باب البَيْن
وقد علمنا أنه لا بد لكل مُجتمِع من افتراق، ولكل دانٍ من تَناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين، وما شيء من دواهي الدنيا يَعدل الافتراق، ولو سالت الأرواحُ به فضلًا عن الدموع كان قليلًا. وسمع بعضُ الحكماء قائلًا يقول: الفِراق أخو الموت. فقال: بل الموت أخو الفراق.
والبين ينقسم أقسامًا؛ فأولها مُدة يُوقَن بانصرامِها وبالعودة عن قريب، وإنه لشَجًى في القلب، وغُصَّة في الحلق لا تبرأ إلا بالرَّجعة. وأنا أعلم من كان يَغيب من يُحب عن بصره يومًا واحدًا فيعتريه من الهلَع والجزَع وشُغل البال وتُرادُف الكُرَب ما يكاد يأتي عليه.
ثم بَيْنٌ مَنْعٌ من اللِّقاء، وتَحظيرٌ على المحبوب من أن يراه مُحبُّه، فهذا — ولو كان مَن تُحبُّه معك في دارٍ واحدة — فهو بَينٌ؛ لأنه بائنٌ عنك. وإن هذا ليولِّد من الحزن والأسفِ غير قليل، ولقد جرَّبناه فكان مُرًّا، وفي ذلك أقول:
وأقول من قصيدة مُطوَّلة:
ثم بَيْنٌ يتعمَّده المحبُّ بُعْدًا عن قول الوُشاة، وخوفًا أن يكون بقاؤه سببًا إلى منع اللقاء، وذريعةً إلى أن يَفشوَ الكلام فَيقَع الحجابُ الغليظ.
ثم بَيْنٌ يولِّده المُحبُّ لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعُذره مقبول أو مُطرح على قدر الحافز له إلى الرحيل.
خبر
ولعهدي بصديق لي دارُه المريَّة، فعَنَّتْ له حوائجُ إلى شاطِبة فقصدها، وكان نازلًا بها في منزلي مدةَ إقامته بها، وكان له بالمريَّة علاقة هي أكبر همِّه، وأدهى غَمِّه، وكان يُؤمِّلُ بَتَّها وفراغ أسبابه، وأن يُوشك الرَّجعة ويُسرع الأوبة، فلم يكن إلا حِينٌ لطيف بعد احتلاله عندي حتى جَيَّشَ الموفَّق أبو الحسن مجاهد، صاحب الجزائر، الجيوش وقَرَّب العساكر، ونابذ خَيران صاحب المريَّة، وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب، وتُحوميت السُّبل، واحتُرس البحر بالأساطيل، فتضاعف كَرْبه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلًا البتة، وكاد يَطفَأ أسفًا، وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوُجوم، ولعمري لقد كان ممن لم أقدُر قط فيه أنَّ قلبه يُذعن للود، ولا شراسةَ طَبعِه تجيب إلى الهوى.
وأذكر أني دخلتُ قرطبة بعد رحيلي عنها، ثم خرجتُ منصرفًا عنها، فضمَّني الطريق مع رجل من الكُتَّاب قد رحل لأمر مُهمٍّ وتَخلَّف سَكْنٌ له، فكان يَرتمض لذلك. وإني لأعلم مَن عَلِق بهوًى له، وكان في حال شَظف، وكانت له في الأرض مذاهبُ واسعة، ومناديح رَحْبة، ووُجوه متصرف كثيرة، فهان عليه ذلك وآثر الإقامة مع من يحب. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
ثم بَيْنُ رحيلٍ وتباعدِ ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يَحدُث تلاقٍ، وهو الخَطب المُوجع، والهم المُفظع، والحادث الأشنع، والداء الدويُّ. وأكثر ما يكون الهلَع فيه إذا كان النائي هو المحبوب، وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيرًا. وفي ذلك أقول قصيدةً، منها:
وأقول من قصيدة:
وأقول من قصيدة:
وأقول شعرًا، منه:
وأقول من قصيدة:
وإنَّ للأوبة من البَيْن الذي تُشفق منه النفس لِطُول مسافته، وتكاد تيأس من العودة فيه لروعةً تبلغ ما لا حدَّ وراءه، وربما قتلت. وفي ذلك أقول:
وإني لأعلم مَن نأت دارُ محبوبه زمنًا ثم تيسَّرت له أوبة، فلم يكن إلا بقَدْر التسليم واستيفائه، حتى دعتْه نوًى ثانية فكاد أن يَهلِك. وفي ذلك أقول:
وفي الأوبة بعد الفراق أقول قطعةً، منها:
خبر
ولقد نُعي إليَّ بعضُ مَن كنتُ أحبُّ من بلدة نازحة، فقمتُ فارًّا بنفسي نحو المقابر وجعلتُ أمشي بينها وأقول:
ثم اتصل بعد حينٍ تكذيبُ ذلك الخبرِ، فقلت:
ويقع في هذين الصنفين من البَينِ الوداعُ؛ أعني رحِيلَ المُحب أو رحيل المحبوب. وإنه لمن المناظر الهائلة والمواقف الصعبة التي تَفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتَسكب كلُّ عينٍ جمود، ويَظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البَيْن يجب التكلُّم فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفًا يموت في ساعة الوداع لكان معذورًا إذا تفكَّر فيما يَحُلُّ به بعد ساعة من انقطاع الآمال، وحلول الأوجال، وتبدُّل السرور بالحزن. وإنها ساعة تُرِقُّ القلوب القاسية، وتُلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزَّفرة بعد الوداع لهاتكةٌ حجابَ القلب، ومُوصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركةُ الوجه في ضد هذا.
والإشارة بالعين والتبسُّم في مواطن المُوافقة والوداع ينقسم قسمين؛ أحدهما لا يتمكَّن فيه إلا بالنظر والإشارة، والثاني يتمكن فيه بالعناق والملازمة، وربما لعلَّه كان لا يُمكن قبل ذلك البتة مع تجاور المحال وإمكان التلاقي؛ ولهذا تمنَّى بعضُ الشعراء البَيْنَ ومدَحوا يوم النَّوَى، وما ذاك بحَسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي؛ فما يفي سرورُ ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أيامًا وشهورًا وربما أعوامًا! وهذا سوء من النظر ومعْوجٌّ من القياس، وإنما أثنيتُ على النوى في شعري تمنِّيًا لرجوع يومها، فيكون في كل يوم لقاء ووداع. على أن تَحمُّل مضض هذا الاسم الكريه، وذلك عندما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها، يرغِّب المحب عن يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم. وفي الصنف الأول من الوداع أقول شعرًا، منه:
وفي الصنف الثاني من الوداع أقول شعرًا، منه:
ومنه:
وهل هجس في الأفكار أو قام في الظنون أشنعُ وأوجع من هَجر عِتاب وقع بين مُحبَّين، ثم فجأتْهما النوى قبل حلول الصُّلح وانحلال عُقدة الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نُسي العِتاب، وجاء ما طَمَّ على القُوى وأطار الكرى. وفيه أقول شعرًا، منه:
وأعرف من أتى ليُودِّع محبوبَه يوم الفِراق فوجده قد فات، فوقف على آثاره ساعةً وتردَّد في الموضع الذي كان فيه ثم انصرف كئيبًا متغيِّر اللون كاسف البال، فما كان بعد أيام قلائل حتى اعتلَّ ومات — رحمه الله.
وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملًا عجبًا، ولقد رأيتُ من كان حبُّه مكتومًا، وبما يَجِد فيه مستترًا حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
وأقول:
ولقد أذكرني هذا أني حَظيتُ في بعض الأزمان بمودة رجل من وزراء السلطان أيام جاهه، فأظهر بعض الامتساك، فتركته حتى ذهبت أيامه وانقضت دولته، فأبدى لي من المودة والأُخوَّة غير قليل، فقلت:
ثم بَينُ الموت؛ وهو الفوت، وهو الذي لا يُرجى له إياب، وهو المصيبة الحالَّة، وهو قاصمة الظهر، وداهية الدهر، وهو الويل، وهو المُغَطِّي على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء، وماحي كل طمع، والمؤيس من اللقاء. وهنا حادت الألسن، وانجذم حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعًا أو كرهًا. وهو أجلُّ ما يُبتلى به المحبون، فما لمن دُهي به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلَف أو يَملَّ، فهي القرحة التي لا تُنكى، والوجع الذي لا يفنى، وهو الغمُّ الذي يتجدَّد على قدر بلاء من اعتمدته، وفيه أقول:
وقد رأينا مَن عَرض له هذا كثيرًا، وعنِّي أخبرك أني أحدُ من دُهي بهذه الفادحة، وتعجَّلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنتُ أشدَّ الناس كلفًا وأعظمهم حُبًّا بجاريةٍ لي، كانت فيما خلا اسمها نُعْم، وكانت أمنيةَ المتمنِّي وغايةَ الحسن خَلْقًا وخُلُقًا ومُوافَقةً لي، وكنت أنا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتْني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومرُّ النهار، وصارت ثالثةَ التراب والأحجار، وسنِّي حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمتُ بعدها سبعةَ أشهر لا أتجرَّد عن ثيابي، ولا تَفتر لي دمعة على جُمود عيني وقلة إسعادها. وعلى ذلك فوالله ما سلوتُ حتى الآن، ولو قُبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة عليَّ مسارعًا طائعًا، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيتُ ذِكرها، ولا أنِسْتُ بسواها. ولقد عَفَّى حُبي لها على كل ما قبله، وحرَّم ما كان بعده. ومما قلتُ فيها:
ومن مراثيَّ فيها قصيدة، منها:
ومنها:
وأقول أيضًا في قصيدةٍ أخاطب فيها ابن عمي أبا المُغيرة عبدَ الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حَزم بن غالب وأقرضه، فأقول:
واختلف الناسُ في أي الأمرين أشد؛ البينُ أم الهجر؟ وكلاهما مُرتقًى صعبٌ، وموت أحمر، وبليَّة سوداء، وسنة شَهباء. وكُلٌّ يَستبشع من هذين ما ضادَّ طبعه، فأما ذو النفس الأبية الألوف الحنانة، الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مُصيبة البَين؛ لأنه أتى قصدًا، وتعمدتْه النوائب عمدًا، فلا يجد شيئًا يُسلِّي نفسه ولا يصرف فكرته في معنًى من المعاني إلا وجد باعثًا على صبابته، ومحركًا لأشجانه، وعليه لا له، وحجَّة لوجده، وحاضًّا على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو، ورائد الإقلاع.
وأما ذو النفس التوَّاقة الكثيرة النزوع والتطلع، القلوق العزوف، فالهجر داؤه، وجالبُ حتفه، والبَين له مَسلاة ومنساة.
وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط، ويوشك إن دام أن يُحدث إضرارًا، وفي ذلك أقول:
وأقول:
ولقد رأيت مَن يستعمل هجر محبوبه ويتعمده خوفًا من مرارة يوم البَيْن وما يَحدُث به من لوعة الأسف عند التفرُّق. وهذا وإن لم يكن عندي من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة على أن البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفًا من البين! ولم أجد أحدًا في الدنيا يلوذ بالبين خوفًا من الهجر، وإنما يأخذ الناسُ أبدًا الأسهل ويتكلَّفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لأن أصحابه قد استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها، ولعل ما تخوَّفوه لا يكون، وليس من يتعجل المكروه، وهو على غير يقين مما يتعجل، بحكيم. وفيه أقول شعرًا، منه:
وأذكرُ لابن عمي أبي المغيرة في هذا المعنى، من أن البينَ أصعبُ من الصدِّ، أبياتًا من قصيدة خاطبني بها وهو ابن سبعة عشر عامًا أو نحوها، وهي:
ولي في هذا المعنى قصيدة مطولة، أولها:
والبَيْن أبكى الشعراء على المعاهد، فأدرُّوا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكروا ما قد سلف لهم فيها فأعولوا وانتحبوا، وأحيت الآثار دفين شوقهم فناحُوا وبكَوْا.
ولقد أخبرني بعضُ الورَّاد من قرطبة، وقد استخبرتُه عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مُغيث، في الجانب الغربي منها، وقد امَّحت رسومها، وطُمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيَّرها البلى، وصارت صحاريَ مجدبة بعد العمران، وفيافيَ مُوحشة بعد الأنس، وخرائبَ مُنقطعة بعد الحُسن، وشِعابًا مُفزِّعة بعد الأمن، ومأوًى للذئاب، ومعازفَ للغِيلان، وملاعبَ للجان، ومكامنَ للوحوش، بعد رجال كالليوث، وخرائدَ كالدُّمى تفيض لديهم النِّعَم الفاشية. تبدَّد شملهم فصاروا في البلاد أياديَ سبأ، فكأن تلك المحاريب المنمَّقة، والمقاصير المزينة، التي كانت تُشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، حين شَمِلها الخرابُ وعمَّها الهَدْم كأفواه السباع فاغرة، تُؤذن بفناء الدنيا، وتُريك عواقب أهلها، وتُخبرك عمَّا يصير إليه كل من تراه قائمًا فيها، وتَزهد في طلبها بعد أن طالما زهدت في تركها.
وتذكرت أيامي بها ولَذَّاتي فيها، وشُهور صبايَ لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم، ومثَّلت لنفسي كَونهن تحت الثرى، وفي الآثار النائية، والنواحي البعيدة، وقد فرَّقتهن يدُ الجلاء، ومزقتهن أكفُّ النوى، وخُيل إلى بَصري بقاء تلك النصبة بعدما علمتُهُ من حسنها وغضارتها، والمراتب المحكمة التي نشأت فيها لديها، وخلاء تلك الأفنية بعد تضايقها بأهلها، وأوهمتُ سمعي صوتَ الصدى والهام عليها، بعد حركة تلك الجماعات التي رُبِّيت بينهم فيها، وكان ليلها تبعًا لنهارها في انتشار ساكنها، والتقاء عمارها، فعاد نهارُها تبعًا لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني، وأوجع قلبي، وقرع صفاة كبدي، وزاد في بلاء لُبي، فقلت شعرًا، منه:
والبَيْنُ يَولِّد الحنين والاهتياج والتذكُّر، وفي ذلك أقول: