القول في الصناعات والسعادات
والسعادات تتفاضل بثلاثة أنحاء: بالنوع، والكمية، والكيفية، وذلك شبيه بتفاضل الصنائع ههنا.
فتفاضل الصنائع بالنوع هو أن تكون صناعات مختلفة بالنوع، وتكون إحداها أفضل من الأخرى؛ مثل: الحياكة وصناعة البزِّ وصناعة العطر وصناعة الكناسة، ومثل صناعة الرقص، وصناعة الفقه، ومثل الحكمة والخطابة؛ فبهذه الأنحاء تتفاضل الصنائع التي أنواعها مختلفة.
وأهل الصنائع التي من نوعٍ واحدٍ بالكمية أن يكون كاتبان مثلًا، علم أحدهما من أجزاء صناعة الكتابة أكثر، وآخر احتوى من أجزائها على أشياء أقلَّ، مثل أن هذه الصناعة تلتئم باجتماع علم شيءٍ من اللغة وشيءٍ من الخطابة وشيءٍ من جودة الخطِّ وشيءٍ من الحساب، فيكون بعضهم قد احتوى من هذه على جودة الخطِّ مثلًا وعلى شيءٍ من الخطابة، وآخر احتوى على اللغة وعلى شيءٍ من الخطابة وعلى جودة الخطِّ، وآخر على الأربعة كلِّها.
والتفاضل في الكيفية هو أن يكون اثنان احتويا من أجزاء الكتابة على أشياءَ بأعيانها، ويكون أحدهما أقوى فيما احتوى عليه وأكثر دراية، فهذا هو التفاضل في الكيفية.
والسعادات تتفاضل بهذه الأنحاء أيضًا.
وأمَّا أهل سائر المدن، فإن أفعالهم، لما كانت رديئة، أكسبتهم هيئات نفسانية رديئة، كما أن أفعال الكتابة متى كانت رديئة على غير ما شأن الكتابة أن تكون عليها، تكسب الإنسان كتابة أسوأ رديئة ناقصة، وكلَّما ازدادت من تلك الأفعال ازدادت صناعته نقصًا، وكذلك الأفعال الرديئة من أفعال سائر المدن تكسب أنفسهم هيئات رديئة ناقصة، وكلَّما واظب واحد منهم على تلك الأفعال ازدادت هيئته النفسانية نقصًا، فتصير أنفسهم مَرْضَى، فلذلك ربما التذُّوا بالهيئات التي يستفيدونها بتلك الأفعال، كما أن مَرْضَى الأبدان، مثل كثير من المحمومين، لفساد مزاجهم، يستلذُّون الأشياء التي ليس شأنها أن يُلتذَّ بها من الطعوم، ويتأذَّون بالأشياء التي شأنها أن تكون لذيذة، ولا يحسُّون بطعوم الأشياء الحلوة التي من شأنها أن تكون لذيذة، كذلك مَرْضَى الأنفس، بفساد تخيُّلِهم الذي اكتسبوه بالإرادة والعادة، يستلذُّون الهيئات الرديئة والأفعال الرديئة، ويتأذون بالأشياء الجميلة الفاضلة، أو لا يتخيَّلونها أصلًا! وكما أن في المَرْضَى مَن لا يشعر بعلَّته، وفيهم من يظنُّ مع ذلك أنه صحيح، ويقوى ظنُّه بذلك حتى لا يصغي إلى قول طبيب أصلًا، كذلك مَن كان من مَرْضَى الأنفس لا يشعر بمرضه ويظنُّ مع ذلك أنه فاضل صحيح النفس، فإنه لا يصغي أصلًا إلى قول مُرشدٍ ولا مُعلِّمٍ ولا مُقوِّم.