النُّظمُ والطبائع والعادات
(١) القرية والتملك
بدت القرية، منذ أقدم عصور الهند، جماعةً سياسية منظمة تامة الوحدة لا يعلوها سوى الدولة.
فالحق أن القرية هي وطن الهندوسي، ففي القرية تتجلى مقتضيات الاجتماع، ففيها يجد الهندوسي الحكومة الأبوية الحامية له، والقاضي الذي يرد عليه حقَّه، والكاهن الذي يوجه روحه، والطبيب الذي يداوي جسمه، والشاعر الذي يسحر فؤاده، والراقصة التي تفتِنُ عينيه، وأبناء عشيرته الذين يلتفون حوله كأسرة هو ابنها.
حقًّا أن ثورات نشبت وحروبًا اشتعلت ودولًا شيدت وممالك انهارت من غير أن يكترث الفلاح الهندوسي لذلك كله، وما كان سادته الذين تولوا أمره بالتتابع ليطالبوه بسوى المال غير متعرضين لعاداته المتأصلة، فظل كما كان منذ ثلاثة آلاف سنة، ولا تزال القرية الهندوسية صورةً لما كان عليه المجتمع الآري الفطري، ويمكننا أن نتمثَّل بها حال جميع المجتمعات في أدوارها الأولى.
ولا يذهب القارئ إلى أن القرية في الهند هي مجموعة منازل فقط، بل تشتمل، أيضًا، على الأراضي التي تحيط بها فيملكها سكانها.
وتلك الأراضي مُشاعة، ويسبق الشيوع التملك الشخصيَّ في جميع العالم كما هو معلوم، ولكن جميع المجتمعات بينما تتدرج إلى مبدأ التملك الشخصي ترى المجتمع الهندوسي لا يزال وفيًّا للطراز الآخر، ومن الغريب أن تبصر المجتمع الهندوسي، في كل زمن، يسعى في رد كل مُلك شخصي إلى المشاع خلافًا لما تسير إليه بقية الأمم.
وإذا حدث أن شخصًا استطاع أن ينال الغنى بمواهبه وَجَدَت الجماعة التي ظهر منها أن من الطبيعي أن تطالب بمقاسمته ما اكتسب، فرُفِعَت في الهند قضايا شاملة للنظر حول ذلك، فوجد قضاة الإنجليز عناءً كبيرًا في الحكم للمدعى عليه الغنيِّ بثمرة عمله أحيانًا، وما كانوا ليصلوا إلى نتيجة كهذه إلا حين ثبوت عدم مساعدة الجماعة على نيله الثراء بما حَبَتْه به من التربية، وإلا لم يوجد ما يمنع من رد أمواله إلى الجماعة.
وإذا ولد ولدٌ في الهند كان له حقٌّ في مال أبويه منذ ولادته، وقد ظُنَّ أن هذا يؤدي إلى نظام التملك الفردي، مع أن الأمر غير ذلك، فالقسمة لا تحدث فعلًا، فالولد لا يفكر في هذا حين يبلغ سن الرشد فيصبح قادرًا على المطالبة بماله، بل يكتفي بنصيبه في الدخل، فمن هنا ترى أن المشاع هو مردُّ التملك الفردي على الدوام.
وشيوع الأموال مزدوجٌ، فينظر إليه من ناحية الأسرة أو ناحية القرية.
نشأ مشاع القرية عن الأسرة، وما كانت القرية غير أسرة كبيرة، وهذا التعريف صحيح في غير حال، فأهل القرية إذا كانوا أبناء لجدٍّ واحد فإنه يتألف من مجموعهم عشيرة حقيقية، ومما يقع أحيانًا أن تؤلَّف العشيرة من ثلاث أسر أو أكثر وأن يكون بابها مفتوحًا للغرباء، ومما يحدث في الغالب أن تكون الصلة العائلية وهميةً مع الاعتراف بها والاستناد إليها.
والأمر مهما يكن فإن الزمرة تنقسم إلى أسر مختلفة ويكون لكل واحد منها منزلٌ وأرض لتزرعها، وما عند الأسرة من منقولات، كالمواشي وآلات الزراعة، إلخ، وما يعود على الأسرة من دخل المشاع فمشتركٌ بين أفراد الأسرة: الأب والأم والأولاد، فهذا هو الشيوع المنزلي.
ومن ناحية أخرى تبصر أراضي القرية خاصةً بأهلها فيزرعونها بالاشتراك ويقتسمون ما تنتجه فيما بينهم، فهذا هو الشيوع الاجتماعي.
وإذا تم الحصاد جُعِل الزرع المحصود أكداسًا أكداسًا فخُصت الدولة بالكدس الكبير، فبهذا ينتهي واجب الهندوسي نحو ما سُمِّي على غير حق وطنه، فيعود غير مدين له بشيء وغير منتظر منه شيئًا.
وبعد أن تظفر الدولة بحصة الأسد يكافأ موظفو القرية فيُخصُّ عميدها بكدس كبير، ويخص البرهمي بكدس آخر، ويخص كل من الخفير والسَّقَّاء والحلاق والخزاف والنجار والحداد والغسال والسكَّاف والفلكي والطبيب والشاعر والراقصة بكدس أصغر.
تقوم القرية بمعايش أولئك الموظفين وغيرهم، ويزيد عدد هؤلاء بنسبة اتساع القرية وغناها، وينتسب كل واحد منهم، على حسب وظيفته، إلى طائفة خاصَّة ويجتنب الزواج بغير بنات طائفته والأكل مع آخر من طائفة أخرى، بَيْدَ أن حواجز قاسيةً كهذه لا تؤدي إلى تنافس أو خصام بين أهل القرية، فهؤلاء إذ يعتقدون أنهم من أصل واحد يشعرون بأنهم إخوة، فترى روح المساواة سائدة لهم، ولا يجد من يقومون بالوظائف الخسيسة غضاضةً فيما يقومون به ما حظوا برعاية أبناء عشيرتهم.
وبعد أن ينال الموظفون حصصهم من الغلَّة يقسم ما بقي منها بين جميع الأسر، وليس كبيرًا نصيب كل أسرة، فالفلاح الهندوسيُّ مثقلٌ بالضرائب، فهو يكون سعيدًا إذا ما نال، بعد الذي يُؤدي، ما يكفي أسرته، وما يشتري به بِذارًا للزرع في العام القادم، وفي البنغال تُعَدُّ الأسرة سعيدة إذا نالت ما يعدل خمسة دوانق أو ستة دوانق مُيَاوَمةً.
وحيثما يكن أمر المشاع منتظمًا ينلْ الفلاح العون من بني قومه وقت الضيق، فلا يقاسي ألم الجماعة إلا إذا كانت عامة.
ويسوس كل قرية عميدٌ منتخب يساعده مجلس كان يُؤلَّف من خمسة أعضاء فأضحى يؤلف من أعضاء أكثر عددًا، ويدير شئون كل قرية الموظفون الأوَّلون المذكورون.
وبلغ نظام القرية التقليديُّ من النفوذ في النفوس ما لم يقدر معه ملك على تبديله، واحترم جميع الفاتحين الذين دوَّخوا الهند نظام القرية فلم يتعرَّضوا لاستقلالها، وللفاتحين فوائد في ذلك، فولي الأمر لم يكن ليبالي بغير جباية الخراج المجدي بانتظام، وما كان ليجد خيرًا من مجالس القرى المسئولة عن سكانها في مساعدته على هذه الجباية.
وهيهات أن تكون جميع قُرَى الهند على ذلك النظام، ففي الهند المترامية الأطراف عروق كثيرة مختلفة لا يثبت معها أيُّ نظام، فالواقع أنك تجد في الهند جميع أطوار التملك المعروفة التي تترجح بين شيوع الأموال المطلق وحق الفرد المطلق في التملك.
وإذا كانت طُرُز جباية الضرائب عنوان أنواع التملك في الهند فإننا نذكر باختصار الطرز الخمسة التي تجبيها الحكومة الإنجليزية بها في مختلف أقسام الهند.
انتحل الإنجليز المبدأ الإسلامي القائل إن رقبة الأراضي لولي الأمر وإن ما يدفعه الرعايا إليه ليس ضريبة عنها، بل دخلًا كالذي يؤديه المزارعون إلى مالكيها.
تقسم جميع الأراضي في البنغال بين عدد كبير من الملاك «زميندار» الذين هم نوع من الزراع العامون فيؤاجرونها من الفلاحين على أن يظلوا مسئولين عن الضريبة تجاه الدولة.
والنظام في أَوَدْهَة مثله في البنغال تقريبًا، وذلك مع ملاحظة أن الحكومة في البنغال تتوسط بين الملاك «زميندار» والفلاحين حفظًا للفلاحين من كل جور واستبداد، وأن الفلاحين في أَوَدْهَة يبقون تحت رحمة كبار المالكين.
ونَجَم دوام هذا الفرق مع الفروق التي نراها في الولايات الأخرى عن سير الحكومة البريطانية على مبدأ «بقاء ما كان على ما كان» فتركت الأمور على ما كانت عليه بعد الانقلابات التي عقبت سقوط الدولة المغولية، أي إنها لم تتصدَّ للملاك «زميندار» الذين كانوا من سعداء الأفَّاقين فأُقطعوا الإقطاعات بسبب الفتن والحروب.
وإنجلترا حين أقرَّت مبدأ التملك الوراثي فاعترفت لأولئك الملَّاك بما يتصرفون فيه من الأراضي ظنت أنها تقيم أريستوقراطية زراعية مخلصة لسلطانها حريصةً على تحسين ما هو قبضتها، ولكنها رأت ما خيَّب ظنها، فلم يكن الفلاح عرضة للظلم والبؤس زاهدًا عن فَلَاح الزراعة في مكان مثله في البنغال وأَوَدْهَة، ففي هاتين المنطقتين يعمل الفلاح من أجل سادة قُساة غِلاظ صُلفاء أخلياء، لا من أجل نفسه.
والحال في البَنْجَاب غير ذلك، ففيها تزدهر مُشاعات القرى، وفيها تجبي الحكومة الإنجليزية الخراج من عمدائها رأسًا، وفيها يكون الفلاحون طلقاء سعداء أربابًا لأراضيهم غيورين عاملين في إنبات حقولهم أقصى ما ينالونه منها.
وفي الولايات الغربية والمتوسطة تجد، تارةً، مالكين وارثين يقبضون أُجَرًا من الفلاحين ويدفعون الضريبة إلى الدولة آخذين الفرق لأنفسهم، وتجد، تارة، مُلاكًا كبارًا وملاكًا صغارًا تفرض الضرائب عليهم رأسًا.
ويؤدي كل واحد في الدَّكَن خراجًا إلى الدولة بنفسه قابلًا للتعديل زيادة ونقصانًا بعد انقضاء سنوات في كل مرة.
والدَّكَن، على ما هي عليه من قلة الغنى وضعف الخصب إذا ما قيست بالهندوستان، ذاتُ سكان سعداء أكثر من سواهم على ما يُحتمل، أجل، إن الدَّكَن تعرف نظام القرية المستقلة ذات الأراضي المشاعة، ولكن أمرها غيره في البَنْجَاب، فحقولها تقسم بين سكانها في أدوار معينة.
ولكل أسرة مقسَمُها التام في الأراضي، ويزيد هذا المَقْسم وينقص تبعًا لنشاط العمال وإهمالهم، ويستطيع رب الأسرة أن يبيع أرضه من غير أن يظفر بموافقة الجماعة، فلا ترى مثل هذا في المُشاع الحقيقي، ومن شأن التقسيم بين حين وحين أن يُساوي بين الثروات، وأن يذكِّر الفلاحين بأنهم أبناء أسرة واحدة مبدأً على الأقل، وأنهم متضامنون بعضهم مع بعض.
وغاية القول أن الوُسَطاء بين الفلاح والحكومة هم سبب بؤسه في الغالب، لا الغلو في فرض الضرائب وحده، فحيثما يتَّصل الفلاح بالحكومة رأسًا إما بصفته الفردية أم بصفته الشيوعية تجده نشيطًا ناجحًا راضيًا، مع فقره، بما قُسِم له تقريبًا.
وإنه لمنظر يُعجب السائح، حقًّا، ذلك الذي يبدو له حينما يجوب قرى البَنْجَاب أو هضاب الدَّكَن الجافية، ففيها يجد المعابد الكثيرة والأشجار المقدسة والهياكل القائمة على جوانب الطرق شاهدةً على تقوى ذلك الشعب الخرافي الساذج، وفيها يبصر دوائر البلدية البسيطة، المؤلفة من سقوف تُمسكها أعمدة، تنطق بالحرية في صورة خضوع منذ ثلاثة آلاف سنة، وفيها يشاهد سكانًا نافعين هادئين فرحين لابسين ثيابًا زاهية مع اختصارها يَميدُون في الأزقة الضيقة ذوات الحياط الخشبية محدقين بالغريب، مع قليل إزعاج وعدم اعتداء.
والأمر غير ذلك في ولاية أوريسة المضطهدة الفقيرة، حتى في وادي الغَنْج الغنيِّ حيث ينال القوم من الحقول كنوزًا لا تكون لهم.
(٢) الأسرة، حال المرأة في الهند
نظام الأسرة هو أول ما يجب البحث فيه إذا أريد الاطلاع على المجتمع الهندوسي.
فالأسرة هي مثال القرية والأساس الذي تقوم عليه، وتؤلَّف الدولة رأسًا من تجمع القرى كما رأينا.
والقرية الكاملة هي عشيرة أو أُسرة مشتركة.
وفي الأسرة المشتركة لا يملك أحد لنفسه شيئًا خاصًّا، فالمنقولات وغير المنقولات فيها ملك شائع، فلا يستطيع أيُّ فريق منها أن يبيعه من غير موافقة الجميع، ورب الأسرة هو الذي يدير شئون الثروة، ويتمتع فيها بسلطان أدبي مطلق، فإذا مات خَلَفَه ابنُه البكر من غير اقتسام للأموال فيطيعه الجميع كسابق إطاعتهم لأبيه، فإذا انقضت بضعة أجيال تحوَّلت الأسرة إلى عشيرة على أن يكون زعيمها أسنُّ واحد في أسنِّ فروعها.
ومن النادر أن يظهر عامل انقسام أو انحلال في الأسرة بعد أن تتسع، هذا ما فصلناه حينما درسنا العشيرة الراجبوتية وذكرنا، عند الكلام في التملك، الحالَ التي تُقسَّم فيها أموال الأب بين أولاده بعد موته.
وهذا ما هو شائع في الوقت الحاضر تقريبًا، ففي المجتمع الهندوسي مَيْل إلى زيادة شأن الفرد وتقليل شأن الأسرة.
وإنني، بعد تلك الكليات، أدرس في هذا المطلب أمرَ الأسرة أي الأب والأم والأولاد فأقول:
إن سلطان رب الأُسرة في الهند مطلقٌ كما كان في روما، وإذا كان الأب لا يصل بسلطانه إلى ما يمارس به حق الحياة والموت فلما فُطِر عليه الهندوسي من الحلم، وفي الهند تَعُدُّ المرأة بعلها قَوَّامًا ممثلًا للآلهة في الأرض، وفي الهند تبلُغ المرأة من احترام زوجها ما لا تذكُر معه اسمه، والمرأة، إذا كانت حديثة عهد بالزواج استبدلت باسم زوجها لفظًا عرضيًّا، وإذا أصبحت أمًّا كنَّت زوجها باسم ابنها البكر مضافًا إلى كلمة «أبي» فتقول: «أبا فلان»، مثلًا.
وللزوج سلطان مطلق، ومع أن المرأة لا تختاره، ما عُدَّت خطيبته منذ طفولتها، لا تكون الرابطة الزوجية بينهما ثقيلة، فالزوجان الهندوسيان متحابان، وإذا ظهر من الزوج عدم اكتراث لزوجته أمام الجمهور تبعًا للتقاليد فإنه يبدو في البيت حليمًا نحوها على العموم، فيسهل عليها أن تؤثِّر فيه، وقلما يضربها أو يؤذيها بالقول السيِّئ.
والمرأة الهندوسية جاهلة جدًّا، ويرى الهندوس بقاءها جاهلةً فِرارًا من العار والفضيحة؛ لما يجدون في تعلمها من معاني تقليد الرجال سفاهةً وظهورها كبنات الهوى أوضاعًا، وفي هذا سِرُّ ما يلاقيه سادة الهند في الوقت الحاضر من المصاعب في اجتذاب المرأة إلى المدارس.
ويُعَدُّ الأولاد خاطبين منذ طفولتهم، وتتزوج الفتيات في السنة الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من أعمارهنَّ على العموم، ولا كيان للمرأة الهندوسية بلا زواج، فلا تكاد تولد حتى يختار أبواها لها من يكون وليَّ أمرها، فهي إذا ما ترعرعت فمن أجله، وهو إذا ما كان فظيعًا شنيعًا فظًّا غليظًا فضَّلت البقاء مُلكه على أن تظل عزباء أو أن تخسره.
وَتُعَدُّ المرأة العزباء، والمرأة الأيِّم على الخصوص، منبوذتين من المجتمع الهندوسي، ومن الأيامى الفتاة التي تفقِد عروسها في أوائل عمرها، وفَتْقٌ مثل هذا لا يمكن رَتْقه، فتهبط المرأة المنبوذة إلى ما دون سِفْلَة القوم.
والآن نُدرك سر إخلاص المرأة الهندوسية لزوجها بما يورث العجب، فتأصل هذا الإخلاص بتعاقب القرون حتى أصبح غريزة ثابتة فيها، وبهذا نفسر دوام عادة حرق المرأة لنفسها فوق جثة زوجها، إن لم يكن سببها، فكان على المرأة الأيم أن تختار ما ينتظرها من السعادة والفلاح بلحاقها زوجها باسلة أو ما ينتظرها من البؤس والشقاء ببقائها حيَّة فوق أديم الأرض، فلم تتردد في سلوك أشرف النجدين، فكانت، وهي الساذجة الهائجة، تقضي نحبها بين الدموع والحماسة والهتاف والأدعية والتحية والنشائد الداوية.
ولما حظرت الحكومة الإنجليزية تلك العادة قاومت النساء هذا الحظر فداومن على القيام بها طويل زمنٍ محبِطاتٍ كل مراقبة، والنسوة هنَّ اللائي منعن إلغاء تلك العادة في نيبال على الرغم من الوزير الحازم جَنك بَهادُر.
ومما يوضح هذا التعصب ما رسخ في النفوس الجاهلة الساذجة من المعتقدات منذ قرون وما يُنتظر من الحياة البائسة الشائنة، فالإيمان الدينيُّ وحدَه هو الذي يأتي تلك المعجزات، وهو في المرأة الهندوسية ليس بأقلَّ مما في الشهداء الذين اعتقدوا لقاء الله وراء لهب النار.
ومن المتعذر بيانُ الزمن الذي ظهرت فيه عادة الحرق تلك، ولا نصَّ عليها في شريعة مَنُو وكُتب الويدا وإن أخطأ الكهَّان فرأوا بعد زمن طويل أن لها أثرًا في أنشودة مقدسة أساءوا تفسيرها، فتلك العادة أقدم من الميلاد، فقد روى وجودها اليونان، لأول مرة، قبل ظهور المسيح بثلاثمائة سنة.
أَجَلْ، إن تلك العادة زالت في أيامنا عن الهند، خلا نيبال، بَيْدَ أن من الصعب أن يقال إن للنساء مغنمًا من وراء ذلك، فحال الأرامل، كما قلنا، يرثى لها، فمن أتيح لهنّ الزواج مرة ثانية قليلات، وينظر إليهن شزرًا في كل مكان، ولا سيما أن المبدأ القائل بأن المرأة قد تكون ملك رجال كثيرين مما نبذه الهندوس منذ قرون.
ونما مبدأ تعدد الزوجات الذي قالت به الشرائع الهندوسية بعد المغازي الإسلامية، وحجبت المرأة منذ هذه المغازي في دوائر حريم الأغنياء على الأقل، وتعودن الخروج مبرقعات.
وإن مبدأ تعدد الزوجات، الذي يرجع إليه الأغنياء كعامل بهجة وسرور، لا يمارسه الفقراء إلا كسلًا وبخلًا، فابن الطبقة الدنيا يقتصر، في الغالب، على زوجة واحدة، فإذا حدث أن كانت له غير زوجة فلكي يحملن على العمل وكسب عيش الأسرة، فاللائي يرضَين بذلك لا يكنَّ إلا من الطوائف الدنيا على العموم، فيرين من القَدْر النسبي أن يسترن حالهن بالزواج.
ومن نتائج تعدد الزوجات أن يسمى الأولاد بأسماء أمهاتهم تمييزًا لبعضهم من بعض، وكانت هذه العادة، الشائعة بين الشعوب القائلة بتعدد الأزواج من الذكور أيضًا، عامة في الهند القديمة.
ولا تمثل المرأة أي دور، وهي لا تصبح ذات شأن إلا بعد أن تصير أمًّا، فحينئذ تُحترم ولو ترملت، فما تناله من احترام أولادها وعطفهم فلا حدَّ له، فإذا ما شابت وهرمت رأت نفسها محاطة بجيل من الأبناء والحفدة لها عليه سلطانٌ لا جدال فيه.
وليذكر، من يرغب في استجلاء الأسرة في الهند، أنها غير مقصورة على أفرادها الحقيقيين، فهي تجمع، في عروة لا انفصام لها، جمع الأجداد وحفدتهم فيُفترض بالذهن على الأقل وجودهم في كل عيد ويُشرَب نَخْبُهم عند كل وليمة، وبينما يكون المدعوون غارقين في الفرح ينهضون ليشعروا بتموُّج روح قدماء الآريين حولهم راجين حياة طيبة لهؤلاء المجهولين الذين يرون فضلهم عليهم في ولادتهم فكانوا الحلقة الراهنة لسلسلة أفكارهم ومشاعرهم التي نُسجت في غضون القرون.
(٣) نظام الطوائف
نظام الطوائف هو حجر الزاوية لجميع نظم الهند الاجتماعية منذ ألفي سنة، ولهذا النظام من الأهمية العظيمة التي أُنكرت، على العموم، في أوروبا وفي مستعمرات الهند التي يملكها أوربيون، ما أرى معه من المفيد دراسة أصوله ونشوئه ونتائجه باختصار، وهذا النظام هو الذي استطاعت بفضله شرذمة من الأوربيين أن تُخضع ٢٥٠ مليونًا من البشر لحكمها الشديد إخضاعًا يشمل نظر كل باحث ومؤرخ.
يرجع نظام الطوائف في الهند إلى ما قبل ألفي سنة، ومما لا ريب فيه أنه نشأ عن مراعاة سنن الوراثة المقدرة، فلما أوغل الفاتحون البيض، الذين نسميهم بآريي الهند، وجدوا أنفسهم بجانب من قهروهم من التورانيين والسود المتوحشين، وهؤلاء الفاتحون كانوا من شِبَاه الرعاة وشباه الحضريين الخاضعين لزعماء لم يعدل سلطانهم سوى نفوذ الكهان الذين فُوِّض إليهم اجتلاب حماية الآلهة، وقد أسفرت أعمالهم عن انقسامهم إلى ثلاث طوائف بحكم الطبيعة، أي إلى طائفة البراهمة أو الكهان وطائفة الأكشترية أو المحاربين، وطائفة الويشية أو الزراع والصناع، وهذه الطبقة الأخيرة هي من ذرية الغزاة الذين فتحوا الهند قبل الآريين على ما يُحتمل فتكلمنا عنهم في فصل سابق.
ومن ثمَّ ترى مشابهة ذلك التقسيم لطوائفنا الثلاث القديمة: الإكليروس والأشراف والطبقة الثالثة، وترى دون تلك الطبقات الثلاث المختارة أهل الهند الأصليين الذين عُرفوا بالشودرا فكان يتألف منهم ثلاثة أرباع السكان.
لم تلبث التجربة أن أثبتت ما قد يُسفر عن امتزاج عرقٍ راقٍ بالعروق الدنيا فنهت التعاليم الدينية عنه، فقال مشترع الهندوس القديم الحكيم مَنُو: «لا تلبث كل بقعة ينشأ فيها أناس من عروق متوالدة أن يعمها الخراب وأن يضمحل سكانها.» فهذا نص شديد لا ريب، ولكن من المكابرة إنكار صحته، فلم تُعتِّم الأمم العليا، التي اختلطت بعرق منحط، أن هانت وذلَّت أو فَنَتْ فيه، فما عليك إلا أن تنظر إلى حال الإسبان في أمريكا والبرتغاليين في الهند، مثلًا، لتعلم النتائج السيئة التي نَجَمَت عن تلك الامتزاجات، فترى حفدة أفَّاقي البرتغال الفُخُر الذي دوخوا قسمًا من الهند فيما مضى لا يقومون اليوم بغير أعمال الخدم والأُجَرَاء فيها، وترى اسم عرقهم لا يدل اليوم فيها على غير معنى الصَّغار والنذالة.
أدركت شريعة مَنُو التي هي دستور الهند منذ قرون كثيرة، كجميع الشرائع، تلك الحقيقة العرقية التي هي وليدة تجارب طويلةٍ سابقة، فلم تغفل عن ضمان نقاء الدم، ففرضت عقوبات شديدة لمنع كل توالد بين الطبقات العليا، وبين هذه الطبقات وطبقة الشودرا على الخصوص، ولم ترَ تلك الشريعة وسيلةً من وسائل التهديد الشديد إلا اتخذتها لبلوغ ذلك.
غير أن الضرورات الطبيعية لم تَنْشَب أن تمَّ لها، بتعاقب القرون، الفوز على تلك المحظورات المرهوبة، فللمرأة فتنتها على الدوام، مهما كانت الطائفة التي تنتسب إليها منحطةً، فكان ما نقطع به من التوالد على الرغم من شريعة مَنُو، فلا يحتاج الباحث إلى اجتياب الهند في زمن طويل للاطلاع على توالد جميع عروقها فيما بينهم، فعدد بيض الهند الذي يمكنهم أن يدَّعوا نقاوة دمهم قليلٌ إلى الغاية، فعادت كلمة «الطائفة» غير مرادفة لكلمة «اللون» كما كانت في لغة السنسكرت، فكان ما نرى من عدم وجود سبب لبقاء كلمة «الطائفة» إذا أريدت الدلالة بها على المعنى العرفي.
حقًّا أن مدلول تقسيمات الطوائف القديمة زال منذ زمن طويل، فحلت محلها تقسمات جديدة غير قائمة على اختلاف العروق، وهذا مع استثناء البراهمة الذين لا يزالون هم وغيرهم أقلَّ السكان توالدًا.
وبين الأسباب الحديثة التي أدت إلى تمسك القوم بنظام الطوائف لا يزال ناموس الوراثة نافذ الحكم ممثلًا لدور أساسي، فالأهليات، عند الهندوسي، وراثية حتمًا، فعلى الابن أن يتخذ مهنة أبيه حتمًا، والهندوس إذا رأوا أن المهن أمورٌ وراثية أسفر ذلك عن ظهور طوائفَ عندهم بعدد المهن نفسها، فكل مهنة جديدة في الهند تقتضي، بالحقيقة، نشوء طائفة لها، فكان ما ترى من ألوف الطوائف في الهند، وكان ما تعلمه من أن الأوربي الذي يسكن الهند لا يلبث أن يرى كثرة هذه الطوائف عند نظره إلى تنوع الأشخاص الكثيرين الذين يُضطر إلى استخدامهم فيها.
وتضاف المناصب السياسية والمعتقدات الدينية المختلفة إلى السبب العرقي الضعيف والسبب المهني القوي، المذكورين، في تكوين الطوائف.
وقد تُعَدُّ الطوائف التي نشأت عن الوظائف السياسية من فصيلة الطوائف المهنية، ولكن الطوائف التي نشأت عن اختلاف المعتقدات الدينية لا ترتبط في واحد من تلك الأسباب بصلة، وقد تؤدي مطالعة الكتب إلى تقسيم الهند، نظريًّا، إلى ديانتين كبيرتين أو ثلاث ديانات كبيرة فقط، ولكن عدد دياناتها يبلغ الألوف عمليًّا، ففي الهند آلهة جديدة تُحسب تقمصاتٍ لآلهة قديمة فتحيا وتموت كل يوم، فيؤلِّف عُبَّادها، من فورهم، طائفة جديدة متشددة في أحكامها كبقية الطوائف.
وهنالك سِمَتان أساسيتان تتميز بهما كل واحدة من الطوائف، ويختلف بهما أفراد كل طائفة عن أفراد الطوائف الأخرى، فالأولى: هي أن أبناء الطائفة الواحدة لا يطاعمون غيرهم، والثانية: أن بعضهم لا يتزوج إلا ببعض.
تانك السمتان متساويتان أهمية، وقد تجدون مئات من براهمة الهند الموظفين في دوائر البريد وفي إدارة الخطوط الحديدية لا يزيد راتب الواحد منهم على خمسة وعشرين فرنكًا في كل شهر، وقد تجدون بين البراهمة من هم من السائلين، بَيْدَ أن ذلك الموظف أو ذلك السائل يُفضِّل الموت على الجلوس حول مائدة نائب الملك في الهند، وإذا حدث أن كان أقوى راجوات الهند من الطوائف الدنيا «ومن الممكن أن يصبح أحد أبناء الطوائف الدنيا ملكًا كراجه غواليار مثلًا» فلقي ذلك البرهميَّ فإنه ينزل عن فيله، في الغالب، ليُسَلِّم عليه.
وصفة البرهمي وراثية في الهند كصفة الشريف في أوروبا، وهذه الصفة غير مرادفة لصفة الكاهن كما يُظن في الغالب؛ لأن الكهان من البراهمة، فالبرهمي يولد كما يولد الدوك، وكان للقب البرهمي، الذي أضاع كثيرًا من قيمته في أيامنا، كبير أهمية فيما مضى، فلم تكن صفة الملك كافية ليأمُل بها صاحبها أن يتزوج بفتاة برهمية، ففي رواية شكن تلا التي وضعها كالي داسا حوالي القرن الخامس من الميلاد تجد أن دُشْ ينتَه ملك هستي نابور لقي شكن تلا فسأل مذعورًا هل هي من طائفة البراهمة أو لا؟ لما في انتسابها إلى هذه الطائفة من حظر زواجه بها.
وليس لنظام الطوائف مؤيد قانوني في العهد الإنجليزي، ولكن التقاليد التي رسخت في النفوس لا تحتاج إلى المؤيدات الرسمية، فتقاليد كتلك غدت من الوعي الباطن فعُدَّت جزءًا من التراث الذي يولد مع الإنسان فلا يقدر الإنسان على مقاتلته، فالهندوسي يفضل الموت على انتهاك حرمة مبادئ طائفته.
وكان من عوامل ارتباك حكومة الهند، حينما فكرت في إرسال كتائب هندية إلى السودان، أن جهزت كل فرقة بميرة وأجهزة خاصة؛ ليتسنى لأفراد كل طائفة إعداد طعامهم على انفراد ولكيلا يأكل بعضهم مع بعض، وقد كنت آنئذ في الهند فدلتني مطالعة الصحف على درجة ذلك الارتباك لما يؤدي إليه أقل غفلة في ذلك الأمر الأساسي من أسوأ العواقب، فغفلةٌ مثل هذه كانت عاملًا في ثورة السباهي التي كادت تدك الإمبراطورية البريطانية الواسعة.
وقد يخسر الهندوسي طائفته لأسباب كثيرة لا فائدة من ذكرها هنا، ومن أشدها أن يقبل طعامًا أو ماء من ابن طائفة أخرى.
ولا شيء أعظم إيلامًا على الهندوسي من فقده لطائفته، فليس حِرْم البابا للإنسان في القرون الوسطى وحكم القضاء بعقوبة شائنة على أوربي في الوقت الحاضر أشد وطأً من ذلك، ففقد الهندوسي لطائفته يعني فقدًا لأبويه وأصدقائه وثروته، فكل واحد يُعرِض عنه نائيًا رافضًا كل صلة به، فيدخل إذ ذاك في زمرة المنبوذين الذين يقومون بأخس الأعمال.
ولنبحث الآن في نتائج ذلك النظام المتين الاجتماعية والسياسية فنقول: إن الطائفة هي وحدة الهندوسي الاجتماعية، فلا عالم خارجها في نظره، ويفصل الهندوسي عن غير طائفته هوَّةٌ أعمق من التي تفصل بين الأوربيين المختلفي الجنسيات، فهؤلاء الأوربيون يستطيعون أن يتناكحوا مع أن أبناء مختلف الطوائف لا يقدرون على ذلك، فينجم عن هذا وجود زُمَرٍ في القرية الواحدة بعدد طوائفها.
ونظامٌ كذلك مما يتعذر معه اجتماع الكلمة ضد الأجنبي، وقد أدرك الإنجليز هذا جيدًا فاتخذوا من التدابير ما يحول دون نشوب أية ثورة عسكرية، وذلك بأن ألَّفوا كتائبهم من أناس منتسبين إلى طوائف مختلفة مما لم يفعلوه قبل ذلك، فما بين أبناء هذه الطوائف من التنافس يكفي وحده لجعل كل فتنة عامة أمرًا مستحيلًا.
ونظام الهند الطائفي يفسر لنا ما يستغربه الأوربي من خضوع مائتي مليون من الآدميين لستين ألفًا من الأجانب المكروهين غير محتجين، فالحق أن نظام الطوائف هو الذي منع الهندوس من أن تكون لهم منافع مشتركة ومن أن يتحدوا سعيًا وراء هدف واحد ومن أن يؤلفوا أمة واحدة، فإذا أضفت إلى اختلاف الطوائف اختلاف العروق القاطنة في تلك الإمبراطورية الواسعة علمتَ أن ما يجب على كل فاتح أن يصنعه هو أن يتعهد ما بين هذه العروق من المنافسات، وأن يعزل قوى بعضها عن بعض، وما هي المصلحة المشتركة التي تكون بين أناس ذلك مدى اختلافهم؟ وماذا يرون من حرج في سيد يحترم نظمهم الأساسية؟ ألا إن وطن الهندوسي الوحيد هو طائفته، ولا شيء غيرها، فبلده ليس له وحده، فلم يفكر، لذلك، في وحدته، والإنجليز، حين يراعون نظام الطوائف في الهند بدقة، يعلمون أن فيه سرَّ سلطانهم المكين، فلا يصنعون ما يضعضعه كما نصنع في بقايا ممتلكاتنا كبونديجيري مثلًا، وتراني في بدء سياحتي في الهند، وذلك حينما كنت غير قادر على النظر إلى الأمور من خلال أفكار الهندوسي، قد فسرت لهندي ذكي من الطبقة الدنيا معنى الجمهورية، وأوضحت له الفوائد التي يجتنيها من العيش في بلد يتساوى فيه جميع الناس ويأمل فيه ابن العامل أن يصل إلى أعلى المناصب، بَيْدَ أن هذا الهندي، الذي هو من أتباع شِيوا، فكَّر ثانيةً فهزَّ رأسه مستخفًّا مستنتجًا من كلامي أن من البؤس والشقاء أن يعيش الإنسان في بلد عاطل من نظام الطوائف ومن النبلاء، فالحق أن مما يصعب على الفرنسي أن يدرك أن نُظُمًا يراها طيبة، لملاءمتها احتياجاته، لا تصلح لأمم ذوات احتياجات مخالفة لها، والحق أنه يصعب اقتناع السمك بأن التنفس في الهواء أمرٌ طيب لصلاحه للإنسان.
وفي الهند بلغ سلطان نظام الطوائف الراسخ في النفوس بفعل التقاليد والعادة من القوة ما أذعن معه الفاتحون لحكمه، فقال به المسلمون عملًا بعض القول مع مخالفته للشريعة الإسلامية، وانتحله الإنجليز انتحالًا لا يتمثَّله سوى الذين طافوا في الهند، أجل، إنه غير مدوَّن في قوانين الإنجليز، غير أنه يتألف من مجتمعهم في الهند طائفة أشد إحكامًا من جميع الطوائف الأخرى، فالإنجليز، كأبناء الطوائف الأخرى، لا يأكلون مع غيرهم ولا يتزوج بعضهم إلا ببعض، ولا يزال الزمان الذي يتزوج فيه الإنجليز ببنات الهند بعيدًا، فإذا حدث أن تزوج إنجليزي بهندوسية، وهذا لا يقع إلا نادرًا جدًّا، أُخرج من حظيرة طائفته وأُغلقت أمامه جميع الأبواب، ويرى الجنديُّ الإنجليزي البسيط أن من الصَّغار أن يتزوج هندوسية، فمما حدث أن تغدَّيت، ذات يوم، مع ضابط بريطاني ببنارس فسألته: «أتأذنون لأحد جنودكم في الزواج بهندوسية؟» فأجابني قائلًا: «لا أقدر على منعه، لا ريب، ما دام القانون لم يحرم ذلك، ولكنني أشك في وجود واحد من جنودي يفكر في مثل ذلك.»
ولا يرجع انفصال الفاتحين الجدد انفصالًا تامًّا عن أولئك المغلوبين إلى أمد طويل، فما كان تناكح الشعبين أمرًا نادرًا إلى وقت قريب جدًّا، وقد أسفر هذا التزاوج عن ولادة أناس جامعين لعيوب الهندوس خالين من صفات الإنجليز، فتراهم قومًا عاطلين من التقاليد والتاريخ والآداب فبدوا محلًّا لازدراء كلا الشعبين اللذين خرجوا منهما وسببًا لقلق أولياء الأمور في الهند.
وأدرك قدماء الآريين مخاطر مثل ذلك التناكح، فكان ما تعلم من وضعهم لنظام الطوائف، ثم أدرك الإنجليز ذلك، فكان ما تعلم من فصلهم ما بين القوم الغالبين والقوم المغلوبين تبعًا لضرورات عرقية وإدراكًا لما بين العرقين المتصاقبين من الاختلاف مع عدم تدوين ذلك في قوانينهم، وكان ما تعلم من إقامتهم بين القومين من الهُوِيِّ العميقة ما يتعذر مجاوزته، فالإنجليز ينشِئون في كل مدينة بالهند حيًّا نائيًا لأنفسهم فلا يغادرونه إلى المدينة الأصلية إلا في أحوال شاذة. وتشاهد مثل هذا الفصل بين الأوربيين وأبناء الهند في الخطوط الحديدية أيضًا، فتُبصر للإنجليز مركباتٍ خاصةً، وتبصر لهم في المحطات مطاعم ومقاعد خاصة، نعم، لم يوضع نظام يحرم على الغني من أبناء الهند السَّفَر في مركبة الدرجة الأولى الخاصة بالأوربيين، غير أنه لا يجازف بذلك إلا قليلًا، فإذا ما جازف أُسيء قبوله فيضطر إلى النزول في أقرب محطة، والضباط هم أشد الإنجليز شراسة من هذه الناحية، فهؤلاء الضباط، وإن كانوا من أعظم من رأيت أنسًا وأدبًا إذا ما خاطبوا أوربيًّا، لا يلبثون أن ينقلبوا إلى قُساة غلاظ إذا ما كلموا شخصًا من أبناء الهند مهما كان مقامه، وعلى ما تراه من حق أبناء الهند، كالإنجليز، في تسنُّم أعلى المناصب القضائية على الخصوص، وعلى ما تراه من وصول بعضهم إلى ذلك لا تجد صلاتهم بالإنجليز في غير الأمور الرسمية، وأما أبواب المجتمع الإنجليزي في الهند فمُوصدة دونهم تمامًا.
ومُولَّدو الأوربيين والهندوس هم أكثر من تدور الخرافة الطائفية حولهم، فمع أنك تجد تجارًا أو أغنياء من مُولَّدي البرتغاليين والهندوس يُقبلون في رِدَاه باريس بقبول حسن لا يأذن الإنجليزيُّ لأمثالهم في الهند في الجلوس أمامه أو في الأكل على مائدة معه، وذلك خارج كُبريات المدن التي هي على شيء من التفرنج.
ولستُ بالذي يبحث هنا في عدل مثل ذلك النظام أو جوره، فمن الحذر أن يقتصر على عرض الأمور كما تُرى، ومن الخطأ أن يُؤتَى بأحكام سطحية مختلة نظريًّا في نُظُم ثبت أمرها مع القرون، فقد كُتب لهذه النظم البقاء مع ما اشتعل من الفتن والثورات، وهي من القوة العظيمة ما انتحلها معه شعب من أرقى شعوب العالم تمدنًا مع مقته لها في كتبه، ومن أجزل الفوائد التي اتَّفقت لنا من رحلاتنا أن علمنا أن الأمم لا تختار نظمها، بل تعاني النظم التي فرضتها عليها عوامل العروق والبيئات، فالإنسان إذ ليس له أن يختار نظمه كانت هذه النظم أقوى من عزائمه.
(٤) الحقوق والعادات
ظلَّت الهند مظهر الحضارة الفطري من الناحية الحقوقية ومن نواحٍ أخرى كثيرة فلا تزال تعاليم كتبها الدينية التي يفسرها كهنتها ويُعدِّلونها بالتدريج وعاداتها المحلية وحدها مصدر قوانينها، ولم يحاول أحد من قاهريها أن يستبدل بهذه المقوِّمات دستورًا جديدًا، فلم يتصدَّ أشد هؤلاء ظلمًا وأكثرهم رأفة للمبادئ التي كان يخضع لها رعاياهم من الهندوس، ولم يفكروا في غير أمر واحد وهو جباية الضرائب.
وإن أقصى ما يؤدي إلى المركزية فتسير إليه مجتمعات الغرب في الوقت الحاضر هو أن يضع مشترع قانونًا واحدًا يخضع لأحكامه أبناء بلد واحد فلا تراعَى فيه أمور الطبقات ولا الثروات ولا الجهات.
وضعُ الدولة قوانين واحدةً للجميع هو مبدأ حديث جدًّا، فهو، إذا ما أمكن إرجاعه إلى الدولة الرومانية نظريًّا، لم يَبْدُ في حقل العمل إلا حديثًا، وقد اشتعلت الثورة الفرنسية من أجل ذلك المبدأ من بعض الوجوه، ونحن إذا كنا نرى ازدهاره في فرنسا، معتقدين أن أمر الاشتراع من شأن الدولة، يجب أن تقف عند هذا الحد ما أبصرنا عدم انتحال ذلك المبدأ في كل مكان.
فلا تزال العادات المحلية محكمة في إنجلترا وألمانيا وروسيا، ونحن نشاهد زيادة قوة العادات كلما ابتعدنا عن مراكز الحضارة الأساسية.
والعادات، إذ كانت تستند إلى طرز المعايش الخاصة والمعتقدات القديمة المتأصلة واختلاف الجماعات البشرية الكثيرة فتنشأ ببطؤ، لا يمكن تقويضها في يوم واحد بمرسوم أو بأمر يصدر عن مجلس نواب، وضلَّ من قال غير هذا من الفاتحين والمصلحين، فلم تلبث نظمهم التي وضعوها أن انهارت عند أول صدمة.
بَيْدَ أن هذا العمى مرضٌ نفسيٌّ حديث في الحقيقة، فلم يكن أقوى المتغلبين في غابر القرون ليصابوا به، فإذا كانت المركزية المطلقة وهمًا خَطِرًا على الدول الضيقة التي لا تجد فيها سوى طرز معايش واحدة ولا تبصر فيها سوى عِرق متجانس تقريبًا فكيف يكون أمرها في الدول الواسعة كدولة الرومان أو دولة المغول؟ وكيف يكون أمرها في بلد كالهند حيث ترى كثيرَ العروق والأديان والأجواء، وما إلى ذلك من المؤثِّرات المختلفة المتجاورة.
والإنجليز الفاتحون، وهم أشبه أمم الوقت الحاضر بالرومان، قد انتحلوا في الشرق سياسة قائمة على احترام العادات المحلية القديمة فسيُضطرون إلى الرجوع إليها في قسم مهم من إمبراطوريتهم في الغرب على ما يُحتمل، والإنجليز هؤلاء قد أدركوا أن ما وطدته القرون لا يتحول إلا مع القرون، وأن الفوضى والخراب مما يعم بلادًا تكون محل نزوات الخياليين والمشترعين فكان أمر الإنجليز في ذلك، من حيث النتيجة، كأمر قدماء الملوك الذين كانوا يدركون بغريزتهم ذلك من غير دليل لا ريب.
وسار الإنجليز على نهج ملوك المغول المستبدين فلا يطالبون بسوى دفع الضرائب بانتظام، فإذا عَدَوْتَ النظام المالي وجدت الإنجليز قد تركوا للهند شرائعها، وإن شئت فقل عاداتها الدينية على حسب تفسير البراهمة، فلا ترى للمحاكم الأوربية فيها عملًا غير تنفيذ هذه الشرائع.
ولا مَعْدِل عن الاعتراف بأن ذلك التنفيذ غير سهل على قضاة الإنجليز، فالشرائع الهندوسية معقدة تعقيد المذاهب الدينية التي تُشتق منها، فهي تختلف بين ولايةٍ وولاية، وبين قرية وقرية، فالحق أن الهند ظلت مواظبةً على النظام الرعائي، فتجد مجلسًا منتخبًا يمارس السلطة الاشتراعية في كل بلديَّةٍ صغيرة، فتبصر من خلال هذا مهد الندوات المترجحة بين مجلس الشيوخ الروماني وبرلماناتنا مما تراه في جميع المجتمعات ذات الأصل الآري.
ولكن برلماناتنا تسن القوانين، ولا يصنع ذلك المجلس المنتخب غير احترام النظم التي نضجت نضجًا بطيئًا بفعل الدين والعادة، ونرى نظام الهند في دوره الأول، أي كما وضعه آباء الأسرة الويدية حينما كانوا يجتمعون لحفظ الأمن ونفع القرية، وسار ذلك النظام منذ ذلك الزمن، ومن السهل تعيين مراحله في غضون التاريخ، ما دام ذلك المجلس الآري المنتخب لا يَضَع قانونًا في القرن الواحد مع أن مجلس النواب يسن عدة قوانين في يوم واحد في الغالب.
ولا نفصل العقوبات التي تفرض على مقترفي الجنايات والجنح، وإنما نقول إن الحكومة الإنجليزية تجازي القاتل بالقتل والسارق بالسجن مع صرامة، وعندما يكون الجرم عظيمًا يضطر القضاة إلى مجاوزة الرأي العام الذي هو أقل منهم شدة في الغالب، ومما رأيناه حينما بحثنا في آداب الهندوسي أن بعض الصغائر عنده تكون، أحيانًا، أجدر باللوم من الاحتيال أو الغصب، ومن العقوبات التي نعدها شائنة ما لا يشين في الهند، فإذا خرج الرجل من السجن لم يُنظر إليه شزرًا، بل يعده أبناء وطنه ضحية إذا كان الأجنبي الغالب هو الذي حكم بسجنه رأسًا.
وإذا استثنينا العقوبات الشديدة التي يقتضي الأمن العام فرضها وجدنا للعادات في الهند شأنًا كالذي كان لها منذ عدة قرون، وأهم هذه العادات ما هو خاص بالمواريث وبالتملك، والمواريث والتملك أشد الأمور تعقيدًا واختلافًا بين ولاية وولاية، وسنذكر من العادات الشاملة ما يتعلق بالمواريث.
لا يعرف الهندوسي الإيصاء، فليس للهندوسي بعد موته أي سلطان على الأحياء، فمما ذكرناه أن التملك في الهند لا يكون فرديًّا إلا نادرًا، وأن الأملاك تكون للقرية فيها إن لم تكن للأسرة، فإذا كان الهندوسي عاجزًا عن التصرف في أثناء حياته بما يملك كما يريد فكيف يتصرف فيه بعد وفاته؟
ليس الأب إلا مديرًا لأموال أولاده في الحقيقة، فإذا مات بقي ما كان على ما كان، فإذا أراد الأولاد القسمة أخذ كل واحد منهم حصته ليُؤسِّسَ أسرة، وإلا ظل الابن الأكبر مديرًا للأموال قائمًا مقام أبيه المتوفى.
والأولاد الذكور هم الذين يقتسمون تلك الأموال، وأما المرأة في الهند فلا تملك غير هبات الأبوين والأصدقاء حين الزواج، وليس للزوج حق فيما ملكته الزوجة، ولا يستطيع أن يبيعه من أحد إلا برضاها.
وإذا مات الرجل غير ذي أولاد من الذكور ورثته زوجته ما دامت في قيد الحياة فقط.
ولا طائل في تفصيل شبكة الاشتراع الهندوسي المعقدة المتحولة، والاشتراع الهندوسي إذا قام على العادة وحدها كانت الشريعة الهندوسية سبب ارتباك للقضاة الذين يقومون بتنفيذها، ويزيد هذا الارتباك عندما يكون الخصوم من ولايات ذات عادات مختلفة، وقد نشأ عن وسائل النقل السريعة زوال الحواجز بين هذه الولايات، فيجمل بولاة الأمور أن يفكروا في وضع قانون واحد شامل لجميع المسائل التي تقتضيها المصلحة العامة، وهذا ما يشغل بال الإدارة الإنجليزية في الهند في الوقت الحاضر كما علمنا.
(٥) الزراعة
أثبتنا في فصل «البيئات» أن الهند بلد زراعي قبل كل شيء، وأن عطلها من الوقود، على الخصوص، يحول دون تحولها إلى بلد صناعي.
إذن، تتألف أكثرية الهندوس من الزراع، أي من الفقراء الذين يعيش الواحد منهم مياومة ببضعة دوانق يختطفها من بيت المال أو المرابين الذين هم أشد ظلمًا من بيت المال فلا يجدون وسيلة للاغتناء أفضل من أكل الربا.
ومما زاد الفقر في الهند زيادةُ سكانها بسبب عدم وقوع الهندوسي في بؤس مُطبِق، فأضحى أهالي الهند في أقل من قرن ضعفي ما كانوا عليه، وشعب يزيد أفراده كهؤلاء من غير أن يكون مالكًا لأراض واسعة يزرعها، كما يملك أهل الولايات المتحدة الأمريكية، لا يغتني أبدًا، فإذا ما نال ثراء في أحوال شاذَّة فلأجَلٍ محدود، فلذلك نقول إن سكان الهند، على الخصوص، يزيدون بسرعة على وسائل معايشهم.
ومن حسن حظ الهندوسي أن كان من قلة الاحتياجات ما يبدو به أقل بؤسًا من ابن الطبقة الاوربية المماثلة لطبقته، فلم أسمع أن هندوسيًّا أُمِّيًّا يتوجع من سوء طالعه، فلو كان عنده ربع ما عند الأوربي من الاحتياجات لتعذر عيشه، فإذا ما قُيِّض للإنجليز أن يجعلوا فيه مثل هذه الاحتياجات بفعل ما يتلقنه من أصول تربيتهم رأى الحياة أمرًا لا يطاق كما يراها الأوربي الذي يحدَّد دخله اليومي بثلاثين دانقًا أو أربعين دانقًا مثلًا.
ولا يألم الهندوسي إلا عند المجاعة، ولا يلبث أن يموت جوعًا عند ارتفاع أثمان الحبوب، وتسيطر غفلته الطبيعية على حاله، فهو يصرف ما يكسبه يومًا فيومًا فلا يقتصد ما يمكنه وقت اليسر، فينفق ما يزيد على احتياجه في ابتياع الأَسورة والقلائد وفي إقامة الولائم.
ذلك حال الهندوسي في كل زمن وفي عهد جميع الفاتحين، ومن عدم الإنصاف عذل سادة الهند على حال الهندوسي مهما كان العِرْق الذي ينتسبون إليه، فالسنن الطبيعية، التي قضت على الهندوس بأن يزيدوا نفوسًا بسرعة لا مثيل لها في العالم، وبأن يزرعوا في سبيل الآخرين أرضًا لا نظير لخصبها فيموتوا فوقها جوعًا في الغالب، مما لا رادَّ لحكمه، فهي أقوى من سلطان المتغلبين أنفسهم ولا ينفع لومها.
ويقتصر شأن الغالبين على تخفيف شدة تلك السنن المقدرة على المغلوبين إذا كانوا من الكرماء المنوَّرين، والحكومة البريطانية بدت خيرًا من غيرها في هذا الأمر، فالحق أن الهندوس أنعم حالًا وأهدأ بالًا في العهد الإنجليزي مما كانوا عليه في أي زمن.
(٦) العامل الهندوسي
يمثل العامل الهندوسي، بفضل نظام القرى القديم والطوائف المهنية، دورًا غير الذي يمثله العامل الأوربي في الغرب، فللعامل الهندوسي، سواء أكان في قريته أم في طائفته المهنية، مكانه الذي ورثه أبًا عن جد منذ قرون، ويجهل العامل الهندوسي ما عرفته شعوب الغرب من تنازع البقاء ومن العمل القاسي في المصانع ومن البطالة وما إلى ذلك من ضروب البؤس التي تجدها في حضارتنا، وليس العامل الهندوسي بدويًّا كالعامل الأوربيِّ الذي لا تبصر له وطنًا ولا أسرة فيبدو عدوًّا هائلًا للمجتمع الذي يعمل فيه، فالحق أن العامل الهندوسي لا يكسب مياومة أكثر من اثني عشر دانقًا إلا نادرًا، ولكنه إذ كان عاطلًا من احتياجات الأمم المتمدنة المصنوعة فإنه يكتفي بهذا المبلغ الزهيد، والحق أن أجرة العامل الأوربي تزيد على أجرة العامل الهندوسي عشر مرات، ولكن احتياجات ذلك إذ كانت أكثر من احتياجات هذا بدرجات فإنه يبدو بائسًا في الغالب.
ولا يتمُّ تخرُّج العامل الهندوسي في المصنع أو المدرسة أو الكتب، فالمهن في الهند أمر وراثي، فهي تنتقل من الأب إلى الابن منذ أقدم الأزمنة، وفي القرية التي هي عنصر المجتمع الهندوسي الأساسي يُصنع كل ما هو ضروري وكمالي، ولا تجد قرية عاطلة من خَزَّاف أو نحَّاس أو صائغ انتقلت إليه مهنته من أجداده منذ زمن مَنُو.
وتتألف طائفة من عمَّال كل مهنة في المدن الكبيرة، ويتألف من كل مهنة عالَمٌ صغير له عريف وراثي، كمهنة ناقشي العاج وصانعي الأسلحة والعطارين والدهَّانين والزجَّاجين والخزَّافين، إلخ.
ويقضي السائح، الذي يجوب مدن الهند وقُراها فيزور أكواخ العمال، العجب من حذق هؤلاء العمال ومن قلة عدد الآلات التي يستعملونها في إنجاز أيِّ عمل، فيقطع السائح بأن عمال الأوربيين الذين يفوقون عمال الهندوس قليلون إلى الغاية وبأنهم يعجزون، مع ذلك، عن إنتاج مصنوعات متقنة بمثل تلك الآلات، فحِذْقٌ كذلك هو نتيجة استعداد وراثي لا يُغني عنه أي تخرج، نعم، قد يصنع العامل الأوربي أدواتٍ أفضل مما يصنعه الهندوسي مستعينًا بآلات ميكانيكية، ولكنَّ من فرط التساهل أن نساوي العامل الأوربي بالعامل الهندوسي، والعامل الأوربي هو مَن حَطَّ الاختصاص قيمته الذهنية على عكس العامل الهندوسي.
(٧) حياة الهندوس العامة والخاصة
تكلمنا في الفصل الذي خصصناه للبحث في العروق عن طبائع سكان الهند وعاداتهم المختلفة، فنقتصر في هذا المطلب على قول بضع كلمات عما يشترك فيه أكثر الهندوس من الطبائع والعادات.
تجد كبير أبهة وروعة وعظمة في مظاهر حياة الهندوس العامة كاستقبالاتهم وأعيادهم الدينية وعَرْض جنودهم ومواكبهم فتألَّف منها موضوع ألف قصة عجيبة لخيالاتنا الغربية، وأما حياتهم الخاصة فبسيطة إلى الغاية.
وما لدى الغنيِّ من الطعام والمأوى والعادات لا يختلف كثيرًا عما لدى الفقير، فيتألف طعام كليهما من الخضر والزيت أو السمن ومن التوابل والماء الخالص، وكلاهما يأكل بأصابعه جالسًا القرفصاء على الأرض، وما بينهما من الفرق فيتجلى فقط في نوع البُسُط والفِراش والنُّسُج، وتتألف أوانيهما من أطباق مصنوعة من ورق الموز، وتجد عند الطبقات الدنيا من الأواني الخزفيَّة أو المعدنية ما لا تجده عند الطبقات العليا، وسبب ذلك أن ابن الطبقة العليا يخشى أن تكون هذه الأواني مما استعمله شودريٌّ أو منبوذ، فلا يرى، للخروج من هذا الاحتمال، غير استعمال الأواني المصنوعة من ورق الأشجار فتتلف بعد استعمالها حالًا، وهذا ما لا يخشاه ابن الطبقة الدنيا فيكتفي بغسل أوعيته تلك غسلًا حسنًا.
وليس في بيت التاجر الغني ما يُميِّزُه من كوخ الفقير من الأثاث، فكلا المنزلين عاطل منه، وما فيهما من ظرف فمقصور على زينة الجدر المنقوشة المرصعة أحيانًا، وغنى الستائر الحريرية والزَّرابيِّ المبسوطة على الأرض والوسائد التي يُجلس عليها أو يستند إليها.
وأظهر ما تبدو نعمة الغنيِّ من أهل الهند في المنازل الواسعة العالية وما يحيط بها من الحدائق، وفي خرير المياه الجارية إلى الحياض، وفي الثياب الفاخرة والحلي الثقيلة الثمينة، والزهدُ في الطعام أمرٌ شامل لأهل الهند، وما يمارسه أهل الهند كل يوم من الطقوس الدينية يجعل حياتهم واحدة مهما كانت الطبقات الاجتماعية التي ينتسبون إليها، وتقوم هذه الطقوس، على الخصوص، على الغسل والصلوات صباحًا وظهرًا ومساء، ولا سيما قبيل الأكل أو بعده حالًا.
والهندوسي لا يبدأ بعمل ولا يدنو من صديق ولا يفكِّر في نوم من غير أن يعوذ بالآلهة، وهو، لكيلا يغفُل عن واحد أدعيته الكثيرة، يستعين بسبحة كالمسلمين والكاثوليك، وهو يكتفي، في الغالب، بذكر أسماء آلهته المختلفة.
ووصفُ حياة الهندوسي العامة أسهل من وصف دقائق حياته الخاصة، وعلة هذا ما فُطر عليه من الغيرة المانعة من اطلاع الأجنبي على سرائر بيته، والهندوسي، مع ذلك، مضياف ذو أدب جمٍّ.
ونساء الهندوسي تظل بعيدات من أنظار الزائرين، ومن الإهانة لرب المنزل أن يُسْأَل عنهن.
وإذا ما تزاور الهندوس بدوا أبسط ألفة مع مراعاة أشد قواعد الحشمة، وَتُعَدُّ مقامات الناس، ولا سيما مكان كل واحد منهم في رَدهة الاستقبال، من أعظم ما يلاحظه الهندوس، فإذا ما حضر راجه أو أمير من البيت المالك جلس تحت مِظلة منصوبة في صدر الردهة المقابل للباب، ويصطف الآخرون على طول الردهة على أن يكون أقلهم منزلة بالقرب من الباب، ويجلس الجميع على بُسُط أو على وسائد.
ويلبس هندوس الشمال ثيابًا بحسب الزي الإسلامي على العموم، ويحافظ هندوس الوسط والجنوب على الزي التقليدي المؤلف من قطعة نسيج تُلَفُّ حول الكُلْيَتين وقطعة نسيج أخرى تلف حول الرأس، وتلبس المرأة نسيجًا فضفاضًا «ساري» يحيط بساقيها، ويرد أحيانًا إلى ما فوق رأسها فيستر وجهها، وتلبس المرأة أيضًا صُدْرَةً قصيرة لا تستر خصرها، ولا يلبس الهندوس أحذية، بل يلبسون بوابيج معقوفة الطرف حينما يكونون خارج بيوتهم فيخعلونها في العتبات، فالهندوس حفاةٌ في منازلهم.
ومنظر قرى الهندوس حسن رائع، ويؤلف أكثر بيوتهم من طبقة واحدة، وتُصنع جدر هذه المنازل من سيقان الخيزران كما في البنغال، ومن الطين مع سقوف من القرميد كما في الهندوستان، أو سقوفٍ من الصلصال المرصوف كما في الدَّكَن، وتكاد تجد معبدًا صغيرًا في كل خطوة، وتقوم في وسط القرية دائرة البلدية المصنوعة في الغالب من سقف قائم على أعمدة ومن ميدان ذي شجر ظليل، ويُرى في القرية حي منفصل خاص بالمنبوذين، ويجتنب الهندوس لمسهم بدقة من غير إيذاء، ويقرُب حال المنبوذين هؤلاء من حال السائلين في أوروبا.
ولكل معبد حوض مقدس يغطس الرجال والنساء والأولاد في مائه القذر في الغالب.
وزينة كتلك مما يروق الهندوس، ومما يزيد أعياد الهندوس روعة ازدحام الجماهير التي تجتمع فيها، وضروب الأبهة التي تتجلى فيها، أجل، إنك تشاهد أعيادًا لكل مدينة ولكل طائفة ولكل مذهب، بَيْدَ أن هنالك أعيادًا كبيرة عامة تلتقي فيها جميع الأديان.
وللحج والأسواق فضل جمع مختلف الشعوب في صعيد واحد، والتجار يتبعون الحجاج فيزيدونهم عددًا، ولا تُفتح سوقٌ قبل البدء بتمجيد الآلهة.
وأولاد الهندوس، وهم من الأذكياء الحسان على العموم، يترعرعون طُلقاء، فيلعب أبناء الفقراء ويرتعون في الطرق والحقول عراةً، ويتخرج أبناء الأغنياء على البراهمة المرتبطين في بيوت والديهم كمؤدبين، وقليلٌ من هؤلاء الأبناء من يذهبون إلى المدارس مع ما تبذله الحكومة الإنجليزية من الجهود، فإذا ما بلغ الواحد منهم السنة العاشرة أو السنة الثانية عشرة من عمره تزوج.
والنساء يعشن مقيدات كما ذكرنا، فإذا خرجن مع زوجهن ابتعدن عنه بضع خطوات، وإذا سافرن معه في القطار تبوَّأن مقاعد في مركبة الدرجة الثالثة مع أنه يتبوأ مقعدًا في مركبة الدرجة الثانية في الغالب، وهنَّ لا يأكلن إلا بعده، ويخدمنه في أثناء طعامه.
ويحرُق براهمة الهندوس موتاهم إذا زادت أعمارهم على سبع سنوات، وإلا دفنوهم على العموم.
ويكون الموقد حفرة قليلة العمق، فإذا كان الميت غنيًّا مُلِئت هذه الحفرة بحطيبات من خشب الصندل وزبل البقر المجفف الذي يُعَدُّ وقودًا مقدسًا في الهند، ثم تُستر الجثة وجميع الموقد بطبقة رقيقة من الطين الرطب ويحرق الوقيد قبل إغلاق جميع الموقد، فإذا ما تم الحرق في خمس ساعات أو ست ساعات وحلَّ الغد جَمَع الأقارب عظام الميت المحروقة ورموها في بحر أو نهر.
والهندوس مفرطون في إظهار سرَّائهم وفي إظهار ضرَّائهم، وهم ذوو جذل بطبيعتهم، وهم محبون للاحتفالات والألعاب والملاذِّ العامة، وهم، مع زهدهم عادة، يقيمون أفخر الولائم في بعض الأحوال، والزواج أهم عيد عند الأسرة الهندوسية، ففي سبيل الزواج لا يعرف الهندوس للإنفاق حدودًا، فيخرب فقراؤهم بيوتهم بأيديهم في حفلات الزواج فيثقلون كواهلهم بالديون من أجل دعوة جيرانهم إلى الولائم التقليدية.
وَتُعَدُّ الراقصات ركنًا في جميع احتفالات الهندوس الدينية والمدنية، وليست الفتيات الفقيرات، المتوسطات الظرف الرديئات الثياب الراقصات في بيوت الأغنياء أو في رِدَاه الفنادق أمام الأجانب طمعًا في أجر زهيد، باللائي يتمثل الأوربي بهن تلك الفاتنات المُدَّثِّرات بالشفوف الرقيقة واللابسات حليًّا ساطعة واللائي يقمن بالتمثيل الصامت المتموج الحافل بالأسرار في المعبد بجنوب الهند واللائي يكون رقصهن أمام الآلهة أهم عمل يقمن به.
وأمراء الهندوس مكرمون للضيوف، ولا سيما إذا كان الضيف موصًى به، ولا أراني خاتمًا لهذا البحث الخاطف قبل أن أورد ما لاقيته في بلاط بهوبال مثالًا على ذلك:
تملك مملكةَ بهوبال الصغيرة في الوقت الحاضر ملِكةٌ، فلما علمتْ هذه الملكة بقدومي أرسلت إليَّ عربة من بلاطها فبلغتُ بها أحد قصورها حيث استقبلني خدم كثيرون حاملون سِلالًا مملوءة فواكه وأزهارًا، وكان على رأس الجميع وزير ليبلِّغني أطيب تمنيات الملكة.
فما كدت أدخل القصر حتى دنا مني ضابط القصر قائلًا: «ترحب الملكة بك أيها السري الأجنبي راجيةً أن تعرب عما ترغب فيه.»
فأبديت رغبتي في تناول العشاء، فبدت إشارة فرفع حجاب فرأيت في الردهة المجاورة مائدة منسقة على الطريقة الأوربية مشتملة على شماعِدَ وآنية من بلور وفضة يحيط بها خدم لابسون ثيابًا مختلفة الألوان واقفون صامتون كتماثيل من برونز مزملة بحرير.
ولم أكد أجلس حتى سمعت صوت جرس في الخارج فقيل لي إن هذا كان لأن الملكة لم تر أن تنام قبل أن أُسأل عما أرغب فيه مرة أخرى.
فسألت أن يرافقني حرس إلى سانجي في الغد، فلما حل الصباح وجدت الفيول والفرسان ينتظرونني أمام الباب، ولما وصلت إلى سانجي وجدت خيمة معدة لي مشتملة على سرر مغطاة بنسج من حرير وعلى دقائق القِرَى الشرقي.
وتم لي مثل ذلك الاستقبال الرائع من قبل الوصي على عرش جهتربور الذي أمر بأن ينصب لي في البرية بكهجورا خيمة حاوية جميع وسائل الراحة الأوربية، فلما رجعت من ذلك البلد القديم المهجور في الوقت الحاضر حضر لتحيتي ذلك الوصي على العرش محاطًا بوزراء البلاط وأمرائه بعيدًا بضعة أميال من عاصمته.
حقًّا أن ذلك القِرَى ينقلب إلى زعج الأجنبي إذا أمر الراجوات بضرب المدافع إيذانًا بوصول أجنبي إلى عواصمهم، ولكن الخطب يهون على السائح إذا أراد الوقوف على الأبهة الآسيوية وعلى المواكب السائرة والجماعات ذوات الثياب الزاهرة، فالسائح الذي يُكرَّم بمثل ذلك يظل شاكرًا لمن احتفى به فيذكر له ذلك.
وليست تلك المناظر الزاهية متعةً للعيون والخيالات فقط، فالناقد والمؤرخ يجدان فيها، أيضًا، مثل ما يجده المتفنن.
والسائح إذا دخل حيدر آباد على ظهر فيل فشاهد حوله حرس نظام ذي الأوضاع الرائعة أبصر صورة صادقة عن عاصمة كبيرة في أيام سلطان الإسلام.
وحيدر آباد، عاصمة ممالك نظام، هي المدينة الهندية التي حافظت على مظهر القرون الخالية وعظمة بلاطات الشرق القديمة، وقد تقاس بمدن العهد الإقطاعي في أوروبا وإن لم يكن للشرق عهد بالإقطاع الحقيقي، فالباحث حينما يرى أمراء نظام أصحاب جيوشٍ يدخلون بها عاصمة الملك في بعض الأحيان يتمثل له ما كان يقوم به الأرمانياك والبورغون من القتال في شوارع باريس.