القول في الموجود الأول
الموجود الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلِّها، وهو بريء من جميع أنحاء النقص، وكلُّ ما سواه فليس يخلو من أن يكون فيه شيء من أنحاء النقص، إمَّا واحدًا وإمَّا أكثر من واحد. وأما الأول فهو خلو من أنحائها كلِّها، فوجوده أفضل الوجود، وأقدم الوجود، ولا يمكن أن يكون وجودٌ أفضل ولا أقدم من وجوده. وهو من فضيلة الوجود في أعلى أنحائه، ومن كمال الوجود في أرفع المراتب، ولذلك لا يمكن أن يشوب وجودَهُ وجوهرَهُ عَدَمٌ أصلًا. والعدم والضدُّ لا يكونان إلا فيما دون فلك القمر، والعدم هو لا وجود ما شأنه أن يوجد.
ولا يمكن أن يكون له وجود بالقوة، ولا على نحو من الأنحاء، ولا إمكان أن لا يوجد ولا بوجهٍ ما من الوجوه؛ فلهذا هو أزلي، دائم الوجود بجوهره وذاته، من غير أن يكون به حاجة في أن يكون أزليًّا إلى شيء آخر يمد بقاءه، بل هو بجوهره كافٍ في بقائه ودوام وجوده.
ولا يمكن أن يكون وجودٌ أصلًا مثل وجوده، ولا أيضًا في مثل مرتبة وجوده وجودٌ يمكن أن يكون له أو يتوافر عليه.
وهو الموجود الذي لا يمكن أن يكون له سبب به، أو عنه، أو له كان وجوده؛ فإنه ليس بمادة، ولا قوامه في مادة ولا في موضوع أصلًا؛ بل وجوده خلو من كلِّ مادة ومن كلِّ موضوع، ولا أيضًا له صورة؛ لأن الصورة لا يمكن أن تكون إلا في مادة، ولو كانت له صورة لكانت ذاته مؤتلفة من مادة وصورة، ولو كان كذلك لكان قوامه بجزأيه اللذين منهما ائتلف، ولكان لوجوده سبب، فإن كلَّ واحد من أجزائه سبب لوجود جملته، وقد وضعنا أنه سبب أول.
ولا أيضًا لوجوده غرض وغاية حتى يكون، إنما وجوده ليتم تلك الغاية وذلك الغرض، وإلا لكان يكون ذلك سببًا ما لوجوده، فلا يكون سببًا أولًا.
ولا أيضًا استفاد وجوده من شيء آخر أقدم منه، وهو من أن يكون استفاد ذلك مما هو دونه أبعد.