القول في المقاسمة بين المراتب والأجسام الهيولانية والموجودات الإلهية
وترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم أولًا أخسها، ثم الأفضل فالأفضل، إلى أن تنتهي إلى أفضلها الذي لا أفضل منه. فأخسُّها المادة الأولى المشتركة، والأفضل منها الأسطقسات ثم المعدنية، ثم النبات، ثم الحيوان غير الناطق، ثم الحيوان الناطق، وليس بعد الحيوان الناطق أفضل منه.
وأما الموجودات التي سلف ذكرها، فإنها تترتب أولًا أفضلها ثم الأنقص فالأنقص إلى أن تنتهي إلى أنقصها. وأفضلها وأكملها الأول. فأما الأشياء الكائنة عن الأول، فأفضلها بالجملة هي التي ليست بأجسام ولا هي من أجسام، ومن بعدها السماوية. وأفضل المُفارِقة من هذه هو الثاني، ثم سائرها على الترتيب إلى أن ينتهي إلى الحادي عشر. وأفضل السماوية هي السماء الأولى، ثم الثانية، ثم سائرها على الترتيب، إلى أن ينتهي إلى التاسع وهو كرة القمر. والأشياء المفارقة التي بعد الأول هي عشرة والأجسام السماوية في الجملة تسعة، فجميعها تسعة عشر.
وكلُّ واحدٍ من العشرة متفرد بوجوده ومرتبته، ولا يمكن أن يكون وجوده لشيء آخر غيره؛ لأن وجوده إن شاركه فيه آخر، فذلك الآخر إن كان غير هذا، فباضطرار أن يكون له شيء ما باين به هذا، فيكون ذلك الشيء، الذي به باين هذا، هو وجوده الذي يخصُّه، فيكون الوجود الذي يخصُّ ذلك الشيء ليس هو الذي هو به هذا موجود. فإذن ليس وجودهما وجودًا واحدًا، بل لكلِّ واحدٍ منهما شيء يخصُّه، ولا أيضًا يمكن أن يكون له ضدٌّ؛ لأن ما كان له ضدٌّ فله مادة مشتركة بينه وبين ضدِّه، وليس يمكن أن يكون لواحد من هذه مادة، وأيضًا الذي تحت نوع ما، إنما تكثر أشخاصه؛ لكثرة موضوعات صورة ذلك النوع، فما ليست له مادة فليس يمكن أن يكون في نوعه شيء آخر غيره.
وأيضًا، فإن الأضداد إنما تحدث إمَّا من أشياء جواهرها مُتضادَّة، أو من شيء واحدٍ تكون أحواله ونسبه في موضعه مُتضادَّة، مثل البرد والحر، فإنهما يكونان من الشمس، ولكن الشمس تكون على حالين مختلفين من القرب والبعد، فتُحدث بحاليها أحوالًا ونسبًا مُتضادَّة. فالأول لا يمكن أن يكون له ضدٌّ، ولا أحواله مُتضادَّة من الثاني، ولا نسبته من الثاني نسبة مُتضادَّة، والثاني لا يمكن فيه تضادٌّ، وكذلك لا في الثالث، إلى أن ينتهي إلى العاشر.
وكلُّ واحد من العشرة يعقل ذاته ويعقل الأول، وليس في واحدٍ منها كفاية في أن يكون فاضل الوجود بأن يعقل ذاته، بل إنما يقتبس الفضيلة الكاملة بأن يعقل مع ذاته ذات السبب الأول. وبحسب زيادة فضيلة الأول على فضيلة ذاته يكون بما عَقَل الأول فضلُ اغتباطه بنفسه أكثر من اغتباطه بها عند عَقْل ذاته. وكذلك زيادة التذاذه بذاته بما عقل الأول على التذاذه بما عقل من ذاته، بحسب زيادة كمال الأول على كمال ذاته، وإعجابه بذاته وعشقه لها بما عقل من الأول على إعجابه بذاته وعشقه لها بما عقل من ذاته بحسب زيادة بهاء الأول وجماله على بهاء ذاته وجمالها، فيكون المحبوب أولًا والمعجب أولًا عند نفسه بما هو يعقله من الأول، وثانيًا بما هو يعقله من ذاته، فالأول أيضًا بحسب الإضافة إلى هذه العشرة هو المحبوب الأول والمعشوق الأول.