العلوم والفنون
(١) العلم الهندوسي
لا يطمعنَّ القارئ أن يجد في هذا الكتاب ما يجده في كتاب «حضارة العرب» من فصول كثيرة عن حال العلوم، فالعرب إذ نقلوا إلى الجامعات الأوربية كنز العلوم المتراكمة الذي انتهى إليهم من العالم الإغريقي اللاتيني بعد أن وسعَّوا دائرته بما أضافوا إليه كثيرًا كان من المفيد دراسة حال العلوم عندهم في إبان سلطانهم، ولا نجد مثل هذه الفائدة عند الهندوس؛ فالهندوس، خلافًا للرأي القديم، قد اقتبسوا معارفهم العلمية من الأمم التي كانوا ذوي علائق بهم فلم يعرفوا كيف يُسيِّرونها إلى الأمام، فدراسة العلوم لدى الهندوس في زمن ما تعني دراسةً لتاريخ علوم الأمم التي كانت لهم صلات بها مما يخرجنا من نطاق هذا السِّفْر.
ويفسِّر ما قلناه في فصل آخر عن مزاج الهندوس النفسي عدم إضافتهم شيئًا ذا بال إلى العلوم التي تلقوها من الأجانب، فالروح الهندوسية القوية في الفلسفة والدقيقة في الفنون عاطلةٌ من الضبط والإحكام الضروريين للبحث المُجْدِي في العلوم، ففي هذا سر ضعف الروح الهندوسية في المعارف الهندوسية، فالحق أن الروح الهندوسية إذا كانت قادرة على هضم ما وصل إليه غيرها من نتائج العلوم، فإنها لا تستطيع أن تسير إلى ما هو أبعد من هذا.
والأمتان اللتان اقتبس الهندوس منهما معارفهم العلمية هما الإغريق والعرب، وترانا نجهل كيفية انتشار العلم الإغريقي في الهند، ولكن مباني شمال الهند الشرقي التي درسناها في فصل آخر تثبت أن الهندوس كانت لهم صلات دائمة بإغريق بقطريان، فمن المحتمل أن يكون العلم الإغريقي قد انتقل إليهم عن هذه الطريق، فكان ما نعلمه من امتلاء أقدم كتب الهندوس في الفلك، ككتب وراها ميهيرا الذي عاش في القرن السادس بأجين، من الاصطلاحات والمراجع الإغريقية.
وأسهل من ذلك بيان الكيفية التي انتقل العلم بها إلى الهند بيانًا صحيحًا، فالعرب، كما قلنا في فصل سابق، كانت لهم قبل الميلاد بزمن طويل صلات تجارية منظمة بالهند، وبواسطة العرب كان الغرب يتصل بالشرق في القرون القديمة، فلما فتح أتباع محمد العالم القديم، بعد حين، دامت صلة إحدى الأمتين بالأخرى، فروى مؤلفو العرب وجود كثير من علماء الهندوس في بلاط الخلفاء ببغداد، ولما مرَّت الأيام ففتح ورثة الخلفاء من المسلمين الهند تبِعَهم علماء فداوموا على نشر معارف الغرب فيها، ومن هؤلاء العلماء أذكر البيروني الشهير صديق فاتح الهند الأول محمود الغزنوي، فقد ساح هذا العالم في الهند في القرن الحادي عشر، ونشر فيها علوم العرب التي كانت مزدهرة في ذلك العصر أيما ازدهار، فكانت تقوم على ما ورثه العرب من معارف الغرب القديم وما أضافوه إليه من الاكتشافات، فبذلك أضحى العلم الهندوسي لا يكون بعد القرن الحادي عشر غير علم العرب.
إذن، ليست كتب العلم الهندوسي، التي تترجَّح بين كتب آريابهاتا الرياضية المؤلفة في القرن الخامس من الميلاد وكتب بَرَهْمَاغبتا المؤلفة في القرن السادس وما ألِّف إلى أيامنا، غير مشتملة على سوى المعارف العلمية التي دخلت الهند بتلك الطرق، وأهم تلك الكتب معروفٌ لدينا اليوم، ونعرف منها أن مؤلفيها لم يحققوا في أيِّ علم أيَّ تقدُّم يذكر، وما كان يدور حول قِدَم علم الفلك الهندوسي ودقَّته من الأفكار قد أُهمل تجاه الدراسات التامة فأصبحت هذه الأفكار غير جديرة بعناية أحد.
ولا تبدو القضايا العلمية الجديدة القليلة جدًّا، التي تُرى في كتب الهندوس، إلا على شكل لمحات مبهمة عاطلة من أي برهان، ومن ذلك أن العالم الفلكي آريابهاتا ذكر في القرن الخامس، في بضعة أسطر، حركة الأرض اليومية حول محورها من غير أن يأتي بدليل، ومن ذلك أن بهاسكراجاريه جاء في القرن الثاني عشر، كما يظهر، برأي مبهم حول حساب الكمية الصغرى من غير أن ينتهي إلى شيء.
ومما تقدم ترى أنه يجب ألا يُعزى إلى الهندوس، على العموم، أيُّ إبداع في حقل العلوم، والهندوس، إذ لم نقدر على إسناد أي شيء أساسي إليهم، نرى من غير المفيد أن نتكلم عن كتبهم العلمية التي لا نبصر فيها شيئًا لم نجده في كتب اليونان والعرب.
وضَعْف قدماء الهندوس في العلوم النظرية لم يمنعهم، مع ذلك، من أن يكونوا ذوي معارف عملية على شيء من الرقي، وذلك كما يبدو من فن عمارتهم القديم ومن فنونهم الصناعية، فالهندوس كانوا يعرفون صنع الزجاج والدباغة والتقطير واستخراج المعادن وصنع الفولاذ وتحضير بعض الأملاح المعدنية، بَيْدَ أن هذه المعارف العملية، التي هي وليدة التجربة والتي نعد مصدر غير واحد منها أجنبيًّا، ظلَّت بعيدة من ميدان النظريات والمبادئ العامة بُعدًا لا تستحق معه أن تسمى بالعلم، أجل، إن التجربة قد تُعلِّم الصبي استعمال العصا في إزاحة حجر واستعمال مقذفين في دفع زورق واستعمال بكرة في رفع الأثقال، غير أن هذا الصبي لا يصل إلى مرتبة المعارف العلمية إلا حين يعلم أن العصا والمقذف والبكرة تطبيقاتٌ لمبدأ واحد.
وما أتيناه من الأحكام القاسية العادلة في علم الهندوس وآدابهم غير ما أتيناه في فن عمارتهم وما نقوله، بعد قليل، عن فنونهم الأخرى، ولا يعتري القارئ العالِم بروح الأفراد والأمم دَهَشٌ من ذلك، فوجود أمة تَفْضُل جميع الأمم في جميع فروع المعارف البشرية لا تراه في غير كتب التاريخ وخيال الجماهير، وضلالٌ كهذا مما يدل عليه الاختبار الدقيق، ولا مراء في أن الأمة، كالفرد، تكون بحسب مزاجها النفسي متفوقةً في فرع من المعارف البشرية، على أن تكون متأخرة في الفروع الأخرى، ولا نجد أفضلية جامعة لكل فرع، وغير كثير ما يبدو هذا في الحقل الذهني فنَقْدِر على ربط فروعه في سلسلة واحدة، نعم إنني أرى تفوُّق ذوات الثُّدِيِّ على الأسماك؛ لما أجده من كون جهازها العصبي أرقى من جهاز الأسماك العصبي، ولكنني إذا ما قايست بين فيدياس ونيوتن وديكارت وقيصر لم أجد وسيلة لإثبات أيهم أفضل من الآخرين، فالتفوق الفني مستقل عن التفوق العلمي، وكثيرًا ما يناقضه، وهو يتطلب، بالحقيقة، طراز تفكير وإحساس خاصًّا وطُرُزَ نظر إلى الحياة والأمور خاصة، فيندر أن يجتمع كلا التفوقين، إذن، في أمة واحدة، فالعالم يحلل الحوادث، ويسعى في رؤية الأشياء كما هي غير مبالٍ بجمالها وقبحها، وعكس ذلك أمر المتفنن والشاعر اللذين يجدَّان في تزيين الأشياء وإبدائها بعواطفهم على غير ما هي أو على ما هي في أحوال شاذة، وإلا عاد المتفنن لا يكون متفننًا وعاد الشاعر لا يكون شاعرًا، حقًّا أننا لا نعلم أمةً وصلت إلى مثل ما وصل إليه الأوربيون من الرقي العلمي في القرن التاسع عشر، ولكن مما لا ريب فيه أن كثيرًا من الأمم، فضلًا عن الإغريق، بلغت درجة من الفن أرفع من التي وصل إليها الأوربيون بمراحل، فليس عصر البخار والكهرباء بالعصر الذي تبلغ فيه الفنون ذروتها.
إذن، يجب ألا يُستنبط مما قلناه أية نتيجة لمصلحة الهندوس أو لغير مصلحتهم، فليس بتقدمهم الفني وحده أو بتأخرهم العلمي وحده ما يمكن الحكم في أمرهم.
(٢) الفنون الهندوسية
خصصنا عدة صفحات من كتابنا «حضارة العرب» لإثبات أهمية الآثار الفنية في بعث حضارة أحد الأدوار، فقلنا فيه إن المتفنن والكاتب لا يصنعان غير الإفصاح عن مشاعر الزمن الذي يعيشون فيه واحتياجاته ومعتقداته على شكل منظور فكان ما انتهى إلينا من آثار أحد الأجيال الأدبية والفنية أحسن صفحات التاريخ، ومما ذكرناه هنالك أن استقلال المتفنن والكاتب ليس في غير الظواهر، وأنهما مكبَّلان، في الحقيقة، بقيود من المؤثرات والأفكار والمعتقدات التي يتألف منها ما يسمى روح العصر القوية التي لا يستطيع أكثر الناس حرية أن يتخلص من سلطانها غير الشعوري، وأنه إذا كان لكل جيل آدابه وفنونه فلأن له احتياجاته ومعتقداته التي تُعرب عنها، ومما ذكرناه، أيضًا، أن فنون أحد العروق إذ كانت، كنُظُمه، وليدة مزاجه النفسي فإن من المتعذر على عِرق آخر أن ينتحلها من غير أن يُحَوِّلها، وأن فن العمارة العربي لم يتحول في الهند وحدها، بل تحول في مختلف البلدان التي فتحها المسلمون فكان هذا الفنُّ أحسنَ مثال على هذه المطابقات.
ثم درسنا في كتابنا «حضارة العرب» مزاج أحد العروق الفني فوجدنا أنه يقوم على السرعة التي يضع بها طابعه الخاصَّ على الفنون السابقة التي ينتحلها منذ دخوله ميدان الحضارة.
ومما ذكرناه هنالك أن بعض الشعوب تقتبس من مختلف الجهات ما يلائم احتياجاتها من غير أن تضيف إليه شيئًا جديدًا، وأن شعوبًا أخرى تمزج العناصر الأجنبية بما يفيض منها فتَسِمُ هذا كله بطابعها الخاص وَسْمًا لا يكشف تلك العناصر الأجنبية معه غير علم راقٍ، وذلك كما اتفق للإغريق الذين اقتبسوا من الآشوريين والمصريين فنونهم، وكما اتفق للعرب الذين هضموا الحضارة اليونانية اللاتينية، وغيرُ ذلك أمر الترك وغيرهم من الشعوب العاطلة من العبقرية الفنية، وإيضاحًا لذلك نقول: إنه إذا ما قيس أقدم مساجد القاهرة، كمسجد عمرو بن العاص، بآخرها، كمسجد قايتباي، ظهرت قدرة شعب، كالعرب ذوي الاستعداد الفني، على تحويل الفنون التي اقتبسها من شعب آخر، وأنه إذا ما قيست المساجد التي أقامها الترك في الآستانة بغيرها من المباني البيزنطية وُجِدَ أنها نسخت بدناءة من كنيسة أيا صوفيا مع إضافة بعض العناصر الأجنبية إليها إضافة تدل على عجز الترك عن التحويل.
وقد رأينا أن الهند كانت محلًّا لاستيلاء مختلف الفاتحين، فلنا أن نجد في فنون الهند عدة عوامل أجنبية، بَيْدَ أن الهندوس كانوا من الدهاء ما قدروا به على جعل ما اقتبسوه ذا طابع هندوسي بسرعة، وتناول دهاء الهندوس، أيضًا، العمارة حيث يصعب إخفاء ما هو مستعار فيها، فبدأ أثره واضحًا فيها، فلم يلبث العمود الإغريقي الذي اقتبسه متفننو الهندوس مثلًا أن زالت عنه صفته الإغريقية متحولًا إلى عمود هندوسي، والهندوس إذا ما وضعتم بين أيدي متفننيهم أيةَ أداة فنية أوربية أبصرتم هؤلاء المتفننين يجردونها من صفتها الغربية بتجسيم بعض أجزائها وزيادة زخارف بعضها الآخر، مع الرضى بشكلها العام على ما يُحتمل.
وما اقتبسه الهندوس من العناصر الأجنبية في فن البناء فقليلٌ إلى الغاية أو محدود المكان على الأقل كما رأينا، وما اقتبسوه منها في الفنون الأخرى فعظيم جدًّا، ولكن جميع ذلك لم يلبث أن تغير بما حوَّلوه به فأصبح تمييزه متعذرًا.
وإذا سألت عن مبدأ الزخرف الهندوسي العام رأيته يتصف بزيادة المبالغة وفرط الغلو في الجزئيات التي هي أبرز ما تشاهده في آثارهم الأدبية والدينية والفلسفية، والمرء إذا ما درس فنون الهندوس على الخصوص أدرك درجة علائق آثار أحد العروق الشاخصة بمزاجه النفسي، وأيقن أنها أوضح لسان لمن يستطيع أن يفسرها، فالحق أن الهندوس لو غابوا عن التاريخ كالآشوريين لكفت نقوش معابدهم البارزة وآثارُهم الفنية وتماثيلُهم لإطلاعنا على ماضيهم كما نعرفه اليوم، وأنت تعلم أننا توصَّلنا، بدراسة التماثيل والمعابد، إلى معرفة تاريخ البُدَّهِيَّة معرفةً أصح مما ورد في الكتب.
ظلت الهند أغنى بلاد العالم آلافًا من السنين، وازدهرت الفنون فيها على الدوام مهما كان نوع الفتن التي حركتها، وما فَتِئَت الأمم تبحث منذ أقدم أدوار التاريخ عن أدوات الهند الفنية وحليها ونسائجها حتى صار من الممكن أن يقال: إنها استنزفت مال الدنيا في ألوف السنين، أجل، إن الثورات وتبديل الأسر المالكة مما كان يؤدي إلى انتقال الثروات بين حين وحين، بَيْدَ أن هذه الثروات كانت تبقى في الهند فيستعملها مالكوها الجدد، كأسلافهم، في شَيْد المباني والقصور واقتناء النفائس وتشجيع الفنون التي هي من أغنى مصادر البلاد، وقد رأينا في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ المغازي الإسلامية الأولى درجة غنى الهند العظيمة ودرجة وقف هذا الغنى لأنظار الفاتحين.
واليوم صارت بلاد الهند أفقر بلاد العالم بعد أن كانت أغناها، وبلاد الهند قد هزلت بعد أن خضعت منذ قرن لنظام مؤد إلى امتصاصها، وبلاد الهند قد أخذت تستورد السلع من برمنغم ومانجستر وغيرهما من المدن الإنجليزية بعد أن كانت تملأ العالم بمنتجاتها، والهندوسيُّ، الذي أضحى عاجزًا عن الوقوف أمام ما تنتجه الآلات الصناعية الأوربية، طَفِق يعدل بالتدريج عن فنونه القديمة العهد داخلًا زمرة الأُجَرَاء والزُّرَّاع.
وقد بينا أن فن البناء شرع يغيب عن الهند منذ رسوخ الإنجليز فيها، وسيكون مصير أكثر الفنون الأخرى مثل ذلك بعد زمن قليل على الرغم من تشجيع بعض ذوي النفوس النيرة، وما انفك كبراء الأمراء المحليين يفتقرون فلا يستطيعون أن يَحُثُّوا على التمسك بتلك الفنون، وذلك فضلًا عن تملقهم لسادة الهند الجدد باقتنائهم لما تنتجه إنجلترا، والسائح الأوربي، الذي يدخل قصور الهندوس الغنية، كقصر مهارنا بأوديبور، يقف مشدوهًا حينما يشاهد فيها أسقاط الأمتعة الرخيصة الكريهة التي تخرج من الأسواق الإنجليزية بجانب عجائب الهندوس الفنية.
ولندع الآن تلك القواعد الكلية الضرورية لِتَفَهُّم الفنون الهندوسية باحثين في أهمها باختصار.
النحت
لا تجد أمة، كالهندوس، قد اتخذت النحت أداة للزينة، فما في معابد الهندوس ومزاراتهم من التماثيل والنقوش البارزة يُعَدُّ بالألوف، ويحار المرء تجاه سكوت الكتب الباحثة في فنون الهندوس عن الوثائق الخاصة بالنحت، ونقضٌ كهذا مما أشار إليه فيرغوسن، منذ زمن طويل، من غير أن يفكر في تلافيه، ولا نستطيع أن نطلع على النحت لدى الهندوس بما في بعض كتب الأساطير الهندوسية من الصور الرديئة المطبوعة بألواح الحجارة، والذي يظهر أن صانعي تلك الصور اختاروا أردأ الأمثلة فنجم عن ذلك اعتقاد الأوربيين، على غير حق، أن النحت الهندوسي متأخر إلى الغاية، فأطمعُ، والحالة هذه، أن يبدو للقارئ من صور التماثيل التي نشرناها في هذا الكتاب خَطَل ذلك الاعتقاد، فقد وجدتُ، بجانب ما في بهوونيشور وسانجي وإيلورا وأجنتا وبادامي وكهجورا وكنبها كونَم، إلخ. من آثار الفن الرديئة، آثارًا فنية رائعة لا يقدر رجال الفن بأوروبا على إنكار أهميتها، وما في أوديغيري وبهارت وسانجي ومهابلي بور من النقوش البارزة التي نشرناها في هذا الكتاب يُعَدُّ في كل بلد من أرقى الآثار لا ريب.
وإذا نظرت إلى تلك التماثيل من الناحية التشريحية وجدتها غير مُرضية، وأبصرت فيها الأدلة على روح المغالاة العزيزة على الهندوس فترى الصدور والأوراك في تماثيل النساء نامية نموًّا لا تشاهد مثله في الطبيعة، وترى الآلهة ذات الأذرع الأربع مما يكرهه الأوربي، غير أن أكثر هذه الصور ذوات حيوية شاملة للنظر، فهي من هذه الناحية، على خلاف تماثيلنا المتصلبة الكئيبة المصنوعة في القرون الوسطى وعلى خلاف أكثر ما في مصر، وفي عالم الآلهة والأبطال والإلاهات التي تملأ المعابد أكثرُ الأطوار حياةً والأوضاع تنوعًا. فيخيل إلى الناظر إليها أنها توشك أن تنزل من قواعدها لتتقدم نحوه، نعم، إن المنقاش الإغريقي أدق وأضبط، ولكنه، في الغالب، أبرد.
ومن غير المفيد أن نسهب في القول عن التماثيل، فعندي أن عرض صورة صادقة لها أفضل مما يقوم به نَقَدَةُ الفن، فلعل القارئ الذي ينظر إلى صور التماثيل التي نشرناها في هذا الكتاب يصبح ذا رأي صائب في الموضوع.
والباحث حينما يدرس صُوَر التماثيل التي اشتمل عليها هذا السِّفْر ويدقق في التواريخ التي ذُكرت تحتها يرى، لا ريب، أن قيمة هذه التماثيل ليست بحسب أزمنة صنعها، فبينما يشعر بروعة أقدمها، أي بروعة التي أقيم منها في بهارت وسانجي منذ ألفي سنة تقريبًا، يرى رداءة ما أقيم منها في جبل آبو في القرن العاشر وحسن ما أقيم منها في كهجورا في القرن العاشر أيضًا، وفيما أقيم منها في معابد جنوب الهند حديثًا ما هو جميل وما هو كريهٌ، فالحق أنك لا تجد أثرًا ظاهرًا للتطور في فنون الهند كما أنك لا تجد أثرًا ظاهرًا للتطور في آدابها.
التصوير
ومن دواعي الأسف أن ضاعت التصاوير التي رُسمت في تاريخ متأخر، وما في أقدم المخطوطات، التي لا ترجع إلى ما قبل المغازي الإسلامية، من التصاوير لا يُجيز لنا أن نفترض أن الهندوس أصبحوا أرقى من أسلافهم بعد زمن، وتخرَّج الهندوس في العصر المغولي على رسَّامي الفرس فكان ما رسموه ابتدائيًّا عاطلًا من التناظر والانسجام مع ما فيه من دقة، فالحق أن الهند بتصاويرها وآدابها ظلت في حال من التطور مماثل لما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى.
الفنون الصناعية «صنع الخشب والمعادن والحجارة الثمينة، إلخ»
يقصد بكلمة «الفنون الجميلة»، على العموم، فن التصوير وفن النحت وفن العمارة، ويقصد بكلمة «الفنون الصناعية» بعضُ الصنائع ذات الفائدة العامة كالصِّياغة والنجارة والترصيع، وما إلى ذلك من المهن التي تقوم على بعض المناهج الآلية، بَيْدَ أن هذا التصنيف إذا كان ملائمًا لما في الغرب الذي يتدرَّج إلى العمل الآلي فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى صنائع الشرق التي تقوم على حذق العامل، فمما لا جدال فيه أن الفنَّ مستقل عن تطبيقاته، فتراني أعلم أن صنع إناء مرصَّع أو مِقبَض خِنْجَر قد يتطلب من الفن والخيال، مثلًا، أكثر مما يتطلبه إنشاء بناء ذي خمس طبقات أو إنشاء محطة خط حديدي، فإذا اتخذتُ كلمة «الفنون الصناعية» عنوانًا للفنون الحقيقية فلِمُجاراة التقسيمات التي اصطُلِح عليها.
ومن أكثر صناعات الهند استعمالًا منذ أقدم الأزمان أذكر صناعة المعادن فأضعها في الصف الأول، وعلى ما أدَّت إليه الحروب والمغازي الكثيرة التي كانت الهند مسرحًا لها، لا ريب، من ندرة الأدوات القديمة لا نزال نملك من هذه الأدوات بعض ما صُنِع من المعدن قبيل الميلاد، كالصندوق البُدَّهِي الذي وجد داخل قبة بُدَّهِية بوادي كابل مع نقود يُستدل منها أنه أُنشئ حوالي منتصف القرن الأول قبل ظهور المسيح فنشرنا صورته في هذا الكتاب، فهذا الصندوق قد صُنع، كأدوات تلك البُقعة، على حسب الفن اليوناني الهندوسي الذي أوضحنا أصوله في فصل آخر.
وحازت البقاع المجاورة لكابل، ككشمير والبَنْجَاب، قصب السبق في صناعة الأدوات الذهبية والفضية كما تدل عليه النماذج التي نشرنا صورها في هذا السِّفْر، وفي الهند يصنع القوم أدوات الذهب والفضة والنحاس والبرونز بما يقضي بالعجب، وفي الهند بعضُ المناطق، كتانجور في جنوب الهند، اشتهر بصناعة البرونز المرصَّع بالنحاس الأحمر والفضة فنشرنا نموذجًا ملوَّنًا لها.
والقوم في الهند، إذ كانوا لا يستعملون القاشانيَّ ولا الخزف المطلي بالميناء في أمورهم المنزلية راغبين في البرونز والنحاس، تَجِد صناعة هذين المعدنين عندهم راقية، فتبصر حسنًا، أحيانًا، في بعض الآنية المستديرة المُخَصَّرة في أعلاها فتصلُح لحمل الماء وحفظه، وما صنع من هذه الآنية قديمًا خيرٌ مما يصنع اليوم فتراه اليوم نادرًا إلى الغاية، وفي المتحف الهندي بلندن من هذه الأواني ما يرجع تاريخه إلى القرن الثاني من الميلاد فصدر عن كولو مشتملًا على أطوار من حياة بُدَّهة.
ولم يقتصر حِذق الهندوس على صناعة الذهب والنحاس والبرونز وحدها، بل كانوا ماهرين في صناعة الحديد أيضًا، وذلك كما يظهر من العمود الحديدي الشهير الذي أمر بصنعه الملك دهاوا فيُرَى الآن في مسجد قطب القديم بدهلي، فهذا العمود قد أنشئ في القرن الرابع من الميلاد، ولم يَسْطِع الأوربيون أن يصنعوا ما هو بضخامته إلا منذ زمن قريب بفضل ما انتهوا إليه من الوسائل الكثيرة التعقيد.
وصناعة الحلي في الهند، وإن لم تُنتج ما يلائم الذوق الأوربيَّ، تساوي بدقتها أهم ما يصنع في أوروبا لا ريب.
ويصنع الهندوس الزجاج وينحتون الحجارة الكريمة، وفاق الأوربيون الهندوس في ذلك، لا في صناعة العاج والخشب المرصَّع.
وَتُعَدُّ الأسلحة الفولاذية من أهم ما تنتجه الصناعة الهندوسية، لا من حيث غنى زخرفها وجمال ترصيعها وحدهما، بل من حيث نوع فولاذها الذي طبقت شهرته القرون القديمة بأجمعها أيضًا، وعند بِرْد وُود أن نصال دمشق الذائعة الصيت كانت تُصنع من الفولاذ الهندوسي، وامتدح كتَّاب الإغريق فولاذَ الهند، وكان يستحصل أجوده بالحديد الممغنط.
ولم يلبث الهندوس أن انتحلوا جميع الصنائع التي عرفتها الأمم الفاتحة للهند فأتت بها من بلاد فارس أو من أوروبا فحوَّلوها كما أشرت إلى ذلك آنفًا، ولا يزال القوم يزاولون في أغرا صناعة ترصيع الرخام الأبيض، التي هي من أصل إيطالي، بالحجارة الثمينة كالزبرجد والفيروز واليَصْب والعقيق والجَمَسْت واللازورد إلخ، وفي أغرا بلغت هذه الصناعة درجة رفيعة أيام ملوك المغول، فكان هؤلاء الملوك يُلبسون قصورهم تلك الزخارف، ويمكن القارئ أن يدرك تأثير ذلك في النفس من صورة داخل قصر ملوك المغول بدهلي.
ولا تزال الهند تصنع النسج الحريرية والبسط والشالات بإتقان لم يتفق مثله للغرب إلا بمشقة، بَيْدَ أن تقليد الأوربيين لهذه المنتجات الفاخرة وبيعهم ما يقلدونه بثمن بخس مما ينذر بأفولها في وقت قصير.
ومع أن القوم يمارسون صناعة الخزف في كل مكان بالهند فإنهم دون الأوربيين فيها، وتجد، مع ذلك، روعةً في كثير من مصنوعاتهم الخزفية الملونة.
وذاع فن ستر المباني بالخزف المطلي بالميناء في شمال الهند الغربي منذ الفتوح الإسلامية، وأصل هذا الفن فارسي كما تشهد به أطلال أقدم القصور ببلاد فارس، وقد استُبدل طَلْيُ الجصِّ بهذا الفن في الوقت الحاضر كما تشهد بذلك الضرائح الملكية العصرية في غولكوندا مثلًا، وليس في طراز الزينة هذا ما هو متين مع أن الخزف المطلي بالميناء لا يفنى، وما تراه في جميع الشرق من سَتر المباني بالخزف المطلي بالميناء، كما في جامع عمر بالقدس وبعض الأبنية بلاهور وقصر غواليار إلخ، من أروع ما يستوقف النظر، فالمرءُ إذا ما أبصر من بعيد مقدَّم تلك المباني المختلف الألوان كقوس قُزَح ظَنَّ أنه أمام قصر خيالي شاده الجن، ولا شيء يدل على فساد تربيتنا المدرسية التقليدية أكثر من عَطَلنا من مهندس أوربي يحاول اقتباس أسلوب الزخرف العجيب هذا في قصر من قصور الغرب.
هنا نختم بحثنا في طِراز بناء الهندوس وسائر فنونهم، فهذه الفنون، التي نبتت في شعب من الشعراء والمتفننين قوي الخيال والمشاعر ضعيف العقل، أسفرت، ذاتَ حين كما في منام سحري، عن عالم من القصائد العظيمة والنفائس الباهرة والخيالات الرائعة.
لن يعود الإنسان إلى صنع مثل تلك الآثار العجيبة التي هي وليدة ماضٍ يتوارى مقدارًا فمقدارًا في ضباب الأجيال، فيجب علينا أن نحتفظ ببعضها على الأقل، وإن تنازعَ الجيلِ الحاضر المادي في سبيل الحياة تنازعًا قاسيًا لا يترك للإنسان مجالًا يرجع به بصره إلى تاريخ أجداده في بعض الأحيان، فلنتعلم كيف نحترم هذا التاريخ، فتلك الضرائح والمحاريب الصامتة في الوقت الحاضر وتلك التماثيل الطاعنة في السن وتلك النقوش البارزة الصائرة إلى الخراب فيكسرها المهندس بمعوله مستخفًّا؛ ليملأ الخنادق فيمد عليها خطًّا حديديًّا هي وثائق ماضٍ صدرنا عنه ولا نلبث أن نصير إليه.