول محذِّرًا لبعض إخواني قطعةً، منها:
والثاني واشٍ يَسعَى للقَطْع بين المُحبين لينفرد بالمحبوب ويستأثر به. وهذا أشد شيء وأقطعه، وأجزم لاجتهاد الواشي واستفادة جُهده.
ومن الوُشاة جنس ثالث، وهو واشٍ يَسعى بهما جميعًا، ويكشف سرَّهما، وهذا لا يُلتفت إليه إذا كان المحب مساعدًا. وفي ذلك أقول:
ولا بد أن أورد ما يُشبه ما نحن فيه، وإن كان خارجًا منه، وهو شيء في بيان التنقيل والنمائم؛ فالكلام يدعو بعضُه بعضًا كما شرطنا في أول الرسالة، وما في جميع الناس شر من الوُشاة، وهم النمامون، وإن النميمة لطَبْعٌ يدُل على نتن الأصل، ورداءة الفَرع، وفساد الطبع، وخُبث النشأة، ولا بد لصاحبه من الكذب.
والنميمة فرع من فروع الكذب، ونوع من أنواعه، وكل نمَّام كذَّاب، وما أحببت كذابًا قط، وإني لأسامح في إخاء كل ذي عَيب وإن كان عظيمًا، وأكِلُ أمره إلى خالقه عزَّ وجل، وآخذ ما ظَهر من أخلاقه حاشا مَن أعلمه يكذب؛ فهو عندي ماحٍ لكل محاسنه، ومُعَفٍّ على جميع خِصاله، ومُذهِبٌ كلَّ ما فيه، فما أرجو عنده خيرًا أصلًا؛ وذلك لأن كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه، وكل ذامٍّ فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه حاشا الكذب؛ فلا سبيلَ إلى الرجعة عنه، ولا إلى كتمانه حيث كان. وما رأيت قط ولا أخبرني مَن رأى كذَّابًا ترك الكذب ولم يعد إليه، ولا بدأت قط بقطيعة ذي معرفة إلا أن أطلع له على الكذب، فحينئذٍ أكون أنا القاصد إلى مجانبته، والمتعرِّض لمتاركته، وهي سِمة ما رأيتُها قط في أحد إلا وهو مَزْنون في نفسه إليه بشق، مغموز عليه لعاهة سوءٍ في ذاته. نعوذ بالله من الخذلان.
وقد قال بعض الحكماء: آخِ من شئت واجتنب ثلاثة: الأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، والمَلُول؛ فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكُّدها يخذلك، والكذاب؛ فإنه يجني عليك آمنَ ما كنت فيه من حيثُ لا تشعر.
وحديث عن رسول الله ﷺ: حُسن العهد من الإيمان.
وعنه عليه السلام: لا يُؤمِن الرجلُ بالإيمان كله حتى يدع الكذب في المُزاح.
حدثنا بهما أبو عمر أحمد بن محمد، عن محمد بن عليِّ بن رِفاعة، عن عليِّ بن عبد العزيز، عن أبي عُبيد القاسم بن سلَّام عن شيوخه، والآخر منهما مُسند إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله — رضي الله عنهما.
والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.
وعن رسول الله ﷺ أنه سُئل: هل يكون المؤمن بَخيلًا؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المُؤمن جَبانًا؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن كَذَّابًا؟ قال: لا.
حدَّثناه أحمد بن محمد بن أحمد، عن أحمد بن سَعيد، عن عُبيد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك بن أنس، عن صَفوان بن سليم.
وبهذا الإسناد أن رسول الله ﷺ قال: لا خيرَ في الكذب. في حديثٍ سُئل فيه.
وبهذا الإسناد عن مالك أنه بلغه عن ابن مسعود أنه كان يقول: لا يزال العَبد يكْذِب ويُنكَت في قلبه نُكتة سوداء حتى يَسودَّ القلب؛ فيُكتب عند الله من الكذابين.
وبهذا الإسناد عن ابن مسعود — رضي الله عنه — أنه قال: عليكم بالصِّدق؛ فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب؛ فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
وروي أنه أتاه ﷺ رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني أستتر بثلاث: الخمر والزنا والكذب؛ فمُرني أيهما أترك. قال: اترك الكذب. فذهب عنه، ثم أراد الزنا ففكَّر فقال: آتي رسول الله ﷺ فيسألني: أزنيت؟ فإن قلت: نعم، حدَّني، وإن قلت: لا، نقضت العهد. فتركه، ثم كذلك في الخمر، فعاد إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني تركت الجميع.
فالكذب أصل كل فاحشة، وجامع كل سوء، وجالبٌ لمقت الله عز وجل. وعن أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — أنه قال: لا إيمان لمن لا أمانة له.
وعن ابن مسعود — رضي الله عنه — أنه قال: كل الخلال يُطبع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب. وعن رسول الله ﷺ أنه قال: ثلاث من كُنَّ فيه كان منافقًا: من إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان.
وهل الكُفر إلا كذب على الله عز وجل؟ والله الحق، وهو يحب الحق، وبالحق قامت السموات والأرض. وما رأيت أخزى من كذَّاب، وما هلكت الدول، ولا هلكت الممالك، ولا سُفكت الدماء ظلمًا، ولا هُتكت الأستار بغير النمائم والكذب، ولا أُكِّدت البغضاء والإحَن المُردية إلا بنمائم لا يَحْظى صاحبها إلا بالمَقت والخزي والذل، وأن ينظر منه الذي ينقل إليه، فضلًا عن غيره، بالعين التي ينظر بها من الكلب. والله عزَّ وجل يقول: وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ، ويقول جلَّ من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا — فسمى النقل باسم الفسوق، ويقول: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ. والرسول عليه السلام يقول: لا يدخل الجنة قَتَّات. ويقول: وإياكم وقاتل الثلاثة. يعني المنقِّل والمنقول إليه والمنقول عنه. والأحنف يقول: الثقة لا يبلِّغ، وحق لذي الوَجهين ألَّا يكون عند الله وجيهًا. وهو ما يَجعله من أخس الطبائع وأرذلها.
ولي إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى الثَّقفي الشاعر — رحمه الله — وقد نقَل إليه رجل من إخواني عني كذبًا على جهة الهزل، وكان هذا الشاعر كثيرَ الوهم فأغضبه وصدَّقه، وكلاهما كان لي صديقًا، وما كان الناقل إليه من أهل هذه الصفة، ولكنه كان كثير المُزاح جمَّ الدعابة، فكتبت إلى أبي إسحاق، وكان يقول بالخبر، شعرًا، منه:
وكتبتُ إلى الذي نَقل عني شعرًا، منه:
وكان لي صديق مرةً، وكثر التدخيل بيني وبينه حتى كَدح ذلك فيه واستبان في وجهه وفي لحظه، وطُبعتُ على التأني والتربُّص والمُسالمة ما أمكنت، ووجدت بالانخفاض سبيلًا إلى معاودة المودة، فكتبت إليه شعرًا، منه:
وأقول مخاطبًا لعُبيد الله بن يحيى الجزيري الذي يحفظ لعمِّه الرسائل البليغة، وكان طبْعُ الكذب قد استولى عليه، واستحوذ على عقله، وألفه ألفة النفس الأمل، ويؤكِّد نقلَه وكذبَه بالأيمان المؤكِّدة المُغلَّظة، مجاهرًا بها أكذب من السراب، مستهترًا بالكذب مشغوفًا به، لا يزال يحدث من قد صحَّ عنده أنه لا يصدقه، فلا يزجره ذلك عن أن يحدث بالكذب:
وفيه أقول قطعةً، منها:
وفيه أيضًا أقول من قصيدة طويلة:
وليس من نَبَّه غافلًا، أو نصح صديقًا، أو حفظ مسلمًا، أو حكى عن فاسق، أو حدَّث عن عدو — ما لم يكن يَكذِب ولا يكذب ولا تعمد الضغائن — متنقِّلًا. وهل هلك الضعفاء وسقط من لا عقل له إلا في قلة المعرفة بالناصح من النمام؟ وهما صفتان متقاربتان في الظاهر، متفاوتتان في الباطن، إحداهما داء والأخرى دواء، والثاقب القريحة لا يخفى عليه أمرهما، لكن الناقل من كان تنقيله غيرَ مرضيٍّ في الديانة، ونوى به التشتيت بين الأولياء، والتضريب بين الإخوان، والتحريش والتوبيش والترقيش. فمن خاف إن سلك طريق النصيحة أن يقع في طريق النميمة، ولم يثق لنفاذ تمييزه ومضاء تقديره فيما يَرِدُه من أمور دنياه ومعاملة أهل زمانه، فليجعل دينه دليلًا له وسراجًا يستضيء به، فحيثما سلك به سلك، وحيثما أوقفه وقف؛ فشارع الشريعة وباعث الرسول عليه السلام ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق، وأدرى بعواقب السلامة ومغبَّات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه، وباحث بقياسه في ظنه.