القول في سبب المنامات
والقوة المتخيلة متوسطة بين الحاسَّة وبين الناطقة، وعندما تكون رواضع الحاسَّة كلُّها تحسُّ بالفعل وتفعل أفعالها، تكون القوة المتخيلة منفعلة عنها، مشغولة بما تورده الحواس عليها من المحسوسات وترسمه فيها، وتكون هي أيضًا مشغولة بخدمة القوة الناطقة، وبإرفاد القوة النزوعية.
فإذا صارت الحاسَّة والنزوعية والناطقة على كمالاتها الأُوَل، بأن لا تفعل أفعالها، مثل ما يعرض عند حال النوم، انفردت القوة المتخيلة بنفسها فارغةً عما تجدِّده الحواس عليها دائمًا من رسوم المحسوسات، وتخلَّت عن خدمة القوة الناطقة والنزوعية، فتعود إلى ما تجده عندها من رسوم المحسوسات محفوظةً باقيةً، فتفعل فيها بأن تركِّب بعضها إلى بعض، وتفصل بعضها عن بعض، ولها مع حفظها رسوم المحسوسات وتركيب بعضها إلى بعض، فعل ثالث؛ وهو المحاكاة، فإنها خاصَّة من بين سائر قوى النفس، لها قدرة على محاكاة الأشياء المحسوسة التي تبقى محفوظة فيها، فأحيانًا تحاكي المحسوسات بالحواس الخمس، بتركيب المحسوسات المحفوظة عندها المحاكية لتلك، وأحيانًا تحاكي المعقولات، وأحيانًا تحاكي القوة الغاذية، وأحيانًا تحاكي القوة النزوعية، وتحاكي أيضًا ما يصادف البدن عليه من المزاج، فإنها متى صادفت مزاج البدن رطبًا، حاكت الرطوبة بتركيب المحسوسات التي تحاكي الرطوبة، مثل المياه والسباحة فيها، ومتى كان مزاج البدن يابسًا، حاكت يبوسة البدن بالمحسوسات التي شأنها أن تحاكي بها اليبوسة، وكذلك تحاكي حرارة البدن وبرودته، إذا اتفق في وقت من الأوقات أن كان مزاجه في وقتٍ ما حارًّا أو باردًا، وقد يمكن، إن كانت هذه القوة هيئة وصورة في البدن، أن يكون البدن، إذا كان على مزاج ما، أن يفعل (البدن) فيها ذلك المزاج، غير أنها لمَّا كانت نفسانية، كان قبولها لما يفعل فيها البدن من المزاج على حسب ما في طبيعتها أن تقبله، لا على حسب ما في طبيعة الأجسام أن تقبل المزاجات، فإن الجسم الرطب، متى فعل رطوبة في جسم ما، قَبِل الجسم المنفعل الرطوبة، فصار رطبًا مثل الأول، وهذه القوة، متى فُعل فيها رطوبة أو أُدنيت إليها رطوبة، لم تصِرْ رطبة، بل تقبل تلك الرطوبة بما تحاكيها من المحسوسات، كما أن القوة الناطقة، متى قبلت الرطوبة فإنها إنما تقبل ماهية الرطوبة بأن تعقلها، ليست الرطوبة نفسها؛ كذلك هذه القوة، متى فعل فيها شيء، قبلت ذلك عن الفاعل على حسب ما في جوهرها واستعدادها أن تقبل ذلك.
فأي شيء ما فُعل فيها، فإنها إن كان في جوهرها أن تقبل ذلك الشيء، وكان مع ذلك في جوهرها أن تقبله كما أُلقي إليها، قَبِلتْ ذلك بوجهين: أحدهما بأن تقبله كما هو وكما ألقي إليها، والثاني بأن تحاكي ذلك الشيء بالمحسوسات التي شأنها أن تحاكي ذلك الشيء. وإن كان في جوهرها أن لا تقبل الشيء كما هو، قبلت ذلك بأن تحاكي ذلك الشيء بالمحسوسات التي تصادفها عندها مما شأنها أن تحاكي ذلك الشيء. ولأنها ليس لها أن تقبل المعقولات معقولات، فإن القوة الناطقة، متى أعطتها المعقولات التي حصلت لديها، لم تقبلها كما هي في القوة الناطقة، لكن تحاكيها بما تحاكيها من المحسوسات. ومتى أعطاها البدن المزاج الذي يتفق أن يكون له في وقت ما، قبلت ذلك المزاج بالمحسوسات التي تتفق عندها مما شأنها أن تحاكي ذلك المزاج، ومتى أعطيت شيئًا شأنه أن يحسَّ قبلت ذلك أحيانًا كما أعطيت، وأحيانًا بأن تحاكي ذلك المحسوس بمحسوسات أُخر تحاكيه.
وإذا صادفت (المخيلة) القوة النزوعية مستعدة استعدادًا قريبًا لكيفيةٍ (ما أو هيئة)؛ مثل غضب أو شهوة أو لانفعال ما بالجملة، حاكت القوة النزوعية بتركيب الأفعال التي شأنها أن تكون عن تلك الملكة التي توجد في القوة النزوعية معدة، في ذلك الوقت، لقبولها. ففي مثل هذا، ربما أنهضت القوى الرواضع الأعضاء الخادمة لأن تفعل في الحقيقة الأفعال التي شأنها أن تكون بتلك الأعضاء عندما تكون في القوة النزوعية تلك الأفعال، فتكون القوة المتخيلة بهذا الفعل، أحيانًا تشبه الهازل، وأحيانًا تشبه الميت. ثم ليس بهذا فقط، ولكن إذا كان مزاج البدن مزاجًا شأنه أن يتبع ذلك المزاج انفعال ما في القوة النزوعية، حاكت ذلك المزاج بأفعال القوة النزوعية الكائنة عن ذلك الانفعال، وذلك من قبل أن يحصل ذلك الانفعال، فتنهض الأعضاء التي فيها القوة الخادمة للقوة النزوعية، نحو تلك الأفعال بالحقيقة. من ذلك، أن مزاج البدن إذا صار مزاجًا شأنه أن يتبع ذلك المزاج في القوة النزوعية شهوة النكاح، حاكت (المتخيلة) ذلك المزاج بأفعال النكاح؛ فتنهض أعضاء هذا الفعل للاستعداد نحو فعل النكاح، لا عن شهوة حاصلة في ذلك الوقت، لكن لمحاكاة القوة المتخيلة للشهوة بأفعال تلك الشهوة، وكذلك في سائر الانفعالات، وكذلك ربما قام الإنسان من نومه فضرب آخر، أو قام ففرَّ من غير أن يكون هناك وارد من خارج، فيقوم ما تحاكيه القوة المتخيلة من ذلك الشيء مقام ذلك الشيء لو حصل في الحقيقة.
وتحاكي أيضًا القوة الناطقة بأن تحاكي ما حصل فيها من المعقولات بالأشياء التي شأنها أن تحاكي بها المعقولات، فتحاكي المعقولات التي في نهاية الكمال، مثل السبب الأول والأشياء المفارقة للمادة والسموات، بأفضل المحسوسات وأكملها، مثل الأشياء الحسنة المنظر، (وتحاكي) المعقولات الناقصة بأخسِّ المحسوسات وأنقصها، مثل الأشياء القبيحة المنظر، وكذلك تحاكي تلك (القوة) سائر المحسوسات اللذيذة المنظر.
والعقل الفعَّال، لمَّا كان هو السبب في أن تصير به المعقولات التي هي بالقوة معقولات بالفعل، وأن يصير ما هو عقل بالقوة عقلًا بالفعل، وكان ما سبيله أن يصير عقلًا بالفعل هي القوة الناطقة، وكانت الناطقة ضربين: ضربًا نظريًّا، وضربًا عمليًّا، وكانت العملية هي التي شأنها أن تفعل الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، والنظرية هي التي شأنها أن تعقل المعقولات التي شأنها أن تعلم، وكانت القوة المتخيلة مواصلة لضربي القوة الناطقة، فإن الذي تنال القوة الناطقة عن العقل الفعَّال — وهو الشيء الذي منزلته الضياء من البصر — قد يفيض منه على القوة المتخيلة، فيكون للعقل الفعَّال في القوة المتخيلة فعل ما، تعطيه أحيانًا المعقولات التي شأنها أن تحصل في الناطقة النظرية، وأحيانًا الجزئيات المحسوسات التي شأنها أن تحصل في الناطقة العملية، فتقبل (القوة المتخيِّلة) المعقولات بما يحاكيها من المحسوسات التي تركِّبُها هي. وتقبل الجزئيات أحيانًا بأن تتخيَّلها كما هي، وأحيانًا بأن تحاكيها بمحسوسات أُخر، وهذه هي التي شأن الناطقة العملية أن تعملها بالرويَّة، فمنها حاضرة، ومنها كائنة في المستقبل، إلا أن ما يحصل للقوة المتخيلة من هذه كلِّها، بلا توسط رويَّة، فلذلك يحصل في هذه الأشياء بعد أن يستنبط بالرويَّة، فيكون ما يعطيه العقل الفعَّال للقوة المتخيلة من الجزئيات، بالمنامات والرؤيات الصادقة، وبما يعطيها من المعقولات التي تقبلها بأن يأخذ محاكاتها مكانها بالكهانات على الأشياء الإلهية. وهذه كلُّها قد تكون في النوم، وقد تكون في اليقظة، إلَّا أن التي تكون في اليقظة قليلة وفي الأقل من الناس، فأمَّا التي في النوم فأكثرها الجزئيات، وأمَّا المعقولات فقليلة.