حضارة العصر الهندي الإسلامي
(١) تأثير المسلمين في الهند: العروق الإسلامية في الهند
يبدأ العصر الإسلامي في الهند في القرن الحادي عشر وينتهي من الناحية السياسية في القرن الثامن عشر من الميلاد، وهذا العصر عُرِف أحسنَ مما عُرف أيُّ عصر جاء قبله بفضل مؤرخي المسلمين.
والهند خضعت في القرون السبعة التي دام فيها سلطان المسلمين لفاتحين من العرب والأفغان والترك والمغول القائلين جميعُهم بدين محمد وخلفائه ونُظُمهم.
وكان لهؤلاء الفاتحين الأثر البالغ في لغة الهند ومعتقداتها وفنونها، ولا يزال هذا الأثر باديًا، فتجد في الهند خمسين مليونًا من الهندوس يعملون بشريعة القرآن، وتجد الناس يتكلمون في قسم كبير منها بلغة مشتقة من لغة السادة السابقين.
وفي فصل سابق درستُ تاريخ الهند فذكرت مؤكِّدًا تأثير المسلمين العظيم في جميع البقاع التي خفقتْ فوقها رايتهم؛ ففي مصر، مثلًا، قاموا بعمل أخفق الإغريق والرومان في القيام بمثله، أي إنهم حوَّلوا لغة شعب كانت له أقدم حضارات العالم وحوَّلوا دينه وفنونه، فلم ينشب أبناء الفراعنة، حين اتصلوا بالمسلمين، أن نسوا ماضيهم الذي بذل العلم الحديث جهودًا كبيرة لبعثه.
والتحول الذي تم في جزء من الهند بفعل المسلمين هو دون التحول الذي وقع في مصر، ففي الهند كان للمغلوبين من الأثر في الغالبين ما لم يحدث مثله في أي بلد خضع لأتباع محمد، فبعد أن كان للحضارة الجديدة التي أدخلها الأفغان والترك والمغول إلى وادي السِّنْد ووادي الغَنْج فعلٌ عظيم في الحضارة القديمة التي كانت فيهما لم تلبث أن تأثرت بها فأسفر هذا عن ظهور حضارة ثالثة مشتملة على عناصر تَيْنِكَ الحضارتين بالتساوي تقريبًا، وتُسمَّى هذه الحضارة الثالثة بالحضارة الهندية الإسلامية.
ولم يخلُ العصر الهندي الإسلامي من مؤرخين، ولو لم ينتهِ إلينا من هذا العصر مخطوطات كافية لتنوُّره لأمكننا ذلك من البحث في المباني الكثيرة التي شِيدت فيه فدلت على اختلاف المؤثرات الإسلامية باختلاف الأقطار، فمن هذه المباني نعلم أين كان أثر المسلمين البالغ وأين تغلبت عليه العبقرية الهندوسية، وما تجلى في المعابد والقصور من ضروب الفنون يدلنا، كذلك، على مصدر الأُسر المالكة التي كان لها السلطان على الهند؛ لما تحمله هذه المباني من الطابع الفني الخاصِّ بكل واحدة منها، ويمكن القارئ أن يتبين تاريخ المسلمين في الهند من الصور التي نشرناها في هذا الكتاب عن فنِّ عمارتهم.
ولم يكن المسلمون الذين استولوا على الهند غير مرة في عهد محمود الغزنوي وتيمور لنك وبابَر وغيرهم من عِرق واحد، فغزاة المسلمين الأولون كانوا من الأفغان والترك، وغزاة المسلمين الآخرون كانوا من المغول مع شيء من التمازج، وأما العرب الذين هم أتباع محمد السابقين فلم يقيموا مستعمراتٍ مهمة في الهند وإن كانوا يجيئون إليها، في الغالب، من بلادهم مجاوزين بحر عمان للتجارة فينشئون المستودعات، ويستولون عَنْوَةً على أملاك في السواحل الغربية نحو مصب نهر السِّنْد.
وكان المغول فاتحين لجميع آسيا تقريبًا ومهدِّدين لأوروبا حينما وصلوا إلى الهند، ولم تؤسَّس دولة واسعة بسرعة كالتي أسسوها، وهؤلاء القوم بينما كانوا يرعون مواشيهم في مراعي سيبرية العظيمة المملة استحوذت عليهم روح حرص غريبة طائشة فانقضُّوا بغتة على العالم لفتحه سائرين وراء خيال يختلف عن مطامع الجمهورية الرومانية المنظمة الفاترة وحميَّة العرب الدينية، ذلك الخيال القائم على الفتح العالمي للتَّلَهِّي بالفتح نفسه، وإن شئت فقل: لإذلال الأمم أمام رايتهم، ولحملها على التسبيح بحمدهم، ولوضع جبروت رئيسهم الأعلى الخان الأكبر فوق البشر.
كان دين المغول الفطري قائمًا على عبادة قوى الطبيعة، شأن جميع الديانات الفطرية تقريبًا، فكانوا يعبدون الشمس والأرض والخيل، ثم انتحلوا أكثر معتقدات الأمم المغلوبة بالتتابع مضيفين هذه الآلهة بعضها إلى بعض، وإذا عُدُّوا من فاتحي الهند المسلمين فلأنهم كانوا حين دخلوها متصلين، منذ زمن طويل، بأمم مسلمة كالفرس والأفغان والترك، ولأنهم كانوا مشبعين من حضارة العرب المهيمنة على غرب آسيا.
ومن الحظ الحسن أن لقي تسامحهم الكبير تسامحَ الهندوس فبُذلت جهود في أيام دولتهم لدى الغالبين والمغلوبين لصَهْر مختلف المعتقدات بعضها في بعض، وإخراج ديانة واحدة منها، فهذا ما سعى إليه مؤسس مذهب السِّك المصلح نَانَك، وهذا ما سعى إليه الملك أكبر وآخرون، فعلى ما حبطت به تلك الجهود فلم يتفق للهند دين واحد ظل بعض أديان الهند يمارَس بجانب بعض من غير تنازع.
وسنرى، حين البحث في أديان الهند الحديثة، ما هو أمر الإسلام فيها وما هي التطورات التي اتفقت له، وهو دين التوحيد؛ ليلائم روح الإشراك في الشعوب التي اعتنقته، والآن نقتصر على البحث في المؤثرات العرقية التي نجمت عن المغازي الإسلامية.
من الشطط أن يقال إن تلك الغزوات أسفرت عن ظهور عِرق جديد، فكان الغزاة من القِلَّة ما لا يتعذر معه أن يصهروا في جموع الأمم المغلوبة، والغزاة أولئك كانوا مولَّدين مع ذلك.
ويجب أن يُفَرَّق في زمر المسلمين الذين يبلغ عددهم في الهند نحو خمسين مليونًا بين حفدة الأسر الإسلامية وحفدة الهندوس الذين اعتنقوا الإسلام.
فأما حفدة الأسر الإسلامية، وهم الأقلون، فيشابهون المثال التركي، ويتألف منهم قوم طائشون بائسون أسيفون على الزمن الذي كانوا فيه سادة البلاد منتظرون الزمن الذي يتم فيه النصر لشريعة النبي.
وأما الهندوس المسلمون فأكثر عددًا، ويختلفون قليلًا عن إخوانهم البراهمة مثالًا وأخلاقًا.
ونُلخِّص ما تقدم بقولنا: إن أثر المسلمين العرقي في الهند ضعيفٌ وأثرهم الأدبي عظيم، وأكثر ما يبدو هذا الأثر الأدبي في المباني والمصنوعات الفنية، وله عملٌ كبير في الدين واللغة، كما يظهر ذلك من الفصول التي ندرس فيها مباني الهند ودياناتها ولغاتها فضلًا عن هذا الفصل.
(٢) الحضارة الإسلامية في الهند
أجملنا في فصلنا عن تاريخ الهند أهمَّ حوادث الممالك الإسلامية في الهند، ولنذكرْ أن دولة المغول، التي تتكلم عنها الكتب على العموم، لم تَدُمْ سوى مائتي سنة من السنوات السبعمائة التي كان السلطان فيها للمسلمين، ففي بعض ذَيْنِكَ القرنين ظل كثير من الممالك الإسلامية قائمًا في الدَّكَن، ولم تُجمَع الهند بأسرها تحت راية ملك مغولي واحد إلا قُبَيْلَ سقوط الدولة المغولية.
ويتضمن وصفنا لتاريخ الحضارة الإسلامية في الهند بعثًا لتاريخ حضارة العرب التي خصَّصنا سِفْرًا كبيرًا لدراستها، فمسلمو الهند لم يُدْخِلوا إلى الهند، بالحقيقة، سوى حضارة العرب بعد أن تحوَّلت بعض التحول في بلاد فارس بفعل الأزمنة والأمكنة والاختلاط بالشعوب المغلوبة، وذلك على درجات مختلفة ومع دوامها على التحول.
وأدخل المسلمون معهم إلى الهند نظم الدول العربية القديمة السياسية أيضًا، وكانت هذه النظم السياسية تحمل في تضاعيفها المحاسن التي أدَّت إلى ازدهار الدول العربية فيما مضى والمساوئ التي أوجبت انحطاطها.
حقًّا، لقد بدت جميع الدول الإسلامية، في الهند وغيرها، مطلقة على الدوام جامعة لجميع السلطات الدينية والعسكرية والمدنية في أيدي ولاة لا رقيب لهم، فكانوا يسعون في إعلان استقلالهم وتأسيس ممالك لهم من فورهم، وحقًّا أن الممالك العظمى المطلقة التي تكون جميع السلطات فيها قبضة رجل واحد تلائم الشعوب المتبربرة لما يؤدي ذلك إلى الفتح، فهذه الممالك لا تدوم إلا إذا ساسها رجال عظام، والرجال العظام إذ نَدَر ظهورهم وقع ما تعلم من انهيار الدول الآسيوية الكبرى في وقت قصير، وذلك ما وقع لدولة المغول التي ازدهرت أيما ازدهارٍ عندما كان على رأسها رجالٌ كبار فسقطت عندما عَطِلت من مثلهم.
والمسلمون، حين أدخلوا إلى الهند حضارة العرب، أدخلوا معها رغبة كبيرة في العلوم والآداب والفنون، وما شادوه في عواصمهم: أحمد آباد وغور ودهلي وبيجابور، إلخ. من المباني ينطق بعظيم حمايتهم للفنون، وما انتهى إلينا من تراجم ملوك المسلمين يثبت لنا أن هؤلاء الملوك كانوا يشجعون الآداب والعلوم أيضًا، وأنهم كانوا يتعهدونها بأنفسهم، ليس ذلك في كبرى الممالك وحدها، بل في صغراها أيضًا، ومن ذلك أن ملك مملكة غولكندا الصغرى فيروز شاه كان يزاول علم النبات والهندسة والشعر ولا يحيط نفسه بغير العلماء والشعراء والمؤرخين مع أشاغيله في الحروب ضد دولة بيجانغر.
وإذ لم نستطع أن نرسم تاريخ مختلف الحضارات الإسلامية في الهند، نقتصر على وصف حضارة المغول التي هي أكثر تلك الحضارات ازدهارًا، فما جاء في أخبار مؤرخيهم وأنباء الأوربيين الذين زاروا الهند في عصرهم يساعدنا على الحكم الصحيح في إدارتهم ونظام دولتهم، وما أبقوه من المباني يساعدنا على الحكم الصحيح في الفنون أيام سلطانهم.
وداومت دولة المغول على الازدهار في عهد خلفائه: جهانكير وشاهجهان وأورنغ زيب، بَيْدَ أن ما صدر عن أورنغ زيب هذا من عدم التسامح وما شَهَره على ممالك الدَّكَن الإسلامية من الحروب أعدَّ دولة المغول للانهيار، فلم تلبث الهند عند وفاته سنة ١٧٠٧ أن وقعت في وَهْدَة الفوضى، كما ذكرنا ذلك في فصل سابق.
وفي أوروبا تُعَدُّ كلمة سلطان المغول مرادفة لكلمة السلطان المطلق والأبَّهة الباهرة، ولا يخلو هذا من أساس، فالحق أن ملك المغول كان مطلقًا، فكان يستعين بسلطانه على صبِّ كنوز مملكته، الغنية إذ ذاك، في بَلاطه وإنفاقها على ضروب العظمة التي لا تعلوها عظمة.
وكنت تبصر بجانب الملك وزراء فتحسب أنه يستشيرهم في شئون الدولة المهمة، مع أن هواه كان دستور دولته، وكانت السلطات المدنية والحربية والدينية قبضتَه، شأنَ جميع ملوك المسلمين، فكان ظلَّ الله الحيَّ المرهوب وخليفته القادر في الأرض.
وكان وزراؤه وولاته وقادته ومن إليهم من أمراء المغول صنائعَ فيرفعهم ويخفضهم بكلمة تخرج من فيه.
ولم توجد أريستوقراطية وراثية عند المغول، فالملك هو الذي كان يوزعها ويستردها كما يشاء، والملك هو الذي كان يرثها عند وفاة صاحبها، فإذا ما قضى المرء نحبه، بعْد حظوة لدى الملك وتصرُّف في أموال البلاد ورقاب العباد وتمتع بأطايب النعم، ترك زوجته وأولاده فقراء فقرًا مدقعًا، وكل ما كان يقدر على صنعه لهم في أثناء حياته هو أن يدفعهم إلى البلاط؛ ليكونوا محطًّا لأفضال الملك الذي يديم نعمه عليهم، أحيانًا، بعد وفاة أبيهم أو يُجري عليهم رزقًا قليلًا.
وكان ملك المغول لا يحتجب في الهند، فهو إذا كان يستلب رعاياه في الغالب فإنه لم يسلبهم نعمة إمتاع العيون، فكان يبدو للناس على الدوام.
ففي الصباح كان يظهر في شُرْفته فيجتلي الجمهور طلعته فيهتف له، وما كان ليعدل عن الظهور في الشرفة إلا في حالة المرض الشديد، وإذا حل وقت الظهر عاد إلى تلك الشرفة؛ ليشاهد صراع الفيول ومختلفَ التمارين العسكرية وما إليها مما يتم في ساحة القصر، وإذا كان وقتُ العصر جلس للاستقبال ولاستماع كل ما يجدر أن يقال له.
والحق أن الدنو منه كان صعبًا، فكان يحاط بنطاقين أو ثلاثة نُطُق من ذهب يتخللها أمراء وحراس لابسون أبهى ثياب حاجزون للناس عن العرش، والحق أن منظر الاحتفال والملك الذي كان يبدو رائع الطلعة بين الجواهر كان ثمنًا كافيًا لنسيان الشعب ما يدفعه في مقابل انبهاره وحماسته ذات حين مع الاحترام القريب من الفزع.
وفي العاصمة كانت النفائس الفنية تُجمَع أيام سلطان المغول كما كان الأمر في أكثر الممالك الإسلامية، والولايات إذ كان يضغطها ولاة طُمعاء كانت تقضي حياة بؤس فتثور في الغالب.
جاء في مذكرات الملك جهانكير ابن الملك أكبر ما يأتي:
علمت، وأنا في دهلي، أن فتنة اشتعلت في قَنُّوج فأرسلت كتائب لإطفائها، فقتل ثلاثون ألفًا من العصاة، وأُرسل عشرةُ آلاف رأس مقطوع إلى دهلي، وصُلبت عشرة آلاف جثة صلبًا معكوسًا في سوق الشجر المغروس على جوانب الطرق العامة، وعلى ما ترى من المذابح لم تفتأ الفتن تنشب في الهندوستان، ولا تجد ولاية من ولايات الدولة لم يُذبح فيها خمسمائة ألف شخص في عهدي وعهد أبي.
وقد حَفَزَت ضرورة اطِّلاع الملوك على ما يحدث في الولايات إلى تنظيم شئون البريد؛ لتسير بسرعة وانتظام في كل ناحية، فلا تزال تجري في كثير من الجهات، فالبرد كانوا سُعاةً مشاة يتناوبون أعمالهم بين مسافة ومسافة في الطرق العامة، وكانت تُنصَب على جوانب الطرق حجارة بيضٌ تُرَى ليلًا حِفْظًا للسعاة من الضلال.
ويظهر أن الطرق كانت جيدةً في العهد المغولي، فقد زعم تافرنيه الذي ساح في الهند أواسط القرن السابع عشر أن طرق الهند خير من طرق فرنسا وإيطاليا، فروى أن الانتقال من مكان إلى آخر كان يتم بهوادج يحملها سعاةٌ سرعان أو بمراكب تجرها الثيران، ووسائل نقل كهذه لا تزال مألوفة في البقاع التي لم تُمَدَّ فيها خطوط حديدية، أي في معظم بلاد الهند.
وكان خفراء من الجنود يحافظون على السياح، فكانوا مسئولين تجاه قادتهم المقيمين بالمدن الكبيرة عن كل ما يُصاب به من يرافقونهم منهم، فإذا ما قصروا في العناية بسائح أو لم يجيدوا الدفاع عنه لم يوصِ به رئيسهم فيخسروا معاشهم.
وفي شمال الهند كانت الطرق الجيدة والمواصلات السهلة، وعكس ذلك حال الدَّكَن الناشزة البعيدة من مقر الدولة.
وكانت تعدُّ جميع أراضي الدولة المغولية ملكًا شخصيًّا لولي الأمر، وكانت تقسم إلى صنفين، فالصنف الأول كان يشتمل على الأراضي التي يُقطِع الملك قادة الجيش إياها بشرط أن ينفقوا على كتائبهم وأن يدفعوا إلى بيت المال مبلغًا معينًا في كل سنة، والصنف الثاني كان يشتمل على الأراضي التي يستأجرها ملتزمون ببدل سنوي يؤدونه، فكان هؤلاء الملتزمون، كنواب الملك، ذوي سلطان مطلق على من يقبضون على زمامهم من الأهالي، فكانوا يجورون عليهم في الغالب، فكان الفلاح التَّعِب من العمل الدائم في سبيل غيره لا يبالي بالزرع فلا يحرُث ولا يحصد إلا بالسياط، وكان إذا ما جمع مالًا دفنه في التراب مُظهرًا أقصى درجات البؤس حَذَرَ سلبِ ما عنده ظلمًا وعدوانًا.
ووصف السائح فرنسيس بيرنيه — الذي أقام بدهلي اثنتي عشرة سنة في أواسط القرن السابع عشر، أي في عهد الملك شاهجهان فاقتبسنا منه هذه التفاصيل — مظالم الولاة ورُشاهم وبؤس الرعايا وافتقارهم وصفًا قاتمًا.
كان العدل غير سليم، فكان يُغوَى القضاة بالهدايا كما يُغوى وزراء الملك وبطائنه وأزواجه، أجل، إن الملك أكبر عَلَّق في قصره أجراسًا يمكن كل إنسان أن يقرعها ليشكو ظلمًا أصابه، غير أن القوم كانوا يعلمون أن من يصنع ذلك يكون عرضةً لانتقام الظالمين الفظيع، فكانت تلك الوسيلة غير صالحة لدرء المظالم.
والملك إذ كان يتعذر عليه أن يدير شئون ممالكه الواسعة بنفسه وأن يراقب نائبيه كان يرسل مفتشين من لدُنه ليخبروه بما يقع، ولكن هؤلاء ما كانوا ليشُوا إلى الملك بغير فقراء الحكام أو بخلاء الولاة الذين لم يشتروا حسن شهادتهم لهم.
وما كان أمر الجيش خيرًا من ذلك، فقد عُدِل عن نظام أكبر في دفع رواتب الجنود نقدًا إلى إقطاع أمراء الجيش الإقطاعات على أن يموِّنوا الجنود، وأمر هذا الإقطاع إذ كان موقتًا لم يفكر أولئك الأمراء في غير الاغتناء سريعًا على حساب الكتائب، فكان الجنود يُسرَّحون والخيول تُباع، فإذا ما أريد العرض اكترى أمير الجيش خيلًا وجعل من العبيد جنودًا، وما كان الملك ليجهل هذا الخداع، وإنما كان يُغمض عينيه مكتفيًا بتبديل ولاته وقواده؛ لكيلا يكون لديهم من الوقت ما يقدرون فيه على الاغتناء كثيرًا والتفكير في العصيان.
ومع ما تبصره من نقص في النظام العسكري يُثبت توالي انتصارات الجيوش الإسلامية على الجيوش الهندوسية تفوق تلك على هذه، ومما نعلمه أن راجه بيجانغر عَجِب، أيام فتوح الدَّكَن الأولى التي تمت في القرن الخامس عشر، من أنه لم يَغلِب المسلمين في أية ملحمة فعقد مجلسًا من الأكشترية والبراهمة؛ لاكتشاف السبب في توالي انكساراته مع أنه أكثر جندًا وأوسع أرضًا وأوفر مالًا.
بدا البراهمة أولَ المتكلمين فعزوا تلك الانتصارات إلى المشيئة الإلهية لا ريب، بَيْدَ أن الأكشترية اعترفوا بأن المسلمين أمهر من الهندوس في الرماية وأن خيولهم العربية أو الفارسية أهم من فروس الدَّكَن القصيرة، فأسفر ذلك عن سعي الراجوات في اجتذاب المسلمين إلى جيوشهم فاستطاعوا أن يضموا فريقًا من المسلمين إليها فتم لهم بذلك بعض الفوز على ممالك الدَّكَن الإسلامية التي مزقتها الفتن الداخلية، وفوزٌ تم للهندوس مثل هذا لم يَدُمْ، مع ذلك، إلا إلى حين إغضاء الممالك الإسلامية عن اقتتالها قليلَ زمنٍ متألِّبةً عليهم.
ولم يتم ذلك إلا في أواخر الدولة المغولية حين قلت الحروب وانحلت عُرى الجيوش الإسلامية ووقعت في الحال التي نشأت عن جشع القواد وعدم اكتراثهم فألمعنا إليها آنفًا، وأضحت تلك الجيوش أداة ناقصة في أيدي الملوك عندما أخذت الفتن تشتعل بين الأهالي وشرع نواب الملك المسلمون يرفعون رايات العصيان فيضعضعون أركان دولة المغول الكبرى.
رأى الملك أورنغ زيب الذي عاش في ميادين الحروب ألا يغادر معسكره، فاستنفد كنز أسلافه الخفي فأحاط نفسه بقوًى كيبرة ومدفعية عظيمة وفروسية منظمة، فكان يقضي أيامه بين هذا الجيش الرائع الهائل فنُقِل إليه نساؤه وجواهره وثيابه الزاهية على ظهور الفيول تحرسها صفوف متراصة من المحاربين مع المدافع ويتقدمها فريق من محرقي العطور.
وكان الملك إذا ما حطَّ رحله في مكان نُصبت الخيام بسرعة عجيبة فيخيل إلى الناظر أن مدينة خرجت من الأرض ذات شوارع وميادين ومفارق وحصون حسنة التخطيط، وكان لكل خيمة من تلك مكانٌ معلمٌ على خريطة مرسومة قبلًا، فتبدو قصور الملك المتحركة مشتملةً على ما في أروع المباني من وسائل الراحة، فالحق أن معسكر أورنغ زيب غدا العاصمة الحقيقية للدولة.
ومثَّل النساء دورًا مهمًّا في بلاط ملوك المغول، فحاول أوائل هؤلاء الملوك، على الأقل، أن يصهروا العرقين أحدهما بالآخر بتزوجهم أميراتٍ هندوسيات وبناتٍ لزعماء الراجبوت على الخصوص، وبحثِّهم المسلمين على الاقتداء بهم في هذا المضمار.
ولم يكن لملوك المغول عددٌ معين من النساء فكانوا لا يحترمون شريعة محمد في ذلك كما أنهم لم يحترموها في أمور أخرى، فبلغ عدد النساء في دائرة حريم الملك شاهجهان نحو ألفي امرأة، وما كان شاهجهان ليكتفي بهذا العدد، فكان لا يخشى أن يبحث عن خليلات له بين نساء أمرائه، فأسفر هذا عن سخطٍ شديد لمقت المغول زناء الأزواج.
وإذا كان الأمراء يرتاعون من تولُّع الملك بزوجاتهم فإنهم كانوا يُسَرُّون من تولُّعه ببناتهم، فكان من أقصى أماني الموظف الكبير أن يرى ابنته بين حريم الملك، فكان يمكن هذه الفتاة، وهي خليلة للملك، أن تكون عينًا عليه، وكان يمكن هذه الفتاة أن تصبح ملكة إذا ما راقت الملك، فتنال بذلك نفوذًا بالغًا وتصير عاملَ سعادة لأسرتها.
وكان للعجائز اللائي يراقبن الحريم من النفوذ، في الغالب، ما يعلمه نواب الملك وملوك الأجانب، فيشتري هؤلاء، بسهولة، حمايتهن لهم بالبراطيل.
والإنسان يقضي العجب من أبَّهة حريم الملك؛ فكان لكل واحدة من نسوته جوار وراقصات، وكانت كل واحدة منهن تلبس كل يوم ثوبًا جديدًا وحليًّا جديدًا.
وكان طهاة الملك يطعمون الملكات المعروفات ببي غَمْ؛ «أي اللائي لا يعرفن الغم»، وكانت الخليلات يقمن بشئون أنفسهن بما يأخذنه من المنح والهبات.
والملك شاهجهان أقام المزار الرائع تاج محل من أجل أحب زوجاته لديه وأعزهن عليه، فعُدَّ هذا المزار من أعجب ما اشتمل عليه العالم من المباني.
ولم يَبْدُ ملوك المغول حماة للآداب والعلوم وحدها، بل ترى الكثيرين منهم قد حذقوها أيضًا، فالحق أن حب الآداب، ولا سيما الشعر، كان ناميًا عندهم، فألَّف بعضهم كتبًا مهمة فيها، ونذكر من بين ملوك المغول تيمور لنك الشهير الذي أقام في بغداد، كما يُروى، هرمًا من مائة ألف رأس إنسانٍ فأنشأ المدارس وشمل العلوم بعين رعايته وألف كتبًا ذات قيمة، وكان لحفدته بابر وجهانكير وغيرهما مثل ميله فعُدت مذكرات بابر، التي شُبهت بتفاسير يوليوس قيصر، نموذجًا حسنًا في الآداب، ومن هذه المذكرات نعلم جمع المغولي بين الوحشية والمدنية علمًا أحسن مما في جميع كتب المؤرخين، ولا شيء يشمل النظر أكثر من تجلي حقيقة مؤسس الدولة المغولية بالهند بابر في مذكراته تلك، فبابر، هذا الجبار الذي هو سليل جنكيز خان وتيمور لنك، سار على سنة أجداده فأقام أهرامًا من الرءوس المقصولة، وتُبصره، مع جبروته هذا، أديبًا رقيقًا، وكان بابر هذا يتكلم المغولية والعربية والفارسية، وله قصائد باللغة الفارسية، وكان بابر هذا صبورًا على مطالعة كتب العلوم والآداب والتاريخ، وكان حبه للقراءة لا يمنعه من أن يكون مقامرًا كبيرًا وشاربًا مفرطًا ورفيقًا أنيسًا وباسلًا وفيًّا لأصحابه مع استخفاف وتهكم، وبابر هذا، مع علمه كيف يبدو ملكًا كبيرًا عند الاقتضاء، كان يدعو السفراء، الذين يَفِدُون على بلاطه، إلى طرح الكُلَف الرسمية جانبًا في بعض الأحيان ليقضوا معه ساعة لهو ومرح، وبابر هذا ما كان ليرى حرجًا في الجدل حول مسألة علمية أو منطقية أو لاهوتية عند انهماكه في السكر ليلًا، وفي كل صفحة من كتاب بابر المملوء بأدق ضروب النقد والنوادر تجد سعة اطلاع من غير تنطُّع، وفي هذا الكتاب تجد أنه كان يتمسك بالنكتة أو الكلمة الطيبة أينما وجدها، ومما حدث ذات يوم أن أدركه ثلاثة فرسان بعد سير يومين على أثر معركة خسرها فوقف فالتفت فقال لهم ساخرًا متكبرًا: «أريد أن أرى، أيها الشجعان، أيكم يجرؤ على مَسِّي قبل الآخر»، فارتبك هؤلاء الفرسان الثلاثة بفعل سخريته فقاتلوا مرتدين حالًا.
حقًّا أن بابر، المقدام الموهوب العالِم الذي يُعَدُّ من أقوى الفاتحين في العالم، كان يجمع في شخصه مغامرة عِرقه ورقَّته وهمجيته، فكان، حينما مات، وهو ابن خمسين سنة، ملك الهند التي دوَّخها باثني عشر ألف جندي بعد أن ظهر زعيم قرية وهو في السنة الثانية عشرة من عمره.
وكل مقابلة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب إذ كانت خادعة على الدوام غَدَا من الصعب أن تُقايِس بين العصر المغولي وأيِّ دور جاوزته أوروبا كالدور الإقطاعي مثلًا، فالفارس المغولي والبارون النصراني، وإن تماثلا ذوقًا وسفكًا، كان الأول منهما أفضل من الآخر ثقافة وحبًّا للآداب والعلوم والفنون بدرجات، وأرى، مع ذلك، أن المقابلة ممكنة بين العصر المغولي وعصر النهضة، فالأمير المغولي والأمير الفرنسي كانا متماثلين، لا ريب، في حبهما للمخاطر الدامية والمبارزة بالسيف وأمور الشرف والجواهر الثمينة والملابس الزاهية والأشعار الدقيقة وفي احتقار ذلك الحيوان الذي كان يُدعى في أوروبا بالفدَّاد وفي الهند بالشودري.