مزاج الهندوس النفسي
رسمنا، في الفصل الذي خصصناه من هذا السِّفْر للبحث في صفات أهمِّ عروق الهند الخُلقية والعقلية المشتركة، خطوطَ أخلاق الهندوس التي نشأت عن وحدة البيئات والنظم والمعتقدات، وبيَّنَّا في الفصول التي درسنا فيها تاريخ الحضارة نضج هذه النظم والمعتقدات البطيء في غضون الأجيال.
والآن نتقدم في التحليل لتَفَهُّم مزاج الهندوس النفسي فندرس الهندوسي في مختلف أحوال حياته وفي تفكيره حول أحد المواضيع وفي نظره إلى الحياة وفي مبادئ سيره، وإن شئت فقل باطنه.
والحق أن ذلك الباطن يبدو لنا من دراسة الطبائع والنظم والعادات، بَيْدَ أن الهندوسي دوَّن في كتبه منذ زمن طويل نتائج تجاربه في الحياة، والحق أن أخلاق الشعب تتجلى في جميع آثاره، بَيْدَ أنه يجب البحث عنها في آثاره الأدبية على الخصوص.
وهذا القول لا يؤدي، مع ذلك، إلى الهدف الذي نسعى إليه الآن، فالآثار الدينية والفلسفية تصدر، على العموم، عن مؤلفين تعودوا العيش في عالم خيالي بعيد من العالم الحقيقي، أجل، إن القصائد الحماسية الكبرى وليدة الهوى الخالص الذي نبت في الأدمغة الهائجة المرددة لصدى الأزمنة الناشئة فيها، ولكن مع كبير تحريفٍ، ما أبدت لنا أشخاصًا مغالين في مشاعرهم وأعمالهم، وحقًّا أن من الممكن أن يُستنبط منها الشيء الكثير أحيانًا، ما دام الشاعر لسان العالَم الذي يحيط به، ولكن على أن يكون ذلك مع تحفُّظ كبير.
ومن حسن الحظ أن بقي لدينا مصدر معارف خيرٌ من ذلك معبِّرٌ عن أعمال الجماعة التي ظهر منها، وأقصد بذلك الأمثال القومية والأقاصيص الشعبية، وليس من غير سبب أن قيل إن الأمثال هي صدى تجارب إحدى الأمم، فالأمثال تعبِّر بإيجازها وتحلُّلِها القاسي عن أخلاق العِرْق الذي نشأت عنه وعن طبائعه وأفكاره، والأمثال تكرَّرُ في كل مكان لملاءمتها لروح أبناء هذا العِرْق.
وللشعب الهندوسي القِدحُ المعلَّى في هذا النوع من الآداب، فتجد في أساطير الهندوس وأقاصيصهم الشيء الكثير من الأمثال، ولا تجد في أمثال الهندوس مثل ما تُعاب به آثارهم الأدبية الأخرى من التردُّد والغموض، وكيف تكون هذه الأمثال مبهمةً مذبذبة وهي تعبر عن الأفكار العامة تعبيرًا شعبيًّا؟ والأمثالُ لن تكون شعبية إلا إذا كانت واضحة موجزة معًا، والأمثال لن تصبح أمثالًا إلا بعد أن تحقق ألف مرة وتتداولها الألسن طويلَ زمنٍ فتستقرَّ على وجه معين.
إذن، نتَّخذ الأمثال دليلًا لنا في دراسة الروح الهندوسية، ولن يعدل هذه الأمثال ما يدور حول هذه الروح من المباحث، فالباحث مهما يكن حرًّا لا ينظر إلى الأمور إلا من خلال الأفكار التي ثبتت فيه بفعل البيئة والوراثة والتربية.
ويقوم عملنا على اقتطاف ما يدور، كثيرًا، حول موضوعات الحياة المعتادة، وعوامل السير في مختلف الأحوال، ومبادئ الأخلاق والسياسة، إلخ، وذلك من كتب الهندوس، ولا سيما من البنج تنترا والهِتُوبَديشا، ثم تصنيف ذلك في مطالب خاصة، ونحن لم نقتطف من ديوان مهابهارتا الحماسي والكتب الدينية والاجتماعية كالويدا ومانوا دهرماشاسترا، إلخ. غير ما يقرُب من الآراء الشعبية التي جاءت في البنج تنترا والهتوبديشا فيُثبت قدم الآراء التي قيلت في بعض الموضوعات، ومن هذا أن الأمثال الغريبة التي وردت في البنج تنترا حول النساء أيدتها تأملات المشترع الرزين مَنُو في دُسْتُوره الديني الذي ظل شريعة الهند العليا عدة قرون فدل ذلك على أن تلك الأمثال شعبية، فالحق أن إحدى الحقائق إذا ما صيغت في قالبِ مَثَلٍ أو حكمة أمكننا أن نجزم بأنها نضجت في أجيال كثيرة.
وقد اقتصرنا على ما تقدم؛ ليكون مقدمةً للمختارات التي نرى تجلي الروح الهندوسية فيها، وقد صنفنا هذه المختارات في المطالب الآتية: المصير – الخلق – الحياة والهرم والموت – عوامل سير الإنسان – النساء – العلم والجهل – الغنى والفقر – السلوك الواجب في مختلف أحوال الحياة — مبادئ الآداب العامة — السياسة.
(١) القدر
لا يأتي ما لا يجب أن يأتي، ويأتي ما يجب أن يأتي، ففي هذا تِرْياق سموم الهموم، فلماذا لا نستعملُه!
كَتب القدر على جباهنا سطرًا من حروف، فلن يقدر أذكى العلماء أن يمحوه.
قد يسقط الإنسان من فوق جبل ويغرق في بحر، ويرتمي في نار، ويُلاعِب الأفاعي، ولكنه لن يموت قبل أجله.
النجاح في الأعمال منوط بما يأمر به القدر، وهذه الأعمال إذا نظمت بأفعال الناس في حيواتهم السابقة، وبسلوكهم الراهن وأوامر القدر إذ كانت سرًّا وجب على الإنسان أن يعتمد على وسائله في السير.
على الإنسان ألا يكفَّ عن العمل ولو فكَّر في القدر، فلن تستخرج سيرجًا من سِمْسِمَة بغير عمل.
(٢) الخُلق
قوة الميول الطبيعية التي ينجم عنها ثبات الخُلق سهلة الإدراك فلم تغب عن بال الهندوس، فهي تنتقل إلى الإنسان بالوراثة فيأتي بها عند ولادته، ولا تؤدي البيئة التي يعيش فيها الإنسان إلى تعديل مظاهر خلقه، ولا نجد اليوم ما يستلزم التغيير في ملاحظات الهندوس الآتية عن الخلق إلا القليل.
لا يُغيَّر الأمر الطبيعي بالمشورة، فالماء الحار يعود باردًا.
لو أصبحت النار باردة وصار القمر محرقًا لأمكن تبديل طبيعة الناس في هذه الدنيا.
يجب اختبار الميول الطبيعية وحدها، لا الصفات الأخرى، فالواقع أن الطبيعي يغلب غيره من الصفات ويتبوأ مكانه في الرأس.
يصعب على الإنسان أن يتغلب على غريزته الطبيعية، فلن تستطيع أن تحول دون قرض الكلب للأحذية ولو جعلته مَلِكًا.
يدل فقدان العواطف النبيلة وغلظة القول والقسوة ونسيان الواجبات على رجل ولد من أم جديرة بالاحتقار.
يرثُ الإنسان الذي هو من أصل ساقط طبيعته السيئة عن أبيه أو عن أمه أو عن كليهما، فلن يستطيع إنسان كتم أصله.
(٣) الحياة والهَرَم والموت
يكون قارئًا لكل شيء عالِمًا بكل شيء ممارسًا كل شيء من يرغب عن الرغائب ويعيش بلا أمل.
من لم يحزنْ في الضراء ولا يفرح في السراء ولا يَخَفْ في البأساء كان تِلْكا العوالم الثلاثة، فقلما تلد أمٌّ ولدًا كهذا.
الشباب والجمال والحياة والثراء والقوة والاجتماع بالأحباب أمور زائلة، فيجب ألا تزعج روح العاقل.
يجب على العاقل أن يفكر في العلم والغنى كما لو كان غير مُعَرَّض للهرم والموت، وعليه أن يمارس الفضيلة كما لو كان الموت ممسكًا بشعوره.
من ذا الذي لا يظهر طويلًا إذا نظر إلى تحته، فالذين ينظرون إلى فوقهم فقراء على الدوام.
تشرب الأفاعي الهواء وهي غير ضعيفة، وتأكل الفيول البرِّيَّة الكلأ اليابس فتصبح قوية، ويعيش أكابر الزهاد بالجذور والفواكه، فالقناعة أعظم ثروة للإنسان.
ما هي الفضيلة؟ هي الشعور مع جميع المخلوقات، وما هي السعادة؟ هي الصحة عند أهل الدنيا، وما هي المحبة؟ هي الإحساس الصادق الطبيعي، وما هي المعرفة؟ هي الإدراك.
العقلاء لا يبكون ما هلك ولا ما مات ولا ما ضاع، فبهذا يختلفون عن المجانين.
ليُتْرَك الفرد للأُسرة، والأسرةُ للقرية، والقرية للبلد، والأرض لنفسها.
على العاقل أن يحافظ على حياته ولو في مقابل ولده وزوجه، فالأحياء إذا ما صانوا حياتهم وجدوا كل شيء.
(٤) عوامل سير الإنسان
العقاب مهيمن على البشر، فمن الصعب أن تجد رجلًا فاضلًا بطبيعته، فبالخوف من العقاب يمكن العالم أن يتمتَّع بأطايب النعم.
لا يُبدي الإنسان محبة ولا عناية تجاه الآخر إلا خوفًا أو طمعًا أو سيرًا وراء عامل خاص.
تهجر الطيور الشجرة التي نفِدَت أثمارها، وتهجر الكراكيُّ الغدير الذي جف ماؤه، ويهجر النحل الأزهار الذابلة، وتهجر الظباء طرف الغابة المحترقة، ويهجر الندماء الرجل الفقير، ويهجر الخدمُ الملكَ المخلوع، فكلُّكم طلاب صيد.
الريح تصاحب النار التي تحرقُ الغاب، والريح تُطْفِئ المصباح، فمن يُصادق الضعيف؟
الإنسان لا يحب الآخر إلا طمعًا في نفع منه، والآلهة لا تستجيب إلا بسبب ما يُقرَّب إليها من القرابين.
تدوم المودة بدوام الهبات، فالعجلُ يهجر أمَّه إذا نفِد لَبَنُها.
الإنسان ليس خادم الإنسان، بل خادم المال، فالمرء يكون وجيهًا أو غير محترم بحسب غناه أو فقره.
الإنسان إذا كذب أو مجَّد من لا يستحق التمجيد أو هاجر إلى بلد أجنبي فإنه يفعل ذلك في سبيل بطنه.
يسيطر الإنسان في هذه الدنيا على جميع أفعاله ما لم تسحر لُبَّه امرأة بكلامها.
يصبح العقلاء والأبطال في المعارك من البائسين أمام المرأة.
يرى المرء، الذي تُسيِّره المرأة بكلامها، غير الجائز جائزًا والصعب سهلًا وغير السائغ سائغًا.
(٥) النساء
مَنُو جعل قسمة النساء في حبهن لفراشهن ومقعدهن وزينتهن وفي هواهن وغضبهن وسيئ ميولهن ورغبتهن في الشر والدعارة.
النساء يُكلِّمْن رجلًا وينظرن إلى رجل آخر مضطرباتٍ ويفكرن في رجل ثالث ماثل في خلدهن، فمن ذا الذي يحبه النساء إذن؟
النساء متقلبات على الدوام، ولا تستثن منهن نسوة الآلهة، فطُوبى لمن يحسن حجب نسائه، فالمرأة إذا كانت طاهرة فلرغبة الرجل عنها، لا لحيائها وعفافها وفضلها ووجلها.
لا تُنال النساء بالعطايا ولا بالرعاية ولا بالإخلاص ولا بالعناية ولا بالقوة ولا بالمبادئ، فالنساء مخلوقاتٌ جامحات.
النساءُ كالبقرة التي تبحث عن الكلأ الجديد في الغابة، فالجديد، الجديدُ، هو ما يرغبن فيه.
حب المرأة ينطفئ بسرعة كوميض البرق، فالمرأة تتكلف حبك مع تفكيرها في غيرك، والمرأة تضمك بين ذراعيها مع لهفها على منافس لك على ما يُحتمل، ولِمَ تريد مقاومة الطبيعة؟ فالسدرة لا تزهر فوق ذُروة الجبل، والبغلة لا تحمل أثقال الحصان، والشعيرة لا تنبت أرزَّة، فلن تجد الفضيلة في روح المرأة.
تهوى المرأة الفاجر رجلًا آخر على الدوام وترضى بذلك، فلا تبالي في سبيل هواها بسقوط الأسرة ولا بعذل الناس ولا بالسبي ولا بالمخاطرة بالحياة.
ما في قلوب النساء لا يجري على ألسنتهن، وما يجري على ألسنتهن لا يسري إلى الخارج، فما في الخارج ليس من صنعهن.
يصير المنزل إلى الخراب إذا كان أمره بيد امرأة، أو وجد فيه مقامر، أو كان آمره صبيًّا.
على المرء أن يُقلع عن الحب، فإذا لم يُقلع عنه وجب عليه أن يقصره على زوجته، فهي وحدها التي تستطيع أن تشفيه.
يجب على الزوج العالِم بخلق المرأة التي فطرها عليه رب الخلق حين برأ الكون أن يراقبها مراقبة وثيقة.
(٦) العلم والجهل
العلم أجمل زينة للإنسان لا ريب، العلم كنز خفي، العلم صديق رفيق في الرحلات، العلم منبع لا ينضب معينه، العلم وسيلة المجد ورونق المجالس، العلم هو العين العليا، العلم يهيئ لنا سبل الحياة في الدنيا، فلولا العلم لكان الإنسان من البهائم.
العلم أطيب النعم، فلا يمكن نزعه من إنسان ولا شراؤه منه، فهو كنز لا يفنى.
الحكمة والمملكة غير متساويتين، فالملك إذا كان محترمًا في بلده فإن العالِم مبجل في كل مكان.
العالِم يتصف بكل المحاسن، وليس في الجاهل سوى المساوئ، فالعالِم خير من عدة ألوف من الجهال.
لا ينال الإنسان العلم والثراء والفن نيلًا تامًّا إلا إذا ساح في الأرض مسرورًا.
الذكاء خير من العلم وفوق العلم، فمن كان غير ذكي هلك.
ما هي فائدة المرء من العلم إذا كان عاطلًا من الذكاء؟ وما هي فائدة المرء من المرآة إذا كان عاطلًا من العينين؟
السهم الذي يرميه النَّبَّال يقتل رجلًا واحدًا أو لا يقتله، وأما ذكاء الحكيم فإنه يهدم بلدًا مع رئيسه إذا ما أُطلق.
أعظم الفقر في قلة العلم.
الجاهل يهاجمه كلَّ يوم ألف غم ومائة خوف، ولا يهاجم الحكيم شيء من ذلك.
لا يلمع الجاهل في مجلس إلا بثوبه، ولا يلمع الجاهل إلا إذا امتنع عن الكلام.
خير لك أن تكون ذا ولد عالم من أن تكون ذا مائة ولد جاهل، فالقمر وحده يكفي لتبديد الظلام مع أن الكواكب في مجموعها لا تستطيع ذلك.
يصل ذوو المحاسن إلى النور بمحاسنهم من غير نظر إلى أنسابهم.
(٧) الغنى والفقر
من الصعب أن تتَّهم الهندوس بالملق في كتبهم، فهم لا يعلنون احتقارهم للثروات، كما جاء في كتب الغربيين منذ القدم، قولًا لا فعلًا، فإذا عَدَوْتَ العلم الذي يضعونه فوق كل شيء وجدت نَيْل الغِنَى غاية الحياة عند حكمائهم، وهم يمقتون الفقر ويرون الموت أفضل منه، وتبدو آراؤهم هذه مبالغًا فيها، لا ريب، إذا ما طُبِّقت على حضارتنا الغربية، مع أنها غيرُ ذلك في العالم الذي ظهرت فيه، فأحوال المعايش لدى أمم الهند جعلتها لا تعرف غير أقصى البؤس وأقصى الغنى، وبلغ ما بين الفقر والغنى من التناقض مبلغًا لا أمل للفقير معه أن يتخلص من فقره.
ويَهَبُ الغِنَى الحرية ويؤدي الفقر إلى العبودية، وسترى من التأملات والنصائح التي ينطوي عليها هذا المطلب أن الهندوس، على ما كان من استعبادهم في كل وقت، رأوا مساوئ العبودية، هذه المساوئ، على الخصوص، هي التي أوحت إليهم مقتًا شديدًا للفقر.
يرى بعض العقلاء أن الملك يقوم على الفضيلة والغنى، ويرى آخرون أنه يقوم على اللذة والغنى، ويرى بعضٌ آخر أنه يقوم على الفضيلة وحدها، ويرى بعضٌ رابع أنه يقوم على الغنى، غير أن النعيم يتم باجتماع هذه الأمور الثلاثة.
لا يدخر المرء وُسعًا في نيل الثراء، فعلى العاقل ألا يبذل جهودًا إلا للوصول إليه.
من كان غنيًّا كان ذا أصدقاء، من كان غنيًّا كان ذا أقرباء، من كان غنيًّا كان رجلًا في الدنيا، من كان غنيًّا عاش حقًّا.
يبدو العدو، في هذه الدنيا، للأغنياء قريبًا، ويبدو القريب، فيها، للفقراء عدوًّا.
من شأن الغِنَى أن يجعل محترمًا من هو غير جدير بالاحترام، وأن يجعل مرغوبًا فيه من يجب اجتنابه، وأن يُمدح من لا يستحق المدح.
يُعَدُّ الشِّيب من الشبان إذا كانوا من الأغنياء، وَيُعَدُّ الشبان من الشيب إذا كانوا من الفقراء.
من كان غير غنيٍّ في هذه الدنيا لم يكن رجلًا إلا بالاسم.
يتوارى شرف الإنسان وفخره وعلمه وجماله وذكاؤه إذا خسر ثروته.
قد يقال إن الرجل سليم الحواس، فهذا قولٌ فارغ، وقد يقال إنه سليم العقل، فهذا كلام فارغ أيضًا، فالرجل ينقلب إلى رجل آخر فورًا إذا أضاع ثروته.
فقر الناس هو العدم المجسَّم، هو بؤرة الشرور، هو ضرب من الموت.
قد تحتاج إلى الصلصال إذا كان خالصًا، ولكن الفقير لا ينفع لشيء في هذه الدنيا.
يجب أن تخشى الفقر، فهو عنوان العجز، فلا يُعَدُّ الفقير إلا كلبًا ولو قام بأحسن خدمة.
لا تلمع صفات الرجل الطيب إذا كان فقيرًا، فالثروة هي التي تنير الصفات كما تنير الشمس كل موجود.
يتلاشى ذكاء الرجل المعسر، مهما كان قويًّا، في همه الدائم من أجل القوت والثوب.
ولم يلبث بيت الغنيِّ الأنيق أن يصبح سمجًا إذا ما أعسر، فيبدو كالسماء بلا نجوم وكالحوض الذي جف ماؤه وكالمقبرة الكريهة.
يفقد الرجل مقامه إذا افتقر، ويغدو غير شريف إذا فقد منزلته، ويصبح محتقرًا إذا فقد شرفه، ويقل عزمه إذا احتقر، ويقنط إذا قل عزمه، ويخسر عقله إذا قنط، ويهلك إذا خسر عقله، آه، من الفقر الذي هو مصدر كل شر!
يموت الرجل العاقل غير متوجع، بَيْدَ أنه لا يرضى بالفقراء، فالنار، وإن أمكنها أن تنطفئ، لا يمكنها أن تبرد.
قيل إن الرأي تفضيل الفقر على الموت عند التخيير بينهما، مع أن الموت يوجب ألمًا خفيفًا والفقر يوجب ألمًا ثقيلًا.
لا خير في الحياة بغير استقلال، فماذا تكون الحياة عند التابعين لغيرهم إن لم تكن موتًا؟
لَأَن يعيش المرء في غابة، أو أن يكون سائلًا، أو أن يكسب عيشه من حمله الأثقال، أو أن يمرض خيرٌ من أن ينال الغنى مع استعباد.
(٨) السلوك الواجب في مختلف أحوال الحياة
نجمع في هذا المطلب ونقسِّم بعض النصائح العملية حول سلوك الإنسان في الحياة ونتائج الفضائل والرذائل وحول واجباته نحو أقرانه وما يجب عمله للتوفيق بين الناس، وأنفع الصفات التي أُوصيَ بها هي: البصيرة والاحتراز والثبات والاعتدال في الرغائب، وعد الغضب أمرًا حقيرًا لعدم فائدته، وعدت المداهنة أمرًا حسنًا لفائدتها، فمن هنا ترى أن الآداب الهندوسية نفعيةٌ إلى الغاية.
ونذكر مبادئ الآداب العامة قبل النصائح التي تُطبق على مختلف أحوال الحياة، وتشابه هذه النصائح ما جاء في كتب النصارى، ولا سيما ما يدور حول الحكمة القائلة: لا تعامل الناس بغير ما تحبُّ أن يعاملوك به، ولكننا لن نسهب كثيرًا في بيانها، فالذي يجب أن يعرف هو ما يحافظ عليه الناس، لا القواعد الأخلاقية التي تقول بها الكتب، والفرق بين كلا الأمرين واضح، وما نذكره في هذا المطلب من المقتطفات يكفي لتبيان الأخلاق العملية عند الهندوس.
مبادئ الآداب العامة
أنصتوا لروح الفضيلة، فإذا أنصتم ففكِّروا، فلا تعاملوا غيركم بغير ما تحبون أن يعاملوكم به.
يمكن الناس أن يستعدوا بسهولة لوعظ الآخرين، وأما ممارسة الفضيلة فلا يقوم بها سوى خيار الناس.
يرى بعضهم أن الحكمة في اللسان كما عند الببغاء، ويراها بعض آخر في القلب كما عند البكم، ويراها آخرون في القلب واللسان معًا.
اللئيم يتبعه عمله ولو سار من ألف طريق، والكريم يتبعه عمله ولو سار من ألف طريق أيضًا.
يؤتِي كل عمل من أعمال الفكر أو اللسان أو البدن ثمرةً طيبة أو ثمرة خبيثة بحسب ما يكون خبيثًا أو طيبًا، وتنشأ أحوال الناس عن أعمالهم.
قيمة الإنسان، مهما كان أصله وطائفته، بإخلاصه وضبطه لحواسه وزهده وإحسانه وكفِّه الأذى عن غيره وقيامه بالواجب قيامًا دائمًا.
الأثمار التي يقتطفها الناس من شجرة خطيئاتهم هي المرض والكرب والغم والرِّق والبؤس.
حبط عمل الأفاعي والأشرار واللصوص، ولولا هذا ما وُجِد العالم.
الحذر والاحتراز
يجب على الرجل العاقل الراغب في الغنى وطول العمر والسعادة ألا يثق بإنسان.
الضعفاء إذا ما حَذِروا لم يقتلهم الأقوياء، والأقوياء إذا ما وَثِقوا قتلهم الضعفاء.
على المرء ألا يثق بعدو مقهور ولو صار صديقًا.
على العاقل ألا يطلع أحدًا على غناه مهما كان ضئيلًا، فالغنى يحرك قلب العابد.
الاستعانة بالقوي في القتال يؤدي إلى موت الضعيف، فالقوي يظل سليمًا كالحجر الذي يكسر الفخار.
من تدخل فيما لا يعنيه بحث عن هلاك نفسه بنفسه كالقرد الذي يقتلع زاويةً.
على العاقل ألا يضحي بالكثير من أجل القليل، فمن الحكمة أن يحفظ المرء الكثير بالقليل.
من يترك الأكيد من أجل غير الأكيد يخسر الأكيد وغير الأكيد.
أربعة أبواب تؤدي إلى الموت: العمل السيئ، ومعاداة القريب ومنافسة الأقوى، والاعتماد على المرأة.
العاقل من يتكلم عندما يسأل عن حقه، فالمتكلم بلا سؤال كالباكي في الغاب.
الأحمق الذي يخاطب صيادًا بذل جهدًا غيرَ مجدٍ أو الذي يخاطب جاهلًا شقيًّا يلحقه عار.
يندمل جرح من يصيبه سهم، ويلتئم جرح يحدثه سيف، بَيْدَ أن كلمة مؤذية تثير عوامل الحقد فلا يبرأ جرح أوْجَبَه قول.
الحلم والصبر
من كان حاذقًا في أمور الدنيا وجب عليه أن يعالج هذه الأمور بحلم، فلا خسران في عمل تمَّ بحلم.
الاتحاد أجمل شيء للناس، ولا سيما مع الصديق، فالأرُزُّ إذا ما جردته من قشره لا ينبت.
اجتماع الأشياء الصغيرة يؤدي إلى نتائج كبيرة، فالليف المفتول يقيد الفيل الهائج.
كيف يتودد الإنسان إلى الناس
يجب أن تعامل الناس على حسب أخلاقهم، فالعاقل إذا ما ألمَّ بأفكار الآخرين حكمهم من فوره.
يجب على المرء أن يتودد إلى البخيل بالمال وإلى الشديد بالخضوع وإلى الجاهل بالحلم وإلى المتعلم بخلوص النية.
يمكن المرءَ أن يتودد إلى الصديق بنبيل العواطف وإلى الأبوين بالاحترام وإلى النساء والخدم بالهدايا والرعاية وإلى بقية الناس باللباقة.
المداهنة وسلامة الطوية
سلامة الطويَّة أمر طيب لدى الزهاد المتبتلين إلى التأمل، ولكنها غير ذلك عند الراغبين في الثراء والزُّلفى لدى الملوك على الخصوص.
لا يعيش الرجل الذي يكون صريحًا لدى النساء والعدو والصديق الخبيث.
يرتدُّ الكبش لكي يهجم، ويتكمَّش الأسد لكي يثب، فالعقلاء إذ يتناجون ويكظمون غيظهم يحتملون كل شيء عند إنعام النظر.
لا يلبث العاقل الذي يعرف خُلُق رجل عند المصاقبة أن يسوده.
الشجاعة والثبات
عدم البدء أُولَى علائم الذكاء، وإنهاء ما بُدئ به ثانيةُ علائم الذكاء.
النجاح بالأعمال، لا بالآمال، فالظباء لا تدخل فَم الأسد النائم.
ما هو الحمل الثقيل لدى الأقوياء؟ ما هي المسافة البعيدة لدى ذوي الإقدام؟ ما هو البلد الغريب لدى المتعلمين؟ من هو عدو الحليم؟
الرجل الثابت يعلو الآخرين فيصير محترمًا ولو لم يكن غنيًّا، والرجل الضعيف يُحتَقَر مهما كانت ثروته.
من يقنع في بؤس فَيَكْتَفِ بالتوجع لا يصنع غير زيادة بؤسه من غير وقوف عند حد.
الغضب
الفيل، مع عظيم قوته، لا يغضب إذا لسعته نحلة باحثة عما في صدغيه من الشراب، فالقوي لا يغضب إلا إذا كان تجاه قوة تعدل قوته.
غضب الضعفاء سبب تعسهم، فالإناء الملتهب يحرق جوانبه.
لماذا يغضب الرجل العاجز عن إيقاع الأذى، فالحمصة تَثِبُ من غير أن تكسر المقلاة التي تُحَمَّص فيها.
إذا نبح الكلب على جبل فأيهما يألم، الجبل أم الكلب؟
الحسد
العلماء يمقتهم الجهلاء، والأغنياء يمقتهم الفقراء، والأتقياء يمقتهم الملاحدة، والنساء الفاضلات تمقتهن النساء الفاجرات.
تحري الصلات ونتائجها
على المرء ألا يكون ذا صلة بمن لا يعرف قوَّته ولا أسرته ولا سيرته.
قد تكون صداقة ونسب بين من تساويا ثروة وعرقًا، لا بين قوي وضعيف.
تكون الصداقة والألفة بين من تساوَوا ثروةً وتربيةً، لا بين من تبوأ مكانًا عليًّا ومن تبوأ مكانًا دنيًّا.
الأحمق الذي يتخذ صديقًا فوقه درجةً أو دونه مرتبةً يسخر الناس منه.
يجب على العقلاء أن يتخذوا لأنفسهم أصدقاء خلصاء لينقذوا أنفسهم من الشقاء، فمن ليس له أحباء لا يتغلب على البأساء.
حتى الشيطان يحتاج إلى خلَّان.
لا رجل في الدنيا أسعد ممن يحادث صديقًا ويساكن صديقًا ويذاكر صديقًا.
الظباء تبحث عن الظباء، والأبقار تبحث عن الأبقار، والأفراس تبحث عن الأفراس، والأغبياء يبحثون عن الأغبياء، والعقلاء يبحثون عن العقلاء، فالصداقة تقوم على تشابه المحاسن والمعايب.
من يقدر الفضل يحب صاحب الفضل ومن هو عاطل من الفضل لا يحب صاحب الفضل.
معاشرة الأشرار تغير الأبرار، فترى الفضلاء يجتنبون الخبثاء.
يخسر الإنسان ذكاءه بمعاشرته من هم دونه، فإذا عاشر شباهه بقي مساويًا لهم، وإذا عاشر من هم أفضل منه سار إلى الفضل.
يكون الحصان أو السلاح أو الكتاب أو الكلام أو المرأة أو الرجل طيبًا أو خبيثًا بحسب المرء الذي يلاقيه.
لا تعرف من الماء الذي يصب على الحديد الحامي إلا الاسم، فإذا استقر الماء على ورق السِّدْر الْتَمَعَ كاللؤلؤ، وإذا سقط الماء على صدف تحت كوكب سَوَاتي تحوَّل إلى دُرٍّ، فالحق أن الطبائع الكريمة والمتوسطة والخسيسة تكون على حسب المجتمع الذي يُلازَم.
(٩) السياسة
تبدأ السياسة بالحلم وتنتهي بالعقاب.
لا يُحترم من لا يستبد، فالناس يهابون الأفاعي أكثر من مبيد الأفاعي غرودًا.
يخسر الملك الذي يتملَّقه طبيبه وأستاذه ووزيره صحته ومقامه الديني وثروته.
إذا عهدتم بالسلطة إلى رجل خدمكم لم يفكر هذا الرجل في العيب بكم، فوزيرٌ كهذا يَشِيد بخِدَمه ويمزجها بأمور الدولة.
يجب عدم إغناء الوزير مهما كان، فقد قال الحكماء: الغنى يغير أخلاق الإنسان.
إذا ما ضُغِط الوزراء استفرغوا جوهر الملك، فالوزراء كالدماميل، فعلى ملوك الأرض أن يؤلموا وزراءهم على الدوام، أفيستخرج ماء ثوب الحمَّام من يعصره مرة واحدة.
قُتِل من لم يقتل العامل الذي هو مثله ثراءً وقوة وذكاء وحزمًا وسلطانًا.
يجب أن يكون سلوك الأمير الملكي والوزير الأول وكاهن آل البيت والحاجب تجاه الملكة وأم الملك كسلوك الملك.
يجب على الأمير الحاذق في السياسة أن يكون كالسلحفاة التي تختفي بين طبقتيها العظميَّتَيْن فتقاوم بذلك صدمة عدوها، فإذا ما لاحت الفرصة نهض كالحية المرهوبة.
يجب على الأمير، ليظفر بأعدائه، أن يلجأ إلى التوفيق والفساد والتفريق معًا أو على انفراد، وليجتنب قهرهم بالسلاح.
لا يُقهر العدو بالسلاح كما يقهر بالحيلة، فالمحتال لا يغلبه الأبطال مهما كان قصيرًا.
لا مشير أحسن من وارث عرش في بذر الفساد بين الأعداء، فعلى الأمير ألا يألو جهدًا في رفع وارث عدوه.
يجب على من يعرف قواعد السلوك الثلاث التي يجب اتباعها، وهي: الفضيلة والمنفعة والرغبة، ألا يكون عظيم الرحمة، فلن يستطيع متسامح أن يحافظ على ما في يده.
وجب قتل العدو الضعيف قبل أن يصبح قويًّا، فالعدو الضعيف إذا ما تقوَّى صعب قهره.
يجب ألا يُحَالف العدو، ولو بأوثق العهود، فالماء يُطفِئُ النار مهما كان حارًّا.
الأعداء الذين يقتلون بالسلاح ليسوا بالقتلى، فقتلى الأعداء هم الذين يُقتلون بالحكمة، فالسلاح لا يقتل سوى البدن، والحكمةُ تقتل الأُسرة والثروة والشُّهْرة.
تقوم الحرب على أمور ثلاثة: الأرض والصديق والذهب، فعلى من لا يملك واحدًا منها ألا يوقِد حربًا.
جيش صغير مؤلَّف من جنود مدربين خير من جيش عظيم مؤلف من أخلاط غير مدربين، فأردأ الجنود يُغلبون ويوجبون هزيمة الشجعان في الميدان.
إذا ما نَشِبت الحرب وجب على الأمير أن يكون صارمًا حتى تجاه من يحبهم حبه لنفسه ومن يحافظ عليهم ومن يرعاهم بعين عنايته.
(١٠) مصدر الاختلاف بين تعاليم الكتب الهندوسية وتعاليم الكتب الأوربية
سوف يقف القارئ، الذي يطالع هذه الحكم بعد تلك الفصول التي كان للدين أبرز مكان فيها، مشدوهًا أمام تناقض آراء الهندوسي في اللاهوت والآداب، ففي اللاهوت ترى تجلِّيَ خيال الهندوسي تجليًا مشوَّشًا مفرطًا، وفي آدابه ترى ثمرة الحس العملي بأدق معنى وبأكثره إيجابًا.
فبينما تبصر السلطان لأخيلة أحبار الهند وشعرائها في الحقول الوهمية، فيفتح هؤلاء أبوابًا لمستقبل أسطوري، فيعدون كيان الإنسان كخردلة في عالم الزمان، فيضعون درجة من الكمال لا تكاد تُبلغ إلا بألوف مؤلفة من التحولات التي تقع في ألوف من القرون، تجد علماء الأخلاق في الهند يقولون بتمتع الإنسان بالحياة قبل كل شيء، ويرون أن يزيل عنه كل هم يضنيه، وأن ينظر إلى الحياة من ناحيتها الطيبة، وأن يبحث عن الغنى وألا يكون ساذجًا، وأن يحذر النساء لأنهن أخطر الشرور بما يوقدنه في الأفئدة من نار الحب.
يبدو تحلُّل تعاليم الهندوس الخلقي مؤذيًا لمشاعرنا، ولكن لا تنسَ قيام هذه التعاليم على تفهُّم الحياة تفهمًا منطقيًّا، فنحن، وإن كنا نقول بمبادئ خلقية سامية لا نطبق، عند العمل، سوى حِكَم كتلك الحكم الهندوسية.
وهذا التناقض الذي يبدو جليًّا عندنا يرى مثله لدى الهندوس، ولكن العروق والبيئات والأزمنة جعلت هذا التناقض يظهر في الهند بين الدين والآداب وجعلته يظهر في أوروبا بين الآداب المدونة وأعمال الحياة العادية.
وإذا بحثت عن التناقض بين الذي نُعَلِّمه والذي نطبقه فينفر منه الشرقيون الذين يدرسون أمور أوروبا وجدته ناشئًا عن مبادئنا الخلقية، وبيان الأمر أن الدين في عصور الإيمان كان مرتبطًا في الآداب ارتباطًا وثيقًا فلم تُعَد الآداب فيها سوى تعاليم إلهية خالصة، فلما تلاشت المعتقدات بَقِيَت الآداب سليمة مثاليَّة، أي أسمى مما يقدر الإنسان على تحقيقه، ولما زالت عنها صفتها الإلهية، بذلك، تجلَّى البون واضحًا بين الذي نُطبِّقه والذي نشير إليه باسم الناس، لا باسم الله.
والدين منفصل عن الآداب عند الهندوس في كل زمن كما كان منفصلًا عند الإغريق والرومان، أجل، إن التعاليم الدينية تنفُذ، كما قلنا، جميعَ أعمال الحياة عند الهندوس لا ريب، غير أن هذه التعاليم القاطعة الخاصة بالطقوس والحجِّ والصلوات والقرابين، إلخ، أي بسير الإنسان نحو الآلهة، لا تُبالي بسلوك الناس بعضهم نحو بعض، فلم تقم الآداب الهندوسية على غير أساس العادة التي هي وليدة التجربة الناشئة عن مقتضيات الحياة، وبينما تبصر مَثَل الهندوس الأعلى قد ظلَّ ضمن دائرة خارجة عن هذه الدنيا عامرة بموجودات قادرة على كل شيء غير مبالية بسوى واجبات الناس نحوها، لا بواجبات الناس بعضهم نحو بعض، تبصر الحياة بادية للهندوس كما هي بخيرها وشرها، فليست الأرض التي يسكنها الهندوسي، بالحقيقة، إلا جُثْوَة تراب زائلة إذا ما قيست بالمساوف الساطعة اللامعة العامرة بالآلهة المرهوبة التي يراها بخياله عندما يطأ معابده أو يقلِّب صفحات كتبه المقدسة.
وما بين سلوك الإنسان وآماله من التناقض يبدو، إذن، عند الهندوسي كما يبدو عند الأوربي، وإذا كان هذا التناقض أكثر وضوحًا عندنا فلأن دائرتي مَثَل الهندوسي الأعلى ومثل الأوربي الأعلى مختلفتان، ولو نظرت إلى ذَيْنِكَ المَثَلين الأعلَيَيْن من الناحية الفلسفية لوجدتَ أساسهما واحدًا مع ذلك، فأمل السعادة الخلَّاب البعيد الذي يسعى البشر لتحقيقه منذ قرون والذي تعرضه على أعيننا مهامايا الخادعة، أو الغواية الكبرى، هو العامل الحقيقي لجميع أفعالنا ولا حياة لنا بغيره، فليس تأسيس الديانات وإقامة الدول وإيقاد الحروب والثورات وفتح البلدان وكل ما يسجل التاريخ سيره، عند الفيلسوف، إلا قصصًا لحوادث أتمها الإنسان سعيًا وراء مثل عال ديني في دور، وسياسي أو اجتماعي في دور آخر، ومما لا ريب فيه أن المثل الأعلى الواجب الوجود والسيد المسيطر على أعمالنا والطيف القادر على كل شيء يُغيِّر مواضعه هنا وهنالك على الدوام، ولكنه لن يزول إلا بزوال آخر إنسان، ونحن، مهما نبلغ من درجات الشك، لن نغفل عنه طرفة عين من غير أن نحكم على أنفسنا بالموت حالًا.