باب من لا يحب إلا مع المطاولة
ومن الناس من لا تصحُّ محبته إلا بعد طولِ المُخافتة، وكثيرِ المُشاهدة، ومتمادي الأُنس، وهذا الذي يوشك أن يدوم ويثبت ولا يَحيك فيه مرُّ الليالي، فما دَخل عسيرًا لم يخرج يسيرًا؛ وهذا مذهبي. وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل قال للروح — حين أمره أن يدخل جسدَ آدم وهو فخَّار فهابَ وجَزعَ: ادخُل كرهًا واخرُج كرهًا. حُدِّثناه عن شيوخنا.
ولقد رأيت من أهل هذه الصفة مَن إن أَحسَّ من نفسه بابتداء هوًى، أو توَجَّس مِن استحسانه ميلًا إلى بعض الصور؛ استعمل الهجر وترك الإلمام لئلا يزيد ما يجد فيخرج الأمر عن يده، ويُحال بين العَيْر والنَّزَوان. وهذا يدل على لُصوق الحُب بأكباد أهل هذه الصفة، وأنه إذا تمكَّن منهم لم يُحَلَّ أبدًا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:
وإني لأطيل العجب مِن كل مَن يدعي أنه يحب مِن نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حُبَّه إلا ضربًا من الشهوة، وأما أن يكون في ظنِّي متمكنًا من صميم الفؤاد نافذًا في حجاب القلب فما أُقدِّر ذلك، وما لصق بأحشائي حُبٌّ قطُّ إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جدٍّ وهزل، وكذلك أنا في السلوِّ والتوقي، فما نسيت ودًّا لي قطُّ، وإن حَنيني إلى كل عهد تقدَّم لي ليُغِصُّني بالطعام، ويُشرقني بالماء — وقد استراح مَن لم تكن هذه صفتُه — وما مللتُ شيئًا قط بعد معرفتي به، ولا أسرعت إلى الأنس بشيء قط أولَ لقائي له، وما رغبتُ في الاستبدال إلى سبب من أسبابي مذ كنت، لا أقول في الأُلَّاف والإخوان وحدهم، لكن في كل ما يَستعمل الإنسان من ملبوس ومركوب ومطعوم وغير ذلك، وما انتفعتُ بعيش ولا فارقني الإطراق والانفلاق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشَجًى يعتادني وولوع همٍّ ما ينفكُّ يَطْرُقني، ولقد نغَّصَ تذكري ما مَضى كلَّ عيشٍ أستأنفه، وإني لقَتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا. والله المحمود على كل حال لا إله إلا هو. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
ولا يظن ظانٌّ ولا يتوهَّم متوهِّم أن كل هذا مخالف لقولي المسطر في صدر الرسالة، أن الحب اتصال بين النفوس في أصل عالمها العُلوي، بل هو مؤكِّد له؛ فقد علمنا أن النفس في هذا العالم الأدنى قد غمرتْها الحُجب، ولحقتْها الأغراض، وأحاطتْ بها الطبائع الأرضية الكونية، فسترت كثيرًا من صفاتها وإن كانت لم تحله، لكن حالت دونه فلا يُرجَى الاتصال على الحقيقة إلا بعد التهيؤ من النفس والاستعداد له، وبعد إيصال المعرفة إليها بما يشاكلها ويوافقها، ومقابلة الطبائع التي خفيت مما يُشابهها من طبائع المحبوب، فحينئذٍ يتصل اتصالًا صحيحًا بلا مانع.
وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، فإذا غَلبت الشهوة وتجاوزت هذا الحد، ووافق الفصلَ اتصالٌ نفساني تشترك فيه الطبائع مع النفس يُسمَّى عشقًا. ومن هذا دخل الغَلَط على من يزعُم أنه يُحب اثنين، ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة التي ذكرنا آنفًا، وهي على المجاز تسمى محبةً لا على التحقيق. وأما نفس المحب فما في المَيل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه، فكيف بالاشتغال بحبٍّ ثانٍ. وفي ذلك أقول:
وإني لأعرف فتًى من أهل الجدِّ والحسب والأدب كان يبتاع الجارية وهي سالمة الصدر من حُبِّه، وأكثر من ذلك كارهة له لقلة حلاوة شمائل كانت فيه، وقُطوب دائم كان لا يفارقه، ولا سيما مع النساء، فكان لا يلبث إلا يسيرًا ريثما يصل إليها بالجماع ويعود ذلك الكُره حبًّا مفرطًا، وكلفًا زائدًا، واستهتارًا مكشوفًا، ويتحول الضجر لصحبته ضجرًا لفراقه. صحبه هذا الأمر في عدة منهن، فقال بعضُ إخواني: فسألته عن ذلك فتبسم نحوي وقال: إذًا والله أخبرك؛ أنا أبطأ الناس إنزالًا، تقضي المرأة شهوتها وربما ثنَّت وإنزالي وشهوتي لم ينقضيا بعدُ، وما فترت بعدها قط، وإني لأبقى بمُنَّتي بعد انقضائها الحين الصالح، وما لاقى صدري صدر امرأة قط عند الخلوة إلا عند تعمدي المعانقة، وبحسب ارتفاع صدري نزول مؤخري.
فمثل هذا وشبهه إذا وافق أخلاق النفس ولَّد المحبة؛ إذ الأعضاء الحسَّاسة مسالك إلى النفوس ومؤديات نحوها.