عروق الهند الشمالية أو الهندوستان
(١) سكان هِمَالْيَة
تُعدُّ هضاب هِمَالْيَة الغربية العليا وأكثر الأودية التي تهيمن عليها من التبت، لا من الهند من الناحية الجغرافية، وَتُعَدُّ من أجزاء الهند من الناحية الإثنولوجية.
وتجمَّعت الشعوب الصغيرة التي تسكن تلك المناطق المنيعة، وبعضها قديم جدًّا، على شكل جماعات، وجاءت تلك الشعوب من التبت في الغالب ومن الهند في بعض الأحيان، ولكن لا كفاتحةٍ ما كان من طبيعة تلك البلاد الجبلية أن تجعل كلَّ غزو مسلح أمرًا مستحيلًا، فتفلَّت أهل تلك البلاد من نير الأجانب حتى الآن، وحافظوا على استقلالهم على العموم.
ويتوارى المثال التبتي شيئًا فشيئًا في أودية هِمَالْيَة الجنوبية حيث يتصل سكان الجبال بسكان السهول فتتهند الديانة والطبائع، ويمارس السيادة طبقة أريستوقراطية راجبوتية يصدر عنها الراجوات.
هِمَالْيَة الغربية «لدَّاخ، بالتي، دردستان»
ويقول أهل لَدَّاخ بتعدد الأزواج من الذكور، وينشأ انتحالهم لهذه العادة عن فقرهم، ففي لَدَّاخ يجتمع خمسة إخوة أو ستة أخوة، في الغالب؛ ليعولوا امرأة، ويؤلِّفوا أسرة، وأما البالتيون، وإن لم يكونوا أغنياء، فلم يتخذوا هذه العادة؛ لتحريم الإسلام إياها، وينزح أناس كثرون منهم، عن بؤس، إلى سهل الغَنْج فيكونون عمالًا مأجورين لدى الإنجليز، فإذا ما جمعوا مالًا قليلًا عادوا إلى جبالهم ومساقط رءوسهم؛ ليقضوا فيها بقية أعمارهم، وإذا ما أثْرَوا تزوج الواحد منهم غير زوجة.
والمنطقة التي يبدأ نهر السِّنْد بالجري من شمالها إلى جنوبها مُجَوِّلًا حول شوامخ ننغا بربت تعرف بدردستان، ويسكن هذه المنطقة أناس يختلفون عن أولئك، فما يتصفون به من القامات العالية والوجوه البيضية الناضرة يدل على أصلهم الآري، وهم، مع إسلامهم يقولون بنظام الطوائف، ومن أكثر الطوائف احترامًا عندهم طائفة الصين التي ورد ذكرها في شرائع مَنُو وفي المهابهارتا، فظن بعض علماء أوروبا، على غير حق، أنها تدل على نَسَب بين أهل دردستان وأهل الصين، ومن الدرديين يتألف أشراف دردستان الذين يستعبدون سكان البلاد الفطريين أو الدوم القاطنين في الأصقاع الممتدة إلى البَنْجَاب والقسم الشمالي من راجبوتانا، والمتصفين باسوداد جلودهم كجلود همج الهند الوسطى والمعدودين أنجاسًا عند البراهمة والمسلمين، وما عند الدرديين من عادات وثنية شاهدٌ على قِدمهم، وفي بلادهم أنصاب كثيرة تشابه أنصاب بريتاني، ويتصف الدرديون وسادتهم بالخلق الحر وحب الفخر، ولم يتم قط إخضاعُ ياغستان التي تقيم بها إحدى قبائلهم فيسميها الإنجليز «البلد المتمرِّد».
ويُرى بين لهجات دردستان ولغات الأفغان وجه قرابة.
وادي كشمير
جميع البلاد التي ذكرناها من أعمال راجه كشمير، فإذا نزلنا إلى منطقة كشمير الأصلية، أي إلى الوادي البالغ طوله ثلاثين فرسخًا، والبالغ عرضه عشرة فراسخ، والمشهور في العالم كله بجمال مناظره، ووفرة نباته، وجدنا عرقًا يختلف عن عروق المناطق المحيطة به، فيجب أن يُطلق اسم الكشامرة على سكان هذا الوادي، لا على مختلف القبائل المجاورة له.
ويشتهر الكشامرة من الناحية الجثمانية بين أهم سكان الهند وأكثر الناس بياضًا، وتشتهر نسوتهم بالجمال.
فللكشامرة جلودٌ ناعمة ملونة قليلًا، وأنوف قُنْوٌ، ولحًى وشعورٌ كَثَّة، وقامات مربوعة، وأجسام ضليعة.
وتدلُّ سيماهم على الاعتداء أكثر من أن تدلَّ على الشجاعة، وهم على جانب عظيم من الاستعداد الفني، فهم الذين يصنعون الشالات المشهورة في العالم بأسره والآنية النحاسية المزينة بالميناء، فلم توفَّق أوروبا لتقليدها حتى الآن.
ويمكن عدُّ سكان وادي كشمير، أو طوائفهم العليا على الأقل، وذلك من الناحية الإثنوغرافية، حفدةً لآريين، كانت تجري في عروقهم دماء تبتية قليلة.
ويدين الكشامرة بالإسلام منذ الفتح الإسلامي مع محافظتهم على نظام الطبقات، ويتكلمون بلغة ممزوجة من الفارسية والسَّنسكرتية.
قبائل أقطار هِمَالْيَة الدنيا
وليس من المفيد ذكر قبائل تلك المنطقة مفصلًا ما اختلطت جميع العروق والعبادات في الشيباليين والبهاريين والغاديين والكولو والغوجر، وبينما يتوارى العنصر الأصفر من هؤلاء نكتشف فيهم أثر العنصر الأسود أحيانًا، وتتألف طبقتهم الأريستوقراطية من الراجبوت على العموم.
وأكثر تلك الشعوب الصغيرة من الرعاة، وبعض تلك الشعوب من البدويين، ويقول بعضها بتعدد الأزواج من الذكور، ودينُ الكثير منها مزيجٌ من الإسلام والبرهمية، ولا يزال بعضها يعبد الأصنام القديمة ويعبد الأفاعي.
ويتصف جو هذه المنطقة وعروقها ولهجاتها بطابع التحول، وفيها تمتدُّ سلسلة شِيوالك، وهي تقع بين منحدرات هِمَالْيَة المهيمنة الجليدية في الغالب وسهول وادي السِّنْد المحرقة.
نيبال
تشابه المنطقة المسماة «نيبال» مِنطقة كشمير باشتقاق اسمها من وادٍ ضيق صغير، وبأنها مركز للقوة والحضارة في البلاد، ويحيط الوادي بعاصمتها كهات ماندو القائمة في القسم الشرقي منها، ويبلغ طول مملكة نيبال ٧٠٠ كيلو متر ويبلغ عرضها ١٢٥ كيلو مترًا، وتقع مملكة نيبال بين سلسلة هِمَالْيَة الأساسية وطلائع الجبال المسيطرة على سهل الغَنْج، والتي تبدو منطقة تَرَائِي على حرفها.
ويسكن منطقة نيبال قبائل مختلفة في أصولها ولهجاتها، فبعض هذه القبائل من أصل تبتي، وبعضها نتيجةُ توالد أناسٍ من التبت أو من السكان الأصليين وأناس أتوا من جميع أجزاء الهندوستان، ومن هؤلاء المهاجرين أناسٌ من الراجبوت، أي من أشرف شعوب الهند، وأناس متوحشون مشابهون لكول جهوتاناغبور وولاية أوريسة، والأهالي الذين يُعرفون بالغوركها هم وَلِيدُو الامتزاجات الأولى، والأهالي الذين هم وليدو الامتزاجات الأخرى هم من قبائل نيبال المجاورة لسِكِم.
وتنتسب أكثرية الأهالي الذين يقيمون بوادي نيبال، أي بالمنطقة الضيقة التي تحيط بها الجبال، وتشتمل على كبريات مدن مملكة نيبال، إلى فرعين مختلفين: فرع النيوار الذي هو وليد العِرْق الأقدم، والذي ظل سيد نيبال إلى نهاية القرن الأخير، وفرع الغوركها الذي استولى على نيبال في نهاية القرن الأخير.
وبقي الغوركها من قبائل نيبال المحاربة قبل أن يصبحوا سادة وادي نيبال، ويزعمون أنهم من حفدة الراجبوت الذين هاجروا إلى نيبال فِرارًا من الفتح الإسلامي، وهم، مع كونهم من أصل هندوسي، لم أرَ إلا الأقلين منهم لم يحملوا أثرًا ظاهرًا من الدم التبتي، على أن اسم «غوركها» لا يدل على عِرق معين، بل يدل في نيبال على أناس من كل طبقةٍ وأصل غادروا ولاية غوركها النببالية؛ ليفتحوا بقية نيبال.
ويقسَّم الغوركها إلى عدة طوائف، وأسمى هذه الطوائف هي طائفة الأكشترية التي هي وليدة تزوج الراجبوت بنساء القبيلة الفطرية المعروفة بكهوس.
ويعدُّ الغوركها نواة أهالي نيبال المحاربين، ثم انضم إلى هذه النواة قبائل محاربة أخرى نذكر منها المغر والغورنغ، إلخ. الذين يتجلى المثال المغولي فيهم أكثر مما يتجلى في الغوركها.
ويهاجر الكثيرون من قبائل نيبال المحاربة؛ ليُستخدموا في الجيوش الإنجليزية، فيُسمَّون فيها باسم الغوركها العام مع عدم صواب هذه التسمية.
وإلى غُزاة الغوركها يعود الفضل في خضوع نيبال لسيد واحد كما ذكرنا آنفًا، والغوركها قوم عسكريون، وليس الغوركها أهلًا لغير ما يَمُتُّ إلى الأمور العسكرية بصلة، فتراهم يزدرون الصناعة والزراعة والتجارة، ولا تجد فيهم أثرًا للذوق الفني، وهم نقيض النيوار في القابليات.
والبرهمية هي ديانة الغوركها، ولغة الغوركها المعروفة بالبربتية هي لهجةٌ سنسكرتية ممزوجة بكلمات تبتية، وتُكتب لغة الغوركها بالحروف السنسكرتية.
ويتألف من النيوار الذين خضعوا للغوركها جمهور الوادي، والراجوات الذين هم من عرقهم هم الذين ملكوهم عدة قرون فامتلأت مدن نيبال في عهدهم بالمباني العجيبة.
والنيوار، وإن كانوا كالغوركها نتيجة توالد الهندوس والتبتيين، بدا أثر أهل التبت أظهر من أثر الهندوس فيهم، فلما أُتيح لي أن أدخل وادي نيبال كان بين حاشيتي خادمٌ رافقني في زيارتي لمختلف أقطار الهند من غير أن يعلم شيئًا عنها، فسألني، حينما وطئت أقدامنا أول قرية نيبالية واقعة على الحدود، عن وصولنا إلى بلاد الصين ظانًّا أن نيبال من الصين؛ لما رآه من مشابهة سكانها للصينيين الذين شاهدهم معي في بَمْبِي.
ويتكلم النيوار باللغة النيوارية المختلفة عن البربتية التي هي لغة الغوركها، وإن كانت ممزوجة مثلها من السنسكرتية والتبتية، واللغة النيوارية وحدها هي لغة نيبال التي لها آداب.
والنيوار عاطلون مما اتَّصف به الغوركها من الروح العسكرية، وتجد عندهم، مع ذلك، ما ليس عند هؤلاء من الأهليات الزراعية والصناعية والفنية العظيمة، وبفضلهم أقيم ما يملأ الوادي من المعابد الطريفة المزينة بالنقوش العجيبة فنشرنا لها عدة صورٍ في هذا الكتاب، وبلغوا من إتقان حفر الخشب درجةً لم تفُقْهم معها أوروبا كما أرى، ومن دواعي الأسف أنهم لم يلاقوا من الغوركها، الذين هم سادتهم في الوقت الحاضر، ما يشجعهم، فترى متفننيهم يزولون بالتدريج فلا تجد منهم اليوم أكثر من اثني عشر رجلًا قادرًا على حفر الخشب أو الحجر بمهارة، فالحق أن فن البناء في نيبال دخل دور الانحطاط، وما تشاهده فيها من الآثار المهمة صُنع قبل الفتح الغوركهائي.
وتجد ثلث النيوار من أتباع شِيوا وتجد ثلثيهم من البُدَّهِيين، وتجد هؤلاء وأولئك من القائلين بنظام الطوائف.
بهوتان وسِكِم
تقع دويلتا بهوتان وسكم المستقلتان في شرق نيبال، أي في منطقة هِمَالْيَة، وَيُعَدُّ سكانها من فصيلة الآدميين الذين يقطنون في الهضاب العليا، ويُعَدُّون، كذلك، من التبتيين فيشتق اسم «بهوتان» من كلمة «بود» التي تعدل كلمة «التبتي».
ويرى الإنجليز أن أهل سِكِم أرقى من سكان بهوتان بمَرَح أخلاقهم، ولا تبصر في الهند شعبًا أنيسًا مثل أهل سكم، ويمارس هؤلاء الذين هم من شِباه البرابرة بعض فنون اللهو والتسلية، ويزمرون بما يأخذ بمجامع القلوب، ومن محاسن لغتهم عَطَلُها من تعابير القَذْع والشتم، فدل ذلك على لطفهم ودماثتهم.
وأهل سِكِم من القائلين بتعدد الأزواج من الذكور على العموم، ويدينون بالبُدَّهِيَّة، وتكثر في سفوح جبالهم أديار الكهنة، وتُبنى هذه الأديار من مواقع رائعةٍ، وتسيطر على مناظر ساحرة.
وسكان بهوتان أقل مرحًا من جيرانهم أهل سكم، ونجم ذلك عن البؤس الشديد الذي ألقتهم فيه حكومتهم المستبدة المرهقة، فالذي يود منهم أن يملك نتيجة عمله يترك بلده ليخدم الإنجليز. ويشابه دينُهم ولهجاتُهم دينَ أهل سِكِم ولهجاتهم، ويقولون مثل هؤلاء بتعدد الأزواج من الذكور، ويملكهم الكاهن الأكبر وقائم مقام دون الكاهن سلطانًا وإن كان يدعى بالملك.
ولا تتجلى في أهل سِكِم وأهل بهوتان سَحَنات أهل التبت الخالصة إلا في الأودية العليا، فإذا ما نزلت إلى السهل أبصرت اختلاطهم بأهل البنغال اختلاطًا، وتزل معه الملامح والعادات الأولى.
(٢) سكان آسام
آسام، كما نعلم، جزءٌ من وادي بَرَهْمَا بوترا تابع لإمبراطورية الهند الإنجليزية خلا شبكة مصبه المعقدة التابعة للبنغال، والتي تختلط فيها مياه هذا النهر بمياه الغَنْج.
وجميع تلك القبائل «الآبور والمشمي والسنغبور» المقيمة بضفاف بَرَهْمَا بوترا والقبائل «الناغا والغارو والكهاسيا» المقيمة بالجبال الواقعة على الضفة اليسرى من ذلك النهر ذاتُ مثال واحد تقريبًا وهي فروع لعرق واحد.
والحق أن العنصر التبتي المغولي هو الغالب فيه، ومن الطبيعي أن تجده باديًا في جوار الثُّغرة الشمالية الشرقية التي فاضت منها طوفانات العِرْق الأصفر إلى تلك البقاع في عدة قرون، وهذا إلى أنك تجد في الأقسام الجبلية أناسًا يشابهون مثال الشان في بن ماني، أي مثال الآسيويين الشرقيين الخُلَّص كالذين يسكنون سيام والهند الصينية، فاحتمل أن يكون أولئك قد أتوا منهما.
ولجماعة الكهاسيا الصغيرة المقيمة بحوانب جبال كهاسي ظاهرة عجيبة تجد مثلها في الباسك الساكنين جبال البيرنة الأوربية، وذلك أنهم يتكلمون بلغة لا يمكن ربطها بأية فصيلة من اللغات المعروفة، فهذه اللغة ذات المقطع الواحد تبدو مطوَّقةً غريبة بين مختلف اللغات الهندية التي يسهل تصنيفها.
والناغا، الذين يدل اسمهم على «الأفاعي»، يذكروننا بسادة الهند الجنوبية الأقدمين الوارد ذكرهم في الرَّاماينا بأنهم عباد الأفاعي، ومن المحتمل أن كان بينهم وبين قدماء الدراويد قُربى ما بدو سودًا، ويبدون قومًا محاربين متمتعين بالاستقلال الكامل.
وتدين بالوثنية جميع القبائل الوحشية التي ذكرنا طبائعها وعاداتها ذكرًا خاطفًا، والنكاح عند هذه القبائل من أقل النظم حرمة، ولنسائها حق السيطرة على الأُسَر، وحق نقل الأموال وتحويلها، وحق الاعتراف ببُنُوَّة الأبناء، ولهن شأن كبير في الحكومة أحيانًا.
ولا يزال الغارو محافظين على بعض العادات القديمة التي سنفصلها حين البحث في بعض شعوب الهند، ويقسَّم الغارو إلى قبائل صغيرة تُدعى بالمهار أو الأمومات، وكانت تمارس السلطة في كل واحدة من الأمومات امرأةٌ فيما مضى، فيمارسها اليوم رئيسٌ «لَشْكَر» منتخب من بين أكثر من يملكون عبيدًا، على أن توافق النساء على نصبه، ويستشيرهن في غير مسألة. والفتاة هي التي تخطُب الفتى في المهار تبعًا للعادات القديمة، وفي الغالب يغصِبُ رجال المهار الخطيبَ غصبًا مصنوعًا ما كانت الزوجة القادمة ملك المهار، ولا يرث الابن في المهار إلا بعد عمته وأبناء عمته، ويكثر الطلاق في المهار فيظل الأولاد فيها ملصقين بأمهم، ولا يعرف الأولاد أباهم في الغالب، أو يعيشون قريبين منه مع عدهم إياه أجنبيًّا.
وتلك العادات المنحطة، التي ستزول بزوال العروق الطريدة الضعيفة التي تمارسها، والتي لا تزال بادية في جبال آسام، تتوارى وتمَّحي عند النزول إلى السهل حيث يكون القوم هندوسيين مختلفين، مثالًا ولسانًا ودينًا وأخلاقًا، عن البنغاليين الذين يمتزجون بهم شيئًا فشيئًا.
ونحن حين نربط أهالي بقاع آسام الدنيا بأهالي وادي الغَنْج نصف هؤلاء الأهالي فندخل الهند الحقيقية بهم.
(٣) سكان وادي الغَنْج
لا تجد في الخلاصة التي ذكرنا فيها مختلف عروق هِمَالْيَة وآسام العليا ذكرًا خاطفًا ما يمكن تسميته بالهندوسي ولو بوجه عام أو مبهم.
ونحن حين ندخل وادي الغَنْج نجد أنفسنا في صميم بلاد الهندوس؛ أي بلاد الشعوب البرهمية التي يجري في عروقها دماء قدماء الدراويد ودماء تورانية ودماء آرية على نِسَب متفاوتة غير منتظمة.
والسهل الواسع الذي يشقه نهر الغَنْج وروافده هو من أكثر بقاع العالم خصبًا وسكانًا؛ ففي هذا السهل تجد ١٤٠٠٠٠٠٠٠ شخص يخرجون من ترابه بسهولة منابع أنعُمهم ومعايشهم، وليس في تضاعف هؤلاء الآدميين وتكاثُفهم بما قد لا تراه في بقعة من الدنيا ما يجعل تلك الأراضي العجيبة غير كافية لاحتياجاتهم.
وجلود أهل بهار سُمْرٌ، ويقتربون من المثال الأوربي بملامحهم، ولا أثر فيهم مما في البنغاليين من الخداع والدناءة.
ويظهر أهل أَوَدْهَة شعبًا راقيًا، ويجد المرء فيهم المثالَ الآري شائعًا؛ لما يراه فهم من استدارة الوجه المنير، وانسجام الملامح، وارتفاع القوام، والاعتزاز بالنسب.
ويتألف ثُمن سكان أَوَدْهَة من البراهمة، أي من حفدة قدماء الآريين، ويكثر الأكشترية «المقاتلة» أو الراجبوت في أَوَدْهَة، ويملك هؤلاء أراضي واسعة فيها، ويفتخر زراعها بانتسابهم إلى عِرق الإله كرشنا.
ويتجلى تأثير الإسلام في وادي الغَنْج على عكس التأثير الآري، فهو يزيد من الغرب إلى الشرق ومن منبع هذا النهر إلى مصبه، ويتألف من المسلمين عُشْر أهل أَوَدْهَة وسُبْع أهل بهار وثُلث أهل البنغال، بَيْدَ أن الهندوس الذين اعتنقوا الإسلام لم ينفصلوا عن إخوانهم من البراهمة بسبب إسلامهم، فهم يفترقون مثل هؤلاء إلى طوائف، وتجمع أهم الشعائر الدينية بين أتباع تَيْنِكَ الديانتين في الغالب.
وتُبْصر، مما تقدم، عناصر متقاربة في وادي الغَنْج يُرجى صَهْر كل منها في شعب متجانس يومًا ما؛ لما بين أقصى مُثُلها من حلقات متصلٍ بعضها ببعض اتصالًا يكاد يكون غير محسوس، فبينما تجد في أقسام الهند الأخرى شعوبًا مختلفة أشد الاختلاف مع تجاورها، ترى في وادي الغَنْج عناصر كثيرة منسبكة تقريبًا، فترى البنغاليين يعدون أنفسهم فيه من جنس واحد، وترى مثال طبقاته العليا واحدًا مشابهًا لمثال الطبقات العليا في الهند الصينية، وترى طبقاته الدنيا تبتعد عن العِرْق الأصفر، وترتبط في العروق الفطرية الأولى، وفي قدماء الدراويد والكول.
قبائل وادي الغَنْج الأدنى المتوحشة: السانتهال والملير، إلخ
يوجد بين الشعب المتجانس الذي وصفناه آنفًا جماعاتٌ متفرقة من شِباه الوحوش، ولا يُعَدُّ أكثر هؤلاء من سكان وادي الغَنْج تمامًا من الناحية الإثنوغرافية والناحية الجغرافية، وسندرس أمرهم حينما نبحث في شئون إخوانهم من سكان الولايات الوسطى، وما نقوله هنا هو في أمر بعض تلك الجماعات التي لا يجوز الإغضاء عنها الآن ما ظلَّت من سكان وادي الغَنْج، وما تكلمنا في هذا المطلب عن هؤلاء السكان.
ويسكن المليرُ أكواخًا كبيرةً مصنوعة من سيقان الخيزران المُزَيَّنة بإتقانٍ ومؤثَّثَةً بمتاع ذي أفنان، ويعبد المليرُ النجومَ وقُوى الطبيعة والملائكةَ الذين يقطنون، على زعمهم، في الأجواء، ويبني المليرُ بيتًا كبيرًا عامًّا لشباب كل قرية، حيث يمارسون ضروب الرياضة والبأس، ويقيمون في بعض الأحيان، فلجأ الإنجليز إلى الحيلة؛ لقهر الملير أكثر مما إلى القوة فوجدوا أن النقود والوعود خيرٌ من السلاح في إخضاع الملير.
والسانتهال أكثر من الملير عددًا وأعظم أهميةً، ويسكن السانتهال منحدرات الجبال والسفوح التي يقطن الملير في أعالي جبالها، وللغة السانتهال طابعٌ خاصٌّ ما بدت أمَّ جميع اللغات الكولية، والسانتهال أشد الفطريين تأثرًا بالعنصر الأصفر، والسانتهال نتيجة اختلاط الصفر بالسود.
والسانتهال خِفَافٌ لِطَافٌ مُكرِمون للأضياف، فترى أمام أكواخهم الهِيف «صُفَّة الغريب» حيث يجد المسافر حُسْن القِرَى.
والأسرة السانتهالية متينة التركيب، ويختار الأزواج عند السانتهال بعضهم بعضًا طَوْعًا على أن يكون الزوجان من عشيرتين مختلفتين، ويقول السانتهال بمبدأ تعدد الزوجات في حالة عقم المرأة فقط، ويندر الطلاق بينهم.
والسانتهال يحرقون موتاهم، والسانتهال يحفظون، مع ذلك، عظامًا من موتاهم ليرموها في مياه نهر دامودر المقدسة، والسانتهال يحافظون على شرفهم وأعراضهم كثيرًا، فيُعَدُّ ارتكاب المنكر أعظم جرم عندهم، فمن يقترفه يعاقب هو وعشيرته بالطرد من حظيرة القوم.
والسانتهال زُرَّاع ماهرون، وللسانتهال أذواق البدويين، فإذا ما استنفدوا خصب أرضٍ تركوها وأحيَوْا غيرها، ولكن المَدَى الذي يقدرون على التَّيَهَان فيه يقلُّ شيئًا فشيئًا بسبب تكاثرهم السريع وتطاوُل الإنجليز، وما أصاب السانتهال من زيادة بؤسٍ حَمَلَهم، منذ بضع سنين، على المثول بين يدي حكومة كلكتة ظانِّين أنها تتدبر أمرهم، فلما وصلوا إلى مكان مناسب أُطلق الرصاص عليهم إطلاقًا منظمًا، واليومَ يهجر سانتهالٌ كثيرون جبالهم؛ ليبحثوا عن عمل لهم في السهل، واليومَ ينزح بعضهم من وطنهم إلى ما هو أبعد من السهل.
ومن الفطريين نرى السانتهال والملير وحدهم يعيشون أمة في وادي الغَنْج، وفي وادي الغَنْج تجد أهالي منثورين هنا وهنالك يُعرفون باﻟ «قُلِي» فيُستخدمون أُجَرَاء وعمالًا وموظفين صغارًا في دواوين الحكومة.
ونذكر، قبل أن نترك وادي الغَنْج، أن جميع مدنه المهمة، خلا كلكتة، قائمة في النصف الغربي منه، وأن قِسمه الشرقي المشتمل على البنغال هو أرضُ حرثٍ وزرع، وأن سكان هذا القسم مبعثرون في أكواخ ظريفة محجَّبة بالأشجار غير متجمعة في مراكز كبيرةٍ كالتي تُرى على ضِفاف الغَنْج العليا.
(٤) سكان البَنْجَاب
يحتوي وادي السِّنْد، الذي سندرس أمر سكانه، على ثلاثة أقسام: البَنْجَاب في الشمال والسِّنْد في الجنوب وراجبوتانا في الشرق، ويقطن في هذه الأقسام الثلاثة أمم مختلفة.
والبَنْجَاب الذي كان الطريقَ الكبرى لجميع ما عُرِّضَت له الهند من المغازي ذو سكان مختلطين غير مصهورين بدرجة انصهار سكان وادي الغَنْج، فتبدو فيه العناصر الآرية والتورانية والمسلمة متخالفة، ولا تجد فيه أثرًا للعنصر الدراويدي أو العنصر الأصلي، والإسلام هو الدين الذي يسود البَنْجَاب، وللإسلام أثرٌ بليغٌ في براهمة هندوس البَنْجَاب الذين يَظهرون بإيمانهم الفاتر سُبَّةً لدى إخوانهم في بقية الهند.
وأصل سكان البَنْجَاب توراني، وهو مؤلف من الجات على الخصوص، فعلى هذا الأصل الواسع تنضَّدت طبقة آرية تعدل نصفه وأقليةٌ مسلمة ضعيفة.
ومن المحتمل أن كان الجات سادة البلاد حين الغزو الآري، مع أن الجنرال كننغهم يرى، في كتابه «تخطيط آثار الهند» الذي يُعَدُّ حجة في الموضوع، أن الجات من العنصر الهندي الشيثي، وأنهم أتوا الهند بعد الفتح الإسكندري، فالذي لا ريب فيه أن هؤلاء التورانيين الفطريين أو الهنود الشيثيين امتزجوا قليلًا بمن دحروهم إلى الجبال من الدراويد، وبمن خضعوا لهم مؤخرًا من الآريين؛ فنجم عن المصاهرات القليلة التي تمت بين تلك العروق أمثلةٌ مختلفة بين الجات، فترى فيهم أناسًا شديدي الإسمرار، وترى بينهم أناسًا منيرين كالراجبوت.
ولنَقُلْ، قبل البحث في أمر الجات ذوي الشأن المهم في الهند، بضعَ كلمات عن آريي البَنْجَاب الذين كان لهم نفوذ بالغ، وفوز لغوي واضح مع قلة عددهم.
ويستقر بجانب جبال هِمَالْيَة الأوان والغَكَر الذين أريد نسبهم إلى الإغريق، فعلى ما في هذا من شك فإن الذي لا مراء فيه هو أن أولئك من العِرْق الآري الخالص، وينتسب الدُّغرا وبعض القبائل الأخرى إلى العِرْق الفاتح أيضًا، فإذا ما نَزَلْتَ إلى الجنوب وجدت أناسًا كثيرين من الراجبوت، ويقيم معظم الراجبوت بالمنطقة المستطيلة المسماة بمنطقة الراجبوت، وسنصف أمر الراجبوت في مطلب آخر، فلنَدَعْهم الآن جانبًا.
ويقطن في قسم هِمَالْيَة المشرف على البَنْجَاب وفي الأودية المنحدرة إلى البَنْجَاب جماعاتٌ من التبت وصفناها فيما تقدم فنكتفي بالإلماع إليها هنا، والآن نصل إلى الجات الذين هم أهم شعوب البَنْجَاب ووادي السِّنْد.
ويُقسَّم الجات إلى ثلاث جماعات دينية: المسلمين المسيطرين على القسم الأدنى من وادي السِّنْد والسِّك أو أتباع نَانَك المقيمين بالبَنْجَاب وأتباع البرهمية المستقرين بمنطقة راجبوتانا والمنتسبين إلى طائفة الويشية.
وبينما كان الجات يملكون جميع الهند الغربية أغارت عليهم قبائل الآريين المحاربة، فبادر الجات إلى الخضوع، على ما يُحتمل، فعاملهم الآريون الغالبون بالحسنى، فأحدثوا لهم طائفة جديدة عُرفت بطائفة الويشية التي لا تزال مشتملة، بوجه عام، على أبناء الطبقة الوسطى ولا سيما التجار، مع حصر قدماء الأهالي في طائفة الشودرا المحتقَرة.
ولا ريب في أن ذلك كان نتيجة اتفاق أو تراضٍ قاضٍ بجعل سلطان الآريين فوق تورانيي غرب الهند، ولا نزال نجد لهذا الاتفاق أثرًا في بعض حفلات التتويج حيث يتسلم الأمير الراجبوتي الصولجان من رعاياه الجات.
وحدث في أواخر القرن الخامس عشر نوع من الإصلاح الديني فظهر مذهب السِّك الذين غدوا شعبًا بعد أن كانوا جماعة من الأشياع والمريدين، وبيان الأمر أن نبيَّهم نَانَك حاول أن يجمع الإسلام والديانات الهندوسية في دين واحد، وأن يصهر العروق بإزالة ما بين الطوائف من الفروق، وبإعلانه المساواة بين الناس، فصار جميع الذين اعتنقوا تعاليمه من السِّك أو من «المريدين»، وهؤلاء كلهم كانوا من الجات تقريبًا، فانضم الآريون إليهم فرفعوا بذلك مستوى الجات، ثم أضحى السِّك شعبًا حربيًّا؛ فنمت أجسامهم بفضل تمارينهم العسكرية، فلم يلبثوا أن تألَّف منهم عِرق باهرٌ يتصف مثاله بالبأس والكَيْس ونُبْل الملامح وقوة البيان وانسجام القامة، فالمحارب السكي هو من أمثلة جمال النوع الإنساني حقًّا.
وزعيمهم الثاني غووِندسِنغ هو الذي حبب إليهم النظام العسكري، فإذا كان نَانَك قد هداهم إلى معتقد روحي عالٍ قائل بإله واحد فإن غووِندسِنغ مَنَّ عليهم بالفولاذ رمزًا ماديًّا، ما صُنع من هذا المعدن دروعٌ مُسَرَّدة وسيوف مهندة، فعلى السكي المحارب أن يحمل تميمة من فولاذ ولو نُزع منه سلاحه.
وكان السِّك يطيعون زعيمًا منتخبًا منهم، وكانوا يجتمعون في مجالس شعبية للتشاور في الشئون المهمة، ولم يلبث السِّك أن بدَوا قومًا أولي بأس شديد فاضطر ملوك المغول والإنجليز من بعدهم إلى مراعاة جوانبهم، فلما كانت أوائل هذا القرن أقام السِّك في البَنْجَاب دولة مرهوبة، فعامل الإنجليز زعيمهم ملك لاهور المسمى رَنجيت سِنغ معاملة الندِّ للندِّ، وأَجلس زعيمُهم هذا على عرش الأفغان مَلِكًا اختاره بنفسه، واليوم عاد السِّك يكونون، كما في الماضي، طائفة دينية عاصمتها الروحية مدينة أمْرِتسر المهمة.
ومن الجات أناسٌ كثيرون حَبَسوا أنفسهم على التجارة فيمارسونها ببراعة، ويُعرف هؤلاء التجار بالمُلتانيين، نسبةً إلى مدينة مُلتان التجارية الواقعة بين البَنْجَاب والسِّنْد، وليس هؤلاء بمعروفين في الهند وحدها، بل اشتهروا في جميع مدن آسيا الوسطى؛ حيث يسيحون للتجارة على مقياس واسع، ولإذاعة أهم الأخبار وإشاعة أنباء الحرب.
لا يقوم المارواري بعمل لا يُدِرُّ عليه ربحًا مائة في المائة، ويحب المارواري الإدانة لآجال بعيدة، والمارواري يُدين ويُدين إلى أن يصبح المَدين قبضته، فإذا ما أفلس هذا المَدين حمله على السرقة، فبذلك يحطُّ المارواري ضحاياه كما يُخَرِّب بيوتهم، وليس نصف عواهر بَمْبِي إلا من أخوات هؤلاء الضحايا وأزواجهم اللائي عَرَفْنَ المارواري فاشترَيْن منه بضعة أرطال من السكر لآجال، فأسفر ذلك عن سقوطهن خَلقًا وخُلقًا، والمارواريُّ، مع كونه من أتباع وِشنو، لا يحترم آلهته، ويفضِّل دينارًا حاملًا صورة الملكة على أكثر هذه الآلهة حرمة.
ولا يتعاطى جميع الجات الزراعة والتجارة والمراباة، فبعض الجات ظلَّ من شِبَاه البرابرة والبدويين، ومن الممكن أن يُلصق بالجات زُراع البَنْجَاب وتجارهم المعروفون ببنجار الهند الذين هم إخوان النَّوَر بأوروبا كما يظهر، ويزاول أولئك ما يزاول نَوَرُ أوروبا من المهن، ويتصفون مثلهم بالجمال الفطري، ويتجولون من بلد إلى بلد ومن كوخ إلى كوخ وينزلون، إذا ما حلُّوا بمكان، في عرباتهم، ويعرضون للبيع صغير المتاع، ويُغَنُّون ويرقصون، ويقصُّون الأقاصيص.
(٥) سكان الهند وراجبوتانا
إذا ما نزل المرء من البَنْجَاب إلى مجرى السِّنْد بلغ السِّنْد حيث يكثر الجات والمسلمون والسِّك والْجَيْنِيِّون، ويتألف عنصر السكان الآخر الأساسي من البلوجيين الذين هم شعب جبلي مشابه للشعب المقيم ببلوجستان المجاورة للسند، فالبلوجيون هؤلاء من المسلمين السُّنِّيِّين، ويقسَّمون إلى عدة قبائل، فإحدى هذه القبائل تدَّعي بأنها من العرب ويتجلى فيها المثال السامي، وقبيلةٌ أخرى منها لا يندر وجود ذوي شعور شقر فيها، وقبيلة ثالثة منها تُعَدُّ نتيجة توالد أناس من البلوجيين والجات.
وتتكلم الشعوب التي تسكن وادي السِّنْد، على العموم، بلغات من أصل سنسكرتي، وأهم هذه اللغات هي: البَنْجَابية والسِّنْدية والماروارية، فلا تجد فروقًا كبيرة بينها.
وراجبوتانا هي القطر الواسع الممتد من السِّنْد إلى مداخل أغرا ومن جنوب البَنْجَاب إلى ممالك مراتها الممتدة من بَرُودة إلى غواليار، وتشتمل صحراء تِهَار الكبرى على النصف الغربي من راجبوتانا حيث تغدو وتروح قبائل من شِباه الوحوش، ويشق النصفَ الشرقي من راجبوتانا عدةُ مجارٍ تنبسط بين أوديتها هضاب وتقوم عليها جبال، وسلسلة آراولي هي أهم هذه الجبال، ومن جنوب سلسلة آراولي هذه ينفصل إلى الجنوب الغربي شاهق آبو الجليل.
وأُطلق اسم الراجبوت على القطر الذي كانوا سادته، والراجبوت لا يزالون يبدون فيه شعبًا مهمًّا من الناحية العرقية، والراجبوت منتشرون، مع ذلك، في شمال الهند خُلَّصًا أو متوالدين هم وسواهم.
وبين الراجبوت تجد أقدم طبقة للأشراف في العالم، فَرَاجِهُ أودي بور وحدَه هو الأمير الذي يمكنه أن يفتخر بأنه سليل أجدادٍ يملِكون منذ أكثر من ألف سنة.
والمسلمون حينما استولوا على الهند وجدوا الراجبوت مقيمين بجميع مدن الشمال وبسهل الغَنْج إلى منطقة البنغال الحاضرة، فكان الراجبوت يملكون لاهور ودلهي وقَنُّوج وأجودهيا، إلخ، وكانت المنطقة التي يملكونها ممتدة في الشمال من نهر السِّنْد ونهر ست لج إلى نهر جمنة بالقرب من أغرا، وفي الجنوب إلى جبال وِنْدهيَا، أي كانت شاملة لجميع شمال الهند الغربي.
فأما دُحِر الراجبوت من البقاع الخصبة التجئوا إلى منطقة راجبوتانا الحاضرة التي هي أمنع من تلك وأسهل منها دفاعًا.
وتقسم أملاكهم إلى تسع عشرة دويلة يملك الراجبوت منها ستَّ عشرة، ويقوم بشئونها رؤساؤهم، ودويلة أودي بور هي أهمها.
والراجبوت حاربوا المسلمين بنجاح إلى القرن الرابع عشر، وهم لم يصبحوا مهددين بجِدٍّ إلا بعد أن خسروا عاصمتهم جتور، وهم لم يندمجوا، مع ذلك، في الدولة المغولية إلا في عهد الملك أكبر، ولم يكن هذا الاندماج، مع ذلك، إلا صورةً، لا حقيقةً، ما حافظوا على استقلالهم الناقص، فالملك أكبر ترك لهم، بالحقيقة، نُظُمَهم مُنْعِمًا على زعمائهم بمراتب عالية في جيوشه متزوجًا ببنات منهم، ثم سار خلفاؤه على سُنَّتِه في ذلك.
ودستور دويلات الراجبوت القديم وحده هو الذي كُتِب له البقاء مع تقلبات السياسة في غضون القرون، وعادات الراجبوت وحدها هي التي لم تتحول بالمؤثرات الأجنبية، فنحن، إذ نبحث في هذا الدستور وهذه العادات في فصل آخر، نرسُم حضارة قسم كبير من الهند حوالي القرن العاشر من الميلاد، فمن العبث إذن، أن نفصِّل هنا أمور ذلك الشعب الشامل للنظر.
وتشتمل منطقة راجبوتانا، خلا أولئك الراجبوت والجات الذين تكلمنا عنهم آنفًا، على شعوب من شِبَاه الوحوش جديرة بالدرس كما يأتي:
شِبَاه الوحوش من سكان راجبوتانا: البهيل والمينا، إلخ
يُعَدُّ البهيل الذين يقيمون براجبوتانا وبالبقاع المجاورة لها من أقدم عروق الهند، ومن البهيل نزع التورانيون شمال غرب الهند، فاقتسم هذان الشعبان وادي السِّنْد زمنًا طويلًا، ولم يكن دحر البهيل إلى الجبال إلا نتيجة الغزو الراجبوتي الآري الذي وقع في القرون الأولى من الميلاد، كما يرى بعض المؤرخين، ولم يُقهر البهيل الغِلاظ المتوحشون من غير مقاومة مع ذلك، والبهيل ألقوا الرعب، عدة قرون، في قلوب الراجبوت بانقضاضهم عليهم من ملاجئهم العالية، ولا يزال ملوك الراجبوت يحافظون منذ القديم على مظهر التولية من بهيلي كرمز احترام للبهيل الذين كانوا سادة البلاد الأقدمين، وذلك بأن يجرح البهيلي الهمجي إبهامه وأن يلطِّخ بما يسيل من دمه جبين الأمير الجديد.
وعلى ما يدل عليه هذا الرمز من اتفاق ذَيْنِكَ الشعبين يمقت البهيل الهندوس، والبهيل يغتنمون، على الدوام، فرصة محاربة الإنجليز للراجبوت فيوجهون إلى هؤلاء سلاحهم، والبهيل عرضوا في سنة ١٨٥٧، حين اشتعلت ثورة السباهي، خِدَمَهم على الحكومة البريطانية.
وليس البهيل عرقًا خالصًا، فمن البهيل الذين يترجح عددهم بين مليونين وثلاثة ملايين لا تجد سوى مليون واحد ظل صافيًا تقريبًا، وترى البهيل يفتخرون بصفاء عروقهم مع أن العكس هو الأجدر ما بدا البهيل الذين تجري في شرايينهم دماء تورانية أنبل من خُلَّصهم، وهنا نُلصق بالبهيل شعبين مقيمين براجبوتانا، وهما: المينا والمهاير، فنقول: إذا كان العنصر الأصلي غالبًا في البهيل فإن العنصر التوراني مساوٍ للعنصر البهيلي في المهاير غالبٌ في المينا.
والمنطقة التي استقر بها البهيل بعد أن طُرِدَ بعضهم من راجبوتانا هي منطقة جبلية كثيرة الغاب ممتدةٌ من شمال جبال كهات الغربية إلى جنوب جبال آراولي، ومن خليج كمبي إلى الجزء الأوسط من وادي نَرْبَدا ووادي تابتي، وفي جبال وِنْدهيَا وسات بورا، على الخصوص، مأواهم، وفي هذا المأوى بَدَوا مستقلين إلى الآن، وعديدهم كثير في جبال كجرات وفي وادي ماهي النهر الصغير الذي يسيل إلى خليج كمبي.
ونكاح البهيل يتم ببساطة؛ فالعروسان يتواريان بضعة أيام في الغابِ ثم يعودان فيعربان عن اقترانهما، ويندر وقوع الطلاق عند البهيل.
ويُعرف البهيل الذين يسكنون قرى محصنة بالبال، ويُعرف ساكنو هذه القرى بالبلاري عند أهل السهل، والبلاري، فضلًا عن البهيل والمهاير والمينا، ليسوا من الأنجاس عند الهندوس مع أنهم لا ينتسبون إلى طائفة.
ونَعُدُّ من سكان راجبوتانا شِبَاه الوحوش المهاير والمينا الذين تكلمنا عنهم آنفًا، فهؤلاء هم الحلقتان اللتان يتصل بهما البهيل المتوحشون بالجات المتمدنين، ويقيم المهاير والمينا بجبال آراولي الواقعة في راجبوتانا، ويبلغ عددهم مئات الألوف، ويُنشئون، كالبهيل، قرى منيعة، ويحافظ أكثرهم على عاداتهم في النهب والسلب مع حثالة الجات والراجبوت فيؤدي هذا الاختلاط إلى تحسين مثالهم الذي يقترب عند المينا من مثال الجات.
ويسير المهاير والمينا إلى الحضارة قُدُمًا، فقد أخذوا يحرثون الأرض ويعتنقون البرهمية، ولكنهم لا يمارسون شعائر هذه الديانة إلا باعتدال، فتراهم يُقدِّسون الشجر والهياكل الحجرية والحديد كإخوانهم البهيل، وهم يتكلمون بلغة هندية مع أن بهيل الوسط يتكلمون بلغة مشابهة للغة الغوند.
(٦) سكان الكجرات وشبه جزيرة كاتهياوار
تمتد الكجرات إلى جنوب راجبوتانا، وتشتمل على قسم من اليابسة غني خصيب حافل بالمدن الزاهرة كالمدن: بَرُودة وسُورَت وأحمد آباد، وعلى قسم ساحلي جبلي، وعلى شبه جزيرة كاتهياوار التي يفصلها خليج كمبي عن ذلك القسم.
ويسكن الكجرات، التي يبللها البحر ويقصدها التجار من جميع أنحاء الدنيا، خليطٌ من الآدميين؛ ففي الكجرات تجد زُمَرًا من البراهمة المراتها والراجبوت والجات، وتجد فيها الجَينِيين، وتجد فيها أناسًا من السُّنِّيِّين والشيعة والمجوس والدراويد والكول.
ولا تزال الجبال الواقعة في شبه جزيرة كاتهياوار ملجأً لشعوب متوحشة، على حين ترى هندوسًا من أتباع المذهب الجَيْنِي يسكنون مدنها وشواطئها، وهذا المذهب المشابه للبُدَّهية هو أكثر مذاهب الهند حبًّا لإقامة المعابد للآلهة، فتبصر شبه الجزيرة تلك حافلةً بنماذج رائعة لفن البناء الهندوسي، فتشاهد فوق جبل شترونجيا الواقع في القسم الجنوبي الشرقي مدينة مؤلفة من معابد للعبادة لا من منازل للإقامة، فإذا قضى المؤمنون مناسكهم تحت قبابها الجبلية وبين أعمدتها المزينة بأنواع النقوش اللطيفة نزلوا إلى مدينة بالي تانا الواقعة في سفح ذلك الجبل المقدس.
إن المهاراجة هو الكاهن الذي يُؤَلَّه، أي الذي يتجسد فيه وشنوكرشنا فيقف عليه كل وشنوي تقي جسمه وروحه وملكه وأهله وتوابعه.
وإليك بعض ما يَجْبيه المهاراجة من عُبَّاده الأتقياء: خمس روبيات «نحو عشرة فرنكات» للتشرف برؤيته، و٢٠ روبية للَمْسه، و٣٥ روبية لغسل رجليه، و٦٠ روبية للجلوس بجانبه، و٥٠–٥٠٠ روبية للثَّواء بغرفته، و١٣ روبية ليتفضَّل فيضربه بسوطه، ١٩ روبية لشربه من غُسالته أو غسالة ثيابه القذرة، و١٠٠–٢٠٠ روبية من النساء اللائي يقضين معه روح اللذة.
وأبدى ذلك الكاتب الهندي حول «قضاء روح اللذة» تعجبه من إغضاء رجالٍ غَيَارَى ونساء مُحْصَناتٍ العيونَ عن أعزِّ المشاعر، وأرى، مع ذلك، أنه ليس في الأمر ما لا يمكن إيضاحه مع وقفه للنظر، فقد ظل الإيمان الديني أقوى العوامل في توجيه النفوس على الدوام، فهذا الإيمان يُعلِّم الإنسان أن يحتمل كل شيء وأن يقتحم كل شيء، وبالإيمان استقبل الشهداء ضاحكين لهب النار وبالإيمان أقام الفاتحون أعظم الدول.