باب فضل التعفف
ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حُبِّه التعفُّفُ وتركُ ركوب المعصية والفاحشة، وألَّا يرغب عن مُجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألَّا يعصيَ مولاه المتفضل عليه الذي جعله مكانًا وأهلًا لأمره ونهيه، وأرسل إليه رسله، وجعل كلامه ثابتًا لديه، عنايةً منه بنا وإحسانًا إلينا. وإن من هام قلبُه وشُغل باله واشتد شوقه وعظُم وَجْده، ثم ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته، وأن يقهر دينه.
ثم أقام العدل لنفسه حصنًا، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكَّرها بعقاب الله تعالى، وفكَّر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذَّرها من يوم المعاد والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مُدافع بحضرة علَّام الغيوب يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، يوم وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، يوم وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، يوم الطامة الكبرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى، واليوم الذي قال الله تعالى فيه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. عندها يقول العاصي: يا ويلَتى! مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فكيف بمن طُوي قلبه على أحرَّ مِن جَمر الغضى، وطُوي كشْحُه على أحدَّ مِن السيف، وتجرَّع غصصًا أمَرَّ من الحنظل، وصرف نفسه كرهًا عما طمعت فيه، وتيقَّنت ببلوغه وتهيَّأت له ولم يَحُلْ دونها حائل، لحريٌّ أن يُسرَّ غدًا يوم البعث، ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأنْ يأمنَ رَوعات القيامة وهَول المَطلع، وأن يُعوِّضه الله من هذه القَرحة الأمنَ يوم الحشر.
حدَّثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شابًّا حَسن الوجه من أهل قُرطبة قد تعبَّد ورَفض الدنيا، وكان له أخ في الله قد سقطت بينهما مَئونة التحفُّظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المنزل حاجة إلى بعض معارفه بالبُعد عن منزله، فنهض لها على أن ينصرف مُسرعًا، ونزل الشاب في داره مع امرأته، وكانت غايةً في الحسن وتِربًا للضيف في الصِّبا، فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العَسس ولم يُمكنه الانصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بَفوات الوقت، وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة، تاقت نفسها إلى ذلك الفتى، فبرزت إليه ودَعتْهُ إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهمَّ بها ثم ثاب إليه عقلُه وفكَّر في الله عز وجل، فوضع إصبعه على السراج فتفقَّع، ثم قال: يا نفس، ذوقي هذا، وأين هذا من نار جهنم؟ فهال المرأة ما رأت، ثم عاودَتْه فعاودَتْه الشهوة المركَّبة في الإنسان، فعاد إلى الفعلة الأولى، فانبلج الصباح وسبَّابته قد اصطلمتها النار.
أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفَرط شهوةٍ قد كلبت عليه؟ أو ترى أن الله تعالى يُضيِّع له المقام؟ كلا، إنه لأكرم من ذلك وأعلم.
ولقد حدَّثتني امرأة أثق بها أنها عَلِقها فتًى مثلها في الحُسن وعَلِقته، وشاع القولُ عليهما، فاجتمعا يومًا خاليَين، فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله، لا كان هذا أبدًا. وأنا أقرأ قول الله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. قالت: فما مَضى قليل حتى اجتمعا في حلال.
ولقد حدَّثني ثقة من إخواني أنه خلا يومًا بجاريةٍ كانت له مفارِكة في الصِّبا، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: كلا، إن من شُكر نعمة الله فيما مَنحني من وصالك الذي كان أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره. ولعَمْري، إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره!
وما أقدر في هذه الأخبار — وهي صحيحة — إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن، واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه؛ فهو لا يُجيب دواعيَ الغزل في كلمةٍ ولا كلمتين، ولا في يومٍ ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لجادت طباعُهم، وأجابوا هاتف الفِتنة، ولكن الله عصمهم بانقطاع السبب المُحرك؛ نظرًا لهم وعلمًا بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد. لا إله إلا هو.
وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد انقمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخيرٍ أراد الله عز وجل لصاحبه. جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه. آمين.
وحدَّثني أبو عبد الله محمد بن عمرو بن مضاء، عن رجالٍ من بني مروان ثقات يَسندون الحديث إلى أبي العباس الوليد بن غانم، أنه ذكر أن الإمام عبد الرحمن بن الحكم غاب في بعض غزواته شهورًا، وثقَّف القصر بابنه محمد الذي ولي الخلافة بعده، ورتَّبه في السطح، وجعل مَبيته ليلًا وقعوده نهارًا فيه، ولم يأذن له في الخروج البتة، ورتَّب معه في كل ليلةٍ وزيرًا من الوزراء وفتًى من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح. قال أبو العباس: فأقام على ذلك مدةً طويلة، وبعُد عهده بأهله وهو في سن العشرين أو نحوها، إلى أن وافق مَبيتي في ليلتي نوبةَ فتًى من أكابر الفتيان، وكان صغيرًا في سنه وغايةً في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشى الليلة على محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمُواقعة المعصية، وتَزيين إبليس وأتباعه له. قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المُطل على حرم أمير المؤمنين، والفتى في الطرف الثاني القريب من المطلع، فظلِلْتُ أرقبه ولا أغفل، وهو يظن أني قد نِمْتُ ولا يشعر باطلاعي عليه. قال: فلما مضى هزيع من الليل رأيتُه قد قام واستوى قاعدًا ساعةً لطيفة، ثم تعوَّذ من الشيطان ورجع إلى منامه، ثم قام بعد حين ولَبِس قميصه واستوفز، ثم نَزعه عن نفسه وعاد إلى منامه، ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلَّى رجليه من السرير، وبقي كذلك ساعة، ثم نادى الفتى باسمه فأجابه، فقال له: انزل عن السطح وابقَ في الفصيل الذي تحته. فقام الفتى مؤتمرًا له، فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره. قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت أن لله فيه مرادَ خير.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، عن أحمد بن مطرف، عن عبيد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك، عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبُه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.»
وإني أذكر أني دُعيت إلى مجلسٍ فيه بعض من تَستحسن الأبصارُ صورتَه، وتألف القلوب أخلاقه للحديث والمجالسة دون منكرٍ ولا مكروه، فسارعت إليه، وكان هذا سَحَرًا، فبعد أن صليت الصبح وأخذت زيِّي طَرقني فكرٌ فسَنَحتْ لي أبياتٌ، ومعي رجل من إخواني فقال لي: ما هذا الإطراق؟ فلم أُجِبْه حتى أكملتها، ثم كتبتها ودفعتها إليه، وأمسكت عن المسير حيث كنتُ نويتُ. ومن الأبيات:
ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار، وإتعاب الأبدان، وإجهاد الطاقة، واستنفاد الوسع، واستفراغ القوة في شكر الخالق الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئهالها، وامتنَّ علينا بالعقل الذي به عرَفناه، ووهبَنا الحواسَّ والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نَهتدِ إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضَّلَنا على أكثر المخلوقات، وجعلَنا مستودع كلامه ومستقر دينه، وخلق لنا الجنة دون أن نستحقها، ثم لم يرضَ لعباده أن يدخلوها إلا بأعمالهم لتكون واجبةً لهم، قال الله تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ورشدَنا إلى سبيلها، وبَصَّرنا وجه ظِلِّها، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقًّا من حقوقنا قبله، ودينًا لازمًا له، وشكرَنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قواها، وأثابنا بفضله على تفضُّله.
هذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تُكيِّفَه الألباب. ومن عرف ربَّه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهبة والحطام الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعرُّ لسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم يَنتهِ إليه أمل! فأين المذهب عن طاعة هذا المَلِك الكريم! وما الرغبة في لذة ذاهبة لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها! وإلى كم هذا التمادي وقد أسمعنا المنادي، وكأن قد حدَا بنا الحادي إلى دار القرار، فإما إلى جنة وإما إلى نار! ألا إن التثبط في هذا المكان لهو الضلال المُبين. وفي ذلك أقول:
وأقول أيضًا:
هنا — أعزك الله — انتهى ما تذكَّرته إيجابًا لك، وتقمنًا لمسرَّتك، ووقوفًا عند أمرك، ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء ويُكثرون القول فيها، موفيات على وجوهها، ومفردات في أبوابها، ومنعمات التفسير، مثل الإفراط في صفة النحول، وتشبيه الدموع بالأمطار، وأنها تروي السفار، وعدم النوم البتة، وانقطاع الغذاء جملةً، إلا أنها أشياء لا حقيقة لها، وكذب لا وجه له، ولكل شيء حدٌّ، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا. والنحول قد يَعظُم ولو صار حيث يصفونه لكان في قوام الذرة أو دونها، ولخرج عن حد المعقول، والسهر قد يتصل لياليَ، ولكن لو عدم الغذاء أسبوعين لهلك، وإنما قلنا: الصبر عن النوم أقل من الصبر عن الطعام؛ لأن النوم غذاء الروح، والطعام غذاء الجسد، وإن كانا يشتركان في كليهما، ولكنا حكينا على الأغلب. وأما الماء فقد رأيت أن ميسورًا البنَّاء جارَنا بقُرطبة يصبر عن الماء أسبوعين في حمارَّة القيظ، ويكتفي بما في غذائه من رطوبة.
وحدثني القاضي أبو عبد الرحمن بن جحاف أنه كان يعرف من كان لا يشرب الماء شهرًا.
وإنما اقتصرت في رسالتي على الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلًا، وعلى أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يُكتفى بها لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم. وسيرى كثير من إخواننا أخبارًا لهم في هذه الرسالة مكنِّيًا فيها من أسمائهم على ما شرطنا في ابتدائها. وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتبه المَلَكان، ويُحصيه الرقيبان من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمله، ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء، فهو — إن شاء الله — من اللَّمم المَعْفوِّ، وإلا فليس من السيئات والفواحش التي يتوقع عليها العذاب. وعلى كل حال فليس من الكبائر التي ورد النص فيها.
وأنا أعلم أنه سيُنكر عليَّ بعضُ المُتعصبين عليَّ تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته، وما أُحِلُّ لأحد أن يَظنَّ فيَّ غير ما قصدته، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.
وحدثني أحمد بن محمد بن الجسوري: ثنا ابن أبي دليم، ثنا ابن وضاح، عن يحيى بن مالك بن أنس، عن أبي الزبير المكي، عن أبي شريح الكعبي، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إياكم والظن؛ فإنه أكذب الكذب.»
وبه إلى مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المَقبري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمت.
وحدثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق، ثنا عبد الله بن يوسف الأزدي، ثنا يحيى بن عائذ، ثنا أبو عدي عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج الإمام بمصر، ثنا أبو علي الحسن بن قاسم بن دحيم المصري، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا أبو العباس، ثنا أبو بكر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — للناس ثماني عشرة كلمة من الحكمة، منها: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك عليه، ولا تَظنَّ بكلمةٍ خرجت من في امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا.»
فهذا — أعزك الله — أدب الله وأدب رسوله ﷺ وأدب أمير المؤمنين. وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة، ولا أنسك نسكًا أعجميًّا، ومن أدَّى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهي عنها، ولم ينسَ الفضل فيما بينه وبين الناس، فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك، وحسبي الله.
والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجبٌ على ما مضى ودهمني؛ فأنت تعلم أن ذهني متقلب، وبالي مهصر بما نحن فيه من نَبْوِ الديار، والخلاء عن الأوطان، وتغيُّر الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدُّل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار. لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا. وإن الذي أبقى لَأكثرُ مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيَّف، ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تُحد، ولا يُؤدَّى شُكرُها، والكلُّ مِنَحه وعطاياه، ولا حُكمَ لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا. وكل عارية فراجعة إلى مُعيرها. وله الحمد أولًا وآخرًا، وعودًا وبدءًا، وأنا أقول:
جعلنا الله وإياك من الصابرين الشاكرين الحامدين الذاكرين. آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.