باب القنوع
ولا بد للمُحب، إذا حُرم الوصل، من القنوع بما يجد، وإن في ذلك لمتعللًا للنفس، وشغلًا للرجَاء، وتجديدًا للمُنى، وبعضَ الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكُّن؛ فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومِن سريِّ ما يَسنح في الدهر مع ما تبدَّى من الخَفَر والحياء؛ لما يعلمه كل واحدٍ منهما مما في نفس صاحبه. وهي على وجهين؛ أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع، والوجه الثاني أن يزور المحبوبُ مُحبَّه، ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر. وفي ذلك أقول:
وأما رَجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال، وإن كنت أنا أقول في قصيدة لي:
فإنما هذا لمن ينتقل من مَرتبة إلى ما هو أدنى منها، وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وأني لأعلم مَن كان يقول لمحبوبه: عِدني واكذب. قُنوعًا بأن يُسلِّيَ نفسه في وعده وإن كان غيرَ صادق، فقلتُ في ذلك:
ومما يدخل في هذا الباب شيءٌ رأيته ورآه غيري معي، أن رجلًا من إخواني جَرحه من كان يُحبه بمُدية، فلقد رأيته وهو يُقبِّل مكان الجُرح ويندُبه مرة بعد مرة، فقلت في ذلك:
ومن القنوع أن يُسر الإنسان ويَرضى ببعض آلات محبوبه، وإنَّ له من النفس لموقعًا حَسنًا وإن لم يكن فيه إلا ما نَص الله تعالى علينا، من ارتداد يعقوب بصيرًا حين شَم قميص يوسف عليهما السلام. وفي ذلك أقول:
وما رأيتُ قط متعاشقَين إلَّا وهما يتهاديان خُصل الشعر مُبخَّرةً بالعنبر، مرشوشةً بماء الورد، وقد جُمعت في أصلها بالمُصْطكي وبالشمع الأبيض المصفَّى، ولُفَّت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك؛ لتكون تذكرةً عند البين.
وأما تهادي المَساويك بعد مَضغها، والمُصْطكي إثر استعمالها، فكثير بين كُل متحابَّين قد حُظِر عليهما اللقاء. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
خبر
وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صِقِلِّية، وذكر أنه كان غايةً في الجمال، فشاهده يومًا في بعض المتنزهات ماشيًا وامرأة خلفه تنظر إليه، فلما أبعد أتت إلى المكان الذي قد أثَّر فيه مشيُه فجعلت تُقَبِّله وتلثم الأرض التي فيها أثرُ رجله. وفي ذلك أقول قطعةً أولُها:
وأقول:
ومن القُنوع الرِّضا بمَزار الطَّيف وتَسليم الخيال. وهذا إنما يحدُث عن ذكر لا يفارق، وعهد لا يحول، وفكر لا ينقضي، فإذا نامت العيون وهدأت الحركات سرَى الطيف. وفي ذلك أقول:
وأقول:
وللشعراء في علَّة مَزار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى، مُخترعة، كلٌّ سبق إلى معنًى من المعاني؛ فأبو إسحاق بن سيَّار النظَّام، رأس المُعتزلة، جعل علة مزار الطَّيف خوفَ الأرواح من الرقيب المرقَّب على بهاء الأبدان، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي جعل علَّته أن نِكاح الطيف لا يُفسد الحُبَّ، ونِكاحَ الحقيقة يفسده، والبُحتري جعل علَّة إقباله استضاءته بنار وَجده، وعلَّة زواله خوف الغرق في دموعه، وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم — فلهم فضل التقدم والسابقة، وإنما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداءً بهم، وجريًا في ميدانهم، وتتبعًا لطريقتهم التي نهجوا وأوضحوا — أبياتًا بيَّنت فيها مزارَ الطيف مقطَّعةً:
وحال المَزور في المنام ينقسم أقسامًا أربعةً؛ أحدها مُحب مهجور قد تطاول غمُّه، ثم رَأى في هجعته أنَّ حبيبه وَصله فسُرَّ بذلك وابتهج، ثم استيقظ فأسِف وتلهَّف، حيث علم أن ما كان فيه أمانيَّ النفس وحديثها. وفي ذلك أقول:
والثاني مُحبٌّ مواصل مُشفق من تغيُّرٍ يقع، قد رأى في وَسَنه أن حبيبه يهجره؛ فاهتم لذلك همًّا شديدًا، ثم هبَّ من نومه فعلم أن ذلك باطل وبعض وساوس الإشفاق.
والثالث مُحب داني الديار يرى أن التنائيَ قد فدَحه، فيكترث ويَوْجَل، ثم ينتبه فيذهب ما به ويعود فَرِحًا، وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
والرابع مُحب نائي المزار، يرى أنَّ المزار قد دنا، والمنازل قد تَصاقَبتْ، فيرتاح ويأنس إلى فقد الأسى، ثم يقوم من سِنته فيرى أن ذلك غيرُ صحيح، فيعود إلى أشد ما كان فيه من الغم. وقد جعلتُ في بعض قولي علةَ النومِ الطمعَ في طَيف الخيال، فقلت:
ومن القُنوع أن يَقنع المُحب بالنظر إلى الجدران ورُؤية الحيطان التي تحتوي على من يُحب، وقد رأينا مَن هذه صفتُه. ولقد حدثني أبو الوليد أحمد بن محمد بن إسحاق الخازن — رحمه الله — عن رجل جليل أنه حدث عن نفسه بمثل هذا.
ومن القنوع أن يرتاح المُحب إلى أن يرى مَن رأى محبوبه، ويأنس به ومَن أتَى من بلاده. وهذا كثير، وفي ذلك أقول:
ومما يدخل في هذا الباب أبياتٌ لي مُوجبُها أني تنزَّهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستانٍ لرجلٍ من أصحابنا، فجُلْنا ساعةً ثم أفضى بنا القُعود إلى مكانٍ دونه يُتمنَّى، فتمددنا في رياضٍ أريضة، وأرضٍ عريضة، للبصر فيها مُنفسح، وللنفس لديها مسرح، بين جَداول تطَّرد كأباريق اللجين، وأطيارٍ تُغرِّد بألحان تزري بما أبدعه معبد والغريض، وثمار مهدَّلة قد ذُللت للأيدي، ودنتْ للمتناول، وظلالٍ مُظلَّة تُلاحظنا الشمس من بينها فتتصوَّر بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبَّجة، وماءٍ عَذْب يوجدك حقيقة طعم الحياة، وأنهارٍ متدفقة تَنساب كبُطون الحيات لها خرير يقوم ويَهدأ، ونَواوير مُونِقة مختلفة الألوان تُصفِّقُها الرياح الطيبة النسيم، وهواء سَجْسَج، وأخلاق جُلَّاسٍ تفوق كل هذا، في يومٍ ربيعيٍّ ذي شَمس ظليلة، تارة يُغطيها الغيمُ الرقيق والمُزن اللطيف، وتارةً تتجلَّى، فهي كالعذراء الخَفِرة، والخَريدة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار ثم تغيب فيها، حَذَرَ عَينٍ مراقِبة. وكان بعضُنا مُطرقًا كأنه يحادث أخرى، وذلك لسرٍّ كان له، فعُرِّض لي بذلك، وتداعبنا حينًا فكَلِفت أن أقول على لسانه شيئًا في ذلك، فقلتُ بديهة، وما كتبوها إلا من تذكرها بعد انصرافنا، وهي:
فقال هو ومن حضر: آمين، آمين. وهذه الوُجوه التي عَدَّدتُ وأوردتُ في حقائق القناعة هي الموجودة في أهل المودة بلا تزيُّد ولا إعياء.
وللشعراء فَنٌّ من القُنوع أرادوا فيه إظهارَ غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمَرامي البعيدة، وكلٌّ قال على قدر قوة طبعه، إلا أنه تحكَّم باللسان، وتشدَّق في الكلام، واستطال بالبيان، وهو غير صحيح في الأصل.
فمنهم من قنع بأن السماء تُظله هو ومحبوبه والأرض تقلُّهما، ومنهم من قَنع باستوائهما في إحاطة الليل والنهار بهما، وأشباه هذا. وكلٌّ مُبادرٌ إلى احتواء الغاية في الاستقصاء، وإحراز قَصَب السَّبْق في التدقيق، ولي في هذا المعنى قولٌ لا يُمكن لمتعقب أن يجد بعده مُتناولًا، ولا وراءه مكانًا، مع تَبْيِيني علَّة قرب المسافة البعيدة، وهو:
فبيَّنتُ — كما ترى — أني قانعٌ بالاجتماع مع مَن أُحبُّ في علم الله، الذي السمواتُ والأفلاك والعوالم كلها وجميع الموجودات لا تنفصل منه، ولا تتجزأ فيه، ولا يشذ عنه منها شيء، ثم اقتصرت مِن علم الله تعالى على أنه في زمان. وهذا أعمُّ مما قاله غيري في إحاطة الليل والنهار، وإن كان الظاهر واحدًا في البادي إلى السامع؛ لأن كل المخلوقات واقعة تحت الزمان، وإنما الزمان اسم موضوع لمرور الساعات وقَطع الفلك وحركاته وأجرامه، والليل والنهار متولدان عن طُلوع الشمس وغروبها، وهما مُتناهيانِ في بعض العالَم الأعلى، وليس هكذا الزمان، فإنهما بعض الزمان، وإن كان لبعض الفلاسفة قولٌ «إن الظل متمادٍ.» فهذا يخطئه العيان، وعِلَلُ الردِّ عليه بيِّنة ليس هذا موضعها، ثم بيَّنت أنه وإن كان في أقصى المعمور من المشرق وأنا في أقصى المَعمور من المغرب، وهذا طول السكنى، فليس بيني وبينه إلا مسافة يوم؛ إذ الشمس تبدو في أول النهار في أول المشارق، وتغرب في آخر النهار في آخر المغارب.
ومن القنوع فصلٌ أُوردُه، وأستعيذُ بالله منه ومن أهله، وأحمَدُه على ما عَرَّف نفوسنا من منافرته؛ وهو أن يضل العقلُ جُملة، ويُفْسِد القريحة، ويُتلف التمييز، ويهون الصعب، ويُذهب الغَيرة، ويُعدم الأنفة، فيرضى الإنسان بالمشاركة فيمن يحب. وقد عرَض هذا لقوم — أعاذنا الله من البلاء — وهذا لا يصح إلا مع كلبيَّة في الطبع، وسُقوط من العقل الذي هو عَيَّار على ما تحته، وضعف حسٍّ، ويؤيد هذا كله حُبٌّ شديد مُعْمٍ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء وتلاحقت بمزاج الطبائع ودُخول بعضها في بعض، نتج بينهما هذا الطبع الخسيس، وتولدت هذه الصفة الرذلة، وقام منها هذا الفعل المقذور القبيح، وأما رجلٌ معه أقل همة وأيسر مروءة فهذا منه أبعدُ من الثريَّا، ولو مات وجدًا وتقطع حُبًّا. وفي ذلك أقول زاريًا على بعض المُسامحين في هذا الفصل: