القول في مراتب الأجسام الهيولانية في الحدوث
فيحدث أولًا الأسطقسات، ثم ما جانسها وقارنها من الأجسام؛ مثل البخارات وأصنافها، مثل الغيوم والرياح وسائر ما يحدث في الجو، وأيضًا مجانساتها حول الأرض وتحتها، وفي الماء والنار. ويحدث في الأسطقسات، وفي كلِّ واحدٍ من سائر تلك، قوًى تتحرك بها من تلقاء أنفسها إلى أشياء شأنها أن توجد لها أو بها، بغير محرِّك من خارجٍ وقوى يفعل بعضها في بعض، وقوى يقبل بها بعضها فعل بعض، ثم تفعل فيها الأجسام السماوية، ويفعل بعضها في بعض، فيحدث من اجتماع الأفعال، من هذه الجهات، أصنافٌ من الاختلاطات والامتزاجات كثيرة، والمقادير كثيرة، مختلفة بغير تضادٍّ، ومختلفة بالتضادِّ.
فيلزم عنها وجود سائر الأجسام، فتختلط أولًا الأسطقسات بعضها مع بعض، فيحدث من ذلك أجسام كثيرة مُتضادَّة، ثم تختلط هذه المُتضادَّة بعضها مع بعض فقط، وبعضها مع بعض ومع الأسطقسات، فيكون ذلك اختلاطًا ثانيًا بعد الأول، فيحدث من ذلك أيضًا أجسام كثيرة مُتضادَّة الصور. ويحدث في كلِّ واحدٍ من هذه أيضًا قوى يفعل بها بعضها في بعض، وقوى تقبل بها فعل غيره (من الأجسام) فيها، وقوى تتحرَّك بها من تلقاء نفسها بغير مُحرِّك من خارج، ثم تفعل فيها أيضًا الأجسام السماوية، ويفعل بعضها في بعض، وتفعل فيها الأسطقسات، وتفعل هي في الأسطقسات أيضًا، فيحدث من اجتماع هذه الأفعال بجهات مختلفة اختلاطات أُخر كثيرة تبعد بها عن الأسطقسات والمادة الأولى بعدًا كثيرًا. ولا تزال تختلط اختلاطًا بعد اختلاط قبله، فيكون الاختلاط الثاني أبدًا أكثر تركيبًا مما قبله، إلى أن تحدث أجسام لا يمكن أن تختلط، فيحدث من اختلاطها جسم آخر أبعد منها عن الأسطقسات، فيقف الاختلاط.
فبعض الأجسام يحدث عن الاختلاط الأول، وبعضها عن الثاني، وبعضها عن الثالث، وبعضها عن الاختلاط الآخر. والمعدنيات تحدث باختلاطٍ أقربَ إلى الأسطقسات وأقل تركيبًا، ويكون بُعدها عن الأسطقسات بِرُتَبٍ أقلَّ، ويحدث النبات باختلاط أكثر منها تركيبًا وأبعد عن الأسطقسات بِرُتَبٍ أكثرَ. والحيوان غير الناطق يحدث باختلاطٍ أكثرَ تركيبًا من النبات، والإنسان وحده هو الذي يحدث عن الاختلاط الأخير.
ويحدث في كلِّ واحدٍ من هذه الأنواع قوًى يتحرَّك بها من تلقاء نفسه، وقوى يفعل بها في غيره، وقوى يقبل بها فعل غيره فيه. والفاعل منها في غيره فموضوعات فعله ثلاثة بالجملة: منها ما يفعل فيه على الأكثر، ومنها ما يفعل فيه على الأقلِّ، ومنها ما يفعل فيه على التساوي، وكذلك القابل لفعل غيره، قد يكون موضوعًا لثلاثة أصناف من الفاعلات: لما هو فاعل فيه على الأكثر، ولما هو فاعل فيه على الأقلِّ، ولما هو فاعل فيه على التساوي. وفعل كلِّ واحدٍ في كلِّ واحدٍ إمَّا بأن يَرفُدَه، وإمَّا بأن يضادَّه.
ثم الأجسام السماوية تفعل في كلِّ واحدٍ منها مع فعل بعضه في بعض، بأن ترفد بعضها وتضادَّ بعضها، وما ترفده فإنه ترفده حينًا وتضادُّه حينًا، وما تضادُّه فإنه تضادُّه حينًا وترفده أيضًا حينًا آخر، فتقترن أصناف الأفعال السماوية فيها إلى أفعال بعضها في بعض، فيحدث من اقترانها امتزاجات واختلاطات أُخر كثيرة جدًّا، يحدث في كلِّ نوع أشخاص كثيرة مختلفة جدًّا، فهذه هي أسباب وجود الأشياء الطبيعية التي تحت السماوية.