حضارة العصر الويْدِي
(١) عناصر بعث حضارات الهند: التقسيم إلى أعصر
ذكرنا في فصل سابق أنه ليس لدينا كتابُ تاريخ بين آثار الهند القديمة، وأن أدوار ما يقرب من ألف سنة تبقى مجهولةً تمامًا لو لم يُلْقِ عدد قليل من المباني والكتابات وكتب القدماء نورًا ضئيلًا عليها.
وما عندنا من الوثائق التي نبعث بها حضارة الهند، في دور يقرب من أربعة آلاف سنة سكن الهندَ في أثنائها شعوبٌ بلغت درجات متفاوتة من الحضارة، وإن كان غير كافٍ، يزيد عما يقتضيه رسم تاريخ هذا الدور، فما انتهى إلينا من الكتب الدينية ككتب الويدا، ومن الحماسيات كالراماينا والمهابهارتا، ومن الشرائع القديمة كشرائع مَنُو، يكفي لتمثل الأحوال الاجتماعية في الأزمنة التي وُضع فيها، وما وصل إلينا عن الهند القديمة من مئات الأقاصيص والأمثال والأساطير يدلنا على شعور الأمم التي أبدعتها وأفكارها ونظرها إلى الأمور، وما بَلَغَنَا من المباني وأحاديث الشهود، القليلة مع الأسف، كأحاديث السفير اليوناني ميغاستين والحاجَّين الصينيين فاهيان وهيوين سانغ، يتم تلك المصادر إتمامًا نافعًا.
ومن يبحث في تاريخ حضارة الشعوب الأوربية يَرَ التطور التدريجي من صفات هذه الحضارة، ومن يبحث في حضارة الأمم الشرقية، كالصينيين والهندوس على الخصوص، يَبْدُ له مثل ذلك التطور أمرًا غامضًا وإن تعذَّر إنكاره، وذلك التطور، وإن لم يبصره الباحث، نشأ خفاؤه عن قلة معرفتنا لماضي تلك الأمم وعن عدم مجاوزة تلك الأمم للطور الذي يكون التطور فيه بطيئًا، فلو وَقَفَت حضارة الغرب في أواخر القرون الوسطى فجأةً غير تاركة لنا سوى وثائق ناقصة نَقْصَ التي نحكم بها في أمر الشرق الأقصى لاعتقدنا، عند عدم التدقيق التام، أن الغرب لم يتطور، مع أن أُسُس حضارة الغرب وُضعت في ذلك الزمن الطويل فقامت على هذه الأسس بعدئذ بسرعة.
جاوزت شعوب الشرق طور الهمجية الأولى كما جاوزنا، وارتقت إلى دور يشابه دور قروننا الوسطى كما ارتقينا، ولكنها إذ قيدت نفسها بسلسلة من العادات والتقاليد والمعتقدات أقوى مما يُقيدنا لم تَسْطِع أن تتخلص منها كما استطعنا، فلم تَخرج من ذلك الدور كما خرجنا، فظلت في الدور التمهيديِّ الذي لا يتم تطور إحدى الأمم فيه بسرعة.
المعتقدات الدينية في الهند هي أساس جميع النُّظم الاجتماعية، فما في الهند من نظم اجتماعية ليس، بالحقيقة، إلا نظمًا دينية، ونحن، حين نرى الدور المهم الذي مثله الدين في جميع شعوب الهند على الدوام، نَعُدُّ تطورات الدين عنصرًا أساسيًّا في تقسيم ما لحضارتها من الوجوه، وتكون هذه التطورات غير محسومة عند النظر إليها بين قرن وقرن، وتبدو كبيرة عند النظر إليها في أدوار تحتوي عدة قرون على الدوام، وذلك كما نُضطر إلى أن نفعله لعدم كفاية الوثائق، ولا يقاس تاريخٌ يُؤلَّف عن حضارات الهند بكتاب جغرافي يشتمل، مثلًا، على ما لأحد البلاد من الطرق المترجِّحة بين مسارب الغاب وشوارع المدن وطرق القُرَى، بل بكتاب يضعه سائح ينظر إلى إحدى البقاع من فوق جبل فيصورها تصويرًا عامًّا مقتصرًا على الإشارة إلى مدنها بإيجاز على أن يفصِّل أمرها بعدئذ إذا تيسر له أن يَجُوب إحدى المدن التي أشار إليها مختصرًا.
فلنتخذ المعتقدات الدينية، إذن، أساسًا للتقسيم، ولننظر إلى الأعصر الستة الآتية في دراسة حضارات الهند وهي: العصر الويدي والعصر البرهمي والعصر البُدَّهِي وعصر البرهمية الجديدة والعصر الإسلامي والعصر الحديث الذي جعلناه موضوع بحث منفصل في هذا السِّفر، ولا يقل العصر الحديث عن تلك العصور أهميةً، فَبِهِ تتجلى نتائج اصطدام حضارتين يفصل إحداهما عن الأخرى مثل هُوَّة ما بين القرون الوسطى والأزمنة الحديثة.
(٢) مصادر بعث الحضارة الآرية
نرى أن نتفادى من التكرارات فنبسُط في هذا الفصل وفي الفصول الآتية حضارة كل عصر بسطًا عامًّا على أن نعرض في فصول خاصة آثار كل عصر من تلك الأعصر، كالآداب والمباني، إلخ.
تتجلى الحضارة الآرية في شمال الهند الغربي في عصر يرجع في القِدَم إلى خمسة عشر قرنًا قبل الميلاد، ولم ينتهِ إلينا منها أي أثر حجري، كما أننا لم نجد ما يدل على إنتاجها مثل هذا الأثر، وكل ما ورثه العالم منها هو دائرة المعارف الدينية الواسعة المعروفة بالويدا، وتحتوي هذه الدائرة على أسفار كُتبت في أزمنة مختلفة، وَيُعَدُّ السِّفْر المسمى بالرِّغْ ويدا أهمها، ويرى مكس موللر أن سِفْر الرِّغْ ويدا هذا وُضع قبل المسيح بألف سنة على الأقل، وفسر هذا السِّفْر تفسيرًا ملائمًا فأخبرنا عن لغة الشعوب التي ألَّفته وديانتها وأحوالها الاجتماعية ومزاجها النفسي.
(٣) أصل الآريين
تطلق كلمة «الآريين» على شعب، ذي جلود بيض وشعور سود ولغة ضائعة معروفة بالأرياك «فاشتقت منها اللغة المعروفة بالسَّنسكرت»، هبط قبل الميلاد بأكثر من خمسة عشر قرنًا إلى شمال الهند الغربي مارًّا من معابر كابل، وكان الآريون قبائل شِبْه بدوية شِبْه حضرية تعرف الزراعة وتتصف، ككثير من الأعراب، باتِّقَاد الخيال، وتشابه بطرق معايشها قدماء الفرس الذين حكى عنهم هيرودتس.
بَيْدَ أن تلك النظرية ليست غير فرضية قائمة، فقط، على تشابه أصول اللغات الأوربية «اللاتينية واليونانية والألمانية، إلخ» والفارسية والسنسكرتية.
حقًّا أن هنالك قرابة لغوية بين الهندوس والأوربيين، ولكننا نعلم اليوم أن تشابه اللغات لا يعني، دائمًا، قرابة العروق، فإذا عَدَوْتَ هذه القرابة اللغوية لم تجد ما يؤيد تَحَدُّر الأوربيين من أصلٍ آسيوي، ما أمكن افتراض العكس بأن يقال إن الآسيويين أتوا من أوروبا.
هذا ما افترضه حديثًا علماء من الألمان مستندين إلى وجود أناس شقر قليلين في شمال الهند الغربي، وأرى أن فرضية علماء الألمان هذه ضعيفة كتلك ما عُدَّ هؤلاء الشقر القليلون بقيةَ كثيرٍ من الغزاة الذين أتوا منذ ثلاثة آلاف سنة فاتحين لتلك البقعة من كل جهة، لا من أوروبا وحدها، فإذا كان في العالم بقعة يندر وجود الشقر فيها فهي بلاد الهند لا ريب؛ فلقد طُفْتُ في جميع نواحيها فلم أصادف فيها إنسانًا أشقر، وهذا إلى قولي إن الشقر الآريين لا بد من أن يكونوا قد وُجدوا فعرفهم مَنُو فعدَّهم من شعب متأخر فحظر زواج رجال الطوائف العليا بنسوتهم «ذوات الشعور الشقر».
لم يبقَ سوى الرجوع إلى الافتراض القائل إن الآريين من أصل آسيوي بعد دحض الافتراض القائل إن الآريين من أصل أوربي، فقد رُئي نزولهم الأساسي بمختلف البقاع الممتدة من نهر أكسوس إلى بحيرة بال كاش، أي ببقعة من بلاد المغول كان العِرْق الأصفر يملكها منذ أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد على حسب ما جاء في أقاصيص الصينيين، فأرى، أيضًا، وجوب استبعاد هذا الافتراض القائل إن بلاد المغول هي مهد الآريين، ما لم نَرْض بزعم ويلر الواهي القائل إن الآريين من المغول.
ولا أحاول هنا أن آتِيَ بافتراض جديد في أصل الآريين، بل أذكر أن المحتمل أكثر من سواه، على ما يظهر، هو أن الآريين كانوا سكان إيران الأصليين، وأن المجاورين منهم للهند هم الذين دخلوها على دفعات متتابعة لا ريب، كما استولى أجدادهم على أوروبا من قبلهم، وأن تأثيرهم في دماء الشعوب المقهورة كان ضعيفًا إلى الغاية كما يبدو لي خلافًا للرأي السائد.
ولا أعتقد وجود شعب في الدنيا يستطيع أن يزعم اليوم أنه من سلالة الآريين، وسبب ذلك أنه افتُرِض ضِيق بلد الآريين الأول وأن ما فتحه الآريون من البلاد، ولا سيما الهند واسعٌ آهِلٌ بأمم كثيرة، فوقع ما أثبته البحث من أن شعبين متفاوتين في العدد إذا تقابلا لم يلبث أكثرهما عددًا أن يبتلع أقلَّهما عددًا ابتلاعًا يمَّحي به مثال هذا الأخير بعد بضعة أجيال، ووقع مثل ما حدث في مصر التي ليس القوم فيها من سلالة العرب الفاتحين، بل من سلالة مصريي عهد الفراعنة، كما تشهد بذلك سحناتهم المشابهة لسحنات قدماء المصريين التي خلَّدتها نقوش المعابد، وذلك مع اعتناق المصريين لدين العرب وانتحالهم لغة العرب وفق ما ذكرتُ في فصل سابق.
وجب أن يكون شأن الآريين في أوروبا قد تماثل هو وشأنهم في الهند، فيكونوا قد أدخلوا إلى الأمم المغلوبة حضارتهم ولغتهم، لا دمهم، وهم إذا لم يتواروا في الهند بسرعة كما توارى العرب في مصر فلأن نظام الطوائف الشديد حال دون امتزاجهم في الهند بالتورانيين المقهورين زمنًا طويلًا أو أنهم امتزجوا بهؤلاء شيئًا فشيئًا، ولكن هذا الامتزاج مهما كان بطؤه أدى إلى اختفاء الفاتحين بتعاقب القرون، فلم تجد في الهند أثرًا للآريين منذ زمن طويل، ونحن إذا سايرنا رخصة اللغة والعادة فقلنا إن الشعب الفلاني آريٌّ فإننا نقصد بذلك أن هذا الشعب من البِيض، وأنه يدنو من مثال الأوربيين من غير أن يساويَهم بياضًا.
ونحن، وإن لم يكن لدينا علمٌ قاطع بأصل الآريين، نعرف وجودهم من آثارهم الأدبية أو من آثار حفدتهم الذين دخلوا الهند فيما مضى، وفيما تقدم ألمعنا إلى حقيقة تلك الآثار، فبقِي علينا أن نبحث في أحوال واضعيها الاجتماعية ودرجة حضارتهم، وهذا ما نفعله كما يأتي:
(٤) الأُسرة عند الآريين
كانت الأسرة والعرق في العصر الويديِّ أسَاسَي المجتمع الآري، فلم يفرِّق بين الآريية أية زُمرة كالقبيلة أو العشيرة أو الحكومة، والعرق عند الآريين هو الذي كان يعلو الأُسرة، ولم يوجد شيء عندهم دون الأُسرة، فالفرد الآري لم يُعَدَّ مستقلًا عن أجداده ولا عن حفدته، فالوحدة، لدى الآريين، لم تقم على الفرد، بل قامت على الأب والأم والأبناء والأجداد وعلى الذراري التي تخرج من أصلاب هؤلاء فتحافظ على ذكراهم واسمهم بتعاقب الأجيال.
ولم تكن الديانة عند الآريين سوى عبادة العِرْق والأسرة، وكانت آلهة الآريين تختلط بالأجداد، وكان النكاح والولادة لديهم من الأعمال المقدسة، وكانوا يرون أن انتقال الحياة من الأب إلى الابن بواسطة الأم هو انتقال خَفِيٌّ لإله النار أغْنِي الذي هو أصل الإلقاح وسيد الكون ومبدعه من خلال أحشاء البشر لتخليد الوجود الأزليِّ.
ومن أعظم المصائب عند الآريين أن يتزوَّج الواحد منهم أجنبية أو أن يموت غيرَ ذي ولدٍ، فإفساد نقاوة العِرْق لدى الآريين كانت تتضمن قَطْعًا أبديًّا للنسب الإلهي الذي يصل الآريَّ بأغنِي، فيؤدي ذلك إلى تَصَامِّ هذا الإله عن صلوات ذلك الذي أوجب جريانه، وهو إله كل حياة نقية في عروق شعبه الذي يكون قد اتصل بعناصر غليظة جُبلت منها العروق الدنيا، فالزواج بالأجنبيات، إذن، هو عند الآريين، جناية يستحق مقترفوها اللعنة الدائمة.
وليس بأقل فظاعة من ذلك أن يموت الآري بلا عَقِب، فالولد، عند الآريين، يُخلِّد الأجداد بما يقوم به من عباداتهم، وبما يُقرِّب من القرابين إليهم، فإذا قطعت تلك العبادة وهذه القرابين تلاشت أرواح الآباء وفَنِيَت وزالت الأسرة إلى الأبد.
والبنات الآريات إذا ما تزوَّجْن انتحلن آلهة أُسَرِ أزواجهن فعبدْن أجدادهم، وصِرْن غير صالحات لتخليد آبائهن، فالرجل الآري الذي يموت غير ذي ابنٍ يَهْلِك من غير أن يُبعث فيما وراء القبر، ويجرُّ خلفه، بذلك، أجيالًا كثيرة من الأجداد إلى بوار لا يمكن تلافيه.
أغني هو رب الخلود، هو رب الغِنَى، فهو الذي يُنعم بالأسرة القوية، فيا إلهنا القادر! لا تؤاخذنا، نحن عبادك، بما تراه فينا من عدم العَقِب ومن العَطَل من الجمال وفقدان القرابين.
أيشمُلُنا العَطُوف أغني بأفضاله؟ أنأمل منه سَعَةً سرمدية؟! فيا أغني لسنا من أصلاب عِرق أجنبي ولا من عِرق كافر، فلا تسلُك غير السبيل المؤدية إلينا.
فلو لم يكن الإله أغني من دم كدمنا؛ لكان من العبث بحثه عن خضوعنا وقرابيننا، فله علينا حق المأوى فحنفظه له، فليدخل علينا هذا الإله القادر الظافر الجدير بأن يُسجد له.
والأسرة الموحدة المباركة الوافرة هي عند الآريين مصدر كل سعادة دنيوية وأبدية، فلا شيء لديهم يعدل مسارَّها، فهم لا يفتئون يتغنَّون بها، وهم إذا ما أرادوا تصوير مجد الآلهة أو يُمنها لم يتمثل لهم غير جمال الزوجة ووفائها وقوة الأب الكاهن وجلاله وظرف الأولاد وانقيادهم، فهم يرون في هذه الأمور كل نعيم، وتملأ هذه الأمور جوانحهم، فتجد فيها سر أغانيهم الدينية الكثيرة المفصلة حولها ومنها تُجتَلى أحوالُهم.
وكانت لحوم القرابين تُعَدُّ نافعة لتغذية الأجداد، وكان الإله أغني يحملها إليهم، ولم تكن النار لتحرقها إلا لتجعلها صالحة للتقديم إلى الآكلين من الطعام الإلهي، وكان عدم تقريب القرابين إلى الأجداد عند الآريين كترك المرء والديه يموتان جوعًا في زماننا، وما أكثر ما كانت الأسرة تأكل جالسة هي وعشيرتها من مائدة واحدة حول الموقِد الداخن.
تعالَي، أيتها الزوجة الحسناء، تعالي يا مُنية الآلهة، تعالي أيتها المرأة ذات القلب الحنون واللحظ العذب والصالحة لزوجها ولأنعامها والمُعَدَّة لولادة الأبطال!
إن امتياز المرأة هو مقاسمتها لزوجها شرف تقريب القربان.
ونُضِيف إلى ذلك الامتياز نَظْم المرأة للنشائد، ففي الرِّغْ ويدا أناشيد كثيرة مُمضاة بأسماء نساء.
ويظهر أن الاقتصار على زوجة واحدة كان مبدأ آريِّي ويدا على العموم، ونحن إذا ما نظرنا إلى الأمر بما نراه بعد ذلك وجدنا الأمراء والأغنياء منهم كانوا يتزوجون عدة زوجات، والذي حفز الآريين إلى انتحال مبدأ تعدد الزوجات هو احتياجهم المُلِحُّ إلى الأولاد الذكور، فالرجل الذي لا تلد له زوجته الأولى إلا إناثًا كان يتزوج امرأةً أخرى بحكم الضرورة.
وكان للفتاة أن تختار زوجها، وكان للفتاة أن ترفض تكليل المُبارز الغالب في المبارزة عند وجود غير خاطب واحد لها كما يحدث أحيانًا، وإن كانت موافقتها على المبارزة ضربة لازب، وفي كتب الويدا وصف دقيق للغرام الناشئ ولأُولَى العلاقات بين الفتيان والفتيات، والآريون، إذ لم يروا سعادة في الدنيا والآخرة خارج الأسرة، كانت تدفعهم أسباب دينية ومصالح دنيوية، أي كل ما يمكن أن يؤثِّر في الروح البشرية، إلى الاهتمام بكل ما يمتُّ إلى النكاح بصلة.
وكانت طقوس الزواج تتَّسِم بذلك الطابع الديني البادي في جميع شئون الأسرة، فتظهر رائعة بالصلوات والقرابين والنذور وتظهر ذات بهجة بسناء الأزياء وكثرة الحضور وضروب اللهو والطرب كما ورد في أنشودةٍ طويلة من أناشيد الرِّغْ ويدا، فالمرء حين يقرأ أنشودة «أعراس سورية» يُخيل إليه أنه يشاهد عيدًا قديمًا من أعياد الأسرة كما لو ذهب راجعًا ألوف السنين في مجرى الأجيال، ويلوح له أنه يسمع نصيحة الكاهن وما يُكلِّم به الفتى خطيبته.
ويُضاف إلى صفة الأب الرائعة في تقريب القرابين سلطانُه المطلق، فيطيعه أبناؤه إطاعتَه للأجداد، لا إطاعة العبيد للأسياد، فإذا ما طَعَنَ الأبوان في السن وعَجَزَا عن العمل غذَّاهما أبناؤهم ما يُغَذُّون الأجداد بالقرابين، ولم تقطع هذه الفروض المتقابلة قط، وكل ما كان الآري يَنْشُده هو أن يشيخ بين أولاده وحفدته، وما كان ليخاف الكبر ما بدأ يتذوَّق فيه شيئًا من طعم سعادة الأجداد الأبدية الهادئة.
(٥) نُظُم الآريين السياسية والاجتماعية
لم يوجد للنظم السياسية ولنظام الطوائف وللنظام الحكومي أثرٌ في أوائل العصر الويدي حينما كان الآريون يقيمون بسهول الهند الواسعة ذات الأنهار السبعة، وإن شئت فقل حينما كانوا يقيمون، قبل دخولهم وادي الغَنْج، بالمنطقة التي تُروى بمياه نهر السِّنْد وروافده.
وقد رأينا أن الأسرة هي أساس مجتمع الآريين، وأن هذا المجتمع كان يؤلَّف من العِرْق بأسره من غير وظائف وطبقاتٍ، فرَبُّ الأسرة كان يجمع في شخصه صفة المُقرِّب والزارع والمحارب، أي جميع الوظائف التي إذا ما فُصل بعضها عن بعض نشأ نظام الطوائف، ولم يكن للثراء الذي هو مصدر التفاوت الاجتماعي وجودٌ في ذلك الحين، أجَلْ، كان الأبطال يَبْدون زعماء وقت الجهاد، وكان أشجعهم يَسير رئيسَ أصحابه، ولكن أرضًا إذا ما استُولِيَ عليها فوجب إحياؤها بالفأس والنار لتَصلُح للزراعة بمشقة تَساوَى الجميع في القيام بذلك.
وكانت تنشأ قرية على الأرض الجديدة، وكانت المساكن الابتدائية المصنوعة من التراب وسوق الخيزران تُؤاوي الأُسَرَ إليها على انفصال بعد أن كان بعضها يختلط ببعضٍ في الحقول، ثم ودَّت كل أسرة أن تنال قطعة من الأرض فبدا مبدأ التقسيم، فلم يبقَ مُشاعًا بين الجميع سوى مراعي المواشي.
ولم يُسْفِر إنشاء الآريين للقرية وتقسيمهم للحقول والأنعام عن نشوء زمرة سياسية أو اجتماعية بعدُ؛ فالأسرة الكبيرة ظلت مدار الوحدة، فكان أرباب الأسرة الشيوخ يجتمعون لتوطيد النظام فيها وتقرير المسائل المهمة من غير أن ينتحلوا سلطانًا بالمعنى المعروف، ولم يلبث أن أقيم حصنٌ ثخينٌ مربع الزوايا على مكان مرتفع قريب من القرية مُشْرِف عليها؛ ليقيم به الزعيم المنصور الذي وسَّع الأرض فَنِيطَ به أمر المحافظة عليها.
ولم تجد رابطة بين قرية وقرية، ولم تجد سلطة عالية تفرض سيادتها على الزعماء، فمصادفات الحروب كانت تؤلف بين هؤلاء الزعماء فينقادون، أحيانًا، لقائد واحد من غير أن يَعنِيَ ذلك عَدَّهُ مَلِكًا، فالآريون لم يقولوا بمبدأ المَلَكية إلا بعد استقرارهم بوادي الغَنْج، وذلك مع عَدِّ الملك قائد حرب فقط كما جاء في الويدا، فلا ترى في العصر الويديِّ مَلِكًا ذا وزراء يجبي الضرائب بانتظام، ويملك شعبًا بأَسْرِهِ.
وإذا وُجِد للآريين مَلِك في الهند فبالاسم فقط، فما كانت القرية الآرية في الهند إلا جمهوريةً صغيرةً متماسكة منظمة، وما كان الزعيم المقيم بحصنه والمعروف بالراجه إلا سيدًا ذا سلطان، فهذا هو النظام السياسي الذي كُتب له الفوز في الهند بتعاقب الأجيال، وهذا هو النظام الثابت الأساس الذي احترمه الفاتحون على الدوام مهما كان جنسهم.
ومن ثم ترى بذور دستور لا يزال باقيًا منذ عدة قرون في مجتمع ناقص التكوين، ومن ثمَّ ترى بذور نظام الطوائف الذي نشأ مُذبذبًا مُبهمًا حين حاولت الطبقات أن تتميز في البداءة فاشتدَّ أمره بعدئذ بفعل المؤثرات الإثنولوجية فأدى إلى حفر هُوًى بين العروق يتعذر اقتحامها.
ويمكنك أن تبصر في الويدا مسافة ضيقة بين الكهَّان والمحاربين لم تُعَتِّم أن اتسعت لأسباب سندرسها فيما يأتي: لم يَقِف توزيع الأعمال عند ذلك الحد، فبينما كان المُقَرِّب يقضي أوقاته في القيام بالطقوس المقدسة ووضع النشائد، وبينما كان المحارب يقضي أوقاته في الغارات والرياضات العنيفة كان من الصواب أن يسأل: ماذا يكون مصير الحقول وأمر استغلالها إذا لم يوجد من يحرثها؟ فلذلك كان لا بد من ظهور طبقة أخرى: طبقة الزراع.
بدت في إحدى أناشيد الرِّغْ ويدا الأخيرة طبقاتٌ ثلاثٌ مختلفة دُعيت بالبراهمة والأكشترية والويشية فدلَّت بعد زمن على طوائف حقيقية ذات مدلولات مطلقة عميقة.
ابتهلَ إلى إندرا الكِبار والصغار وأبناء الطبقة المتوسطة والسائرُ والقاعد والحارسُ لمنزله والمحاربُ وجميع طالبي الفيض والبركة.
وتمَّ ظهور الطائفة الرابعة، أي طائفة الشودرا بعد حين، فجُعلت شاملة للشعوب المغلوبة، وذلك عندما دخلت دائرة الحضارة الآرية في آخر الأمر، وكلما وقع فتحٌ لم يعترف بسيادة الأجنبي سكان البلاد الأصليون المجاهدون جهرًا أو المهاجرون إلى الجبال للمحافظة على استقلالهم الفطري.
من أجل هؤلاء أَوْجَدَ الغالبون طائفة رابعة، فتحولت الطبقات التي كان أمرُها مبهمًا غير واضح، فكان بعضها يشترك مع بعض في الولائم وكان بعضها يتصل مع بعض بِصِلات النسب، إلى طوائفَ مختلفةٍ أشد الاختلاف.
وأهم تلك التقسيمات هو الذي حدث قبل غيره ففُرِّق به بين الكهنة والمحاربين، فلم يلبث البراهمة الذين هم وسائط بين الناس والآلهة أن صاروا يزيدون مزاعمهم فَعَدُّوا أنفسهم من العالين وحملوا غيرهم على اعتقاد ذلك.
وما بين المحاربين والزراع من فرْق لم يُعَتِّم أن بدا واضحًا، وقد قام على اختلاف في الثراء أكثر مما في الوظائف.
ولم يكن بين الطبقات حاجز في ذلك الحين، فالطبقات كان بعضها يختلط ببعض؛ لتقريب القرابين، وإقامة الولائم، وما إلى ذلك من الأمور التي لا تكون عند وجود طوائف حقيقية.
نضرع إليك يا سوما أن تَهَبَ لنا الغنى بالذهب والخيل والبقر والناس.
وكان الأولاد، على العموم، يرثون أبويهم في الأعيان، وفي الأناشيد المقدسة ذِكرٌ غالب لعادة إيصاء الإنسان بثروته لأبنائه.
ذلك هو مجتمع آريي العصر الويدي الذي كانت تنضج فيه، مع القرون، بذور النُّظُم التي ثبت أمرها في الهند فيما بعد فظَلَّت فيها سائدةً لا تبديل لها.
(٦) الحياة عند الآريين
يمكننا أن نتمثل الآريين في أدق شئون حياتهم اليومية حينما ندرس كتب الويدا: كان شعراؤهم يبحثون مختارين عن صورهم في الأشياء المألوفة البسيطة التي تبدو لنا غليظة لاختيارها بوحي ديني رفيع كوحيهم، بَيْدَ أن بساطة الموضوعات هذه التي تجد مثلها في قصائد أكثر الشعراء الفطريين لا تحط من قدر انسجام أناشيدهم، فالشاعر الآري كان يرفع شأن أكثر الأفكار ابتذالًا وأن يستخرج من النظائر العادية أروع النتائج، والعرق الآري إذ كان ذا خيال مُتَّقِد مولعًا بتساوق الكلمات كان يترنَّح من أناشيده التي انتهى إلينا منها عدد كبير وضعه مئات الأدباء، ومن هذه الأناشيد نستطيع أن نُقدِّر غنى الأدب السنسكرتي في العصر الويدي.
ويظهر أن فن الشعر هو الفن الوحيد الذي نجح فيه الآريون، فكل شيء يدل على أنهم كانوا يجهلون فن العمارة، وقد تتخيل لهم، مع ذلك، بعض الآلات الموسيقية الابتدائية، وأنهم كانوا يصنعون من المعادن والخشب بعض الأدوات صنعًا فنيًّا وإن لم يحدثونا عن الصور الملوَّنة أو المنقوشة.
وكانت نُسُجهم تصنع من الصوف أو الكتان مع خيوط من الذهب في بعض الأحيان، والنساء هن اللائي كن يغزلن والعمال هم الذين كانوا يحبكون بالمكُّوك.
وكان الآريون ينتعلون أحذية فيربطونها بكعابهم كما تدل عليه الآية التي حكت عن الإله إندرا فقالت إنه دائم السير والحركة «فلا يَفُكُّ حذاءه أبدًا.»
وكانت الحُصُن تُقرن بالمراكب وتُساق بالأعِنَّة واللُّجُم والسياط.
وكانت الزراعة والحرب وما إليهما من المهن أهم ما يُعنَى به الآريون.
والآريون إذ سكنوا وادي السِّنْد غير ذي الزرع في بعض الأحيان بسبب الجفاف علموا كيف يَرْقُبون الفصول ويَرْصُدون قدوم الأمطار ذات البركات، فكانوا يَعُدُّون سُحُب الرياح الموسمية أبقارًا سماوية ترعى في سهول الفلك ويسوسها راعٍ إلهي فَتُدِرُّ من ثُدِيِّها الثِّقال السعادة والرخاء على الأرض.
وكان الآريون يثيرون الأرض بمحاريث يجرها بقر، ويعودون إلى منازلهم في فصل الرياح الموسمية على مراكب يجرُّها بقر.
وكانت المواشي من أهم منابع الثروة عند الآريين، وكان الأريون يُمجِّدون البقرة التي تُدِرُّ باللبن المغذي فيُعْنَوْن بتربيتها ويحترمونها ويكادون يعبدونها.
وكان اللبن والسمن أساسَي الغذاء عند الآريين، وكان الآريون يريقون منهما للآلهة، وكان الموقد يبلَّل بالسمن الذائب فيزيد النار سعيرًا والإله أغنِي نورًا، وفي الويدا مدح للعسل في كل زمن، فلتُضَف الفطائر والحلاوى إلى تلك الأغذية المفضلة التي كانت تُقَدَّم إلى الآلهة.
وكان الآريون يأكلون اللحم أيضًا، وكانوا ماهرين في الصيد فيُصْمون الفرائس بالسهام أو يصطادونها بالحبائل والأشراك، وكانوا يصطادون السمك بالشِّبَاك.
وكان الآريون على علم من الملاحة، فلم يجرءوا في البداءة على غير السير في أنهر سبتا سندهو التي بدت لهم طرقًا طبيعية للمواصلات، ثم اتسع نطاق تجارتهم فصارت سفنهم تجري في البحر حاملةً سلعًا على ألا تبعد من الشواطئ المجاورة لمَصَابِّ نهر السِّنْد.
وكان للآريين علمٌ بالطب، غير أن ثقتهم بالأدوية التي يقول بها الطب كانت دون ثقتهم بالرقى والعزائم التي كان الكهنة يزعمون شفاء المرضى بها.
وكلما سار الآريون في ميدان الحضارة اتسع نِطاق توزيع الأعمال عندهم، ففي أناشيد الدور الأخير تبصر زيادة المهن، فتجد لكل عمل عاملًا، فترى فيها وصفًا حتى لحلَّاق القرية.
توجَّه، أيها الفقر ذو العين الموعوكة والسير الثقيل، إلى الجبل السماوي حيث تجد مُحسنًا مُنعمًا، فبأمواج السحاب ندفعك.
يضر الفقر المدحور من هذا العالم ومن العالم الآخر بالبذور، فيا برهس بتي أبعِد هذا الشر.
الإحسان الإلهي الناصر جزء من القربان.
الرجل المحسن هو الرجل الطيب نحو البائس الجائع، فإذا دخل بيته وجد سعادة في القربان ووجد أصحابًا بين الآخرين.
يصل المُقامر إلى مجلس المَيْسِر فيقول في نفسه متحمسًا: «سأكسب!» فيستحوذ النَّرْدُ على روحه فيُسلِّم إليه كل ما يملك.
والنرد، كسائس الفيل المجهز بكُلَّاب يضغطه به، يُلهب المقامر بالرغبة والحسرة، ويأتي بالنصر، ويوزع الغنيمة، ويوجب سعادة الفتيان، ويورثهم اليأس، ويغويهم بسِتْرٍ من عسل.
والنَّرْد إذ يتدحرج على الأرض ويُهَزُّ في الهواء يبدو عاطلًا من الذُّرْعان فيهيمن على من لهم ذُرْعان، والنرد فَحْمٌ سماوي يسقط على الأرض، فيجمد القلوب ويشعلها.
زوجة المُقامر تحزن حين تُهجر، وأم المقامر تغتمُّ حين تجهل مصير ابنها، والمقامر يرتجف حين يتعقَّبه الدائن فيعنُّ له أن يسرق فلا يدخل بيته إلا ليلًا.
ولم تكن ملاهي الآريين كلها ذات خطر، فبينها ما كان يسوده الطُّهر، كتمثيل اللُّعَب على المسارح الخشبية التي أشير إليها في الويدا.
هذا هو زمن هزِّ الأَرني وولادة أغني، فجِئْ بملكة الشعب «أرني» ولنعمل على إنتاج ابنها.
فالإله الذي بيده الخير هو في قطعتي الأرني، فهو فيهما كالجنين في بطن أمه.
اذهب تجد الأرض الأم الكريمة الرءوم الفتاة الواسعة العطوف، كالبساط، على من قَدَّس للآلهة بعطاياه.
فيا أيتها الأرض! انهضي ولا تؤذي عظامه، وكوني سلامًا عليه رءوفًا به، ويا أيتها الأرض زَمِّلِيه كما تُزَمِّل الأم طفلها بذيل ثوبها.
فلتنهض الأرض له، ولأجمعْ هذا التراب لكيلا تؤذى عظامه، وليحرس الأجداد قبره، وليحفر يما هنا منزله.
ألا إن الأيام عندي كالسهام التي تذهب بالريش.
فأين تجد ما هو أشد وقعًا على النفس من سرعة الحياة التي تذهب بها الأيام كما تذهب السهام بالأرياش؟
(٧) مبادئ الآريين اللاهوتية والدينية
مبادئ الآريين الدينية على شيء من الإبهام والغموض، فلم تكن أمور أي إله مُعَيَّنةً تعيينًا قاطعًا عندهم، فكان للمشاعر والخيالات الشخصية شأن كبير في تكييفها، وليس قليلًا ما تجده من ذلك في الويدا، فمن ينظر في الرِّغْ ويدا يعلم طورًا بعد طور أن ديانة الآريين كانت ديانة توحيد خالص وديانة وحدة وجود راقية وديانة شرك غليظ.
حقًّا إن قواعد المنطق التي أثبتت التربية أمرها في أدمغتنا الأوربية بتعاقُب القرون جعلت لتلك الكلمات المجرَّدة فيها معاني صريحة محكمة لا يوفَّق بينها مع فصلها بهُوًى عميقة بين ما تدل عليه من المعتقدات، بَيْدَ أنه ليس لهذه المبادئ المجردة معانٍ مقررةٌ في أدمغة الفطريين التي لا يكون فيها للأفكار والعقائد واللغات غير معان مذبذبة متقلبة على الدوام، ولم يكن للتناقض مكان في دماغ الآري ذي الفكر المتقلب بسرعةٍ تقلُّبَ السحب التي كان يراها في الفلك، فالإله الذي يرد ذكره في الأنشودة يبدو الأهم ما حُدِّث عنه، فلم تكد تقلِّب الصفحة حتى تجد إلهًا آخر يغلبه، والإنسان يرى أحيانًا أن الشعراء الذين وضعوا الأناشيد أرادوا الجدل بذلك، مع أنهم — كأكثر الشعراء — لم يكترثوا لموضوعات الأناشيد إلا قليلًا لا ريب، فكانوا يُضحُّون مختارين بالرأي في سبيل خيال أو وصف.
إذن، تبدو الأناشيد الآرية متموِّجةً بين أشد المبادئ الدينية اختلافًا، فتجد فيها عبادة قُوى الطبيعة، وتجد فيها وحدة الوجود، وتجد فيها الشرك، وتجد فيها التوحيد.
ولا شيء أصعب من وضع تقسيم لآلهة الآريين ووضع سلسلة لها.
وأكثر الآلهة أو الرموز المذبذبة ذات الصفات والمقامات غير المستقرة على الدوام، فتجد الأساطير الويدية مملوءة بها، هي ما يأتي: إله النار أغني والشراب المختمر سوما الذي يحثه، فأغني هو موجب الآلهة وهو موجب العوالم وهو موجب الحياة الكونية، وسوما يخلِّد الآلهة ويهب للناس القوة والنشاط، وسوما أوجب مثله، السماء والأرض، إندرا ووِشنو، وسوما حين اتَّحَد بأغني صَوَّر السماء والكواكب.
وملك السماء إندرا هو من أكثر الآلهة ذكرًا لدى الآريين، فهذا الإله محارب واقف على مركبة حربٍ كأنه زعيم عشيرة آرية.
ويجتمع حول الإله إندرا آلهة لا يحصيها عَدٌّ فتقاسمه سلطانه وتغلبه في الغالب، ومنها الآلهة التي تُعرف بالماروت، أي آلهة الزوابع والأعاصير والبروق وتوزيع الأمطار، والتي هي أولاد رودرا الذي هو أجمل إلهٍ والذي يرسل الصواعق ويحمي الأنعام ويشفي المرضى، ومن تلك الآلهة الذي يُعرف ببرهسبتي الذي ينظِّم الكون، ومنها الإله ورونا الذي ينظر إلى أعمال الناس والذي هو ملك السماء كالإله إندرا، والذي يصوره بعض الأناشيد خاضعًا للإله إندرا هذا، ويصوره بعضها سائدًا له، ويصوره بعض آخر منها مُتَّحدًا به.
ثم يجيء الإله سُورْيَه، الشمس، وِشنو الذي يجوب الفضاء بثلاث خطوات، والذي قفز ذات يوم إلى الصف الأول من الآلهة بعد أن كان ذِكْره خاملًا في الويدا.
ويضاف إلى تلك الآلهة، الكثيرة التي لا فائدة من عدِّها جميعها، أشخاص مجردة كبوراندهي «الرخاء» وأراماتي «الإحسان» ومرتيو «الموت»، إلخ.
وتَمَثُّل الآريين للآلهة يختلف عن تمثل الأوربي لها اختلافًا عظيمًا، فلا نرى علمًا يستطيع أن يحيي أفكارًا ميتة عُبِّر عنها بلغة شعب ميت، فما في لغاتنا العصرية من كلمات بينة محكمة لا يُعْرَب به عن آراء أولئك.
من المستحيل أن تَغْلِب الأسُرَا وجميع الآلهة، حتى الإله إندرا، أخي.
ومن ذلك أيضًا ما ورد في رواية شكن تلا التي نظمها الشاعر كالي داسا في القرن السادس من الميلاد، على ما يُحتمل، من أن «ملك الآلهة» إندرا أرسل رسولًا إلى الملك دُشاينتا، الذي هو رجل، ليرجوَ منه أن يعينه على قهر العفاريت الذين «يشعر بعجزه عن دحرهم»، فوافق ذلك الملك الرجل على ما طُلب منه فانتصر على أولئك العفاريت الذين لم يَسْطِع «ملك الآلهة» أن يغلبهم.
- (١)
عبادة قوى الطبيعة.
- (٢)
تشخُّص هذه القوى بأسماء الآلهة.
- (٣)
اعتقاد خلود الروح.
- (٤)
عبادة الأجداد.
- (٥)
الميل إلى إخضاع الطبيعة والناس والآلهة لإله واحد أقوى منها، وهو الإله إندرا على العموم.
- (٦)
هَيُولِيَّة الدين الثابتة التي ينحصر بها أمر الدين في تبادل الإنسان والآلهة للهِبَات، وذلك بأن يقرِّب الإنسان قرابينه، ويقدم فواكهه، وأن تَمنح الآلهةُ الكُثْرَ واليُسْرَ والمطر المبارك والصحة والكنوز.
والآن نبحث في هذه المسائل مستندين إلى بعض النصوص: يملأ تأْلِيهُ قُوَى الطبيعة وعبادتها الرِّغْ ويدا.
ولكن القوم في وادي السِّنْد حيث يكون الحر والجفاف هائلَين كانوا يضرعون ببليغ القول، في الغالب، إلى إله الريح وايو وإلى أعوانه ورسله الماروت وإلى البقرات السماوية التي هي سحب تحمل المطر.
يجيء بالشمس جيادها الحُمْر، فيصل الفجر العظيم الجميل الذي يُنعش الجميع بضيائه، فتأتي الإلاهة على مركبة فخمة فتوقظ الإنسان ليقوم بعمل نافع.
كيف تطلع الشمس التي لا دليل لها وكيف تغيب الشمس التي لا رابط لها من غير أن تسقط؟ ومن يعرف القدرة التي تمسكها؟ هي صاحبة ريتا، هي حافظة القبة الخضراء وعمادها.
حينما أرى هذا الكائن المنير في قلبي تدوي أذناي وتختلج عيناي وتتيه نفسي في ارتياب، فماذا أقول؟ وفيم أفكر؟
لتذهب عين الميت إلى الشمس ولتذهب روحه إلى وايو، ولتَرُدَّ إلى السماء والأرض ما أنت مدين به لهما، ولتُعْطِ الماء والنبات ما في بدنك من الأجزاء التي لهما.
وفي الكيان جزء خالد، وهذا الجزء هو ما يجب أن تدفئه بأشعتك وتلهبه بنيرانك يا أغني، وانقل، يا جاتا ويدا، ذلك الموجودَ السعيدَ، الذي بَرَأْتَه، إلى عالم الأتقياء الأبرار.
وروحُك حين تزور هنالك بقعة الموت ندعوها إلى منزلك هنا، إلى الحياة.
وروحك حين تزور هنالك السماء والأرض ندعوها إلى منزلك هنا، إلى الحياة.
وروحك حين تزور هنالك الشمس والفجر ندعوها إلى منزلك هنا، إلى الحياة. إلخ.
يا أغني! تعالَ مع هؤلاء الأجداد القدماء الأتقياء العظماء، تعال مع ألوف عباد الآلهة هؤلاء الذين يركبون وإياها مركبًا واحدًا، ويشربون هم والإله إندرا الشراب، ويأكلون وإياه القربان، ويذهبون للجلوس بالقرب من الدار.
أن الروح الإلهية التي تسير في السماء تُسمَّى إندرا ومترا وورونا وأغني، فالحكماء هم الذين يُطلقون على الموجود الواحد عدة أسماء فيقولون هذا أغني «النار» ويما «الموت»، إلخ.
ذلك الذي هو أبونا، ذلك الذي هو سبب كل كائن، ذلك الذي هو محيط بكل موجود عليمٌ بكل عالم، فالإله الواحد هو مُوجِب الآلهة الأخرى، وكل ما في الكون يُقر بسلطانه.
تعلمون خالق كل شيء، هو ذلك الذي ترونه أمامكم، ولكن كل شيء عندنا مستورٌ بغطاء من ثلج، فأحكامنا غامضةٌ، والناس يَمضون مقرِّبين للقرابين ومرتِّلين للأناشيد.
مَن يدري، مَن يقول من أين أتى هذا الكون؟ فالآلهة ظهرت بعد ظهوره، فمن يستطيع أن يخبرنا بمصدره؟
من أين أتى هذا الكون؟ هل هو من صنع خالق أم لا؟ يعلم ذلك من ينظر من فوق الفلك، وقد لا يعلم.
ويظهر أن الجمهور كان لا يبالي كثيرًا بمثل هذه الأفكار التي كانت تُساور بعض المفكرين، فالذي كان يُهم الجمهور هو أن يتساوم هو والآلهة تساومًا عمليًّا فيقدم إليها القرابين والأدعية والنشائد في مقابل أُسَرٍ عزيزة وكنوز وافرة وقطاع كبيرة وانتصارات مؤزَّرَة، ففي الويدا غير شاهد على ذلك، والشواهد فيها من نمط واحد، ففيها أن أي إله يُضرع إليه يُتملَّق بوعده بسيول من شراب السوما وأنهار من عسل ولبن وبالصلوات والأدعية والتسابيح، وبتقريب القرابين أحيانًا، على أن يحمي الأسر ويقي من الأمراض وينزل على الحقول المطر ويجعل البقر كثيرة النسل والدَّرِّ.
وقلما كان يُخلط بتلك الأمور الغليظة الصادرة عن الحرص والطمع روح التوبة والندم على ما فرط من الذنوب والرغبة في إصلاح الحال.
يا بتريس! لا تؤاخذنا بذنوبنا، فهي نتيجة ضعف طبيعتنا البشرية.
وما عند الآريين من مبادئ الأخلاق فقليل النمو قليل الصرامة، فيكاد ينحصر ما تأمر به الويدا في إيتاء الصدقات والرِّفق بالحيوانات والوفاء للأصدقاء.
نختم بحثنا المجمل الذي رسمنا خطوطه بإخلاص فاعتمدنا فيه على الويدا، فحاولنا فيه إظهار حضارة الآريين وشأنهم، فنقول، من غير أن نعترف لهم بالصفات العالية التي أريد وصفهم بها حينما كُشف أمرهم ولا بما عُزي إليهم من الشأن في تكوين العروق، ولا بما قُصد نسبته إليهم من كل أمر رفيع في الغرب: إنك لا تبصر حضارة تساوت هي وحضارتهم في النشوء فاستطاعت أن تتخلص مثها من بقايا الهمجية الأولى، وإنك إذا قايست بين الشعب الآري والشعوب اليهودي الذي مثَّل دورًا كبيرًا في العالم وجدت ذلك أعلى من هذا، ففي تاريخ بني إسرائيل ترى ما لا ترى له أثرًا في كتب الآريين من الأكاذيب وكفران النعمة والجبن والنذالة والتجبر والبهيمية وسفك الدماء والخرافية الضارية.
وغيرُ ذلك يكون تقديرنا عند المقايسة بين ذَيْنِكَ العِرْقين في الأسلوب الشعري، فليس الرِّغْ ويدا بأجمل من سفر أيوب.
ونعترف عند النظر إلى المناحي الفلسفية المدونة بصورة استثنائية في كتابَي كلا العرقين بأن الشوق إلى معرفة الحقيقة والمجهول وغير المحدود وبأن مشاعر البؤس البشري وبأن وَهْيَ حُطام الدنيا أظهرُ بيانًا وأكثر نصًّا في التوراة مما في الويدا.
وإذا نظرت إلى الأمر من ناحية الحياة وجدت، على العموم، أن التوراة أكثر من الويدا تشاؤمًا، وتبدو الويدا أكثر من التوراة تفاؤلًا، فالآري متفائل بطبيعته، ويَسْهُل أن تجده راضيًا بما قُسم له، فإذا علمت أن الآريين أرباب الأسر يغتبطون بأبنائهم ومواشيهم ورياحهم الموسمية فلا يطلبون من السماء الصافية أكثر من هذه الأشياء صَعُبَ عليك أن تُصدِّق أنهم أجدادنا، نحن الغربيين ذوي الحاجات التي لا تقف عند حد فيصعُب قضاؤها، نحن الغربيين الذين لا نعيش إلا بين المآرب الأزلية والرغائب الأبدية.