تاريخ الهند قبل المغازي الأوروبية
(١) مصادر تاريخ الهند
ليس للهند القديمة تاريخ، وليس في كتبها وثائق عن ماضيها، ولا تقوم مبانيها مقام الكتب ما دامت لا تزيد في القِدَم عن ثلاثة قرون قبل الميلاد، ولولا ما في قليل من الكتب الدينية من أكداس الأساطير التي يُستشفُّ منها بعض الحوادث التاريخية؛ لظل ماضي الهند مجهولًا جهل ماضي جزيرة الأطلنتيد التي مُحيت بانقلاب جيولوجي فجاء ذكرها في الأساطير القديمة التي خلَّدها أفلاطون.
وأقدم المصادر التي يُرجع إليها في تبيُّن أثر للماضي المفقود أشعار ويدا الدينية التي كُتبت في أدوار مختلفة، والتي تصل في القدم إلى ما قبل القرن الخامس عشر من التاريخ الميلادي تقريبًا، ثم تأتي القصائد الحماسية المعروفة بمهابهارتا وراماينا وشريعة مَنُو الدينية والاجتماعية.
وليست آداب الهندوس في عصرنا بأغنى منها في العصر الذي قبله، والمصادر الوحيدة التي يمكن مراجعتها في هذا الأمر هي المجموعات التي ألفها البورانا، ووضعت في أدوار مختلفة لا تجاوز القرن الثامن بعد الميلاد، وملئت بالخرافات العجيبة، وعَطِلت من أي تاريخ عَطَلًا لا يستطيع العلم الحديث أن يستنبط معه كبير شيء، فالحق أن دور الهند التاريخي لم يبدأ إلا بعد المغازي الإسلامية في القرن الحادي عشر بفضل مؤرخي المسلمين.
ونُضيف إلى تلك المصادر الناقصة أقاصيصَ السياح الذين زاروا الهند في القرون القديمة، وهذه الأقاصيص قليلة جدًّا، وليس لدينا مما هو خاص بما قبل المسيح سوى مختارات من أحدوثة ميغاستين السفير اليوناني لدى بلاط مَغَدْها قبل الميلاد بنحو ثلاثمائة سنة، ولم ينتهِ إلينا عن الثلاثة عشر قرنًا التي انقضت بين ذلك الزمن القديم والمغازي الإسلامية غير قصتين للحاجَّين الصينيين فاهيان وهيوين سانغ اللذين زار أولهما الهند في القرن الخامس وزارها الآخر في القرن السابع، وذلك خلا ما ورد في كتب المؤلفين من شُذُور، وَتُعَدُّ قصة ثاني ذَيْنِكَ الحاجين، على الخصوص، أهمَّ الوثائق التي وصلت إلينا عن الهند قبل الغزوات الإسلامية.
وإلى تلك الآثار التي لا يكاد أقدمها يرجع إلى ما قبل ثلاثة قرون قبل الميلاد تضاف المعابد المصنوعة تحت الأرض والتماثيل والنقود التي تلقي ضوءًا على تاريخ البقعة التي أنشئت فيها، ومن ذلك أن كشفنا من بقايا التماثيل والمباني تأثير الإغريق العميق في بعض المناطق بعد الإسكندر بعدة قرون، أي بعد طرد الإغريق من الهند بزمن طويل، ومن ذلك أن نقوش المعابد تكشف لنا عن منشأ ما انتاب الهند القديمة من المعتقدات وتطور هذه المعتقدات.
وللدين أثر بالغ في الهندوس على الدوام كما في أمم الشرق، وبلغ الدين من الشأن العظيم في الهند ما نَقْدِر أن نتخذ به تطورات المعتقدات أساسًا لتقسيم تاريخي.
ويشتمل ذلك التقسيم الواسع، الذي لم تُحَدَّد فيه الأدوار لتداخلها أو لوجودها معًا، على الأعصر الآتية: العصر الويدي، العصر البرهمي، العصر البُدَّهي، العصر البرهمي الحديث أو عصر النهضة البرهمية، العصر الإسلامي، العصر الأوربي.
(٢) العصر الويدي
ترجع أوائل العصر الويدي إلى ما قبل القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وآيتُها غزو الآريين للهند.
وَيُعَدُّ العصر الويدي عصر تاريخ الهند الخرافيِّ، فكل ما نعرفه عنه من علم قليل هو ما تكشف عنه الكتب الدينية المعروف بالويدا، والتي أصيب في تسمية أهمها رِغ ويدا بتوراة آريي شمال الهند الغربي.
عاش قدماء الآريين الذين استوطنوا ما بين جبال هِمَالْيَة وجبال وِنْدهيَا في البداءة رعاةً أعرابًا، ومن المفروض أن قاموا بغزوهم شيئًا فشيئًا، ويظهر أن أقدم كتبهم وُضِع قبل الميلاد بخمسة عشر قرنًا حين كانوا لا يعرفون نظام الطوائف وحين كانوا يعبدون قُوَى الطبيعة غيرَ مقيمين لها معبدًا ولا هيكلًا، وإلى الشعوب التي مَلَكوها جلبوا لغة وديانة جديدتين ولم يأتوها بفنِّ عمارة، فهؤلاء الآريون الفطريون، وإن كانوا قادرين على وضع الكتب، لم يكونوا عارفين بشَيْد المباني الحجرية، ولا شيء يدل في أقدم كتبهم على أنهم أنشئوا معابد وقصورًا.
وسنعود إلى العصر الويديِّ في الفصل الذي خصصناه لدرس الحضارة الآرية بالهند، فلا نرى أن نُسهب في بيانه الآن كما أننا لا نسهب في بيان العصر البرهمي الذي خُتِم به ذلك العصر فنعود إلى دراسة حضارته، وهذا إلى أن وثائق هذين العصرين التاريخية الصحيحة مفقودة، وما انتهى إلينا من قصائد العصر البرهمي التي أيدتها أحدوثة ميغاستين يُثبت أن الهند أخذت في العصر البرهمي تغطَّى بالمدن والمعابد والقصور، وإن لم يصل إلينا أي طلل لمبانيه.
(٣) العصر البُدَّهِي
يرجع ظهور البُدَّهِيَّة في الهند إلى الأساطير أكثر مما إلى التاريخ، فلا نعرف عن عصرها الأول غير ما ورد في الكتب البُدَّهِيَّة من الأحاديث الخيالية، ثم أخذ صريح الحوادث يبدو والإبهام ينجلي بعد مغازي الإسكندر، ولا سيما حين أضحت البُدَّهِيَّة دينًا رسميًّا قبل المسيح بنحو ٢٥٠ سنة، ثم عاد الغموض بعد زمن قليل مع الأسف، وبقي على ما كان عليه عدة قرون.
وقع غزو الإسكندر في سنة ٣٢٧ قبل الميلاد، فلما أتمَّ الإسكندر فتح بلاد فارس عزم على فتح الهند لكي يصبح سيد آسيا.
وما كان من انقسام منطقة البنجاب إلى عدة دويلات مستقلة متنافسة يَسَّر للإسكندر بدء فتحه للهند، والإسكندر حضر إلى الهند على رأس جيش مؤلف من ١٢٠٠٠٠ مقاتل، وكانت نواة هذا الجيش من الإغريق وسياجه من الفرس، وكان لديه أدِلَّاء من الهنود، وكان على اتفاق مع رؤساء لسكان البلاد الأصليين ولا سيما مع ملك تاكشيلا الواقعة بين نهر السِّنْد ونهر جهيلم الذي كان يعرف بنهر هيداسبس.
زحف الإسكندر من بقطريان إلى مدينة كابل ثم سار إلى الهند فعبر نهر السِّنْد فاعترض له بورس ملك ما بين هيداسبس وجناب فهزم هذا الملكَ، ثم حالفه تاركًا له مملكته؛ فخضع له إذ ذاك عدَّة ملوك ولا سيما ملك كشمير.
ثم زحف الإسكندر بعد عدة وقائع ضد رؤساء من الأهالي إلى نهر هيفاس «المعروف اليوم بنهر بياس»، فلم يوافقه جيشه على السير إلى ما وراءه، فأقام على ضفافه اثني عشر هيكلًا تذكاريًّا؛ لتكون علائم على نهاية الغزو، فلما عاد إلى ضفاف هيداسبس أنشأ أسطولًا فنزل به إلى حيث يصبُّ في نهر السِّنْد، ولم يفتأ الإسكندر يحارب إلى وصل إلى بتيالة الواقعة على مصب نهر السِّنْد فأرسل أسطوله إلى الخليج الفارسي بقيادة نيارك وسار على الشاطئ، ثم قسَّم جيشه إلى فيلقين فأعاد أحدهما من طريق كرمان إلى بلاد فارس بقيادة كراتر ورجع بالآخر من طريق جدروزيا «السِّنْد»، ثم وصل ذلك الأسطول إلى الخليج الفارسي، وتلاقى الإسكندر وكراتر فأقيمت الأعياد ابتهاجًا بالعودة من الغزو.
ولو نظرنا إلى غزوة الإسكندر من ناحية الفتح لقلنا إنها غير ذات نتائج لتلاشي الحاميات الإغريقية التي تركها في الهند في بضع سنين، بَيْدَ أنه كان لتلك الحملة نتائج طيبة لِوَصْلِها أوروبا بالهند لأول مرة.
اغتنم الملك الهندوسي جَنْدَر غُبْتَا «المعروف لدى الإغريق بساندرو كوطوس» فرصة رجوع الإسكندر، وكان ابنًا لأحد زعماء البَنْجَاب الذين شتَّت الإسكندر شملهم، فوسَّع رقعة مملكته في شمال الهند بالتدريج، مُنَكِّلًا بالحاميات الإغريقية جاعلًا باتلي بوترا «بتنة الجديدة» عاصمة لمملكة مَغَدْها، ولم يلبث أن ذاع صيته فأرسل نيكاتور السلوقي، الذي ملك بعد وفاة الإسكندر سورية وبلاد بابل والولايات الواقعة بين نهر الفرات ونهر السِّنْد، حوالَيْ سنة ٣٠٠ قبل الميلاد، سفيرًا إلى بَلَاطه اسمه ميغاستين، فأقام هذا السفير الإغريقي زمنًا طويلًا بباتلي بوترا، فمن القصة التي ألفها هذا السفير فانتهى إلينا جزء منها اطَّلعنا، لأول مرة، اطِّلاعًا صحيحًا على طبائع الهندوس وعاداتهم في ذلك الزمن.
ولم تقتصر علاقات الإغريق بالهندوس على غزوة الإسكندر ولا على سفارة ميغاستين، فاليوم نعلم، مع سكوت المؤرخين، وذلك من النقود وبقايا المباني التي انتهت إلينا، أن خلفاء الدولة الإغريقية البقطريانية التي أقامها نيكاتور السلوقي فتحوا البَنْجَاب وشادوا عدة ممالك ووصلوا إلى مترا، وأن أفَّاقًا اسمه ميناندر أسس سنة ١٢٦ قبل الميلاد مملكة بين نهر جَمْنة ومصب نهر نَرْبَدَا.
ولنَدَعْ جانبًا هذا الجزء الغامض من تاريخ الهند الذي بعثته المباحث الحديثة ولنأْتِ إلى جَنْدَر غبتا وخلفائه.
يُدعى حفيد جَنْدَرْ غبتا بِأشوكا الشهير الذي تقلَّد الملك سنة ٢٥٠ قبل الميلاد تقريبًا، ومما جاء في بعض الأساطير البُدَّهِيَّة أن أشوكا هذا قتل إخوته المائة الذين وُلدوا لأبيه من ست عشرة زوجة، فأَمِن بذلك أمر منافستهم له، فبسط ملكه على جميع شمال الهند، وتتضح حدود مملكته من الكتابات التي لا تزال موجودة، فمنها نرى أنها قامت بين أفغانستان والبنغال وهِمَالْيَة وَنَرْبَدَا، وأنها تاخمت مملكة الإغريق في بقطريان من الغرب.
وبُدئ تاريخ الهند المعماري بالملك أشوكا، ولا يزال كثير من العَمَد التي رفعها لتُنْقش عليها مراسيمه قائمًا، وأشهر هذه الآثار، كالموجودة في بهارت وسانجي وبدَّهة غيا ذات النقوش البارزة المعتبرة في تاريخ البُدَّهِيَّة، صُنع في أيام ملكه أو بعدها بزمن قليل، ولم ينتهِ إلينا شيء من القصور التي أنشأها، ونفترض، مع ذلك، أنها جميلة جدًّا، فقد روى الحاج فاهيان، الذي رأى أطلالها وأطلال برج قصره في باتلي بوترا، أنها من الأعاجيب التي يعجز عن صنعها إنسان.
وأشوكا ذلك هو الذي جعل من البُدَّهِيَّة دين الهند الرسمي، وكان على جانب عظيم من الحَمِيَّة الدينية فأرسل مبشرين إلى كل ناحية، حتى سيلان، حتى مصر بالقرب من بطليموس فيلادلفيا.
ودام مُلك آل مورية الذين كان أشوكا أهم رجالهم نحو قرن ونصف قرن، أي بين سنة ٣٢٥ وسنة ١٨٨ قبل الميلاد، فبعد أن أُديل منهم انقسمت الدولة التي شادها أشوكا إلى عدة دُويلات ذوات ملوك مستقلين، واستطاعت مملكة مَغَدْها أن تدوم، مع ذلك، إلى القرن السادس من الميلاد مقتصرة على البقعة التي تعرف في عصرنا ببهار، وتجد في القوائم التي وضعها البورانا أسماء ملوك مغدها لمدة ألف سنة، ولكن هذه القوائم غير موثوق بها.
والوثائق الوحيدة التي انتهت إلينا عن الهند بعد عهد أشوكا حتى الغزو الإسلامي هي المباني وأساطير البورانا، فهذه الوثائق وما يضاف إليها من أحاديث الحاجَّين الصينيين هي كل ما نستطيع أن نتمثَّل به حضارة الهند في ذلك الدور الطويل.
ولم يظهر في أثناء ذلك الظلام الدامس الذي دام اثني عشر قرنًا غيرُ قليل من الرجال ذوي الخطر فخلَّدت أحاديث الهند ذكراهم، وأشهر أولئك هو الرجل الأساطيري وكرماديته الذي كان ملكًا لِمَالَوْا ومقيمًا بأوجين بالقرب من نَرَبْدَا، ففي تلك الأحاديث أنه بسط ملكه على بلاد الهند إلى أقصى جنوب الدَّكَن، وعلى ما في تاريخه من روح الأساطير نرى أنه مثَّل دورًا مهمًّا، فأرَّخ الهندوس سنة جلوسه فافترضوا أنها سنة ٥٧ قبل الميلاد، فاتخذوها مبدأ للتاريخ المعروف بسَمْوَا.
ومن دواعي الأسف أنْ خَلَت تواريخ الهندوس من الضبط، شأن الهندوس في كل أمر، فمن البحث الدقيق في المباني والكتابات الحجرية يثبت لنا أن وِكْرَماديته كان يملك بعد التاريخ المدوَّن في الكتب بستمائة سنة.
وإلى هذا البطل تعزو الأساطير طرد الشيث من الهند، والشيث كانوا قد أوغلوا بين إغريق بقطريان قبل الميلاد بقرنين فأخضعوهم، ثم انتحل أحد ملوكهم كِنشكا البُدَّهِيَّة فأقام قبيل الميلاد دولة اشتملت على أفغانستان والبَنْجَاب وراجبوتانا، ولا نعلم عن تاريخ الشيث في الهند غير أنهم نشروا الفن الإغريقي فيها، كما يشهد بذلك بعض التماثيل بمترا.
وتقع قَنُّوج في غرب أغرا، وتبعد من نهر الغَنْج بضع كيلو مترات، وأجمعت الأنباء على مدح جلالها، وأُعجب السلطان محمود الغزنوي بها أيما إعجاب وقتما هجم عليها سنة ١٠١٦ من الميلاد فرآها حينما دنا منها، على رواية فرشتة، «مدينة تناطح السماء بحصونها ومبانيها جديرةً بأن تفتخر بأنها لا نظير لها.»
ولم يبقَ من هذه العاصمة القديمة التي كان طولها خمس كيلو مترات، على قول هيوين سانغ، حجر ينبِّئُنَا بتاريخها، وبلغ خراب مبانيها التي كانت قائمة قبل الغزو الإسلامي مبلغًا لم يقدر كننغهم معه أن يجد طللًا منها على ما قام به من بحث واستقصاء، وكل ما استطاع كننغهم أن يلاحظه من قديم في مدينة قَنُّوج القديمة هو كتابةٌ يرجع تاريخها إلى سنة ١١٣٦ ميلادية، أي إلى ما بعد الفتح الإسلامي بزمن طويل، وما تراه فيها من المباني فجميعه أقيم في العصر الإسلامي وإن بُني بعضه من أنقاض المباني الهندوسية القديمة.
وقَنُّوج هي من كُبريات العواصم القديمة التي لا نعرف تاريخها إلا من بعض الروايات المبهمة وبعض الكتابات، ولا يجوز أن يُعزى إلى خيال الأدباء وحده ما وُصفت به عظمة هذه العواصم بعد أن شاهدنا بقايا بعضها الذي نجا من التخريب كمدينة كهجورا مثلًا.
كانت قَنُّوج وكهجورا ومهوبا وغيرها من المدن المشهورة، التي لم يَبْقَ منها سوى الاسم أو الأطلال، عواصم لدول قوية، وأشهر هذه العواصم ما كان يملكها ملوك من العِرْق الراجبوتي الذي لا نزال نرى منه أُسرًا مالكة فحافظ على نظمه وعاداته إن لم يَصُن استقلاله، ومن المحزن أن بدأنا نعلم تاريخ الراجبوت بعد أن أخذوا يتصادمون هم والمسلمون، أجَلْ، استطاع المسلمون أن يُخرِّبوا عواصمهم وأن يدحروهم إلى مناطق راجبوتانا الجبلية الوعرة، غير أنهم لم يخضعوا لهم إلا ظاهرًا.
ذلك العصر الذي دام من زمن خلفاء أشوكا إلى زمن النهضة البرهمية فإلى المغازي الإسلامية هو، إذن، كالعصر الذي جاء قبله غموضًا، فلولا ما بقي من مبانيه لجهلنا أمره تقريبًا.
(٤) العصر البرهمي الجديد
ليس لدينا وثائق تاريخية عن عصر النهضة البرهمية أو العصر البرهمي الجديد، فالنقود والمباني هي المصادر الوحيدة التي يُرجع إليها في تَنَوُّره.
ومن المحتمل أن شرع نفوذ البرهمية القديمة، الذي لم يَغِبْ تمامًا، يبدو أيام آل كبتا الذين بسطوا سلطانهم على شمال الهند في القرن الخامس من الميلاد، ففي نقود ملوك قَنُّوج ودهلي ومهوبا ذكرٌ للعودة إلى المعتقدات القديمة، وفي القرن الخامس والقرن السادس لم ينفك نجم البُدَّهِيَّة عن الأفول، فلما حل القرن السادس نَدَر شَيْدُ مبانٍ بُدَّهِية، ولما حل القرن الثامن غابت البُدَّهِيَّة عن الوجود تقريبًا، وسندرس في فصل آتٍ سرَّ هذا الغياب مستندين في ذلك إلى المباحث التي قُمنا بها في الهند.
وأخذ يظهر مذهبٌ جديد اسمه الْجَيْنِيَّة حينما بدأ ذلك الماضي المظلم ينجلي، ولكن معظم الهند قد شُطِر بين ديانة وِشنو وديانة شِيوا، ولم يَعْدُ حدَّ النظر محافظة البرهمية الجديدة على الآلهة القديمة، فما بين هذه الديانة الجديدة والديانة القديمة من فرق عظيمٌ جدًّا؛ فالبرهمية الجديدة هي، بالحقيقة، مزيجٌ من قديم المذاهب الويدية والمعتقدات البُدَّهِيَّة ومختلف الخرافات الأجنبية.
ولم يقطع عصر البرهمية الجديدة التي خَلَفَت البُدَّهِيَّة في الهند في القرن السابع أو القرن الثامن من الميلاد بفعل الغزوات الإسلامية، فالهند، وإن خضعت لأتباع النبي وكثير من الهندوس وإن رضوا بالإسلام دينًا كما يدل عليه وجود خمسين مليون مسلم في الهند، حافظ معظم أهاليها على دينهم القديم، ولا يزالون يزاولون شعائره حتى الآن.
(٥) العصر الإسلامي
مارس المسلمون في الهند مثل النفوذ العميق الذي مارسوه في جميع أقطار العالم التي فتحوها، ولا أمة، كالمسلمين، تم لها من النفوذ البالغ ما تمَّ للمسلمين كما أثبتناه في كتابنا «تاريخ حضارة العرب»، ولا تستثن الرومان من ذلك، ففي مدة سلطان المسلمين الذي دام في الهند سبعة قرون غيَّرَ فريق كبير من الشعب الهندوسي دينه ولغته وفنونه تغييرًا عظيمًا، وظل هذا التغيير باديًا بعد زوال ملكهم، فعلى ما تعلَمه من عدم تأثير الغزو الإغريقي للهند وعلى ما تراه من تَفَهِ النفوذ الإنجليزي في الهند تجد فيها خمسين مليونًا من الهندوس يدينون بدين محمد.
ترجع غزوات المسلمين الأولى للهند إلى القرن السابع، ولم تكن هذه الغزوات سوى غارات موفَّقة، ولكنها لم تُسفر عن استقرار دائم، وفي أوائل القرن الحادي عشر فقط بدأ غزو المسلمين الجِدُّ للهند بقيادة محمود الغزنوي.
محمود الغزنويُّ هذا من سلالة أفَّاق تركي أنشأ إمارة مستقلة في مدينة غَزْنَة الجبلية الواقعة في جنوب كابُل الأفغانية، فلما زحف إلى الهند كان شمالها الغربي مقسومًا بين أمراء كثيرين من الراجبوت معترفين لراجه دهلي بالغَلَب والتفوق، وكان راجه قَنُّوج الذي هو سليل راما يملك إمارة أَوَدْهَة وإمارة وادي الغَنْج، وكان آل بال يملكون البنغال وبهار، وكان خلفاء وكرماديتة يملكون ملوا، وكان جنوب الهند يشتمل على الممالك الهندوسية الثلاث التي سنتكلم عنها في مكان آخر: جيرا وجولا وبنديا.
لم يُوطِّد محمود الغزنوي سلطانه بسهولة، فقد قاومه الراجبوت، ولا سيما ملك لاهور أشد مقاومة، وما لاقاه من المصاعب الكبيرة غير التي لاقها الإسكندر، فلم تقلَّ الحملات التي قام بها بين سنة ١٠٠١ وسنة ١٠٢٦ لإخضاع شمال الهند عن سبعَ عشرةَ حملة، ووصل في غزوه إلى الكجرات حيث انتهب معبد سومنات، ولكنه لم يحتفظ بغير البَنْجَاب، فظل الراجبوت مستقلين تقريبًا، ثم سار خلفاؤه على سنته في التوسع فهاجر الراجبوت إلى منطقة راجبوتانا الجبلية الصعبة حيث أسسوا دولًا لم تخضع بالحقيقة لأحد ولا للمغول، وهي لا تزال ملك كثير من الأسر الراجبوتية المالكة.
وما تم على يد محمود الغزنوي من فتح فذو طابع ديني سياسي، فمحمود الغزنوي كان مسلمًا متين العقيدة توَّاقًا إلى رفع شأن الشريعة النبوية، فأعلن في كل مكان أنه ناشر لدين العرب وحضارتهم، فأنعم خليفة بغداد عليه بلقب يمين الدولة.
وكانت الهند تتمتع، حين أوغل محمود الغزنوي فيها، بما لا عهد لها بمثله من الوَفْر واليُسْر، وما لا يزال قائمًا فيها من المباني والآثار يُثبت أن وصف أدباء الشرق لها بعيدٌ من المبالغة، وما كان يقع بين ملوكها المحليين من الحروب لا يُؤَدِّي إلا إلى تبديل مواضع خزائنها وكنوزها من غير أن تخرج منها، مع أن ما عُرِّضت له منذ قرن من امتصاصها المنظم قد نهكها تمامًا.
وليس مما لا طائل فيه أن نُسهب في ذلك الأمر لنطلع على سر غنى المباني التي نصفها في هذا السِّفْر، فلم يجد مؤرخو الشرق، حتى محمود الغزنوي نفسه، من التعابير ما يعربون به عن إعجابهم بها.
تحتوي مدينة مترا العجيبة على أكثر من ألف من المباني المتينة متانة أهل الإيمان، والمصنوع أكثرها من الرخام، وإذا عُدَّ المال الذي أُنفق على إنشاء هذه المباني بلغ ألوف الألوف من الدنانير فضلًا عن أنه لا يقام مثل هذه المدينة في أقل من قرنين، ووجد جنودي في معابد المشركين خمسة أصنام من الذهب ذوات عيون من ياقوت أحمر تساوي قيمته خمسين ألف دينار، ووجدوا فيها صنمًا آخر مزخرفًا بما زِنَتُه أربعمائة مثقال من الياقوت الأزرق، ووجدوا فيها، فضلًا عن ذلك، نحو مائة صنم من الفضة يعدل وزنها حمل مائة بعير.
رأى محمود الغزنوي مثل تلك العجائب في جميع المدن التي دخلها، ولا سيما في قَنُّوج التي كان لها أن تباهي بأنها فريدة بمبانيها كما روى فرشتة الذي ذكرناه آنفًا، فوجد في أثناء الحملة التي قام بها سنة ١٠٢٤ لهدم معبد سومنات بالكجرات على الخصوص، معبدًا عجيبًا ذا ستة وخمسين سارية مصفحة بصفائح من ذهب ومرصعة بالحجارة الكريمة، وذا ألوفٍ من التماثيل المصنوعة من الذهب والفضة والمحيطة بهيكله، وذا صنم ضخم قائم في وسطه مشتملٍ في جوانبه على مقدار كبير من الحجارة الكريمة، وذا حَشَمٍ مؤلفين من ألفي برهمي وخمسمائة راقصة وثلاثمائة موسيقي، ويقدَّر ما غنمه المسلمون من الكنوز في تلك الأثناء بنحو ٢٥٠ مليون فرنك أي بمبلغ عظيم جدًّا في ذلك الزمن.
ولم يقلَّ دَهَش خلفاء محمود الغزنوي عنه تجاه الثروات والعجائب التي لاقوها في كل مكان بالهند، فقد هدم محمود الغوري أصنام ألف معبد ببنارس وحمَّل أربعة آلاف بعير من الغنائم التي استولى عليها، وبلغ ما حمله جنود المسلمين في حملتهم الأولى التي قاموا بها في الدَّكَن من الذهب الكثير ما تركوا معه الأدوات الفضية لِثِقَل نقلها، فلم تكن أواني المعابد وبيوت الأغنياء مصنوعة إلا من الذهب الخالص، ولم يكن الناس ليتداولوا غير النقود الذهبية على عكس ما يقع في أيامنا.
ودام سلطان آل محمود الغزنوي الأفغان في غزنة ولاهور من سنة ٩٩٦ إلى سنة ١١٨٦ حين طردهم محمود الغوري رأس أسرة الأفغان الثانية، فسلك محمود الغوري هذا في فتوحه مسلكًا بسيطًا كُتب له التوفيق به كما كُتب لخلفائه، ومنهم الإنجليز، من بعده، فقام ذلك على التدخل فيما كان يقع بين الأمراء المحليين من نزاع وعلى الاستفادة من تنافسهم بإضعافهم، ثم بالاستيلاء على ممالكهم، فهو بعد أن توسَّط حليفًا في نزاع كان يفرق بين ملوك دهلي وقَنُّوج جمع مملكتيهم وألَّف منهما دولة واسعة يحدها بنارس من الشرق وغواليار وكجرات من الجنوب جاعلًا مدينة دهلي مقرًّا للحكومة.
مات محمود الغوري فأعلن أحد ولاته قطب الدين استقلاله فأضحى قطب الدين هذا رأسَ الأسرة الأفغانية المعروفة بأسرة الملوك المماليك التي دام سلطانها من سنة ١٢٠٦ إلى سنة ١٢٩٠، وإلى قطب الدين هذا يُعزى إنشاء «منارة قطب» بدهلي.
والملك ألتَمَش هو أشهر ملوك هذه الأسرة، ويعدُّ مزاره الفخم من أشهر مباني دهلي، ودام عهده من سنة ١٢١١ إلى سنة ١٢٣٦ فحارب في أثنائه عدة مرات ضِدَّ غارات المغول وفتن القبائل المحلية.
أُدِيل من الأسرة الغورية فقامت مقامها أسرة أخرى يُعَدُّ علاء الدين من أشهر ملوكها «١٢٩٤–١٣١٣»، لِما اتسع به مدى الفتوح الإسلامية في عهده، ولما كان له من الذوق في الفن المعماري مثل ما كان لأسلافه كما يشهد بذلك الباب المنقوش الذي يحمل اسمه بدهلي.
ومن سوء حظ هذه الأسرة الجديدة أن تفاقم خطر المغول الذين جُنِّدوا في جيشها الملكي شيئًا فشيئًا، فلم يلبث زعيم هؤلاء المرتزقة أن أسس أسرة أفغانية مالكة خامسة «١٣٢٠–١٤١٤» اشتهر منها فيروز وطوغلق، وامتاز ملوكها بالطابع الذي وُسموا به فن العمارة.
وفي سنة ١٣٩٨، أيام ثاني ذَيْنِكَ الملكين، أغار تيمور لنك على الهند فسلب دهلي فجاب الهند كإعصار فعاد إلى بلاده.
وكان الولاة يحاولون الاستقلال أيام انهماك ملوك دهلي في الحروب فوفِّق أكثرهم له فشادوا عدة ممالك، فتنافست عواصمها في البهاء، وزيَّنت أجيادها بقلائد من المباني التي لا يزال عددٌ كبيرٌ منها قائمًا.
سادت الفوضى بعد غارة تيمور لنك، فحاول الولاة الذين استقلوا بالولايات الإسلامية أن يصبحوا أصحاب دهلي، فتمكن اللودي، حكام لاهور، من الاستيلاء عليها في سنة ١٤٥٠ فأسسوا أسرة أفغانية مالكة سابعة دام سلطانها إلى سنة ١٥١٧.
ففي تلك السنة سلك حاكم لاهور الجديد تلك السُّنَّة فأراد الاستقلال، فرأى إبراهيم لودي أن يحمله على الخضوع فاستغاث بملك كابل المغولي بَابَر الذي هو من حفدة تيمور لنك وجنكيز خان، فأبصر بابر هذا أن فرصة فتح الهند سَنَحَت، فلَاح له اهتبالُها فزحف إليها بجيش مؤلَّف من ١٢٠٠٠ رجل فغَلَب جيش لودي المؤلَّف من ١٠٠٠٠٠ رجل فاستولى على دهلي وعلى جميع شمال الهند.
بابر ذلك هو مؤسس آل الملك المغولي بالهند، وهو الذي استطاع أن يُدَوِّخها، ثم مات في أغرا سنة ١٥٣٠ بعد أن أصبحت أفغانستان وهندوستان قبضته.
حافظ جنوب الهند على استقلاله في معظم الدور الإسلامي الأول الذي لخَّصناه آنفًا، وذلك خلا القسم المتوسط المجاور لنِرْبَدَا الذي استولت عليه الدول الإسلامية المستقلة، ولم تخضع الهند بأَسْرها لسلطان واحد إلا في الدور الأخير من الدولة المغولية، وذلك لوقت قصير جدًّا، ففي شمال الهند ووسطها، إذن، مارَسَ بابر وخلفاؤه ملكهم.
اضطر همايون «١٥٣٠–١٥٥٦»، ابن مؤسس الدولة المغولية بالهند، إلى الجهاد طويلًا، فأكره على الجلاء عن أغرا إلى السِّنْد حيث تزوج امراة فارسية فرُزق منها في سنة ١٥٤٢ ابنه الذي اشتهر بالمَلِك أكبر فيما بعد، ثم ثبَّت دعائم مملكته فاستردَّ ما خسره فمات بالقرب من دهلي حيث لا يزال ضريحه ماثلًا.
وفي زمن خليفة همايون، الملك أكبر «١٥٥٦–١٦٠٥»، تجلت عظمة الدولة المغولية بالهند، فقد حاول هذا الملك إدغام الهندوس بالمسلمين فتزوج أميرات هندوسيات، واتخذ وزراء له من المسلمين والهندوس معًا، وأراد مزج فَنَّيْ عمارة كلتا الأمتين، ونستطيع أن نتبين مقاصده من المباني التي شادها وإن سكت التاريخ عنها، وَيُعَدُّ عهده الذي دام خمسين سنة من أنضر العهود الجديرة بأطيب الذكر، ونرى النُّظُم التي انتحلها من أكثر النُّظُم ملاءمة للشعوب التي ملكها، وكُتب لكثير من هذه النُّظُم البقاء بعده، وقلَّدها الإنجليز في الغالب.
وأكبرُ، إذ كان مرتابًا وكان يَعُدُّ الهندوس والمسلمين من المتعصبين، احترم ديانتيهم، وشجَّع بإنصاف إقامة معابد لجميع الأديان، وخُيل إليه أن يصهر الأديان في دين واحد فحَبِط ما سعى إليه.
والملك جهانكير «١٦٠٥–١٦٢٨» من النوابغ أيضًا، وإن كان دون أبيه أكبر أهميةً، وهو، إذ كان مرتابًا كأبيه مُتَحَلِّيًا مثله بخلق التسامح، سار على سياسته فتزوج نساءً مسلماتٍ هندوسيات، فعامل هاتين الأمتين بإنصاف، وكان للنصارى الذين بلغ عددهم ستين شخصًا في عاصمته نصيب من رعايته.
ولم يكن ابنه شاهجهان الذي خَلَفه سنة ١٦٢٨ فدام سلطانه إلى سنة ١٦٥٨ متسامحًا مثله، فقد حذف من فن العمارة ما استطاع حذفه من المؤثرات الهندوسية كما يدل على ذلك ما شاده من المباني.
وفي سنة ١٦٣٧ استقر شاهجهان بدهلي، وأنشأ فيها القصر الفخم الذي لم يسمح الإنجليز بغير بقاء جزءٍ منه، فيُعَدُّ، مع ذلك، من أجمل مباني الدنيا.
وفي عهد شاهجهان أقيمت أشهر مباني المغول فنذكر منها تاج محل ومسجد اللؤلؤ بأغرا والقصر والمسجد الكبير بدهلي، إلخ.
وخَلَفَ أورنغ زيب أباه شاهجهان في سنة ١٦٥٨ فدام ملكه إلى سنة ١٧٠٧، فكان يقيم بأغرا تارة وبدهلي تارة أخرى، وفاق أباه قلةَ تسامحٍ تجاه الهندوس، وأدَّى بتعصبه إلى سقوط الدولة المغولية بالهند، وذلك أنه قضى على مملكة بيجابور ومملكة غول كوندا الإسلاميتين في الدَّكَن فقضى على الحاجز الأخير القائم أمام أعدائه الذين كان المراتها أهمَّهم، فأعدَّ بذلك انحلال دولته العظمى، فنحن لو عَدَدْنا أهمية الدولة بنسبة اتساعها لقلنا إن الدولة المغولية بالهند بلغت الأوْج في عهد أورنغ زيب، غير أنه كان ينطوي تحت هذا الاتساع بذور الانحطاط التي لم تلبث أن مَحَقَتْها، فهي لم تَعِش، بالحقيقة، بعد الملك الذي رفع شأنها.
دام العصر الإسلامي الذي أجملنا تاريخه بما تقدم نحو سبعمائة سنة، ولم تكن وحدة الهند في معظم هذا العصر الطويل الذي امتد إلى زمن أورنغ زيب في غير الظاهر، فقد أقام ولاة المسلمين ممالك مستقلة كمملكة غور ومملكة غولكوندا ومملكة بيجابور وغيرها من الممالك التي لا نرى البحث في أمورها؛ فالحق أن الهند لم تصبح قبضة سيد واحد إلا في أيام أورنغ زيب، وذلك لوقت قصير.
لم تدم تلك الدولة الموحدة زمنًا طويلًا، فكان موت أورنغ زيب نذيرَ انهيارها، فلم يكد أورنغ زيب يُتوفَّى حتى وقعت الهند في الفوضى العميقة، فأخذ المراتها والأفغان والسِّك والجات والراجبوت وأمراء مسلمون يتلهَّون بالنِّهاب وباقتطاع ممالك مستقلة من الجثة الضخمة، فلم يبقَ لخلفاء أورنغ زيب الضعفاء سوى سُلطة اسمية، واسترد الدَّكَن استقلاله، فأنشأ الوزير نظامٌ فيه دولة لا تزال قائمة باسمه حتى الآن، واتخذ مدينة حيدر آباد عاصمة لها.
وفي سنة ١٧٣٩ أغار شاه الفرس نادرٌ على دهلي فغَصَبَ جميع ما جمعه المغول من الكنوز، فآب بغنائم تُقَدَّر بأكثر من مليار فرنك، وفي سنة ١٧٤٧ استولى الأفغان على لاهور والبنجاب، واغتنم المراتها الفوضى فنزعوا من الدولة أجمل ولاياتها.
ولم يكن زوال مُلك المغول كله وليدَ يوم واحد، فقد ظل جالسًا على عرش دهلي حفدة أولئك الملوك ١٥٠ سنة أخرى، بَيْدَ أن سلطانهم أصبح اسميًّا بالتدريج، فكانت خاتمة أمرهم أن أضحوا موظفين لدى الإنجليز، ولما أُسِر آخرهم في سنة ١٨٥٧ كان سلطانه أقل من ظل في المدينة التي كانت مقرًّا لآبائه.
وَنَعُدُّ غزوات المراتها من أقوى الأسباب في سقوطها دولة المغول بعد موت أورنغ زيب وتقسيمها إلى عدة ممالك، ونكاد نسدل على هذه الغزوات ثوبًا من النسيان لو كانت غارات انتهاب كالتي قام بها الفرس والأفغان، لا مغازيَ فتحٍ، فقد كان المراتها يجمعون الهند بأسرها تحت سيادتهم لو تم لهم النصر، فترى الهند نفسها إذ ذاك قبضة الهندوس لأول مرة منذ قرون كثيرة، فيتطلب الفتح الأوربي حينئذ جهودًا غير التي اقتضاها.
وكان المراتها يسكنون المنطقة المعروفة قديمًا بمهاراشترا والواقعة في الشمال الغربي من الدَّكَن وفي جنوب ولاية بَمْبِي الحاضرة مبتدئة من جبال ساتبور، وتجوب تلك المنطقة الجبلية فروعٌ من جبال كهات وجبال وِنْدهيَا فكان يقيم بها أناس جبليون لم يخضعوا للمسلمين إلا ظاهرًا.
بدا المراتها أعداء أشداء للدولة المغولية في سنوات أورنغ زيب الأخيرة، فما أظهره هذا الملكُ من قِلَّة التسامح حَمَلهم على شق العصا، فجمع الأفاق شيواجي المولود في جواربونا جيشًا من الأتباع، بعد أن قضى عمرًا في قطع السابلة، فاستطاع أن يقتطع مملكته التي لم تشتمل على غير جزء من مملكة بيجابور في بدء الأمر فلم يلبث أن وسَّع رُقعتها في معظم جنوب الهند، فمات أورنغ زيب قبل أن يقهره مع ما قام به من الحروب الطاحنة.
ومملكة بيجابور الإسلامية هي الحاجز المهم الذي كان يقي الدولة المغولية من المراتها، بَيْدَ أن أورنغ زيب هدم هذه المملكة فاستطاع المراتها أن يقوموا بالمغازي والغارات أحرارًا في كل مكان.
فَتَح المراتها، بعد موت أورنغ زيب، أكثر الولايات الهندية بالتتابع، ومثَّل أمراء المراتها المتحدون دورًا عظيمًا في نصف قرن، وإنهم لجادُّون في تدويخ الهند بأسرها إذ وَقَفَتْهُم مغازي الأفغان الذين كسروهم سنة ١٧٦٠ في معركة باني بت الشهيرة حيث قُتِل ٢٠٠٠٠٠ رجل كما روي.
ومن نتائج غزوات الأفغان وتنافس أمراء المراتها وما اضطرَّ إليه هؤلاء من محاربة أمراء المسلمين المستقلين أن دبَّ الضعف فيهم، فاغتنم الإنجليز ذلك فاستطاعوا أن يقهروهم، والإنجليز وجدوا بين أولئك من قاتلوهم بعنف مع ذلك، ولم يُتم الإنجليز إخضاعهم إلا بعد أربع حروب انتهت في أوائل هذا القرن، ولا يزال بعض أمراء المراتها مالكين لإندور وغواليار على الخصوص، ولكنهم لا يتمتعون بشيء من السلطان السياسي على ما عندهم من جيوش كثيرة.
(٦) تاريخ جنوب الهند
جنوب الهند منطقة لا يرتبط تاريخها في تاريخ شمال الهند إلا عرضًا، ونحن إذ لم نسطع أن نطبِّق عليه تقسيماتنا العامة نرى أن ندرسه في مطلب مستقل.
قسَّم القدماء الهند إلى المنطقتين الكبيرتين: الهند الشمالية أو الهندوستان والهند الجنوبية أو الدَّكَن، واتخذ وادي نَرْبَدَا في الغرب والجبال المجاورة لِكَتَك على خليج البنغال فواصل لِتَيْنِكَ المنطقتين، واليوم لا يُطلِقون اسم الدَّكَن إلا على الهضبة الوسطى التي يحدها نهر نَرْبَدَا وجبال وِنْدهيَا شمالًا ووادي كرِشنا جنوبًا وجبال كهات الغربية غربًا وجبال كتك وجبال كهات الشرقية شرقًا.
وإذا عَدَوْتَ المسلمين وقليلًا من الآدميين القاطنين ببعض البقاع المعيَّنة وجدتَ سكان الدَّكَن القديمة من ذوي الجلود السمر الذين هم نتيجة توالد العروق السود الفطرية والغزاة الصفر الذين أتوا من التبت لا ريب والمغول الذين أتوا من الغرب، وهذا التوالد المكرر قد تم في عصور أقدم من عصرنا كثيرًا، واليوم يبدو سكان جنوب الهند، وإن شئت فقل الدراويد، من أكثر عروق الهند تجانسًا، فهم يدينون منذ اثني عشر قرنًا بديانة واحدة، ويتخذون فنونًا واحدة، ويتكلمون بلغات تكاد تكون واحدة.
ويظهر أنه لم يكن للبُدَّهية أثرٌ كبير في سكان جنوب الهند، وهذا الأثر، عند افتراض وجوده، قد زال بسرعة، فلا ترى بعد نهر كرشنا بناءً بُدَّهِيًّا.
وللجَيْنِيَّة أثرٌ أكبر من أثر البُدَّهِيَّة هنالك، فلا تزال تجد لها أشياعًا حول كانجي وَرَمَ وفي ميسور، وللإسلام أتباعٌ غير قليلين هنالك أيضًا، ولكن البرهمية ظلت ديانة الأكثرين من سكان جنوب الهند، ويقسَّم هؤلاء بين المذهبين: وِشنو وشِيوا، غيرَ أن معابدهم متماثلةٌ غيرُ مختلفة في سوى الرموز، فنرى لذلك، أن نضع، من الناحية المعمارية، أكثر مباني جنوب الهند في فصل واحد بدلًا من أن نصنفها بحسب المدن والممالك كما نضطر إليه في أمر مباني شمال الهند ووسطها.
وتاريخ جنوب الهند، إلى دور المغازي الإسلامية، أي إلى القرن الثالث عشر من الميلاد، أشد غموضًا من تاريخ شمال الهند، فلا تجد فيه آثارًا أدبية ككتب الويدا ومهابهارتا، إلخ، ولا يجاوز ما أُلِّف من الكتب بلغة التمول أو اللغات الدراويدية الأخرى القرن الثامن بعد الميلاد قِدَمًا، ولا يجاوز ما أقيم من المباني الحجرية وما نُقش من الكتابات الحجرية القرن الخامس بعد الميلاد قِدَمًا.
ونستنتج من تقاويم الملوك وفتوحهم التي أشير إليها في الكتابات الحجرية، وورود أسماء لممالك جنوب الهند في مراسيم أشوكا قبل الميلاد بثلاثة قرون، وذِكْرِ أسماء بعض المدن في كتب قدماء المؤلفين، وجود ممالك في جنوب الهند قبل الميلاد بخمسة قرون أو بستة قرون وإن كنا لا نستطيع قول شيء عن حضارتها، ومما لا مراء فيه، مع ذلك، أن جنوب الهند لم يتمدن إلا بعد شمالها بزمن طويل.
ويمكن تلخيص ما نعْرِفه عن ممالك جنوب الهند قبل المغازي الإسلامية بما يأتي: كان جنوب الهند مقسومًا، قبل الميلاد، إلى ثلاث ممالك كبيرة، مملكة بنديا ومملكة جولا ومملكة جيرا، وذلك بحسب أساطير الهندوس التي جاءت الكتابات الحجرية مصدقةً لها، وكانت مملكة بنديا تلك تقع في أقصى جنوب الهند، وورد ذكرها في المهابهارتا وفي مراسيم أشوكا وأحاديث ميغاستين، ويُرى، على العموم، أنها كانت موجودة في القرن الخامس قبل الميلاد تقريبًا وإن لم ينتهِ إلينا شيء من تاريخها، واتخذت مدينة مدورا عاصمة لها، ومما لا شك فيه أن كان لسكان مدينة مدورا هذه علاقات بالرومان كما تدل عليه النقود الرومانية التي وجدت بالقرب منها.
ثم استولى بيت جولا المالك على مملكة بنديا حوالي القرن الحادي عشر من الميلاد فظل أمرها اسميًّا إلى منتصف القرن السادس عشر تقريبًا، فلما حلت سنة ١٥٥٩ استولى عليها راجه بيجانغر، وشيد في عهد الملك تيرومل «١٦٢٣–١٦٥٩» ما في مدورا من المباني.
وكانت مملكة جولا تقع في شمال مملكة بنديا وشرقها فتمتد من وادي كولرون ووادي كاويري إلى مستوى مدراس، ومن اسمها اشتُق جول مَنْدَلم الذي جعله الأوربيون كوروميندل.
ومن المحتمل أن تكون هذه المملكة قد قامت في الزمن الذي قامت فيه مملكة بنديا، فقد ذُكرت في مراسيم أشوكا وإن جهلنا تاريخها مثلما نجهل تاريخ بنديا، ونعلم، مع ذلك، أن ملوك جولا كانوا، كما جاء في الكتابات الحجرية، في عظيم يُسر ورخاء بين القرن العاشر والقرن الثاني عشر من الميلاد، فقهروا جنوب الهند، وامتد سلطانهم إلى سيلان التي كانوا قد استولوا عليها في سنة ٢٥٠ قبل ظهور المسيح على حسب ما جاء في التواريخ السنغالية، وبلغت فتوحهم البنغال ومملكة أَوَدْهَة في الشمال، فكانوا مالكين في القرن الحادي عشر لأقوى ما عرفه جنوب الهند من الممالك، بَيْدَ أن نفوذهم لم يدم طويلًا، فقد كان آفلًا قبل الغزو الإسلامي الذي وقع سنة ١٣١٠.
ويظهر أن عاصمة مملكة جولا في القرن الثاني عشر من الميلاد كانت مدينة أورايور القريبة من تري جنابلي فنُقلت إلى مدينة كنبهه كونم في القرن الثالث فإلى مدينة تانجور في القرن العاشر.
وكان الجيرا يملكون ناحية الغرب من مملكة جولا، وناحية الشمال من مملكة بنديا، وجزءًا كبيرًا من ولاية ميسور الحاضرة، وكانت مملكتهم قائمة قبل الميلاد، فقد ورد ذكرها في مراسيم أشوكا أيضًا، وكانت هذه المملكة على جانب عظيم من القوة في القرن الرابع والقرن الخامس من الميلاد كما تشهد بذلك تقاويم الفتوح المنقوشة قديمًا على الحجارة، وبلغت فُتُوح ملوكهم مدًى بعيدًا في الشمال فافتخر ملكهم كوغني راجه الثالث في إحدى الكتابات بوصول جيوشه إلى نهر نربدا، وتمَّ هذا الفتح حوالي القرن الثامن من الميلاد، فاستُدل عليه من معبد قائم على الطراز الدراويدي في إيلورا.
وكانت مدينة تلاكاد، الواقعة على نهر كاويري والبعيدة اثني عشر فرسخًا من شرق ميسور، عاصمة جيرا.
ويُضاف إلى تلك الممالك الثلاث مملكة جالوكيا التي مثلت دورًا مهمًّا في فن العمارة على الأقل، وكان ظهور هذه المملكة بعد تلك بزمن طويل، فقد قامت في القرن السادس من الميلاد، ثم غاب نجمها بعد ستة قرون، وتُقسَّم أسر جالوكيا المالكة إلى بيت جالوكيا الشرق وبيت جالوكيا الغرب على حسب ما كان ملوكهم يقسمون الدَّكَن.
وكان سلطان ذَيْنِكَ الفرعين مبسوطًا، فوق تلك الممالك الثلاث، على أملاك واسعة مشتملة على مملكة ميسور الحاضرة وجزء كبير من مملكة نظام الحالية، وكانا يزعمان أنهما من العِرْق الراجبوتي فجاء طراز مبانيهما الذي هو مزيج من طراز الهند الشمالية وطراز الهند الجنوبية مؤيدًا لزعمها.
وما تركه جالوكيا من المباني قليل، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد نَجَم عن اتخاذ المسلمين لما كان يملكه جالوكيا من المدن، كبيجابور وكُلْ برغه، إلخ، مقرًّا لدولهم الكبرى فيما بعد، ولتلك المباني بعض الأهمية مع ذلك، فقد رأى بعض المؤلفين أنها عنوان طراز سموه بالطراز الجالوكياوي.
وفي ولاية ميسور بلغ ذلك الطراز غايته بين سنة ١٠٠٠ وسنة ١٣٠٠ من الميلاد، فتجد أجمل نماذجه في هُلَّابيد وبيلور، ومن المحتمل ألا تكون قد أنشئت قبل القرن الثاني عشر من الميلاد، ويذكرنا ما فيها من فيض الزخرف بالمباني الْجَيْنِيَّة، وليس ما يسترها من النقوش التي تمثل الآلهة الهندوسية شِيوا وباروَتي ووِشنو، إلخ، بأرقى من نقوش المعابد الدراويدية، ونعدها مرحلة انتقال بين طراز شمال الهند وطراز جنوبها أكثر من أن تكون عنوان طراز جديد.
وطَفِق جنوب الهند يُعرَّض للمغازي الإسلامية منذ القرن الثالث عشر من الميلاد، وجاهد المسلمون عدة قرون لفتح أقسام الدَّكَن المختلفة، ولم يوفَّقوا لتدويخ جميعه إلا لوقت قصير، وفي الدَّكَن أقاموا ممالك قوية وإن لم تكن من الشوكة بما يقاس ببأسهم في شمال الهند، وذلك كما يبدو لنا، عند سكوت التاريخ، من قلة تأثيرهم الديني واللغوي، والفني فيه، ولم يصبح فن العمارة إسلاميًّا، مع ذلك، إلا في المدن التي ظلَّت بأيديهم زمنًا طويلًا، أجل، شاد ملوك من الهندوس، كأحد ملوك مدورا، قصورًا على الطراز الإسلامي، ولكن تأثير هذا الطراز ظل في المعابد الهندوسية كالعدم تقريبًا.
وقعت مغازي المسلمين الأولى للدكن سنة ١٣٠٦ في عهد علاء الدين، فبلغ الجيش الإسلامي شاطئ ملبار في سنة ١٣١٠، وخُرِّبت هُلَّابيد وميسور في سنة ١٣١٠، وكان لوَرَنْغل مثل نصيبهما في سنة ١٣٢٣، ولسرعان ما تم فتح شمال الدَّكَن فقام بأمور حكومته، بعض الوقت، ولاة مسلمون تابعون لملوك دهلي متخذون دَوْلَت آباد مقرًّا لهم.
لم يلبث أولئك الولاة أن نشدوا الاستقلال لأنفسهم فكان أول بيت إسلامي مالك مستقل بيت ملوك بهمني الذي دام سلطانه من سنة ١٣٤٧ إلى سنة ١٥٢٦ فاستطاع في أثناء ذلك أن يضم إليه ساحل أوريسة بعض الزمن، ولم تُعَتِّم هذه المملكة أن قُسِّمت إلى خمس ممالك إسلامية مستقلة متحاربة على الدوام، وهذه الممالك هي: مملكة بيجابور «١٤٨٩–١٦٨٩» ومملكة أحمد نَغَر «١٤٩٠–١٦٣٧» ومملكة غول كوندا «١٥١٢–١٦٨٧» ومملكة برار «١٤٨٤–١٥٧٤» ومملكة بيدر «١٤٨٩–١٥٩٩»، فما كان من اقتتال هذه الممالك منعها من التوسع في جنوب الهند فسهَلُ على جنوب الهند أن يحافظ على استقلاله.
والواقع أن جنوب الهند كان مقسومًا إلى منطقتين مختلفتين في القرن الخامس عشر وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، فأما المنطقة الأولى فكانت واقعة شمال نهر كرشنا تابعة للمسلمين، وأما المنطقة الثانية فكانت واقعة جنوب ذلك النهر تابعة لراجوات من الهندوس معدودين من عمَّال راجه بيجانَغَر، وما في بيجانغر هذه من المباني الرائعة، الخربة الآن، شاهدٌ على ازدهار دولتهم فيما مضى.
وفي سنة ١٥٦٤ فقط وفِّق ملوك الدَّكَن المسلمون المتحدون لتقويض سلطان الهندوس في جنوب الهند وتخريب بيجانغر، ولم يكن تدويخ جنوب الهند هذا إلا ناقصًا مع ذلك، فقد قامت فيه عدة دويلات، كدُوَيلة تانجو ودويلة مدورا وغيرهما من الدويلات التي حافظت على استقلالها بين الفتن إلى أن نزعه المراتها ثم الإنجليز.
استقر المراتها بتانجور سنة ١٦٧٤، واستولى المسلمون على مدورا سنة ١٧٣٦، ثم استفاد الإنجليز الذين ثبت أمرهم بمدراس سنة ١٧٣٦ من تلك المنازعات ففتحوا جنوب الهند بالتدريج، وما أصاب مسلمي ميسور من الهزيمة سنة ١٧٩٩ في زمن تيبو صاحب أسفر عن تسلم الإنجليز لزمام السلطة العليا في جنوب الهند وعن بسط سيادتهم عليه بأسره، وسنرى، عما قليل، كيف تم لهم هذا الفتح وما هي العوامل التي جعلته ممكنًا.