القول في آراء أهل المدن الجاهلة والضَّالَّة
والمدن الجاهلة والضَّالَّة إنما تحدث متى كانت الملَّةُ مبنيَّةً على بعض الآراء القديمة الفاسدة.
منها؛ أن قومًا قالوا: إنَّا نرى الموجودات التي نشاهدها متضادَّة، وكلُّ واحدٍ منها يلتمس إبطال الآخر، ونرى كلَّ واحدٍ منها، إذا حصل موجودًا، أُعطي مع وجوده شيئًا يحفظ به وجوده من البطلان، وشيئًا يدفع به عن ذاته فعل ضدِّه، ويجوِّز به ذاته عن ضدِّه، وشيئًا يُبطل به ضدَّه ويفعل منه جسمًا شبيهًا به في النوع، وشيئًا يقتدر به على أن يستخدم سائر الأشياء فيما هو نافع في أفضل وجوده وفي دوام وجوده.
وفي كثير منها جُعل له ما يقهر به كلَّ ما يمتنع عليه، وجعل كل ضدٍّ من كلِّ ضدٍّ ومن كلِّ ما سواه بهذه الحال، حتى تخيَّل لنا أن كلَّ واحدٍ منها هو الذي قصد، أو أن يجاز له وحده أفضل الوجود دون غيره، فلذلك جعل له كل ما يبطل به كل ما كان ضارًّا له وغير نافعٍ له، وجعل له ما يستخدم به ما ينفعه في وجوده الأفضل؛ فإنَّا نرى كثيرًا من الحيوان يثب على كثيرٍ من باقيها، فيلتمس إفسادها وإبطالها، من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعًا يظهر، كأنه قد طبع على أن لا يكون موجود في العالم غيره، أو أن وجود كلِّ ما سواه ضارٌّ له، على أن يجعل وجود غيره ضارًّا له، وإن لم يكن منه شيء آخر على أنه موجود فقط، ثم إن كلَّ واحدٍ منهما، إن لم يرُم ذلك، التمس أن يستعبد غيره فيما ينفعه، وجعل كلَّ نوع من كلِّ نوع بهذه الحال، وفي كثيرٍ منها جعل كلُّ شخصٍ من كلِّ شخصٍ في نوعه بهذه الحال، ثم خليت هذه الموجودات أن تتغالب وتتهارج، فالأقهر منها لما سواه يكون أتمَّ وجودًا، والغالب أبدًا إمَّا أن يبطل بعضه بعضًا؛ لأنه في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقصٌ ومضرَّةٌ في وجوده هو، وإمَّا أن يستخدم بعضًا ويستعبده؛ لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو.
ويرى أشياء تجري على غير نظامٍ، ويرى مراتب الموجودات غير محفوظة، ويرى أمورًا تلحق كلَّ واحدٍ على غير استئهال منه لما يلحقه من وجوده لا وجود (لنفسها)، قالوا: وهذا وشبهه هو الذي يظهر في الموجودات التي نشاهدها ونعرفها. فقال قوم بعد ذلك: إن هذه الحال طبيعة الموجودات، وهذه فطرتها، والتي تفعلها الأجسام الطبيعية بطبائعها هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها وإراداتها، والمروية برويتها، ولذلك رأوا أن المدن ينبغي أن تكون متغالبة متهارجة، لا مراتب فيها ولا نظام، ولا استئهال يختصُّ به أحد لكرامة أو لشيء آخر، وأن يكون كلُّ إنسان متوحِّدًا بكلِّ خير هو له إن يلتمس أن يغالب غيره في كلِّ خيرٍ هو لغيره، وأن الإنسان الأقهر لكلِّ ما يناويه هو الأسعد.
ثم تحدث من هذه آراء كثيرة في المدن من آراء الجاهلية؛ فقوم رأوا ذلك أنه لا تحابَّ ولا ارتباط، لا بالطبع ولا بالإرادة، وأنه ينبغي أن يبغضَ كلُّ إنسان كلَّ إنسان، وأن ينافر كلُّ واحدٍ كلَّ واحد، ولا يرتبط اثنان إلا عند الضرورة، ولا يأتلفان إلا عند الحاجة، ثم يكون (بعد) اجتماعهما على ما يجتمعان عليه بأن يكون أحدهما القاهر والآخر مقهورًا، وإن اضطرَّا لأجل شيء وارد من خارج أن يجتمعا ويأتلفا، فينبغي أن يكون ذلك رَيْث الحاجة، وما دام الوارد من خارج يضطرُّهما إلى ذلك، فإذا زال فينبغي أن يتنافرا ويفترقا، وهذا هو الداء السَّبُعِيُّ من آراء الإنسانية.
وآخرون، لمَّا رأوا أن المتوحِّد لا يمكنه أن يقوم بكلِّ ما به إليه حاجة دون أن يكون له موازرون ومعاونون، يقوم له كلُّ واحدٍ بشيء مما يحتاج إليه، رأوا الاجتماع.
فقوم رأوا أن ذلك ينبغي أن يكون بالقهر، بأن يكون الذي يحتاج إلى موازرين يقهر قومًا، فيستعبدهم، ثم يقهر بهم آخرين فيستعبدهم أيضًا، وأنه لا ينبغي أن يكون موازره مساويًا له، بل مقهورًا؛ مثل أن يكون أقواهم بدنًا وسلاحًا يقهر واحدًا، حتى صار ذلك مقهورًا له قهر به واحدًا آخر أو نفرًا، ثم يقهر بأولئك آخرين، حتى يجمع له موازرين على الترتيب، فإذا اجتمعوا له صيَّرهم آلاتٍ يستعملهم فيما فيه هواه.
وآخرون رأوا ههنا ارتباطًا وتحابًّا وائتلافًا، واختلفوا في التي بها يكون الارتباط؛ فقوم رأوا أن الاشتراك في الولادة من والدٍ واحدٍ هو الارتباط به، وبه يكون الاجتماع والائتلاف والتحابُّ والتوازر على أن يغلبوا غيرهم، وعلى الامتناع من أن يغلبهم غيرهم. فإن التباين والتنافر بتباين الآباء، والاشتراك في الوالد الأخصِّ والأقرب يوجب ارتباطًا أشدَّ، وفيما هو أعمُّ يوجب ارتباطًا أضعفَ، إلى أن يبلغ من العموم والبعد إلى حيث ينقطع الارتباط أصلًا ويكون تنافرًا، إلا عند الضرورة الواردة من خارج، مثل شرٍّ يدهمهم، ولا يقومون بدفعه إلا باجتماع جماعات كثيرة.
وقوم رأوا أن الارتباط هو بالاشتراك في التناسل، وذلك بأن ينسل ذكورة أولاد هذه الطائفة من إناث أولاد أولئك، وذكورة أولاد أولئك من إناث أولاد هؤلاء، وذلك التصاهر.
وقوم رأوا أن الارتباط هو باشتراكٍ في الرئيس الأول الذي جمعهم أولًا ودبَّرهم حتى غلبوا به، ونالوا خيرًا ما من خيرات الجاهلية.
وقوم رأوا أن الارتباط هو بالأيمان والتحالف والتعاهد على ما يعطيه كلُّ إنسان من نفسه، ولا ينافر الباقين ولا يخاذلهم، وتكون أيديهم واحدة في أن يغلبوا غيرهم، وأن يدفعوا عن أنفسهم غلبة غيرهم لهم.
وآخرون رأوا أن الارتباط هو بتشابه الخلق والشيم الطبيعية، والاشتراك في اللغة واللسان، وأن التباين يباين هذه، وهذا هو لكلِّ أمة، فينبغي أن يكونوا فيما بينهم متحابِّين ومنافرين لمن سواهم، فإن الأمم إنما تتباين بهذه الثلاث.
وآخرون رأوا أن الارتباط هو بالاشتراك في المنزل، ثم الاشتراك في المساكن، وأن أخصَّهم هو بالاشتراك في المنزل، ثم الاشتراك في السكَّة، ثم الاشتراك في المحلَّة، فلذلك يتواسون بالجار، فإن الجار هو المشارك في السكَّة وفي المحلَّة، ثم الاشتراك في المدينة، ثم الاشتراك في الصقع الذي فيه المدينة.
وههنا أيضًا أشياء يظن أنه ينبغي أن يكون لها ارتباط جزئي بين جماعة يسيرة وبين نفر وبين اثنين، منها طول التلاقي، ومنها الاشتراك في طعامٍ يُؤكل، وشرابٍ يُشرب، ومنها الاشتراك في الصنائع، ومنها الاشتراك في شرٍّ يدهمهم، وخاصة متى كان نوع الشرِّ واحدًا وتلاقوا، فإن بعضهم يكون سلوة بعض. ومنها الاشتراك في لذَّةٍ ما، ومنها الاشتراك في الأمكنة التي لا يُؤمن فيها أن يحتاج كلُّ واحدٍ إلى الآخر، مثل الترافق في السفر.