القول في أجزاء النفس الإنسانية وقواها
فإذا حدث الإنسان، فأول ما يحدث فيه القوة التي بها يتغذَّى، وهي القوة الغاذية، ثم من بعد ذلك القوة التي بها يحسُّ الملموس، مثل الحرارة والبرودة، وسائرها التي بها يحسُّ الطعوم، والتي بها يحسُّ الروائح، والتي بها يحسُّ الأصوات، والتي بها يحسُّ الألوان والمبصرات كلَّها مثل الشعاعات. ويحدث مع الحواس بها نزوع إلى ما يحسُّه، فيشتاقه أو يكرهه، ثم يحدث فيه بعد ذلك قوة أخرى يحفظ بها ما ارتسم في نفسه من المحسوسات بعد غيبتها عن مشاهدة الحواس لها، وهذه هي القوة المتخيلة. فهذه تركِّب المحسوسات بعضها إلى بعض، وتفصل بعضها عن بعض، تركيبات وتفصيلات مختلفة، بعضها كاذبة وبعضها صادقة، ويقترن بها نزوع نحو ما يتخيله، ثم من بعد ذلك يحدث فيه القوة الناطقة التي بها يمكن أن يعقل المعقولات، وبها يميز بين الجميل والقبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم، ويقترن بها أيضًا نزوع نحو ما يعقله.
فالقوة الغاذية، منها قوة واحدة رئيسة، ومنها قوى هي رواضع لها وخدم، فالقوة الغاذية الرئيسة هي من سائر أعضاء البدن في الفم، والرواضع والخدم متفرقة في سائر الأعضاء، وكلُّ قوة من الرواضع والخدم فهي في عضو ما من سائر أعضاء البدن، والرئيسة منها هي بالطبع مدبرة لسائر القوى، وسائر القوى يتشبَّه بها ويحتذي بأفعالها حذو ما هو بالطبع غرضُ رئيسها الذي في القلب، وذلك مثل المعدة والكبد والطحال، والأعضاء الخادمة هذه، والأعضاء التي تخدم هذه الخادمة، والتي تخدم هذه أيضًا؛ فإن الكبد عضو يَرأس ويُرأس، فإنه يُرأس بالقلب ويَرأس المرارة والكُلية وأشباههما من الأعضاء. والمثانة تخدم الكُلية، والكُلية تخدم الكبد، والكبد يخدم القلب؛ وعلى هذا توجد سائر الأعضاء.
والقوة الحاسة، فيها رئيس وفيها رواضع، ورواضعها هي هذه الحواس الخمس المشهورة عند الجميع، المتفرقة في العينين وفي الأذنين وفي سائرها، وكلُّ واحد من هذه الخمس يدرك حسًّا ما يخصُّه. والرئيسة منها هي التي اجتمع فيها جميع ما تدركه الخمس بأسرها، وكأن هذه الخمس هي منذرات تلك، وكأن هؤلاء أصحاب أخبار، كلُّ واحدٍ منهم موكَّل بجنس من الأخبار، وبأخبار ناحية من نواحي المملكة. والرئيسة كأنها هي الملك الذي عنده تجتمع أخبار نواحي مملكته من أصحاب أخباره، والرئيسة من هذه أيضًا هي في القلب.
والقوة المتخيلة ليس لها رواضع متفرقة في أعضاء أُخر، بل هي واحدة، وهي أيضًا في القلب، وهي تحفظ المحسوسات بعد غيبتها عن الحس، وهي بالطبع حاكمة على المحسوسات ومتحكمة عليها، وذلك أنها تُفرد بعضها عن بعض، وتركَّب بعضها إلى بعض، تركيبات مختلفة، يتفق في بعضها أن تكون موافقة لما حُسَّ، وفي بعضها أن تكون مخالفة للمحسوس.
وأما القوة الناطقة، فلا رواضع ولا خدم لها من نوعها في سائر الأعضاء، بل إنما رئاستها على سائر القوى المتخيلة، والرئيسة من كلِّ جنسٍ فيه رئيس ومرءوس، فهي رئيسة القوة المتخيلة، ورئيسة القوة الحاسة الرئيسة منها، ورئيسة القوة الغاذية الرئيسة منها.
والقوة النزوعية، وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه؛ فهي رئيسة، ولها خدم، وهذه القوة هي التي بها تكون الإرادة؛ فإن الإرادة هي نزوع إلى ما أدرك وعن ما أدرك، إمَّا بالحسِّ، وإمَّا بالتخيل، وإمَّا بالقوة الناطقة، وحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك، والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، إمَّا بالبدن بأسره، وإمَّا بعضوٍ ما منه، والنزوع إنما يكون بالقوة النزوعية الرئيسة.
والأعمال بالبدن تكون بقوى تخدم القوة النزوعية، وتلك القوى متفرقة في أعضاء أُعدَّت لأن يكون بها تلك الأفعال، منها أعصاب، ومنها عضل سارية في الأعضاء، والتي تكون بها الأفعال التي نزوع الحيوان والإنسان إليها. وتلك الأعضاء مثل اليدين والرجلين وسائر الأعضاء التي يمكن أن تتحرك بالإرادة، فهذه القوى التي في أمثال هذه الأعضاء هي كلُّها جسمانية وخادمة للقوة النزوعية الرئيسة التي في القلب.
وعلم الشيء قد يكون بالقوة الناطقة، وقد يكون بالمتخيلة، وقد يكون بالإحساس.
فإذا كان النزوع إلى علم شيءٍ شأنه أن يدرك بالقوة الناطقة، فإن الفعل الذي ينال به ما تشوِّق من ذلك، يكون بقوة ما أخرى في الناطقة، وهي القوة الفكرية، وهي التي تكون بها الفكرة والرؤية والتأمل والاستنباط.
وإذا كان النزوع إلى علم شيء ما يدرك بإحساس، كان الذي ينال به فعلًا مركبًا من فعل بدني ومن فعل نفساني في مثل الشيء الذي نتشوَّق رؤيته، فإنه يكون برفع الأجفان وبأن نحاذي أبصارنا نحو الشيء الذي نتشوَّق رؤيته، فإن كان الشيء بعيدًا مَشَيْنا إليه، وإن كان دونه حاجز أزلنا بأيدينا ذلك الحاجزَ، فهذه كلُّها أفعال بدنية، والإحساس نفسه فعل نفساني وكذلك في سائر الحواس.
وإذا تشوَّق تخيل شيء ما، نيل ذلك من وجوه: أحدها يفعل بالقوة المتخيلة، مثل تخيل الشيء الذي يُرْجَى ويُتوقع، أو تخيل شيء مضى، أو تمني شيءٍ ما تركِّبه القوة المتخيلة؛ والثاني ما يرد على القوة المتخيلة من إحساس شيء ما، فتخيل إليه من ذلك أمر ما أنه مخوف أو مأمول، أو ما يرد عليها من فعل القوة الناطقة.
فهذه القوى النفسانية.