القول في أن وحدته عين ذاته، وأنه تعالى عالم وحكيم، وأنه حقٌّ وحيٌّ وحياة
فإن وجوده الذي به ينحاز عمَّا سواه من الموجودات لا يمكن أن يكون غير الذي هو به في ذاته موجود، فلذلك يكون انحيازه عمَّا سواه توحُّدَه في ذاته. وإن أحد معاني الوحدة هو الوجود الخاص الذي به ينحاز كلُّ موجود عمَّا سواه، وهي التي بها يقال لكلِّ موجود واحد من جهة ما هو موجود الوجود الذي يخصُّه، وهذا المعنى من معاني الواحد يساوق الموجود الأول، فالأول أيضًا بهذا الوجه واحد، وأحقُّ من كلِّ واحدٍ سواه باسم الواحد ومعناه.
ولأنه ليس بمادة، ولا مادة له بوجه من الوجوه، فإنه بجوهره عقل بالفعل؛ لأن المانع للصورة أن تكون عقلًا وأن تعقل بالفعل، هو المادة التي فيها يوجد الشيء، فمتى كان الشيء في وجوده غير محتاج إلى مادة، كان ذلك الشيء بجوهره عقلًا بالفعل، وتلك حال الأول. فهو إذن عقل بالفعل، وهو أيضًا معقول بجوهره، فإن المانع أيضًا للشيء من أن يكون بالفعل معقولًا هو المادة. وهو معقول من جهة ما هو عقل؛ لأن الذي هويته عقل ليس يحتاج في أن يكون معقولًا إلى ذات أخرى خارجة عنه تَعقِلُه، بل هو بنفسه يعقل ذاته، فيصير بما يعقل من ذاته عاقلًا وعقلًا بالفعل، وبأن ذاته تعقله (يصير) معقولًا بالفعل. وكذلك لا يحتاج في أن يكون عقلًا بالفعل وعاقلًا بالفعل إلى ذات يعقلها ويستفيدها من خارج، بل يكون عقلًا وعاقلًا بأن يعقل ذاته، فإن الذات التي تَعقِل هي التي تُعقَل، فهو عقل من جهة ما هو معقول؛ فإنه عقل وإنه معقول وإنه عاقل.
هي كلُّها ذات واحدة وجوهر واحد غير منقسم؛ فإن الإنسان مثلًا معقول، وليس المعقول منه معقولًا بالفعل، بل كان معقولًا بالقوة ثم صار معقولًا بالفعل بعد أن عَقَله العقل. فليس إذن المعقول من الإنسان هو الذي يَعْقِل، ولا العقل منه أبدًا هو المعقول، ولا عقلنا نحن من جهة ما هو عقل هو معقول، ونحن عاقلون لا بأن جوهرنا عقل؛ فإن ما نعقل ليس هو الذي به تجوهُرُنا، فالأول ليس كذلك، بل العقل والعاقل والمعقول فيه معنى واحد، وذات واحدة، وجوهر واحد غير منقسم.
وكذلك الحال في أنه عالم؛ فإنه ليس يحتاج في أن يعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارجة عن ذاته، ولا في أن يكون معلومًا إلى ذات أخرى تعلمه، بل هو مكتفٍ بجوهره في أن يَعلم ويُعلَم، وليس علمه بذاته شيئًا سوى جوهره؛ فإنه يعلم وإنه معلوم وإنه علم، فهو ذات واحدة وجوهر واحد.
وكذلك في أنه حكيم؛ فإن الحكمة هي أن يعقل أفضل الأشياء بأفضل علم، وبما يعقل من ذاته ويعلمه يعلم أفضل الأشياء، وأفضل العلم هو العلم الدائم الذي لا يمكن أن يزول، وذلك هو علمه بذاته.
وكذلك في أنه حقٌّ؛ فإن الحقَّ يُساوق الوجود، والحقيقة قد تساوق الوجود، فإن حقيقة الشيء هي الوجود الذي يخصُّه. وأكمل الوجود هو قسطه من الوجود، وأيضًا فإن الحقَّ قد يقال على المعقول الذي صادف به العقل الموجود حتى يطابقه، وذلك الموجود من جهة ما هو معقول، يقال له إنه حقٌّ، ومن جهة ذاته من غير أن يضاف إلى ما يعقله يقال إنه موجود، فالأول يقال إنه حقٌّ بالوجهين جميعًا، بأن وجوده الذي هو له أكمل الوجود، وبأنه معقول صادف به الذي عقله الموجود على ما هو موجود. وليس يحتاج في أن يكون حقًّا بما هو معقول إلى ذات أخرى خارجة عنه تعقله، وأيضًا أوْلَى بما يقال عليه حقٌّ بالوجهين جميعًا، وحقيقته ليست هي شيئًا سوى أنه حقٌّ.
وكذلك في أنه حيٌّ، وأنه حياة، فليس يُدَلُّ بهذين على ذاتين، بل على ذات واحدة، فإن معنى الحيِّ أنه يعقل أفضلَ معقولٍ بأفضلِ عقلٍ، أو يعلم أفضل معلوم بأفضل علم، كما أَنَّا إنما يقال لنا أحياء أولًا، إذا كنا ندرك أحسنَ المدركات بأحسنِ إدراكٍ، فإنَّا إنما يقال لنا أحياء إذا كنا ندرك المحسوسات، وهي أحسن المعلومات، بالإحساس الذي هو أفضل الإدراكات، وبأحسن القوى المدركة وهي الحواس. فما هو أفضل عقل إذا عَقَل وعَلِم أفضل المعقولات بأفضل علم، فهو أحرى أن يكون حيًّا؛ لأنه يعقل من جهة ما هو عقل، وأنه عاقل وأنه عقل، وأنه عالم وأنه علم، هو فيه معنى واحد، وكذلك أنه حيٌّ، وأنه حياة، معنى واحد.
وأيضًا فإن اسم الحيِّ قد يُستعارُ لغير ما هو حيوان، فيقال على كلِّ موجود كان على كماله الأخير، وعلى كلِّ ما بلغ من الوجود والكمال إلى حيث يصدر عنه ما من شأنه أن يكون منه، كما من شأنه أن يكون منه. فعلى هذا الوجه إذا كان الأول وجوده أكمل وجود، كان أيضًا أحقَّ باسم الحيِّ من الذي يقال على الشيء باستعارة. وكلُّ ما كان وجوده أتمَّ فإنه إذا عُلِم وعُقِل كان ما يُعقَل عنه ويُعلم منه أتمَّ، إذا كان المعقول منه في نفوسنا مطابقًا لما هو موجود منه. فعلى حسب وجوده الخارج عن نفوسنا يكون معقوله في نفوسنا مطابقًا لوجوده، وإن كان ناقص الوجود، كان معقوله في نفوسنا معقولًا أنقص.
فإن الحركة والزمان واللانهاية والعدم وأشباهها من الموجودات، فالمعقول من كلِّ واحد منها في نفوسنا معقول ناقص؛ إذ كانت هي في أنفسها موجودات ناقصة الوجود، والعدد والمثلث والمربع وأشباهها فمعقولاتها في أنفسنا أكمل؛ لأنها هي في أنفسها أكمل وجودًا، فلذلك كان يجب في الأول؛ إذ هو في الغاية من كمال الوجود أن يكون المعقول منه في نفوسنا على نهاية الكمال أيضًا. ونحن نجد الأمر على غير ذلك، فينبغي أن نعلم أنه من جهته غير معتاص الإدراك؛ إذ كان في نهاية الكمال، ولكن لضعف قوى عقولنا نحن، ولملابستها المادة والعدم، يعتاص إدراكه، ويعسر علينا تصوُّره، ونضعف من أن نعقله على ما هو عليه وجوده، فإن إفراط كماله يبهرنا، فلا نقوى على تصوُّرِه على التمام، كما أن الضوء هو أول المبصرات وأكملها وأظهرها، به يصير سائر المبصرات مبصرة، وهو السبب في أن صارت الألوان مبصرة، ويجب فيها أن يكون كلُّ ما كان أتم وأكبر، كإدراك البصر له أتم. ونحن نرى الأمر على خلاف ذلك، فإنه كلَّما كان أكبر كان إبصارنا له أضعف، ليس لأجل خفائه ونقصه، بل هو في نفسه على غاية ما يكون من الظهور والاستنارة، ولكن كماله، بما هو نور، يبهر الأبصار، فتحار الأبصار عنه.
كذلك قياس السبب الأول والعقل الأول والحقِّ الأول، وعقولنا نحن. ليس نقص معقوله عندنا لنقصانه في نفسه، ولا عُسر إدراكنا له لعسره في وجوده، لكن لضعف قوى عقولنا نحن عَسُرَ تصوُّرُه.
فتكون المعقولات التي هي في أنفسنا ناقصة، وتصوُّرنا لها ضعيف، وهذا على ضربين: ضرب ممتنع من جهة ذاته أن يتصوَّر فيعقل تصوُّرًا تامًّا لضعف وجوده ونقصان ذاته وجوهره، وضرب مبذول من جهة فهمه وتصوُّره على التمام وعلى أكمل ما يكون، ولكن أذهاننا وقوى عقولنا ممتنعة؛ لضعفها وبُعدها عن جوهر ذلك الشيء، من أن نتصوَّره على التمام وعلى ما هو عليه من كمال الوجود. وهذان الضربان كلُّ واحدٍ منهما هو من الآخر في الطرف الأقصى من الوجود: أحدهما في نهاية الكمال، والآخر في نهاية النقص.
ويجب إذا كنا نحن ملتبسين بالمادة، كانت هي السبب في أن صارت جواهرنا جوهرًا يبعد عن الجوهر الأول؛ إذ كلَّما قَرُبت جواهرنا منه، كان تصورنا له أتمَّ وأيقن وأصدق، وذلك أنَّا كلَّما كنَّا أقرب إلى مفارقة المادة كان تصوُّرُنا له أتمَّ، وإنما نصير أقرب إليه بأن نصير عقلًا بالفعل، وإذا فارقنا المادة على التمام يصير المعقول منه في أذهاننا أكمل ما يكون.