القول في المدن الجاهلة
المدن الجاهلة، منها الضرورية، ومنها المبدِّلة، ومنها الساقطة، ومنها الكرامية، ومنها الجماعية، وتلك الأخرى، سوى الجماعية، إنما هِمَّةُ أهلها جنس واحد من الغايات، وأمَّا الجماعية فذات همم كثيرة، قد اجتمع فيها همم جميع المدن. فالغلبة والمدافعة التي تضطر إليها المدن المسالمة، إمَّا أن تكون في جماعتهم، وإمَّا أن تكون في طائفة بعينها، حتى يكون أهل المدينة طائفتين: طائفة فيها القوة على المغالبة والمدافعة، وطائفة ليس فيها ذلك، فبهذه الأشياء يستديمون الخيرات التي هي لهم، وهذه الطائفة، من أهل الجاهلة، هي سليمة النفوس، وتلك الأولى رديئة النفوس؛ لأنها ترى المغالبة هي الخير، وذلك بوجهين: مجاهدة ومخاتلة، فمن قدر منهم على المجاهدة فعل ذلك، وإن لم يقدر فبالدغل والغش والمراياة والتمويه والمغالطة.
والآخرون اعتقدوا أن ههنا سعادة وكمالًا، يصل إليه الإنسان بعد موته وفي الحياة الأخرى؛ فإن ههنا فضائلَ وأفعالًا فاضلة في الحقيقة يفعلها لينال بها السعادة بعد الموت. ونظروا، فإذا ما يشاهدون في الموجودات الطبيعية لا يمكن أن ينكروا ويجحدوا، وظنُّوا أنهم إن سلَّموا أن جميعها طبيعي على ما هو مشاهد، أوجب ذلك ما ظنه أهل الجاهلة، فرأوا لذلك أن يقولوا إن للموجودات الطبيعية المشاهدة على هذه الحال وجودًا آخر غير الوجود المشاهد اليوم، وإن هذا الوجود الذي لها اليوم غير طبيعي لها، بل هي مضادَّة لذلك الوجود الذي هو الوجود الطبيعي لها، وإنه ينبغي أن يقصد بالإرادة، ويعمل في إبطال هذا الوجود؛ ليحصل ذلك الوجود الذي هو الكمال الطبيعي؛ لأن هذا الوجود هو العائق عن الكمال، فإذا بطل هذا، حصل بعد بطلانه الكمال.
وآخرون يرون أن وجود الموجودات حاصل لها اليوم، ولكن اقترنت إليها واختلطت بها أشياء أُخر، أفسدتها وعاقتها عن أفعالها، وجعلت كثيرًا منها على غير صورتها، حتى ظُنَّ مثلًا بما ليس بإنسان أنه إنسان، وبما هو إنسان أنه ليس بإنسان، وبما هو فعلُ الإنسان أنه ليس بفعلٍ له، وبما ليس بفعلٍ له أنه فعلٌ له، حتى صار الإنسان في هذا الوقت لا يعقل ما شأنه أن يُعقل، ويعقل ما ليس شأنه أن يُعقل، ويرى في أشياء كثيرة أنها صادقة وليست كذلك، ويرى في أشياء كثيرة أنها محالة من غير أن تكون كذلك.
وعلى الرأيين جميعًا، يرون إبطال هذا الوجود المشاهد؛ ليحصل ذلك الوجود، فإن الإنسان هو أحد الموجودات الطبيعية، وإن الوجود الذي له الآن ليس هو وجوده الطبيعي، بل وجوده الطبيعي وجود آخر غير هذا، وهذا الذي له الآن مضادٌّ لذلك الوجود وعائق عنه، وإن الذي للإنسان هو اليوم من الوجود فشيء غير طبيعي.
فقوم رأوا أن اقتران النفس بالبدن ليس بطبيعي، وأن الإنسان هو النفس، واقتران البدن إليها مفسد لها مغيِّر لأفعالها، والرذائل إنما تكون عنها لأجل مقارنة البدن لها، وأن كمالها وفضيلتها أن تخلص من البدن، وأنها في سعادتها ليست تحتاج إلى بدن، ولا أيضًا في أن تنال السعادة تحتاج إلى بدن ولا إلى الأشياء الخارجة عن البدن، مثل الأموال والمجاورين والأصدقاء وأهل المدينة، وأن الوجود البدني هو الذي يحوج إلى الاجتماعات المدنية وإلى سائر الأشياء الخارجة، فرأوا لذلك أن يطرح هذا الوجود البدني.
وآخرون رأوا أن البدن طبيعي له، ورأوا أن عوارض النفس هي التي ليست طبيعية للإنسان، وأن الفضيلة التامة، التي بها تنال السعادة، هي إبطال العوارض وإماتتها. فقوم رأوا ذلك في جميع العوارض، مثل الغضب والشهوة وأشباههما؛ لأنهم رأوا أن هذه هي أسباب إيثار هذه التي هي خيرات مظنونة، وهي الكرامة واليسار واللذَّات، وأن إيثار الغلبة إنما يكون بالغضب وبالقوة الغضبية، والتباين والتنافر يكون بهذا. فرأوا لذلك إبطالها كلِّها. وقوم رأوا ذلك في الشهوة والغضب وما جانسهما، وأن الفضيلة والكمال إبطالهما. وقوم رأوا ذلك في عوارض غير هذه، مثل الغيرة والشحِّ وأشباههما؛ ولذلك رأى قوم أن الذي يفيد الوجود الطبيعي غير الذي يفيد الوجود الذي لهما الآن، ثم إن السبب الذي عنه وجدت الشهوة والغضب وسائر عوارض النفس، مضادٌّ للذي أفاد الجزء الناطق، فجعل بعضهم أسباب ذلك تضاد الفاعلين، مثل أنبدقليس، وبعضهم جعل سبب ذلك تضاد المواد، مثل فرمانيدس في آرائه الظاهرة، وغيره من الطبيعيين.
وغير هذه الآراء، يتفرع ما يُحكى عن كثير من القدماء: «مت بالإرادة تَحْيَ بالطبيعة.» فإنهم يرون أن الموت موتان: موت طبيعي وموت إرادي، ويعنون بالموت الإرادي إبطال عوارض النفس من الشهوة والغضب، وبالموت الطبيعي مفارقة النفس الجسدَ، ويعنون بالحياة الطبيعية الكمال والسعادة، وهذا على رأي من رأى أن عوارض النفس من الشهوة والغضب قسر في الإنسان.
والتي ذكرناها من آراء القدماء فاسدة، تفرعت منها آراء انبثت منها مِللٌ في كثير من المدن الضَّالَّة.
وآخرون، لما شاهدوا من أحوال الموجودات الطبيعية تلك التي اختصصناها أولًا، من أنها توجد موجودات مختلفة متضادَّة، وتوجد حينًا ولا توجد حينًا، وسائر ما قلنا، رأوا أن الموجودات، التي هي الآن محسوسة أو معقولة، ليست لها جواهر محدودة، ولا لشيء منها طبيعة تخصُّه، حتى يكون جوهره هو تلك الطبيعة وحدها فقط، ولا يكون غيرها، بل كلُّ واحدٍ منها جوهره أشياء غير متناهية، مثل الإنسان مثلًا، فإن المفهوم من هذا اللفظ شيء غير محدود الجوهر، ولكن جوهره وما يفهم منه أشياء لا نهاية لها. غير أن ما أحسسناه الآن من جوهره هو هذا المحسوس، والذي عقلنا منه هو هذا الذي نزعم أَنَّا نعقله منه اليوم، وقد يجوز أن يكون ذلك شيئًا آخر، غير هذا المعقول وغير هذا المحسوس، وكذلك في كلِّ شيء هو الآن ليس هو موجودًا، فإن جوهره ليس هو هذا المعقول من لفظه فقط، لكنه هذا وشيء آخر غيره مما لم نحسه ولم نعقله، مما لو جعل ذلك مكانَ هذا الذي هو الآن موجود لأحسسناه أو لعقلناه، ولكن الذي حصل موجودًا هو هذا، فإن لم يقل قائل إن الطبيعة طبيعة المفهوم من كلِّ لفظٍ، ليس هو هذا المعقول الآن، لكنه أشياء أُخر غير متناهية، بل قال إنه هذا ويجوز أن يكون غير هذا مما لم نعقله، فلا فرق في ذلك، فإن الذي يجوز ويمكن إذا وضع موجودًا لم يلزم منه محال، وكذلك في كلِّ ما عندنا أنه لا يجوز غيره أو لم يمكن غيره، وقد يجوز أن يكون غيره، وأنه ليس الذي تلزم ضرورة عن تضعيف ثلاثٍ ثلاثَ مراتٍ وجودُ التسعة، بل ليس جوهره ذلك، لكن يمكن أن يكون الحادث عن ذلك شيئًا آخر من العدد، أو ما اتفق من سائر الموجودات غير العدد، أي شيء اتفق، أو شيئًا آخر لم نحسه ولم نعقله، بل قد يمكن أن يكون محسوسات ومعقولات بلا نهاية، لم تحس بعد، ولم تعقل، أو لم تُوجد فَتُحسَّ أو تُعقل. وكذلك كلُّ لازم عن شيء ما، فإنه ليس إنما يلزم لأن جوهره ذلك الشيء ألزم ذلك، بل لأنه هكذا اتفق، ولأن فاعلًا من خارج ذلك الشيء كون الآخر عنده أو في زمان كون ذلك أو عند حال من أحواله، فإنما حصول كلِّ موجودٍ الآن على ما هو عليه موجود، إمَّا باتفاق، وإمَّا لأن فاعلًا من خارج أوجدهما، وقد كان يمكن أن يحصل بدل ما يُفهم عن لفظ الإنسان شيئًا آخر غير ما نعقل اليوم، وشاء ذلك الفاعل أن يجعل من بين تلك، التي كان يقدر أن يجعلها هذا المعقول؛ فصرنا لا نحسُّ ولا نفهم منه غير هذا الوجه أحدًا، وهذا من جنس رأي من يرى أن كلَّ ما نعقل اليوم من شيء، فقد يمكن أن يكون ضدُّه ونقيضه هو الحقَّ، إلا إن اتفق لنا أن نجعل في أوهامنا أن الحقَّ هو هذا الآن الذي نرى، أن المفهوم من لفظ الإنسان، قد يمكن أن يكون شيئًا آخر غير المفهوم منه اليوم، وأشياء غير متناهية. على أن كلَّ واحدٍ من تلك هو طبيعية هذه الذات المفهومة، وأن تلك إن كانت هي وهذا المعقول اليوم شيئًا واحدًا في العدد، فليس المعقول اليوم شيئًا واحدًا في العدد، وليس المعقول من لفظ الإنسان بشيء آخر غير هذا المعقول اليوم، فإن كانت ليست هي واحدة بالعدد بل كثيرة مختلفة الحدود، فاسم الإنسان يقال عليهما بالاشتراك، وإن كانت مع ذلك مما يمكن أن يظهر في الوجود معًا، كانت على مثال ما يقال عليهما اسم العين اليوم، ويكون أيضًا أشياء بلا نهاية في العدد معًا، وإن كانت مما لا يمكن أن يوجد معًا، بل كانت تتعاقب، فهي متضادَّة أو متقابلة في الجملة، وإن كانت متقابلة وكانت بلا نهاية أو متناهية، لزم أن يكون كلُّ ما عندنا أنه لا يجوز غيره أو نقيضه، فإنه يمكن أن يكون نقيضه أو ضدُّهُ أو مقابله في الجملة هو أيضًا حق؛ إمَّا بدل هذا أو مع ضدِّه. فيلزم من هذا أن لا يصحَّ قول يقال أصلًا، وأن يصحَّ جميع ما يُقال، وأن لا يكون في الكون محالٌ أصلًا، فإنه إن وَضع شيءٌ ما طبيعةَ شيء ما، جاز أن يكون غير ذلك الذي يفهم على لفظه اليوم، وطبيعة شيء ما مما لا ندري أي شيء هو مما يمكن أن يصير موجودًا، فيُحس أو يعقل ويصير مفهمومًا، ولكن ليس هو معقولًا عندنا اليوم، وذلك الذي لا ندري الآن أي شيء هو، وقد يمكن أن يكون ضدَّه أو مقابله في الجملة، فيكون ما هو محال عندنا ممكنًا أن لا يكون محالًا.
وبهذا الرأي وما جانسه تبطل الحكمة، وتجعل ما يرسم في النفوس أشياء محالة على أنها حقٌّ، بأنها تجعل الأشياء كلَّها ممكنة أن توجد في جواهرها وجودات متقابلة ووجودات بلا نهاية في جواهرها وأعراضها، ولا تجعل شيئًا محالًا أصلًا.