وصف مناطق الهند العام
لمناطق الهند حدود طبيعية على العموم، كأن يفصل نهر أو سلسلة جبال بين منطقتين منها مختلفتين عِرقًا وحكومةً وحضارةً، والضرورات السياسية تؤدي، في الغالب، إلى تذليل تلك الحواجز وتبديل غيرها بها، ولم ينجم عن الفتح أو الحِلف، مع ذلك، تقريبٌ مستمر لنصفي شبه جزيرة الهند؛ «الهندوستان والدَّكَن» اللذين تفصل بينهما جبال وِنْدهِيَا ما بقيت هذه الجبال حجابًا حاجزًا، فكان ما تراه من اختلافهما في الأجواء والحاصلات والشعوب والطبائع والعادات.
وأهل الشمال الذين تعوَّدوا الانتقال بين القيظ والقُرِّ أعظم بِنْية وأكثر نشاطًا وأشد بأسًا من أهل الجنوب، والمَرَاتها الذين يسكنون المناطق الجنوبية يقاسون وحدهم بأولئك، وسكان الدَّكَن الذين يقطنون بِقُطْرٍ شديد الحرارة غير متقلب فلا ينمون جسمًا وأخلاقًا يبدون قصارًا أخلياء كُسالَى، وتختلف جلودهم عن جلود أهل الشمال لونًا، ويتدرج لون البشر من الجنوب إلى الشمال على العموم فتراه أسود في الجنوب، نحاسيًّا فأبيض في الشمال كما عند الراجبوت.
وسنبدأ بالشمال فنصِفَ سَحَنَات سكان كل منطقة وخواصَّها ومحصولاتها المحلية وصفًا إجماليًّا.
(١) هِمَالْيَة الشرقية «نيبال وسِكِم وبهوتان»
تشتمل هِمَالْيَة الشرقية على دولتين مستقلتين على الرغم من الإنجليز، وهما: نيبال وبهوتان.
ونيبال هي واد طويلٌ واقع بين سلسلتي الجبال المتوازيتين: هِمَالْيَة وما تحت هِمَالْيَة.
وليست سلسلة ما تحت هِمَالْيَة هي الحاجز الوحيد الذي يفصل نيبال من الهند، فإليها نُضيف منطقة تَرَائِي المرهوبة التي تحاذيها جنوبًا فينشأ عن أوبئتها القاتلة حدٌّ طبيعيٌّ ثانٍ.
ويبدو في نيبال جلال جبال هِمَالْيَة ووحشتُها، وتُناطِح شعافُها السماء، فيهيمن على وادي نيبال الطويلة جبل ديول غِيري من الغرب وجبل كَنجِنجنكها أو «جبل الكتل الجليدية اللامعة الخمس» من الشرق، وجبل غوري شَنْكر أو «ملك الجبال» في الوسط، فتكتسب نيبال بذلك مناظر رائعة لا ترى مثلها في مِنطقة أخرى، وتشاهد من السهل ذُرَى تلك الجبال المنيعة ذوات الثلوج، فإذا خاطر المرء بنفسه فتسلَّق مساربها ارتعد من التبايُن بين الهُوَى السود النافذة في بطن الأرض وجُدُر الصوَّان الشاهقة وفِقَر الثلج التي تتدرج إلى السماوات.
وأشهر الشعاب ذوات المهالك التي تصل الهندَ بالتبت هو شِعب نِيَالو الذي يؤدي إلى بحيرة مانْسَرُوور الواقعة في أسفل جبل كَيْلَاس، ففي مجاهل هذا الجبل تكمُن، كما يعتقد الهندوس، حيوانات خَفِيَّة قاذفة من أفواهها المُزْبدة أنهُرَ الهند الأربعة: سانغ بو «مجرى بَرَهْمَا بوترا الأعلى على ما يُحتمل» والسِّنْد وسَتْ لج والغنغا.
وروافد نهر الغَنْج الآتية من نهر نيبال كثيرة، وتقطع هذه الروافد حدود نيبال الطبيعية قطعًا عموديًّا، وينبع بعضها من سفح هِمَالْيَة الشمالي فيجوب نيبال، ولا تصلُح للملاحة ما صدَّعت الجبال فَجَرَتْ بسرعة من نيبال نفسها فأضحت بذلك غير نافعة لسوى نقل الحطب وأعمال الري.
وتقسم تلك الأنهُر منطقة نيبال إلى عدة أصقاع يختلف سكان بعضها عن سكان بعض، ويؤدي تفاوت ارتفاع هذه الأصقاع إلى اختلاف سكانها أيضًا.
ويتجلى أثر التبت في قسم نيبال الجبلي على الخصوص، وتغيَّر هذا الأثر، مع ذلك، تغيرًا محسوسًا بما تم من الاختلاط بالعناصر الآرية التي نتكلم عنها في فصل العروق، فنيبال هي منطقة الانتقال بين الهند ومملكة ابن السماء عروقًا وعمارةً وطبائعَ وعاداتٍ.
وتقع بين نيبال وبهوتان دولة سِكِم الصغيرة التي يملكها أحد الراجوات، ولا تعدو عاصمته تَمْلُنْغ قريةً، ولا يزيد سكان هذه الدولة على ستين ألفًا، وهي ذات طابع تبتيٍّ خالص.
وسكم جبلية رطيبة جدًّا، وتصعب الإقامة بها في أكثر أيام السنة، ومن دولة سِكِم القديمة سلخ الإنجليز أخصب بقعة، فجعلوا منها مديرية، وجعلوا من مقرها دارجي لنغ مصحًّا ومصيفًا مهمًّا في فصل القيظ، فعد نِدًّا لسِمْلا الواقعة في هِمَالْيَة الغربية، وإن كان دونها لرطوبة جوه، وتبدو مدينة دارجي لنغ سوقًا عظيمة يقصدها الهندوس وأهل التبت للمقابضة والمعاوضة.
وتشابه منطقة بهوتان منطقة سِكِم الفاصلة لها عن نيبال، وتقع على منحدرات الجنوب من منطقة هِمَالْيَة الشرقية، وتقسم إلى ثلاث مناطق زراعية: المنطقة السهلية التي ينبت فيها نبات البلاد الحارة، ومنطقة المنحدرات التي ينبت فيها نبات البلاد المعتدلة، ومنطقة غابات الصنوبر المرتفعة الجليدية، وتروي الرياح الموسمية سفوحها الجنوبية إرواءً تامًّا، ولا يقطن بها غير الجبليين، وتقوم مدينتاها المهمتان على أماكن مرتفعة، وتحاذيها منطقة تَرَائِي.
(٢) البنغال
وتقوم مدن كثيرة عامرة زاهرة على ضفاف الأنهُر التي تشقُّ البنغال، ويظل زهو هذه المدن ما ظلت على هذه الضفاف، فإذا حوَّل النهر مجراه خَرِبت كما حدث لمدينة غور، وأهم مدن البنغال مدينة كلكتة التي هي عاصمة الإمبراطورية الإنجليزية الهندية، والتي هي من أعظم مرافئ شبه جزيرة الهند.
وأهل البنغال مزيجُ أُنَاسِيَّ مختلفين، والمثال الهندوسي في هذا القطر كريهٌ خَلقًا وخُلقًا، ويراه الأوروبيون خلاصة جميع العروق التي تسكن شبه جزيرة الهند، ويرجع ذلك إلى أن أكثر سياح الغرب لم يبصروا غيره، ويتصف البنغالي بالقِصَر والهُزَال والاسمرار والتكرُّش، ويهضم البنغالي ما يُلَقَّنَهُ، ويبدو البنغالي من الناحية الخُلُقية خَنِثًا جبانًا نذلًا مرائيًا.
(٣) أَوَدْهَة
تقع ولاية أَوَدْهَة، التي هي من أَرْغَد بقاع الأرض، في شمال البنغال الغربي، بين وادي الغَنْج وجبال هِمَالْيَة، وتتمتع بجو أطيب من جو البنغال، ويختلف سكانها عن سكان البنغال اختلافًا كثيرًا، ويقرب عرقهم الجميل البهيُّ القوي من العروق الأوربية قربًا كبيرًا، ويتصف بالطول وانتظام الوجه وانسجام اللون، ولا إفراط في رطوبة أَوَدْهَة، وتكفي لإنبات أراضيها نباتًا عجيبًا، ولا مراء في قيظ صيفها، ولكنَّ قُرَّ شتائها يُطَرِّي الجو فيتقوَّى أهلوها ويتجدد نشاطهم.
وفي أَوَدْهَة غاباتٌ ساترة لِما يَلِي الجبال من الأراضي غنية بالقنائص، كَثَّةٌ بالأشجار الصالحة لاستخراج العطور الفاخرة، وفي أَوَدْهَة سهول هابطة بالتدريج إلى نهر الغَنْج ذات غلَّات سنوية تورث وَفْرَتُها العجب، وليس بضائرٍ أن يشتمل تَرَائِي على قطعة مهمة من أَوَدْهَة ما تغلَّب الإنسان بقوة إرادته ومضاء عزيمته على الطبيعة فاستطاع أن يحيي أجزاء كثيرة من تلك القطعة الخطرة، ويجعلها طيبة صحية.
هنالك قُطْرٌ واسع اسمه كوسلة واقع على شاطئ سراجو زاهر عظيم الخيرات كثير القطاع وافر الغلَّات، وهنالك مدينةٌ شهيرة في العالم بأسره أنشأها سيد البشر مَنُو فدُعيت بأجودهيا.
وأضحت تلك المدينة الآهلة أَوَدْهَة الحديثة مؤخرًا، وبهذا الاسم يسمى البلد الذي كانت تلك المدينة عاصمة له فكانت واقعة على شواطئ غوغرا.
وغيَّر بلدُ أَوَدْهَة، كبقية بلاد الهند، عاصمتَه غيرَ مرة، فأضحت مدينة لكَهْنَئُو عاصمة له بعد أن كانت فيض آباد، ومدينة لَكَهْنَئُو تلك نالت أهمية كبيرة منذ صارت منطقة أَوَدْهَة التي هي «فردوس الهند» مُلك إنجلترا، وهي تجتذب فريقًا كبيرًا من الأوروبيين بسبب موقعها الساحر، وهي مركز الأناقة، وهي ذات مبانٍ مؤثرة من بعيد، وإن عددناها نموذجًا لانحطاط الفنِّ الهندوسي في العهد الأوروبي.
(٤) هِمَالْيَة الغربية «كشمير»
والمرء حين يسير وَضِفَّة نهر ذلك الوادي الوحيد جِهيلَم «الذي يدعوه الآريون بفيتاستا ويسميه الإغريق بهيداسبس» فيرفع ناظريه يرى ذُرَى ننغا بربت الهائلة التي يتألف منها حد إمبراطورية الهند المُقَرَّن، ويرى ذُرَى دبسنْغ الذي هو جبل الدنيا الثاني البالغ ارتفاعه ٨٦٦٠ مترًا، والمرء حين يخفض ناظريه يرى منظرًا دون ذلك جلالًا، وأكثر من ذلك سِحْرًا وسناءً، أي يرى مبانيَ رائعةً تُبَلِّلُ أسفلها الرخاميَّ بحيراتٌ زرق هادئة بهيجة محاطة بنبات فاتن ذي اخضرار وأزهار.
وتقع مدينة شِرى نَغَر، التي هي أكبر مدينة في ذلك القسم من هِمَالْيَة، في وسط وادي كشمير وعلى ضِفَّتَيْ نهر جهيلم، ودعيت هذه المدينة ﺑ «بندقية الهند» لما يشقُّها من القنوات.
ويلائم جمالُ الإنسان في ذلك «الوادي المبارك» جمالَ الطبيعة فيبدو رجال كشمير أكثرَ رجال الهند تناسُبًا وبياضًا، وتبدو تقاطيع نسائها الجميلة مشهورة في أسواق نخاسة الشرق.
وظلت صناعة الشالات الكشميرية منبع ثروة لذلك البلد زمنًا طويلًا، ثم نقصت أهميتها لتقلب الأزياء في أوروبا، ولكن أهالي ذلك البلد وجدوا في صناعة عطور الورد، وصناعة الأدوات المعدنية المرصعة وما إليها ما يشغلهم.
ويتألف من وادي كشمير بقعةٌ ذاتُ طابع خاص في مجموعة الولايات الكشميرية، وتشتمل هذه الولايات، التي اتخذت جمُّو الواقعة على نهر جناب عاصمةً لها، على أودية نهر السِّنْد العليا، وعلى روافده، وعلى جميع الهضاب المجاورة للتبت، وتُعَدُّ لدَّاخ وبالْتِي من أجزائها سياسيًّا.
ويستوقف تكوينُ وادي كشمير النظر كثيرًا، فيدل البحث العلمي على أن هذا الوادي كان بحيرة في سالف العصور، وأن انقلابًا حدث فأسفر عن انفتاق سلاسل جبال الدنيا وجريان مياه تلك البحيرة، وأساطير الهند مملوةٌ بأخبار ذلك الأمر العُجاب الذي حدث قبل ظهور الإنسان في الدنيا.
(٥) الهند الإسلامية: «البَنْجَاب وراجبوتانا والسِّنْد، إلخ»
يشتمل وادي السِّنْد على البَنْجَاب وراجبوتانا والكجرات والسِّنْد، ويُسَمَّى هذا الوادي بالهند الإسلامية لسيطرة الفاتحين المسلمين عليه، ولِما احتواه من المباني التي أسفرت عنها الحضارة الإسلامية.
وتضاف إلى ذلك القطر منطقة وادي الغَنْج الأعلى التي يسميها الإنجليز بالولايات الشمالية الغربية، واتخذ نهر جمنة الذي هو رافد ضفَّة نهر الغَنْج اليمنى حدًّا رسميًّا بين البَنْجَاب وتلك الولايات الشمالية الغربية.
وتبدو منطقة البَنْجَاب الآهلة العامرة المستطيلة في أسفل هِمَالْيَة أنها تمطُّ سهل الغَنْج الخصب إلى ما وراء نهر السِّنْد فتكون أداة وصل بين واديي الشمال العظيمين اللذين يظلان منفصلين بغيرها.
وفي منطقة البَنْجَاب حقولٌ حسنةُ الرِّي جيدة الخصب، وسكان كثيرون، ومدنٌ زاهرة شهيرة كالمدن: لاهور وأمرت سر ودهلي، إلخ.
ولكن الإنسان إذا سار إلى الجنوب شاهد انبساط الصحاري الواسعة الكئيبة، واتجاهها إلى بحر العرب، وشاهد بيوتًا تتباعد أو تغيب، وتتعذر الزراعة في تلك الصحاري فلا تحتوي على غير مَرَاعٍ ضعيفة هزيلة.
ويتصف جوُّ ذلك القطر باختلاف حرارته بين فصل وآخر، وتزيد تقلبات هذه الحرارة على خمسين درجة، ولا يُشاهَد هذا في صحراء تِهار وحدها، بل يُشاهد في مدن الشمال أيضًا، فمن هذه المدن أغرا التي تكون من أشد البلاد قيظًا فلا يندُر أن تصبح ذات قُرٍّ في الصباح والمساء من أيام الشتاء.
وفي فصل الجفاف تَهُبُّ في الصحراء رياح لوافِحُ كأنها خارجة من الجحيم، فلا تضع الحيوانات أرجلها على رمالها المحرقة من غير أن تألم، فيستفيد من ذلك أناس راكبون خيلًا أو جِمالًا فيتصيدون ذِئابًا لعجزها عن الهَرَب في ذلك السعير.
والكجرات من أمدن بلاد الهند، ومدينة أحمد آباد، التي هي قاعدتها زاهرةٌ ذات جدٍّ وعمل وتجارة رابحة، وليست مرافئ كاتهياوار بمجهولة لدى سفن العالم، ويصب في خليج كَمْبِي الذي يُبَلِّل شواطئها نهرُ نَرْبَدَا ونهر تابتي.
وترتفع جبال أراولي وطود آبو المنفصل منهما في شمال الكجرات وشرق صحراء تِهَار، ولطود آبو هذا صيتٌ بعيد في جميع بلاد الهند حيث يقدِّسه الناس، فأُنشئت في جوانبه معابد جَيْنِيَّة أظهر مُتَفَنِّنُو الهندوس فيها ما لديهم من الحِذْق في النحت العظيم الرائع الساحر.
وتقع ولاية بُنْدِيل كِهَنْد وولاية بها كِيل كهند في شرق راجبوتانا، وتحتوي تانك الولايتان الجبليتان على مناجم حديد وفحم حجري، وكانت مدينة كَهْجُورا قاعدة بُنْدِيل كِهَنْد فأضحت مهجورة مع اشتمالها على معابدَ معدودةٍ أعجبَ ما في الهند.
وتصل هضبة مَالَوا وجبال وِنْدِهيَا ذلك القسم الهندوستاني بولايات الهند الوسطى العالية.
(٦) ولايات الهند الوسطى وساحل أوريسة
يُعرف بِغوندوانا قسمُ الهند الذي يسميه الإنجليز بالولايات الوسطى، ويتوسط هذا القسم الهندوستان والدَّكَن بحيوانه ونباته وموقعه الجغرافي، وبدا هذا القسم مستورًا بآجام موبوءة مهلكة لا تُنْفَذ، وظلَّ إلى القرن الثامن عشر حاجزًا لم يقدِر الغزاة على مجاوزته إلا بالدَّوْر حوله، وبقي إلى ما قبل ثلاثين سنة مجهولًا كأفريقيا الوسطى.
وتتألف غوندوانا من سلسلة هِضاب يترجَّح ارتفاعها بين ٣٠٠ و١١٠٠ متر، وتتخللها أودية وفِجاجٌ عميقة، وتظهر هضبة أَمَرْكَنْ تَك، التي هي أعلى تلك الهضاب، عقدةً جبلية مهمة ينبع منها ستة أنهار كبيرة نذكر منها سون ومهاندي وَنَرْبَدَا.
ويقطن في قسم من غوندوانا وحوش الغوند الذين سندرس أمرهم في فصل آخر.
ويقع ساحل أوريسة في شرق غوندوانا، وهو بقعة فقيرة قَفْرٌ مُعَرَّضة للجدب والفيضان والجوع في الوقت الحاضر، بعد أن كانت مقرًّا لدولة قوية سَنِيَّة في غابر الأزمان، كما يشهد بذلك ما تركته تلك الدولة من المعابد البهية، وتُعد معابد بهو ونيشور وجكن ناتها من أشهر معابد الهند، لألوف الحجيج الذين يقصدون هذه الأخيرة من جميع أنحاء الهند.
ويمتد ساحل أوريسة إلى الجنوب من شاطئ سكهر، ويُرى تحت بحيرة جلكا ممرٌّ ضيق يعرف بترموبيل سكهر، فيمر بين الجبال والبحر بعد أن يقطع مدينة بَرَهْمَا بوترا المهمة، فمن هذا الممر اضطر الفاتحون أن يسيروا ليدخلوا الدَّكَن من هذه الناحية، فهذا هو الحد بين اللغات الآرية والدراويدية، فيتكلم الناس بالأوريَّة في الشمال، ويتكلمون بالتليغو في الجنوب.
(٧) الدَّكَن
كان اسم الدَّكَن يطلق على قسم الهند الجنوبي المقابل للقسم الشمالي المعروف بالهندوستان، واليوم يطلق على منطقة الهضاب عدا الولايات الوسطى والسواحل.
وتلك الهضابُ ذاتُ التراب البركاني غير خصيبة، وقليلة السكان على العموم، ويُستثنى من ذلك ضفاف الأنهار والأودية ذوات الأطيان السود، والجزء الغربي الذي تحمل الرياح الموسمية الجنوبية إليه سيولًا مباركة في كل سنة.
ويقطن في الشمال الغربي من ذلك القطر المَرَاتها الذين كانت لهم دولة قوية محارِبة مرهوبة في الهند بأسرها فيما مضى.
قهر المراتها سكانَ تلك الجهات الأصليين البهيل، واستقروا بعُرضَي جبال كهات وبالهضاب العالية وبسهول كونكن الغنية، وثار المراتها على الإنجليز غير مرة، ولاقى هؤلاء الأَمَرَّيْن في رد جماحهم، وإذا عَدَوْت المراتها وجدت أهالي الدَّكَن من الدراويد، أو من الذين تغلب عليهم العنصر الدراويدي على الرغم من كل توالد.
ولم يبقَ سوى دولة ميسور ودولة حيدر آباد من الدول الكبيرة التي استولت على جنوب الهند فاتخذت غولكندا وبيجابور وبيجانغر عواصم لها فكان لها في أخيلة الأوربيين أعجب الذكريات.
وتقع مملكة ميسور على الجانب الشرقي من جبال كَهَات الغربية، ويستند جنوبها إلى جبال نل غيري، وتفيض سحب الرياح الموسمية عليها بعد أن تصب بصولة في ساحل ملبار، ويستر بعض مملكة ميسور، لذلك، نبات قوي، وتشتمل على غابٍ عجيبة يكثر فيها شجر الصندل الطيِّب الشذا الذي يُتقن الهنود نقره وترصيعه، وتُصَدِّر القطن والحبوب والأبازير إلى الخارج، وتظهر عاصمتها التي تسمى ميسور أيضًا مدينةً صحية هيفاء، وإن كان الأوربيون يفضلون عليها أوتاكامند الواقعة في جبال نل غيري، والمعدودة مدينة الصحة في جنوب الهند.
وفي ميسور، في جنوب نهر كِرشْنا، على الجانب الغربي من جبال كهات، ينبع نهر كاويري الذي هو أهم أنهار جنوب الهند، فيترك منطقة الهضاب فورًا من شلال يزيد ارتفاعه على مائة متر، فيبدو في زمن الفيضان من أروع شلالات الدنيا، فيتألف في آخره دلتا واسعة تُسمى ضلعُها العريضة كولَرُون فيُقَدَّس كما يُقَدَّس أكثر أنهار الهند، فأقيمت في الأماكن التي يجري منها؛ «أي في تانجور وترِي جنابلي وكنبه كُونَم ومدورا»، معابد مشهورة تختلف عن معابد الهند الأخرى بأبوابها الهرمية الكبرى المغطاة بألوف التماثيل ذات الأثر الرائع في مجموعها.
وتشتمل دولة نظام الكبيرة، التي هي أوسع دول الهند شبه المستقلة، على جميع القسم الأعلى من الدَّكَن، وعاصمتها حيدر آباد الإسلامية من أكثر مدن الهند وقفًا للنظر، فهي تَصلُح مثالًا لما كانت عليه عواصم الشرق، كبغداد، أيام سلطان العرب.
وتقع مدينة غول كوندا، التي غدت قريةً حقيرة، بالقرب من حيدر آباد، ويُثير اسمها في الخيال صور القصور الرائعة الخرافية ذات الشُّفوف والوِشاء الزاهية والحجارة الكريمة المتألقة، وتسودها القعلة ذات الألغاز التي هي مفتاح تلك المنطقة، فلم يوفق لزيارتها قبلنا غير فئة قليلة من الأوربيين.
ولم تكن عاصمة الدَّكَن السابقة غول كوندا وحدها هي التي آلت إلى الخراب، فليس قليلًا خَرِب العواصم السابقة في الهند، فأكثر هذه العواصم الخَرِبة وقفًا للنظر هو بيجابور وبيجانغر اللتان تجد صورًا لكثير من مبانيها في هذا الكتاب، وبيجانغر هذه أصبحت ركامًا من المعابد والقصور على مساحة تعدل باريس فصار لا يطؤها إنسان، وعاد لا يأوي إليها سوى الضواري، فعلى المرء أن يطوف على نور القمر في تلك المعابد المهجورة وفي مسالك تلك المدينة الميتة المصفوف على جوانبها متشبِّكُ العماد والأروقة؛ ليدرك ما في الأشياء الصامتة من بيان بليغ في بعض الأحيان، فبمثل هذه المناظر الماثلة استطعنا أن نُخْرج من أعفار القرون طيف حضارة بائدة.