القول في الوَحْي ورؤية المَلَك
وذلك: أن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جدًّا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا أخدمتها للقوة الناطقة، بل كان فيها، مع اشتغالها بهذين، فضلٌ كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصُّها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منهما في وقت النوم، و(لمَّا كان) كثير من هذه التي يعطيها العقل الفعَّال، فتتخيَّلها القوة المتخيلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسَّة.
فإذا حصلت رسومها في الحاسَّة المشتركة، انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة، فارتسمت فيها تلك، فيحصل عمَّا في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنجاز بشعاع البصر، فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد ما في الهواء، فيرتسم من رأس في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحاسِّ المشترك وإلى القوة المتخيلة، ولأن هذه كلَّها متَّصلة بعضها ببعض، فيصير، ما أعطاه العقل الفعَّال من ذلك، مرئيًّا لهذا الإنسان.
فإذا اتفق أن كانت التي حاكت بها القوة المتخيلة أشياء محسوسات في نهاية الجمال والكمال، قال الذي يرى ذلك أن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود شيء منها في سائر الموجودات أصلًا، ولا يمتنع أن يكون الإنسان، إذا بلغت قوته المتخيلة نهاية الكمال، فيقبل، في يقظته، عن العقل الفعَّال، الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، ويراها، فيكون له، بما قَبِله من المعقولات، نبوةٌ بالأشياء الإلهية، فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيلة.
ودون هذا: من يرى جميع هذه، بعضَها في يقظته، وبعضها في نومه، ومن يتخيَّل في نفسه هذه الأشياء كلَّها لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط، وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يعبرون بها أقاويل محاكية ورموزًا وألغازًا وإبدالات وتشبيهات ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتًا كثيرًا: فمنهم من يقبل الجزئيات ويراها في اليقظة فقط ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل المعقولات ويراها في اليقظة، ولا يقبل الجزئيات، ومنهم من يقبل بعضها ويراها دون بعض، ومنهم من يرى شيئًا في يقظته ولا يقبل بعض هذه في نومه، ومنهم من لا يقبل شيئًا في يقظته، بل إنما يقبل ما يقبل في نومه فقط، فيقبل في نومه الجزئيات ولا يقبل المعقولات، ومنهم من يقبل شيئًا من هذه وشيئًا من هذه، ومنهم من يقبل شيئًا من الجزئيات فقط، وعلى هذا يوجد الأكثر، والناس أيضًا يتفاضلون في هذا.
وكل هذه معاونة للقوة الناطقة، وقد تعرض عوارض يتغيَّر بها مزاج الإنسان، فيصير بذلك معدًّا لأن يقبل عن العقل الفعَّال بعض هذه في وقت اليقظة أحيانًا، وفي النوم أحيانًا، فبعضهم يبقى ذلك فيهم زمانًا، وبعضهم إلى وقتٍ ما ثم يزول. وقد تعرض أيضًا للإنسان عوارض، فيفسد بها مزاجه وتفسد تخاييله؛ فيرى أشياء مما تركِّبه القوة المتخيلة على تلك الوجوه مما ليس لها وجود، ولا هي محاكاة لموجود، وهؤلاء الممرورون والمجانين وأشباههم.