باب من أحب صفةً لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها
واعلم — أعزَّك الله — أن للحُب حكمًا على النفوس ماضيًا، وسلطانًا قاضيًا، وأمرًا لا يخالَف، وحدًّا لا يُعصى، وملكًا لا يُتعدَّى، وطاعةً لا تُصرف، ونفاذًا لا يُرد؛ وأنه ينقض المِرَر، ويَحُلُّ المُبرَم، ويُحلِّل الجامد، ويُخِلُّ الثابت، ويَحِلُّ الشغافَ، ويُحِلُّ الممنوع. ولقد شاهدت كثيرًا من الناس لا يُتَّهمون في تمييزهم، ولا يُخاف عليهم سقوط في معرفتهم، ولا اختلال بحُسن اختيارهم، ولا تَقصير في حَدْسهم، قد وصفوا أحبابًا لهم في بعض صفاتهم بما ليس بمُستحسن عند الناس، ولا يُرضى في الجمال، فصارت هِجِّيراهم، وعُرضة لأهوائهم، ومنتهى استحسانهم. ثم مضى أولئك إمَّا بسلوٍّ أو بَيْنٍ أو هجر، أو بعض عوارض الحب، وما فارقهم استحسان تلك الصفات ولا بان عنهم تفضيلُها على ما هو أفضل منها في الخليقة، ولا مالوا إلى سواها، بل صارت تلك الصفات المُستجادة عند الناس مهجورةً عندهم وساقطةً لديهم إلى أن فارقوا الدنيا وانقضت أعمارهم، حنينًا منهم إلى مَن فقدوه، وألفة لمن صحبوه.
وما أقول إن ذلك كان تصنُّعًا، لكن طبعًا حقيقيًّا واختيارًا لا دَخَل فيه، ولا يرَوْن سواه، ولا يقولون في طيِّ عَقْدهم بغيره. وإني لأعرف من كان في جِيد حبيبه بعضُ الوقص فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القِصَر فما أحبَّ طويلةً بعد هذا، وأعرف أيضًا من هوَى جاريةً في فمها فَوَه لطيف، فلقد كان يتقذَّر كل فم صغير ويذُمُّه ويكرهه الكراهية الصحيحة. وما أصف عن مَنقوصي الحظُوظ في العلم والأدب، لكن عن أوفر الناس قسطًا في الإدراك، وأحقهم باسم الفهم والدِّراية.
وعنِّي أخبرك أني أحببتُ في صباي جاريةً لي شقراء الشعر، فما استحسنتُ من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه. وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تُؤاتيني نفسي على سواه، ولا تحب غيره البتة. وهذا العارض بعينه عَرض لأبي — رضي الله عنه — وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجلُه.
وأما جماعة خلفاء بني مروان — رحمهم الله — ولا سيما ولدُ الناصر منهم، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم من لَدُن دولة الناصر إلى الآن فما منهم إلا أشقر؛ نزاعًا إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خِلقة، حاشا سليمان الظافر — رحمه الله — فإني رأيته أسود اللمَّة واللحية.
وأما الناصر والحكم المُستنصر — رضي الله عنهما — فحدثني الوزير أبي — رحمه الله — وغيره أنهما كانا أشقرَين أشهلين، وكذلك هشام المؤيَّد، ومحمد المهدي، وعبد الرحمن المرتضي — رحمهم الله — فإني قد رأيتهم مرارًا، ودخلت عليهم فرأيتهم شُقرًا شُهلًا، وهكذا أولادهم وإخوتهم وجميع أقاربهم، فلا أدري أذلك استحسان مركَّب في جميعهم أم لرواية كانت عند أسلافهم في ذلك فجرَوْا عليها. وهذا ظاهر في شعر عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر، وهو المعروف بالطليق، وكان أشعر أهل الأندلس في زمانهم، وأكثر تغزله فبالشُّقر، وقد رأيته وجالسته.
وليس العجب فيمن أحبَّ قبيحًا ثم لم يَصحبه ذلك في سواه، فقد وقع من ذلك، ولا فيمن طُبع مذ كان على تفضيل الأدنى، ولكن فيمن كان ينظُر بعين الحقيقة ثم غَلب عليه هوًى عارضٌ بعد طول بقائه في الجماعة، فأحاله عما عهدتْه نفسُه حوالةً صارت له طبعًا، وذهب طبعه الأول وهو يعرف فضل ما كان عليه أوَّلًا، فإذا رجع إلى نفسه وجدها تأبَى إلا الأدنى، فأعجب لهذا التغلب الشديد والتسلط العظيم، وهو أصدق المحبة حقًّا، لا من يتحلَّى بشِيَم قوم ليس منهم، ويدَّعي غريزةً لا تقبله، فيزعم أنه يتخيَّر من يحب. أما لو شغل الحب بصيرته وأطاح فكرته، وأجحف بتمييزه؛ لحال بينه وبين التخيُّل والارتياد. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:
وأقول أيضًا: