القول في كيفية صدور جميع الموجودات عنه
والأول هو الذي عنه وجد، ومتى وُجد للأول الوجود الذي هو له، لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره، على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحسِّ وبعضه معلوم بالبرهان. ووجود ما يوجد عنه إنما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو، فعلى هذه الجهة لا يكون وجود ما يوجد عنه سببًا له بوجه من الوجوه، ولا على أنه غاية لوجود الأول، كما يكون وجود الابن — من جهة ما هو ابن — غاية لوجود الأبوين، من جهة ما هما أبوان.
يعني أن الوجود الذي يوجد عنه (لا) يفيده كمالًا ما، كما يكون لنا ذلك عن جلِّ الأشياء التي تكون منا، مثل أنَّا بإعطائنا المال لغيرنا نستفيد من غيرنا كرامة أو لذَّة أو غير ذلك من الخيرات، حتى تكون تلك فاعلة فيه كمالًا ما. فالأول ليس وجوده لأجل غيره، ولا يوجد بغيره، حتى يكون الغرض من وجوده أن يوجد سائر الأشياء، فيكون لوجوده سبب خارج عنه، فلا يكون أولًا، ولا أيضًا بإعطائه ما سواه الوجودَ ينال كمالًا لم يكن له قبل ذلك خارجًا عما هو عليه من الكمال، كما ينال من يجود بماله أو شيء آخر، فيستفيد بما يبذل من ذلك لذَّة أو كرامة أو رئاسة أو شيئًا غير ذلك من الخيرات؛ فهذه الأشياء كلُّها محال أن تكون في الأول؛ لأنه يسقط أوليته وتقدمه، ويجعل غيره أقدم منه وسببًا لوجوده، بل وجوده لأجل ذاته، ويلحق جوهره ووجوده ويتبعه أن يوجد عنه غيره؛ فلذلك وجوده الذي به فاض الوجود إلى غيره هو في جوهره، ووجوده الذي به تجوهرُه في ذاته، هو بعينه وجوده الذي به يحصل وجود غيره عنه. وليس ينقسم إلى شيئين، يكون بأحدهما تجوهر ذاته وبالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أن لنا شيئين نتجوهر بأحدهما؛ وهو النطق، ونكتب بالآخر؛ وهو صناعة الكتابة، بل هو ذات واحدة وجوهر واحد، به يكون تجوهره وبه بعينه يحصل عنه شيء آخر.
ولا أيضًا يحتاج في أن يفيض عن وجوده وجود شيء آخر إلى شيء غير ذاته يكون فيه، ولا عرض يكون فيه، ولا حركة يستفيد بها حالًا لم يكن له، ولا آلة خارجة عن ذاته، مثل ما تحتاج النار، في أن يكون عنها وعن الماء بخار، إلى حرارة يتبخر بها الماء، وكما تحتاج الشمس في أن تسخِّن ما لدينا إلى أن تتحرك هي ليحصل لها بالحركة ما لم يكن لها من الحال، فيحصل عنها وبالحال التي استفادها بالحركة حرارة فيما لدينا، أو كما يحتاج النجار إلى الفأس وإلى المنشار حتى يحصل عنه في الخشب انفصال وانقطاع وانشقاق. وليس وجوده، بما يفيض عنه وجود غيره أكمل من وجوده الذي هو بجوهره، ولا وجوده الذي بجوهره أكمل من الذي يفيض عنه وجود غيره، بل هما جميعًا ذات واحدة.
ولا يمكن أيضًا أن يكون له عائق من أن يفيض عنه وجود غيره، لا من نفسه ولا من خارج أصلًا.