عروق الهند الوسطى والهند الجنوبية
لقد سرنا في وصف العروق مع التقسيمات الجغرافية التي أوضحنا أمرها في فصل «البيئات»، فذكرنا صفات شعوب الهندوستان الأساسية فانتهينا إلى شعوب الدَّكَن الواسع الشامل للمنطقة الممتدة من نهر نَرْبَدَا ونهر سون إلى رأس كُماري.
وفي الدَّكَن سندرس قبل كل شيء أمر المراتها الذين نستطيع أن نصلهم وحدهم بالغزاة رأسًا، ثم نبحث في العروق الدراويدية القديمة التي تختلف عن السكان الذين وصفناهم آنفًا، ثم نختم الفصل بدرس أحوال الوحوش المقيمين بالجبال الوسطى، والذين يُعرف أكثرهم بالكول، فدرجة هؤلاء هي الدنيا بين عروق الهند، وهي أقدم ممثلي الجنس البشري في تلك الديار.
(١) المراتها
يشتق اسم المراتها من كلمة مهاراشترا التي تعني «المملكة الكبرى»، فهذا الاسم والعرق الذي يدل عليه قديمان في الهند إلى الغاية، فلا نستطيع أن نُعَيِّن بالضبط حدود مهاراشترا القديمة ولا أصل الشعب الذي كان يسكنها، ففي القرن السابع عشر فقط ظهر المراتها على مسرح التاريخ فمثَّلوا دورًا مهمًّا ففتحوا قسمًا كبيرًا من الهند فأقاموا دولة أهلية.
واليوم يتجمَّع المراتها، وعددهم نحو عشرة ملايين، في شمال الدَّكَن الغربي بين جبال كَهات الغربية وجبال سات بورا، ويقيمون بالمنطقة الجبلية المحتوية على منابع نهر غوداوَري ونهر كرشنا ومجاريهما العليا، ويعتنقون منذ القديم الديانة البرهمية فيُقسَّمون إلى طوائف، وهذه الطوائف دون سَميَّاتها في الشعوب الأخرى مرتبة، ولا يَعُدُّ الهندوس المراتها في مجموعهم إلا من طائفة الشودرا، وفي هذا دليل على أن المراتها أبناء عِرق غُلِب في غابر القرون وأُذِل، ومثالُ المراتها توراني من بعض الوجوه، شأن الشعوب المتوالدة؛ فالمراتها وَسِيطُو القامات صُفْرُ الجلود بارِزُو الوجنات قليلًا صغيرو العيون مرتفعو طرف الأنوف واسعو المناشق، وتتصف نسوتهم بالتِمَاع جلودهن وشعورهن السود الطويلة الكثَّة.
ويؤلِّف المراتها جامعة بلديات مستقلة يدير شئون كل واحدة منها رئيس منتخب يُدْعَى بتيل، ويتألف من نواب البلديات مجلسٌ وطني يُسمى بَنْجَايَت، وبلغ المراتها من الارتباط في نظمهم القديمة ما حمل ملكهم لقب بتيل بعد أن أقاموا مملكة وما ظلت السلطة العليا قبضة ذلك المجلس الوطني.
ونذكر بجانب مراتها كهات الغربية أولئك ممالك مراتها الهند الوسطى، فلا يقيم بهذه الممالك أناس من عِرق أولئك في الحقيقة، بل تملكهم، فقط، أُسَرٌ من أولئك لا تزال محافظة على نفوذ قدماء الفاتحين وسلطانهم، ومملكة غواليار هي أهم هذه الممالك الممتدة مئات الكيلو مترات بين نهر جمنة وجبال وِنْدهيَا في راجبوتانا وبُنْدِيل كِهَنْد وكجرات، وينتسب مهاراجة غواليار إلى أُسرة سِندهيا الشهيرة التي استطاعت أن تقيم دولة زاهرة على أنقاض الدولة المغولية، وأن تقاوم الغزو الإنجليزي ببسالة، وأن تحافظ على عرشها حين تَدَاعِي العروش الأخرى في كل ناحية.
وأسرة سِندهيا من أصل وضيع، فهي سليلة راناجي سندهيا الذي كان سنة ١٧٢٥ يقوم في قصر بيشوابونا بحمل الخفاف فعظم أمره بالحيلة والدهاء، ثم أضحى ولداه مادهوجي ودولت راو بَطَلَي استقلال الهند، فقاما بجهود جبَّارة لجمع كلمة أهل البلاد ضد غُزاة الإنجليز.
والأفَّاق شيواجي هو الذي أسس دولة المراتها، وجعل من تلك البلديات الزراعية الصغيرة المجهولةِ الأمْرِ أمةً محاربة مرهوبة في القرن السابع عشر، والأفَّاقُ شيواجي هذا هو الذي ألَّف عصاباتٍ ذوات بأس شديد؛ فسارت هذه العصابات من الدَّكَن، وألقت الرعب حتى في المدن الواقعة على مصب الغَنْج، وهدمت الدولة المغولية، ولا تجد اليوم شبهًا بينها وبين حفدتها خلا راجوات غواليار وإندور المحافظين على بعض ما كان لأجدادهم من نفوذ.
(٢) صفات العروق الدراويدية العامة
يبدو الدراويد، الذين نبحث في أمورهم الآن، نتيجة توالد سكان الهند الفطريين الأصليين والغزاة الصفر الذين أتوا من شمال وادي بَرَهْمَا بوترا الشرقي، ثم من توالد جميع هؤلاء والغزاة التورانيين الذين جاءوا من الشمال الغربي، ويقسم الدراويد، بحسب النسبة التي تغلَّب بها عنصرهم الأساسيُّ، إلى فرعين: الدراويد الأصليين الذين هم نتيجة التوالد الأول، والدراويد المولَّدين الذين هم نتيجة توالد أولئك والتورانيين.
وإذا نظرتَ إلى القطر الهندي الواقع جنوب غوداوري وجدْتَه دراويديَّ الطابع، ولا يزال حفدة الدراويد الأصليين يُرَون في المناطق الجبلية التي التجأ إليها أجدادهم بالتدريج فرارًا من تأثير المغازي الأجنبية.
وعلى ما بين الدراويد الأصليين والدراويد المولدين من تفاوت تُبصر فيهم كلهم صفاتٍ عامةً كاسمرار جلودهم وضعف شعورهم واسودادها ومَلَاستها وضخامة أنوفهم واتساع مناشقهم وسفول قاماتهم وشكل جماجمهم التي هي دون المستطيلة، وتبصر فيهم عباداتٍ فطريةً واعتقادات خرافية وطبقات طائفية، وما إلى هذه الأمور التي عرفوها قبل غزو الآريين لبلاد الهند على ما يُحتمل، ولمَّا قاتلهم الآريون كان عندهم قليل من التمدن كما دلت عليه أقاصيص الراماينا، فكانوا على علم بصناعة المعادن والخزف وإنشاء السفن وحبك النُّسُج وفن الكتابة.
ولا علاقة للغاتهم بالسنسكرت، وقد درسها علماء أوروبا قبل اكتشاف السنسكرت، ولتلك اللغات عدة لهجات، وتُقسَّم إلى أربعة فروع أساسية لكل واحد منها نحوٌ خاص وآداب خاصة، وهذه الفروع الأربعة هي: فرع الكنري ويتكلمون به بالغرب في جبال كهات الغربية وكوكن وملبار، وفرع الملَيَالَم ويتكلمون به في ساحل ملبار على الخصوص، وفرع التيلغو ويتكلمون به بالشرق في وادي غوداوري ووادي كرشنا، وفرع التمول ويتكلمون به بالجنوب في ساحل كوروميندل ورأس كُماري وقسمٍ من جزيرة سيلان.
وتجد بين الدراويد الذين يقطنون في جنوب الهند من وادي غوداوري إلى رأس كماري أناسًا من الهمج مقيمين، على العموم، بالمناطق الوعرة التي دحرتهم المغازي المتتابعة إليها، فهؤلاء هم عنوان السكان الأصليين الخُلَّص أو الذين توالدوا هم والصفر قليلًا.
فإذا طرحت هؤلاء جانبًا رأيت في هضبة الدَّكَن الواقعة في جنوب نهر غوداوري طبقات كثيفة من العِرْق الدراويدي يبلغ عدد أفرادها خمسين مليونًا.
ولا يُقَسَّم أولئك الدراويد إلا من ناحية اللغة مع بُعْدهم من التجانس المطلق، وجميع الدراويد يسايرون تقدم الحضارة منذ زمن طويل ويدينون بدين البراهمة، ويَبْدون من طائفة الشودرا. والهَمَج، على العكس، يَعُدُّهم الهندوس نُفاية البشر ومنبوذي الطوائف وطريدي العدل وأطِلَّة الدم.
والتمول المقيمون بشرق الهند الدراويدية وبوسطها أَمْدَنُ الدراويد، وبين التمول تقوم المدينتان مدراس وبون دي جيري، وفي مدراس تطبع كتب التمول بلا انقطاع، وما في لغة التمول من الكلمات الكثيرة والتراكيب الوافرة يجعلها ذات آداب، ويتكلم بهذه اللغة ١٥٠٠٠٠٠٠ شخص، ويتم لها الغَلَب على الكنرى والتيلغو الدراويديتين، وللتمول كتبٌ وُضِعت منذ ألف سنة.
وأمة التمول ذات نَجْدَة وشهامة وإقدام واستعداد للتقدم، وعليها يتوقف مصير الهند الجنوبية على ما يُحتمل.
ويعيش التيلغو في ساحل كوروميندل سائرين إلى الجنوب، والتيلغو دون التمول مدنية ولهم ما لهؤلاء من العَدَد.
والمَلَيالَم، ويتكلمون بإحدى اللهجات الدراويدية الأربع المذكورة آنفًا، يسكنون ساحل ملبار، والهندوس الذين هم فريق منهم هم، على عكس التمول، هاربون من التمدُّن ومتمسكون بعاداتهم القديمة.
وتقع كرناتك أو «الأرض السوداء» في وسط الدَّكَن، وتشتمل على مملكة ميسور وعلى جزء من مملكة نظام، ففي تلك المنطقة يتكلم الناس بلغة الكنري التي هي ثالثة اللغات الدراويدية الأدبية، والوسط هو «البلد الأسود» الحقيقي حيث يتجمَّع التراب الأسود المتفتِّتُ من الحجارة البركانية، بفعل سيول الرياح الموسمية وفيضانات الأنهر، والصالح لزراعة القطن.
ونحن، بعد أن درسنا صفات شعوب الدراويد، نبحث في الجماعات المتفرقة التي هي بقية الأهالي الفطريين الخلَّص كما قلنا.
(٣) سكان كوكن
ونساء التير يَسْتُرْنَ ما تحت السُّرَر، ومن السُّبَّةِ عندهن أن يُخفين صدورهن، فلم تستطع حواضن الإنجليز اللائي يتخذنهن مراضع أن يحملنهن على ترك العُرْي كما عجز تيبو صاحب من قبلهن عن إلباس أولئك الهمج من زراع النخيل ثيابًا.
(٤) سكان شواطئ ملبار «الناير، إلخ»
لشعوب الهند المختلفة نظمٌ وعادات نَتَمَثَّل بها ما جاوزته الأمم المتمدنة من المراحل والأطوار قبل أن تصل إلى حالها الحاضرة، فنحن، حين نَجُوب شبه جزيرة الهند، نبصر جميع أدوار الحياة التي مر أجدادنا منها.
والناير القاطنون في ساحل ملبار يزاولون بعض تلك النُّظم الفطرية التي عاد الغرب لا يعرفها في غير الكتب، فاليوم يستطيع الباحث أن يبحث عند الناير في نظام الأمومة كما كان في فجر التاريخ.
دلت المباحث الحديثة التي عرضناها في كتابنا «الإنسان والمجتمعات ومصدرهما وتاريخهما» على أن نظام الأمومة أولُ نظام ظهر بعد الدور الذي كانت تُعَدُّ فيه جميع نساء القبيلة وجميع أولادهن ملك جميع رجال القبيلة، فنظام الأمومة ذلك هو أصل الأسرة، وما كانت الأسرة لتنشأ بغيره، ونظام الأسرة ذلك يجعل الأمَّ زعيمة أولادها، ويمنحهم حق وراثة اسمها وأموالها، فحلَّت المصالح الفردية القوية بذلك محل المصالح القبلية الضعيفة.
وفي أوائل القرن السابع عشر من الميلاد زار فرانسوا بيرار ساحل ملبار فوصف الناير بما يقرب من حالهم في أيامنا، فذكر أنهم قوم محاربون مقاديم ذوو عادات تُذَكِّر الإنسان بفرسان الدور الإقطاعي الأوربي في القرون الوسطى لما وجده فيهم من حب الفخر وشدة البأس والحرص على الاستقلال وخلق الكرم وحفظ الكرامة واحترام النساء.
وكان الناير في القرن السادس عشر من الميلاد أناسًا أغنياء أقوياء يملكون مدنًا مهمة، فقال ذلك السائح: «يبدو زامورن «تمولي» في كالي كت من أعظم أمراء الهند وأغناهم، فهو يقدر أن يجهِّز ١٥٠٠٠٠ جندي من الناير، وَيُعَدُّ جميع ملوك الناير المقيمون بذلك الساحل من أتباعه فيطيعونه خلا ملك كوجين.»
والناير من الناحية الجثمانية عِرقٌ ذو مسحة من الجمال، فهم ذوو قامات ناهضة وهيئات مليحة وأطراف لطيفة وجلود سُمْر لامعة.
وتعني كلمة الناير «السادة»، ولا عجب، فالناير تتألف منهم طائفة أريستوقراطية مسيطرة على ساحل الملبار، والناير، وإن خضعوا ذات حين للبراهمة، لم يلبثوا أن رفعوا نير هؤلاء عنهم، ولم يتركوا لهم غير نفوذ روحي، والبراهمة هؤلاء ليسوا من أصل آري، فلم يُعَدُّوا مساوين لبراهمة شمال الهند الآريين، والناير أنفسهم، وإن كانوا يزعمون أنهم من طبقة الأكشترية، لا يراهم الهندوس إلا من طبقة الشودرا، والناير يتكبرون على الأهلين الذين يحيطون بهم ويتعاظمون على التير الخاضعين لهم مع أن جلود هؤلاء أصفى من جلودهم، والناير يعتلون الموبلا الذين هم عرب مسلمون مخضرمون، والموبلا هؤلاء على جانب عظيم من الشجاعة مع ذلك، فتراهم لا ينفكُّون، في الغالب، عن مقاتَلة سادتهم قتالًا لا هوادة فيه ولا رحمة.
وأكثر الأقوام الذين بلغوا شأوًا في التقدم جاوزوا نظام الأمومة الذي نراه في الناير، فلا تجد هذا النظام عند غير القليل من الأهلين كالكهاسيا القاطنين في ولاية آسام فتكلمنا عنهم في فصل آخر، وكالناير الذين نتكلم عنهم في هذا المطلب.
ولا تجد في القبائل العريقة في الفطرة أثرًا للنكاح، فنسوةُ إحدى هذه القبائل ملك جميع رجالها، فإذا تطورت هذه القبيلة قليلًا أخذت بنظام الأمومة، شأن الناير، فغدت النسوة ملك قليل من الرجال وعُهِد إليهن في إدارة الأسرة.
والزواج عند الناير قائم على مبدأ تعدد الأزواج من الذكور، ومن المحتمل ألا يكون بدء المظاهر التي تسبقه أقدم من الزمن الذي صارت السيادة فيه إلى البراهمة.
أَجَلْ، إن الزواج عند الناير قائم على مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة، ولكن أمد هذا الزواج قصير فلا يزيد على بضعة أيام، فالخطيب يجعل في عُنُق الفتاة قلادة على ألا تنزعها منه، ويدوم زواجها به ما قَبِلَت هذه القلادة وحافظت عليها، فإذا مضت أيام سُرِّح مع جائزة فاسحًا في المجال لأزواج آخرين كثيرين.
ولن تصبح الفتاة النايرية ملك القبيلة بأسرها كما هو أمر القبائل العريقة في الفطرة، بل ملك عدد من أفرادها، ولن يزيد عدد أزواج الفتاة عند الناير عن أحد عشر رجلًا، والفتاة النايرية هي التي تختار أزواجها ليعملوا على دوام الأسرة، والفتاة النايرية، وهي تقيم مع إخوتها، تقبل أزواجها الكثيرين بالنَّوْبة على أثر اقترانها بخطيبها الأول، والأزواج هؤلاء يغرزون خناجرهم في باب الزوجة؛ ليُعلم حضورهم، ولِيُذكر ما لهم من حقوق المتعة ما ظلوا ذوي حُظوة.
ومن الطبيعي ألا يُنسب الأولاد الذين هم نتيجة تلك الاقترانات المؤقتة إلا إلى أمهاتهم، وأن يُسمَّوْا بأسمائهن ما جُهِل آباؤهم على العموم.
فالمرأة النايرية هي ربة الأسرة الحقيقية، وتمارس سلطان هذه الأسرة بمعونة ابنتها البِكْر، ولا يعيش معها من الذكور إلا إخوتها وأولادها، فما يُكِنُّه الأولاد الذين تُنَشِّئهم أمهم وأخوالُهم لأخوالِهم هؤلاء من الحب يَعْدِل الذي يُكِنُّه الأولاد لأبيهم في الأمم الأخرى، والأبناء إذ كانوا لا يتركون أَخَوَاتهم تقريبًا، فإنهم يحملون لهن من الود ما لا يحملون لزوجاتهم ما كان زواجهم بهؤلاء لا يدوم أكثر من أيام.
ويسهل إدراك السر في تمثيل المرأة، التي تربي أولادها على ذلك الوجه فيرِثونها، دورًا أساسيًّا في الأسرة، وفي تلك الأسرة يلي الأولادُ درجةَ الخالِ والإخوةِ الذين يعيشون معها منذ عهد الطفولة، ولا يكون للزوج غير شأن ضعيف ما قام عمله على السكن المؤقت مع الزوجة وصولًا إلى دوام الأسرة، وليس للمرأة من همٍّ سوى اختيار أقوى الرجال وأجملهم لنفسها، وللمرأة حق مطلق في الاقتران بمن يروقونها، على ألا يكونوا من طائفة أدنى من طائفتها حذر العار والفضيحة.
ومما لا مرية فيه أن يكون بين أولئك المُوَلَّدين أناس من البراهمة؛ لما لهم من التقديس وقديم النفوذ، فالبراهمة هؤلاء ينتقلون من بيت إلى بيت حاملين بذورًا من الدم الغالي ما يرتفع به مستوى العِرْق الذي يقترنون به.
وللرجال مثل حرية النساء عند الناير، فلنا أن نقول: إن الناير يمارسون نظام تعدد الزوجات ونظام تعدد الأزواج معًا، وفقراؤهم، فقط، هم الذين يعملون بنظام تعدد الأزواج من الذكور، فترى كثيرًا من الإخوة أو غيرهم يتفقون على التمتع بالمرأة الواحدة، وذلك إلى أن نظام تعدد الأزواج من الذكور شائع في عدة مناطق من الهند، لا سيما في مناطق أقصى الشمال القريبة من التبت وفي أقصى الجنوب حيث القبائل القريبة المجاورة لمدورا، وكان للملكة بِكالي كَت، في غابر الأزمان، عشرة أزواج مختارون من البراهمة خلا زوجَها الملك.
ويظهر أن تعدد الأزواج من الذكور ذلك، وهو مما لا يلائم مبادئنا العصرية، عريقٌ في القدم، فقد ورد في كتاب مهابهارتا أن الإخوة الخمسة المعروفين بباندوا تزوَّجوا دروبدي الحسناء «ذات العينين اللتين هما كالسِّدر».
وإذا مات أحد الناير ورثه أولاد أخته الكبرى، لا أولاده، وينتقل إرث الأمم من بنت إلى بنت، كما كان حال السلطة الملكية في تراون كور، والإخوة يستغلون أملاك الأم من غير أن يتملكوا منها شيئًا.
ويلائم نظام الأمومة عند الناير مزاجهم النفسي وطرق معايشهم ما حافظوا عليه منذ قرون مع اتصالهم بالمسلمين والنصارى المقيمين بساحل ملبار منذ زمن طويل، ولم يَسْطِع الفتح البرهمي أن يقضي عليه.
(٥) سكان نِل غيري
ويسكن التودا قمَّة الطَّود، وهم أسنى من جميع أولئك، وهم معدودون من الرعاة ويتكلمون بلغة كَنَرِيَّة، ويُفترض أن يكونوا قد جاءوا من كنرا منذ ثمانية قرون، ولا يزيد عددهم على ألف.
والبداغا هم مهاجرون أتوا من ميسور حوالي القرن السادس عشر، ولا يختلفون عن سكان السهل إلا بأنهم دون هؤلاء حضارةً، وهم أكثر سكان ذلك الطَّود عددًا فيبلغ عددهم نحو ٢٥٠٠٠، وهم قوم زراع، ويتكلمون مثل أولئك بالكَنَرِيَّة.
وتجد تحت ذَيْنِكَ القبيلين المعروفَي الأصل الكوتا والكورومبا والإيرولا الذين لا يزيد عددهم على ٣٠٠٠، فهؤلاء هم، لا ريب، من بقايا الأهالي الأصليين، وإلى أجدادهم يُعزَى صُنْع الأنصاب المشابهة لأنصابنا القديمة، ويتكلمون بلهجات دراويدية قريبة من لهجات سكان السهل المتصلين بهم، والكوتا عنوان العنصر الصناعي في الطَّوْد، ويُمثل الإيرولا الذين يقيمون بالغاب في أسفل الطود أدنى مُثُل النوع البشري.
والآن نبحث في سحنات هؤلاء الأقوام الذين أشرنا إلى أصولهم وفي طبائعهم وعاداتهم.
التودا
التودا هم، كما ذكرنا، أسنى سكان نل غيري، وهم يتصفون بطول قاماتهم وكثافة شعورهم السود وكثاثة لحاهم الجعدة وغِلَظ شفاههم، واستقامة أنوفهم على العموم، وقَنَاها في الغالب، ورشاقة خُطاهم، ولا نستطيع أن نلصقهم بالهمج لِدَعَتِهم وطلاقة وجوههم ومرحهم ولطفهم وسلامة سرائرهم وعاداتهم السلمية وحسن الذوق في ملابسهم وصفاء سحناتهم، ونَعُدُّهم عنوان الهمجي المثالي، وإن شئت فقل عنوان إنسان الطبيعة الذي راق وصفُه روسو ومن على مذهبه في القرن الثامن عشر.
وتجيء كلمة تودا بمعنى الرعاة، ولا يُعنَى التودا بغير رعاية مواشيهم، وما في نِل غيري من المراعي الصالحة يُقِيت أطيب القطاع، والألبان أهم ما يتغذى به التودا، وبلغ احترام التودا للأنعام درجة العبادة، والبقرة عند التودا هي الحيوان المقدس كما هو أمر البداغا، والزريبة هي كنيسة التودا، ويُدعى كاهنهم بالبلال أو اللبان الأكبر، ويرى التودا أن حِلاب البقر وصُنع الزبد والجبن من أقدس الأعمال الدالة على جلال خُلق من يتعاطاها، ويعتقد التودا أن الإلاهة العليا هي بقرة مشهورة النَّسب، والحبر الأعظم لدى التودا هو أقدم الرعاة في فن تربية الحيوانات والعناية بها.
والبقرة، وهي حيوان التودا المقدس، تشترك في جميع طقوسهم وترأس جميع حوادثهم المهمة، فإذا وُلِد تودي جُعِل في حِرز القطاع، وإذا مات توديٌّ عُرض أمام جثته بقرُ عشيرته وذُبحت اثنتان منها لتتبعاه في ملكوت الأرواح، ويَحمِل عجلٌ اسمه بَسَاوَا خطايا التودا في بعض أيام السنة فيُطرد بالعِصيِّ إلى الغاب فيكون لهؤلاء القوم بذلك تزكيةٌ وتطهير، وفي هذه العادة من المشابهة لأمر تيْس العبريين ما لا يخفى على المتأمل.
ويحترم التودا الشجر، أيضًا، احترامًا دينيًّا، وبيان الأمر أن نكاحهم، وهو فطري، لا يكون شرعيًّا إلا إذا بلغ حَمْلُ الفتاة، من غير عائق، الشهر السابع للمرة الأولى، فيذهب الزوجان، إذ ذاك، إلى الغابة كي يقضيا ليلةً تحت شجرة جميلة من أشجارها جاعلين إياها حامية للطفل القادم، فإذا وُلد هذا الطفل أخذ أبوه وَرَقًا منها وثَنَاه على شكل قَدَح وصبَّ فيه ماء قليلًا ثم بُلِّلت شِفاه الأبوين والطفل به فتمَّ بهذا تأليفُ الأسرة حقًّا.
وتَسْبِق بعض المظاهر النكاح مع ذلك، فعندما يختار الفتى فتاةً من عشيرته يؤدي إلى حَمِيهِ القادم نقودًا، فيضع حموه هذا رِجْلَه على رأسه ويعدُّه ابنًا له، ثم يُؤتى بالخطيبة إلى بيتها الجديد لابسة ثيابًا فاخرة على صوت الأغاني، فتسجد أمام زوجها فيضع هو والأقارب أرجلهم على رأسها، ثم تُرسَل لتبحث عن جَرَّةِ ماء فإذا فعلت هذا الأمر اليسير قامت بشئون المنزل خادمةً.
والتودا من القائلين بتعدد الزوجات وتعدد الأزواج معًا، وذلك بأن يتزوج رهط من الإخوة رهطًا من الأخوات، فيكون لكل زوجة أزواج إخوة ويكون لكل زوج زوجات أخوات، فالفتى يكون بذلك قد تزوج مع زوجته أخوات زوجته كلما بَلَغن مكتفيًا بما تعهَّدَ بدفعه إلى كُبراهن من المال، ويكون لإخوته حق مشاركته في زوجاته الأخوات على أن يدفعوا نصيبًا مما اتفق على تأديته.
والانتحار بسبب الحب ليس من النادر، على ما يظهر، عند أولئك الأقوام الفطريين، ولا سيما عند البداغا، مع ما في نكاحهم وطلاقهم من يُسْرٍ، أقول هذا وأنا أرى ضرورة وضعه على مَحَكِّ النقد.
والأولاد يوزَّعون بحسب العمر على أزواج أمهم، فأكبرهم يكون من نصيب الزوج الرسمي، ويكون الولد الثاني من نصيب عمه الأكبر، ويكون الولد الثالث من نصيب عمه الثاني، وهكذا.
وتنزع هذه العادات الفطرية إلى الأفول عند التودا، فالغني منهم يشتري لنفسه زوجة، فأضحى أمر تعدد الأزواج من الذكور مقصورًا على طبقاتهم الدنيا.
والأولاد عند وفاة والدهم يقتسمون تركته بالتساوي مع احتفاظ أصغرهم ببيت أبيه على أن يسكن فيه نساء الأسرة ويعولَهُنَّ.
ولا يعرف التودا من مبدأ التملك غير ما يحتفظ به المرء لنفسه من بيت ومتاع، فالأراضي عندهم مُشاعة، وهم لا يزرعونها، بل تكون مراعي لمواشيهم ما أعرض التوديُّ عن الفلاحة.
ولا يَعرِف التودا من أمور الصيد شيئًا، ولا يحملون سلاحًا لذلك، ولا يفكرون في الهجوم ولا في الدفاع، ويكتفون بصنع أبواب أكواخهم واطئة جدًّا درءًا لما قد يُعرَّضون له من الغزو.
البداغا
الكورومبا والكوتا والإيرولا
وليس الكوتا بأرقى من الكورومبا كثيرًا، ويعيشون مثلهم عيش بؤس، ويعرفون عدة مهن، وتتألف منهم طبقة العمال بين أهالي الجبل، ولا يغتني الكوتا بسبب اتِّضاع حرفهم، ويتضوَّرون جوعًا على الدوام، فلا يشبعون إلا في رأس كل سنة، فيخلطون ما استطاعوا جمعه من القوت فيلتهمون في ثمانٍ وأربعين ساعة ما تحتمله معدهم منه.
والمتوحشون المحيطون بالإيرولا يزدرونهم زاعمين أنهم يعيشون مع الأنمار، وأن أولادهم يَشِبُّون في حَيْصَ بَيْصَ بين صغار السباع.
وللإيرولا فضيلة واحدة، وهي سلامة الطَّوِيَّة، فمن المحتمل أنهم لم يبلغوا من الذكاء ما يقدرون به على الكذب، فما يقولونه من كلام مجردٍ أصدقُ مما يقوله البراهمة مع اليمين المؤكدة.
وصناعة الخيزران هي كل ما يعرفه الإيرولا من المهن، ويتألف غذاؤهم، على الخصوص، من الجذور والفواكه والحبوب البرية.
(٦) سكان جنوب الهند الوحوش
تشتمل جبال أنامالا القائمة في جنوب جبال نِل غيري على قبائل وحشية مماثلة لتلك مع استثناء التودا كما ذكرنا آنفًا.
والكادر هم سكان جبال أنامالا الذين يمارسون الصيد، ويزعم الكادر أنهم أمراء الجبال، ويرون من السُّبَّة أن يزرعوا الأراضي، وتُرِك أمر الزراعة إلى الملسار، ويقوم الباليار بالرعي والتجارة، ويُرخي الباليار هؤلاء شعورهم الكثيفة النافرة فتصل إلى كُلَاهم فيكتسبون بذلك منظرًا وحشيًّا، ويرى علماء وصف الإنسان إلصاق هذه العروق بزنوج جزائر الملايو.
- الجُنار: ويقيمون بأقصى جنوب الهند وبجنوب تراون كور ورأس كماري، ويبلغ عددهم ٥٠٠٠٠٠، ويَدِين من هؤلاء مائة ألف فقط بالنصرانية، ويَعْبُد الباقون أرواحَ الأموات، ويرى الناظر إلى مداخل قُرَاهم أهرامًا صغيرة يضعون عليها نذورًا من فواكه وحبوب وأزهار؛ لتجلب إليهم حماية الملائكة، ويتعاطى الجنار زراعة النخيل وحدها، وتقوم النخيل بجميع احتياجاتهم على ما في استغلالها من عُسْر ونَصَب، ويتكلم الجنار بلغة التمول كجيرانهم الإيلاوا الذين لا يختلفون عنهم في شيء.
- الكانيكهار: ويسكنون أعالي جبال أليغري التي تمط إلى الجنوب طود أنَّامَلا، ويُنشِئون مساكنهم الخفيفة بين أغصان الأشجار حفظًا لهم من الضواري، ويجهلون نظام التملُّك، وأموالهم مُشَاعة، وقد انتقلوا، مع ذلك، من نظام تعدد الأزواج من الذكور إلى نظام الاقتصار على زوجة واحدة الذي لا تجده عند همج الهند إلا قليلًا.
- النياديش: ويسكن بعضهم حول كالي كت، ويقيم بعضهم الآخر بجوار بحيرة بولي كت، ويَبْدون أشد وحوش جنوب الهند بؤسًا، ولم يزالوا، إلى وقت قريب جدًّا، يوقدون النار بدَلْك غصنين يابسين أحدهما بالآخر.
- الكولر: ويسكنون مناطق كوئم بتور ومَدُورا الجبلية، ولم يقلعوا عن العادات المضرَّجة إلا منذ زمن قصير، فكان الواحد منهم، إذا أراد أن يجلب النحس والتعس إلى عدوِّه يذهب بأحد أولاده ليذبحه على عتبته.
(٧) سكان الولايات الوسطى أوغوندوانا
فرغنا من وصفنا المختصر لعروق جنوب الهند، فنرى أن نصعد في شمال الدَّكَن وننظر إلى جبال غوندوانا الواقعة في وسط الهند والتي لم تُرْتَدْ حتى اليوم، فتشتمل على حفدة قدماء السكان حافظة لهم من مغازي الأجنبي بهضابها المنيعة وفجاجها العميقة.
ولا تنطبق كلمة «المنيعة» تلك على الأمر الواقع منذ عشرين سنة، ولكن مدة قصيرة كهذه وما تمَّ في أثنائها من المعجزات بفعل مبتكرات العلم الحديث ليس مما يحسب عندما نبحث في عروق الهند وفي الحال التي انتهت إليها تبعًا لسُنَّة النشوء وتأثير مختلف البيئات.
ويبلغ الغوند، الذين اشتق اسم غوندوانا من اسمهم، عدة ملايين، غير أنه لم يبقَ منهم سوى مليون ونصف مليون في طور الوحشية المطلقة.
ولا تجد في منطقة غوندوانا التي غزتها الحضارة أثرًا للهمجية في غير قسمها الجنوبي الشرقي المتَّجه إلى منابع رافِدَي غوداوري: برنهيتا وإندرَاوتي، وفي غير قسمها المتجه إلى الشمال الشرقي حيث جبال أمَركَن تك والجبال التي بجانب مجرى نهر نَرْبَدَا الأعلى.
والمراتها هم أول من اقتحموا غوندوانا، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، فبسطوا سلطانهم غير الفعَّال عليها، وفي زماننا أسفرت جهود الإنجليز عن فتح أبوابها، وعن تعقُّب الهمجية الفطرية في ملاجئها المخيفة.
- والبهيل: وهم من الدراويد، قد درسنا أمرهم في فصل آخر، ولا يسكن غوندوانا غير ٢٠٠٠٠ شخص منهم مع ذلك، ومقر البهيل الدراويد الحقيقي هو في الشمال والغرب مع ذلك.
- والكول: وقد عادوا لا يكونون من الدراويد، لا يسكن غوندوانا منهم غير ٤٠٠٠٠ تقريبًا، وينتشرون، على الخصوص، في جهوتاناغبور وفي ساحل أوريسة وفي البنغال حيث لاقيناهم، ومن قبائلهم القاطنة في غوندوانا الكوركو المقيمون بأودية مهاديو والكوند الذين لا يجوز خلطهم بالغوند.
ونحن، إذ نُخَصِّص مطلبًا آخر للبحث في أمر الكول المقيمين بجهوتاناغبور وفي أمر سكانها الآخرين، ندرس الآن حال الغوند الذين هم أساس سكان غوندوانا، والذين هم أهم سكان الهند الأصليين أوصافًا وعددًا.
ويَعرف الغوند فَلْحَ الأرض، ولكن بغير إتقان، شأنهم في كل صناعة، فإذا ما اختار الغوند أرضًا صالحة قطعوا أشجارها الساترة لها، وأشجار الغاب «السال والمهووا والبانيان» في منطقة الغوند تطغى وتنتشر في كل مكان بالقوة التي تنمو بها أشجار البلاد الحارة، ثم حَرَقوها في محالِّها ثم بذروا الحبوب فيها، وفي الغالب يضع الغوند الحبوب أكداسًا أكداسًا في مكان مرتفع من الحقل تاركين للريح والمطر أمر نثرها عليه، ثم يقيم الغوند بعُرُش منتظرين وقت الحصاد.
والغوند يستغلون الأرض مرتين أو ثلاث مرات، فإذا فقدت خصبها بحثوا عن أرضٍ أخرى ليُحْيوها ويزرعوها ناقلين إليها مساكنهم مبدِّلين أماكن إقامتهم مرةً في كل سنتين أو ثلاث سنين.
ولو اقتصرت معايش الغوند على ما تنتجه أراضيهم؛ لوقعوا في بؤس شديد ما دامت آلاتهم الزراعية ناقصةً وفنون فِلاحتهم ضعيفةً، ولكن منطقتهم الغنية تمُنُّ عليهم من مصادر العيش الشيء الوافر، فما أكثر ما أُنقِذوا من المجاعة بفضل ما عندهم من أثمار أشجار المَنْغَة والسال والبانيان والعناب وأزهار المَهُووَا، ومن هذه الأزهار النافعة يَستخرج الغوند عصيرًا متخمرًا يسكرون منه في الأعياد فضلًا عن استفادتهم من موادها الغذائية، ويغتذي الغوند أيضًا بما في غابهم من الطرائد التي تُفرِّخ بكثرةٍ وبالأسماك التي توجد في مجاريهم بوفرة.
والغوند ليسوا بمحاربين مع أنهم غيرُ جُبَناء، والغوند، على ما ليس فيهم ما في البهيل من غرائز الشر والاعتداء والتخريب، هم، مثل هؤلاء، لصوص، ومن أتيح لهم من الغوند أن يعيشوا في السهل حيث الحضارة لم يروا من غير الطبيعي أن يسرقوا ما يقع تحت أيديهم من أموال الهندوس أو الإنجليز النازلين بين ظَهْرَانيهم، ويمقت الغوند الكذب مع ذلك، ويمتازون بهذا الخُلق، كما يمتاز جميع وحوش الهند، من الهندوس الذين أضحى زُورُهم مَضْرِب الأمثال.
والغوند في منازلهم محبون للقِرَى ذوو دَعَةٍ، والغوند ليسوا قساة ما لم تُثَرْ حميَّتهم الدينية أو ما لم يُهيَّجوا بعد أن يسكروا، فهم ينقضُّون إذ ذاك على قربانهم ليُمَزِّقوه بأسنانهم وأظافرهم إرْبًا إرْبًا، وقلما يكون مثل هذا القربان من البشر في أيامنا الحاضرة، ومن المحتمل أن يبقى أثرٌ للقرابين البشرية في بلاد الغوند ما تفلَّتت آجامٌ منيعة وهضاب وعرة وأودية وبيئة من رقابة الشرطي الإنجليزي، ولا تغيب الطقوس المضرجة إلا حيث يتصل الغوند بالأوربيين.
وإلى العفاريت والأرواح الشريرة، على الخصوص، يُقدِّم الغوند النذور الرمزية أو القرابين، فالإيمان بالأرواح الشريرة أمرٌ عام بين سكان بلاد الهند الأصليين، ومما يعتقده هؤلاء السكان أن الجن يطوفون في الليل حول القرى بقصد الإضرار، فيجب أن يجدوا في المذبح ماءً ليطفئوا غليلهم، وفواكهَ ليقتلوا جوعهم، ودمًا ليشفوا حُرْقَتهم أو لونًا أحمر مشئومًا ليتم به خداعهم، وأوتادًا مغروزة في الأرض ليضعوا عليها أقدامهم الخفية ما حُظِر عليهم مسُّ الأرض وما طافوا مغاضبين بغير ذلك.
وإذا مات غريب بين الغوند أقاموا له عبادةً خاصة كما يقيمون للقريب، ومن هذا أن قائد المائة بول مات مُثْخَنًا بالجراح في قتال قام به لِيَصِل إلى مدراس بِجَوْب غوندانا، فهال ذلك السكان الذين خرَّ بينهم قتيلًا لاعتقادهم أن روحه الغاضبة الساخطة ستختلف إلى منازلهم، فأقاموا له هياكل وقدَّموا ما يستميلونه به من الأدعية والقرابين.
والنمر عندما يتذوق لحم الإنسان فيروقه فيُلقِي الرعب في إحدى البقاع، تُنصب له الهياكل، ثم يختلط العفريت الذي يُغريه ويحرضه بأرواح ضحاياه فتشتد عزيمته بعددها فيكون لها من الحماسة مثل ما له ما أضيف غضبها إلى غضبه، فيصبح أمر تسكينها ضربة لازِبٍ، فيُجْلب في الغالب كاهنٌ ذو شهرة من قبيلة البايغاس على العموم، فيقرأ هذا الكاهن العزائم داعيًا إليه تلك الأرواح المتقمصة للنمر والدافعة له على الصولة والشره فيصيب الكاهن نوعٌ من الذهول والوَلَه بفعل الرقية والدروشة، فيُخيل إليه أن ضراوة النمر قد انتقلت إليه، فينقضُّ على جَدْيٍ حيٍّ يُقدَّم إليه فيخنقه بأسنانه ويمزق لحمه ويدس رأسه في جوفه الداخن، ثم يرفعه فيرى القوم وجهه المضرَّج بالدم فيرفعون أصواتهم مستبشرين مسرورين.
وتؤلِّه شعوب الهند الفطرية، ولا سيما الغوند، الأفاعيَ «القبرا على الخصوص» مثلما تؤله تلك الآفات، فيَدَعها كثير من أبناء هذه الشعوب التُّعساء تلدغهم من غير أن يقتلوها، وعبادة الدراويد للأفاعي أسفرت عن تسمية الآريين لهم بالناغا.
ولا عهد للغوند بنظام الطوائف، ويُقسَّمون إلى قبائل متزاوجة، فمن سِفَاح ذوي القرابة أن يقترن رجلٌ بامرأةٍ من قبيلته، ويؤدي قران مثل هذا إلى القتل أحيانًا، وعادة خطف الخاطب للفتاة خطفًا صوريًّا أو حقيقيًّا شائعةٌ شيوعًا منظَّمًا عند أولئك القوم، وفي الغالب يدافع عن الزوجة من يرافقها مع ضحك تجاه أصحاب الزوج، فيتمُّ الغَلَب لهؤلاء الأصحاب بحكم الطبيعة فيسيرون بالأسيرة حاملين إياها على أكتافهم فاكهين، ومما يحدث عند سكان الهند الوسطى الفطريين، أحيانًا، أن يتكرر الخطف بعد الزواج، وذلك وقتما تُغادر الفتاة بيت زوجها إلى بيت أبيها بعد يومين أو ثلاثة أيام من ذلك باكية بكاء مصنوعًا مُعْرِبة عن عزمها على عدم تركه.
والغونديُّ، على العموم، يشتري لابنه امرأة قبل أن يبلغ سنَّ الزواج بها، فيختارها قوية ضليعة ليتخذها، في الغالب، خادمة وخليلة، إلى أن يُلِحَّ الزوج الحقيقي في طلبها، فإذا عَدَوْتَ هذه العادة وجدتَ الغوندي من المقتصرين على زوجة واحدة، والزوجة عند الغوند، إذ تكون، على الدوام، أكبر من بعلها سنًّا فإنها تتمتع بنفوذ عظيم في أمور المنزل.
ونظام الغوند السياسي بسيط جدًّا، فيدير شئون كل عشيرة منهم رئيس خاضع، على العموم، لما يقضي به شيوخها المجتمعون، ولكل رجل غوندي صوت في الحكومة، ويكون الرئيس في الغالب سليل الراجبوت، ويُسرَّح بعض ممثلي الراجبوت عند كل حرب بين الغوند الذين لا ينشبون أن ينالوا عندهم شيئًا من النفوذ.
(٨) سكان أمَركن تك وجهوتاناغبور وأوريسة، إلخ
ويقف كل وصف عند الحد الذي وقف عنده الغزاة المتمدنون، فما قيل عن معايش أهل تلك المنطقة الوحشية ليس إلا فرضيات، فهندوس السهل يشبهونهم بالقرود ويخشونهم كأنهم من الجن الأشرار، ومن الأساطير ما هو خاص بغاب تلك المنطقة البعيدة الغور وفِجاجها الكئيبة التي لا تخلو من حفدة أقدم عروق الهند البائسين.
ويتألف من جهوتاناغبور منطقة متوسطة بين هضبة الولايات الوسطى والسهول المجاورة لمصبِّ نهر الغَنْج، وتشمل تلك المنطقة، المائلة إلى الجنوب الشرقي والمتوجهة إلى خليج البنغال، على وادي مهاندي ووادي برهمني الأعليين، وتجري من منحدراتها الشمالية الغربية روافد سون، ويعدُّ معظمها من ولاية البنغال.
وجهوتاناغبور منطقة انتقال من الناحية الإثنولوجية والناحية الجغرافية، فالمرء إذا ما نزل من أعاليها وتوجَّه إلى أَوَدْهَة، حيث يعيش أجمل العروق الآرية بالهند كما ذكرنا، وَجَدَ بالتتابع أمثلة جميع ما في الهند من العروق المترجحة بين قِبَاح وثنيي الزنوج وشُمَّخ البراهمة.
ويسكن جهوتاناغبور قبائل من سكان البلاد الأصليين على الخصوص، فهذه القبائل، وإن ظلت وحشية في الجبال، تتهنَّد في السهول بالتدريج، وهنا نُنَبِّه القارئ إلى أن ما نصفها به ينطبق على حالها الفطرية الأولى قد تُشاهَد اليوم في أقاصي تلك المنطقة وفي أراضيها المنيعة قياسًا على ما فعلناه في أمر الغوند.
ونحن، حين نُضيف إلى جهوتاناغبور سلسلة جبال وِنْدهيَا ومعظم شبه جزيرة الكجرات تبدو لنا بلاد ممتدة من بحر إلى بحر قاطعةٌ لوسط الهند، فهذه البلاد المستطلية هي مقر العروق الكولية التي تُعد ثالثة الجماعات الهندية فتأتي بعد الجماعة التورانية الآرية، أو الهندوس البراهمة، التي هي الأولى منها والجماعة الدراويدية التي هي ثانيتها.
واختلاف اللغات بين تلك العروق، ولا سيما بين الدراويد والكول، هو سبب ذلك التقسيم الثلاثي ما كان الدراويد والكول من الشعوب الفطرية التي توالدت هي والغزاةُ بعض التوالد وما تماثل الدراويد والكول طبائعَ وصُوَرًا، ويشابه الكول البهيل الذين يقطنون معهم في الأراضي التي تغشى جبال وِنْدهيَا، بَيْدَ أن الكول المقيمين بجهوتاناغبور يقتربون من البهيل ذوي المثال المغوليِّ مع أن دم الراجبوت يجري في شرايين الكول المقيمين بالكجرات، وقد تكلمنا في فصل سابق عن هؤلاء الكول القاطنين في المنطقة الغربية، والذين يَعُدُّهم البراهمة من الشودرا فيُستخدمون في المدن للقيام بأشقِّ الأعمال، فأُطلق اسم الواحد منهم «القُلِي» في المستعمرات الإنجليزية وأمريكا على العمال والعتالة والمكارين.
ويسكن السانتهال والملير الجبال الواقعة بين بهار والبنغال، فيُعَدُّون من الأرومة الكولية بالحقيقة، ومما قلناه إن لغة السانتهال تمثل دور اللغة الأم بين اللهجات الكولية كما هو شأن السنسكرت في اللغات الهندية الأوربية.
وكان الكول جميعهم يُسمون باسم سوارا العامِّ الذي ورد ذكره في كتب الهندوس غير مرة، ورأى بعض العلماء أن هذا الاسم مشتقٌّ من الكلمة الشيثية «سغاري» التي تعني «الفأس»، والواقع يؤيِّد هذا الرأي ما كانت الفأس سلاح الكول والغوند المفضَّلة، وما ظلَّت، في بعض الأحيان، عُدَّتهم الوحيدة، فالحقُّ أنك لا ترى شخصًا من أهل جهوتاناغبور أو أهل غوندوانا الأصليين لا يحمل بيده فأسًا إذا ما ابتعد قليلًا عن منزله، ولا غَرْوَ، فلا غُنْيَة له عن هذه الآلة في فتح طريق له وسط الآجام وفي الهجوم على الأنمار.
وبعض القبائل الكثيرة التي تسكن جهوتاناغبور وساحل أوريسة في الشرق ما هو كوليٌّ خالص وبعضها ما هو ممزوج بالعنصر الدراويدي الحديث والقديم، وبين هذه القبائل فروقٌ غير واضحة تمامًا؛ لعدم وجود أمثلة بينةٍ لها على الدوام، وتُدعى تانِكَ الجماعتان بالأوراؤن والمُنْدا، فأما المندا فيشابهون المغول كثيرًا، وأما الأوراؤن فمن الزنوج الذين يبدو مثالهم أقرب إلى القرود منه إلى البشر.
ومن أهم الأهالي الذين يسكنون وادي برهمني ووادي مهاندي الأدنَيَيْن وقِسمًا من ساحل أوريسة نذكر الكوند الذين يجب التفريق بينهم وبين الغوند المقيمين بغوندوانا، وعلى ما بين تلك الشعوب من صلة كما بين جميع الفطريين يتألف منها جماعتان مختلفتان.
وتلك الشعوب، إذ كانت ذوات عادات متماثلة يَدْنُون بها من إخوانهم سكان الولايات الوسطى الذين وصفناهم آنفًا، نوجز أمرها بما يأتي: تقوم ديانتها، كما تقوم ديانة الغوند، على عبادة الشمس والأرض وقوى الطبيعة والخوف من أرواح الموتى وتقديس الضواري والآفات التي يُعرَّضون لها، على الدوام، تقديسًا ممزوجًا بالهول، وترى في الأعاصير والمجاعات والأوبئة والجفاف مظاهر لقوًى هائجة يجب التوسل إليها بقراءة العزائم وتسكينُها واستعطافها بالقرابين، فعُدَّت الدموع ودماء الضحايا البشرية طويلَ زمنٍ نَدًى سحريًّا لا بد للأرض منه لكي يتسع صدرها فتصح خصيبة، واليوم يزول هذا الاعتقاد بالتدريج، وصارت الأنعام، أيضًا، لا تُذبح، فتُستبدل بها في المذابح صُوَرٌ خزفية وفواكه وأزهار، ويُستبدل بدمائها دهنٌ أحمر تُرشُّ به الحجارة المصفوفة على شكل دائرة أو الأهرام الصغيرة التي تعلوها أو الأوتاد المثبَّتة في الأرض.
ولما حاول الإنجليز أن يحملوا، بالإقناع والتهديد، الكول السذَّج على نبذ عادة تقريب القرابين البشرية رضي هؤلاء بذلك على أن يحتمل الأوربيون تَبِعة هذا الإلحاد تجاه الآلهة، ولا شيء أفظع من القيام بمثل هذه الشعائر، فكان الجمهور يُقطِّع الضحية إربًا إربًا عند ذبح الكاهن المقرِّب لها اتِّباعًا للاعتقاد القائل إن كل قطعة من اللحم الخافق تميمة قادرة، فمن يأخذها فيدفنها في ناحية من حقله وهي دامية سخينة ينل البركات من السماء لأمد بعيد، فبهذا الثمن يزول غضب الإلاهة تاري أي الأرض الساخطة.
والكول شديدو القِرى، فيبذلون أرواحهم دون الضيف إذا حاق به خطر، والكول كثيرو الفخر ذوو مزاج حر، والكول، إذ يُحملون على دفع الضرائب إلى الإنجليز، يحملونها إليهم بانتظام حيث يكونون عند حدودهم، وذلك حذر تدنيس الجُبَاة لحرمة منازلهم في غابهم.
والفتى من أولئك القوم يشتري له أبواه المرأة التي يرغب في الزواج بها، وهو، إذ كان لا يملك لنفسه شيئًا، لا يقدر على تأليف أسرة مستقلة عن أبويه، فيبقى تحت وصايتهما زمنًا طويلًا، وللمرأة من أولئك القوم حق الطلاق، فتتزوج، في بعض الأحيان، أربعة أزواج أو خمسة أزواج بالتتابع، فيجب على كل زوج لاحق من هؤلاء أن يرد إلى الزوج السابق ما دفعه، فيسعى الزوج اللاحق إلى التخلص مما عليه.
إذن، يمارس أولئك القوم مبدأ تعدد الأزواج من الذكور ممارسة مُقنَّعة، وتنشأ هذه العادة عن الفقر وعن ارتفاع المهور، وقتلُ الأولاد عند أولئك القوم أمر شائع، فالأسرة الواحدة منهم لا تحتفظ، في الغالب، بغير ابنة أو ابنتين، وأما البنات الأخرى فيُوضعن، حين ولادتهن، في آنية من فخار ويدفن، فيسفر ذلك عن زيادة مهور النساء لقلة عددهن.
ومعايش سكان جهوتاناغبور ضنكٌ، فأراضيها فقيرة وفلاحتها رديئة، وأسوأ منها أراضي أوريسة، حيث يغتمر الطوفان غَلَّاتها الهزيلة في بعض الأحيان فيعقب الطاعون ذلك، ثم يُسْفر الجدب الذي يجيء بعد ذلك عن موت الألوف من السكان جوعًا، وليس للإنسان في بلد بائس كهذا البلد أن يختار نوع الطعام، فترى الكول يأكلون من كل لحم مع مقت براهمة الهندوس لذلك.
وتغشى ساحل أوريسة معابد أكثر من أن تغشاه مدن، وساحل أوريسة هذا، الذي يتساوى البراهمة والهمج في تقديسه؛ إذ يقع بين الهند الآرية والهند الدراويدية، شاهد على اختلاط كثير من العروق والأديان فيه، وعلى نظر المؤمنين إليه نظر إجلال واحترام، وعلى حَجِّهم له من كل صوب وحدب مهما كان نوع الإله الذي يعبدونه.
ذلك ما يبهر الهمجي الذي لم يسجد لغير أوثان فيدعو كالي ووِشنو وشيوة فينتقل ما يدور في خَلَدِه من الهواجس إلى بني قومه فيتساوون هم والآخرون في بعض المعابد حينًا فيغدو المنبوذ أخًا لأشهر البراهمة، فلا ترى فرقًا بين الأبيض والأسود وبين الآري والدراويدي وبين الهمجي والمتمدن، فيُخيَّل إليك امتزاج مختلف العناصر التي يتألف منها سكان شبه جزيرة الهند لوقت قصير.
بحثنا في تلك العناصر بحثًا خاطفًا، فنختم دراستنا بذكر شعب الأوريا المهم القاطن في المنطقة الساحلية الممتدة من شاطئ أوريسة إلى مصبِّ نهر الغَنْج، فهذا الشعب المتوسط، الذي هو شعب شبه همجي ذو لغة خاصة وغير ذي مثال واضح، أخذ نصيبًا من العروق الكثيرة التي يعيش بينها.
نطمع أن يكون القارئ قد اطلع، بالخلاصة الخاطفة غير الكاملة التي سردناها فيما تقدم، على ما بين عروق الهند من الفروق التي لا حد لها، وعلى ما بين هذه الفروق من المساوف العظيمة، ونحن بعد أن بينا اختلاف أوصاف تلك العروق وأخلاقها وعاداتها ومعتقداتها، وبعد أن ذكرنا أن أمثلة البشر ودرجات الحضارة التي جاوزها منذ فجر تاريخه إلى يومنا هذا لا تزال قائمة بادية في الهند نرى أن نُركِّب بعد أن حلَّلنا فبنحث فيما بين هذه العروق من الأخلاق المشتركة، وفي مَيْل هذه العروق إلى الوحدة التي قد يصلون إليها شيئًا فشيئًا بالتوالد والخضوع لبعض النظم الكبيرة العامة، ونحن بعد أن درسنا ما يَفْصِل بعض عروق الهند عن بعض ندرس ما تتقارب به هذه العروق وما تلتقي فيه من النقاط.