مع الموسيقى … في رحلة الحياة
لم تتميَّز البيئة التي نشأتُ فيها بأي عاملٍ يساعد على تنمية المواهب الموسيقية، أو حتى على كشف هذه المواهب إن كانت موجودة بالفعل؛ ففي المدارس الابتدائية كنا نتلقى نوعًا من التعليم الموسيقي الاختياري الذي يقوم به معلِّمون يفتقرون هم أنفسهم إلى الحساسية والذوق المرهف. وفي المدرسة الثانوية كانت هناك دروس منتظمة (ربما لأن المدرسة التي التحقت بها كانت نموذجية في ذلك الحين)، ولكن المعلم كان يفترض مقدَّمًا أن تلاميذه لن يفهموا من دروسه شيئًا، أو لن يعبئوا بها إن فهموها، فكان جهده كله مُركزًا على الفرقة العازفة للمدرسة، أما تلاميذ الفصول فكان تعليمه لهم مجرَّد واجب رسمي فحسب. وعلى أية حال فإن هذا التعليم لم يكن يبدأ أبدًا بتجرِبة موسيقية تُعرض مباشرة على التلاميذ، وتنمي تذوقهم الموسيقي، ولو في أبسط صورة بطريقة متدرجة، بل كان يبدأ بالدروس الجافة التي تقتضي مذاكرةً وحفظًا، خطوط النوتة الموسيقية «مي» و«صول» … إلخ، ومسافاتها «فا» و«لا»، علامة «الروند» = ٤ نوار … وهكذا لم يكن درس الموسيقى يفترق عن دروس العلوم إلا في أن لغته أشد غرابة، وألفاظه أبعد عن الفهْم. ومع ذلك، فما أحسب أننا في تعليمنا المدرسي قد تقدَّمنا كثيرًا في هذا الميدان منذ ذلك الحين، وحسب المرء أن يستمع إلى الموسيقى التي تُقدم في برامج الأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وإلى أصوات المشتركين فيها، وعدم قدرة المشرفين على هذه البرامج حتى على التفرقة بين الصوت «النشاز» والصوت الصالح، ليدرك مدى تخلُّف التربية الموسيقية عندنا، والتأثير الهدام لوسائط الإعلام والتعليم الحيوية في كل موهبةٍ تحتاج إلى رعاية وصقل وتدريب.
ولم تكن الألحان التي أسمعها في بيئتي المنزلية تزيد عما كان يسمعه أي طفل مصري من أسرة متوسطة في أواسط الثلاثينيات وأواخرها؛ ففي تلك الفترة كانت أغاني الإذاعة تُشكِّل كل عناصر تجربتي الموسيقية، وكنت أتابع هذه الأغنيات باهتمام بالغ. ولعل أول ما جعلني على وعي بأن لديَّ نوعًا من الحس الموسيقي هو أنني كنت أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقةٍ تسمح لي بكشف أي خطأ في أدائها، حتى لو كان هذا أداءً يقوم به محترفون.
على أن التجرِبة التي أذكرها إلى اليوم بمزيج من الزهو والأسف على ما ضاع من الفرص والإمكانات، هي تجرِبة صنعي لآلتي الموسيقية الخاصة؛ ففي طفولتي المتوسطة، حين كنت في حوالي العاشرة، لم تكن لديَّ آلة موسيقية، ولم تكن أسرتي من الثراء بحيث تملك البيانو في البيت، كما أنها لم تكن مقتنعة بميولي الموسيقية إلى الحد الذي يجعلها «تضحي» بشراء آلة موسيقية بسيطة لي، بل إن نفْس فكرة الميول الفنية وضرورة تنميتها كانت — وما تزال — فكرةً غريبة عن أذهان الآباء والأمهات في معظم الأسر المصرية المتوسطة. ولم يكن هناك مفر من أن تجد ميولي الموسيقية مخرجًا آخر؛ فقد صنعت آلة موسيقية بدائية من صندوقٍ مستطيل من الصفيح، شددت فيه خيوطًا من الجلد أو المطاط الرقيق المستخدَم في طرود الأدوية وما شاكلها، وراعيت في الشد أن يكون متدرجًا بحيث يكون كل خيط مناظرًا لنغمةٍ في السُّلَّم الموسيقي، وما زلت أذكر أن أجمل هدية كان يمكن أن تقدَّم إليَّ في هذه الفترة، هي خيوط المطاط التي تُتيح لي أن أستبدل ﺑ «الأوتار» البالية أوتارًا أخرى سليمة متينة. ولم يكن في هذه الآلة البدائية أكثر من عشرة أوتار أو اثني عشر وترًا، ولكنها كانت تكفي لكي أعزف عليها — بطريقة أشبه بطريقة عازفي القانون — ألحانًا شائعة معروفة للناس. ولكَم كانت الدهشة تتملك أفراد أسرتي، وأصدقاءهم، حين كنت ألصق بأذنهم هذا الصندوق الصغير (الذي يستحيل أن يُسمع صوته عن بُعد)، فيجدون ألحانًا حقيقية معروفة تصدر عنه! ولكي أكمل صورة «مغامراتي» الموسيقية في هذه الفترة المبكرة من حياتي، فإني أستميح القارئ عذرًا أن أصف له وجهًا آخر من أوجه هذا الخيال الطفولي الطريف؛ فقد اكتشفت بعد فترة أن ماسورة صرف المياه (المظراب) الموصلة من «سطوح» بيتنا إلى أرض الشارع، لها قدرة على مضاعفة الصوت وتضخيمه ما بين فتحتها العليا وفتحتها السفلى. وسرعان ما استفدت من هذا «الكشف» في ممارستي لنشاطي الموسيقي؛ إذ كنت أضع الصندوق الصفيح في طرفها العلوي، فوق السطوح، بينما يتناوب أصحابي على الاقتراب من طرفها السفلي في الشارع فيسمعون منها ألحانًا «شجية» لمحمد عبد الوهاب ومحمد صادق وغيرهم من مطربي ذلك الزمان. ولعل هذه الماسورة أعجبُ «ميكروفون» عرفه تاريخ الموسيقى، بحيث إنه لو كان لي أيُّ حق في أن أدخل هذا التاريخ يومًا ما، فلن يكون ذلك إلا من خلال فتحتَي ماسورة بيتنا القديم!
ولكي يكوِّن القارئ فكرة عن مدى بدائية هذه التجرِبة الموسيقية الأولى، فحسبي أن أذكر أنني، حتى ذلك الحين، لم أكن أعرف شيئًا عن «نصف التون» في السلالم الموسيقية؛ إذ لم يكن تعليمنا الموسيقي في المدارس قد وصل إلى هذه المرحلة «المتقدمة»! ولكنني «استنتجت» وجود هذه الأنصاف حين كنت أجد أجزاءً معينة من اللحن لا تصدر بدقة كاملة عن صندوق الموسيقى برغم حرصي على انضباط أوتاره. وكان واضحًا أن موقع هذه الأجزاء في مكانٍ ما بين الوترين المتتاليين، فلا بُدَّ إذن أن يكون هناك نصف صوت، وحين عُدت بذاكرتي إلى منظر البيانو الذي رأيته في بيوت بعض أصحابي، تذكَّرت أن بعض «أصابعه» سوداء، و«استنتجت» أيضًا أن هذه الأصابع السوداء لا بُدَّ أن تكون أنصاف الأصوات التي أقصدها. وكنت سعيدًا غاية السعادة حين تحققت من صحة استنتاجي هذا في بيت أحد أصدقائي ممن يملكون البيانو، ولكنهم يقفون أمامه صُمًّا بُكمًا لا يفيدون منه بشيء.
ومضت سنوات قبل أن أستطيع إقناع أسرتي بشراء آلة موسيقية حقيقية لي. وكنت قد شاهدت «الماندولين» في المدرسة، وأعجبني فيه صغر حجمه وصوته الرنان، فألححت في المطالبة حتى أفلحت أخيرًا، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، في الحصول على «ماندولين» لا أظن أنه كان جديدًا. ولم تمضِ أيام قليلة حتى كنت أعزف عليه ألحانًا بسيطة، ثم تعقَّدت هذه الألحان بالتدريج، وأصبحتُ في فترة وجيزة أجيد العزف عليه. غير أن هذا العزف، الذي لم يكن يخضع لإرشاد أو توجيه، كانت تشوبه أخطاء أساسية في «التكنيك» ذاته؛ أي في الأسلوب الذي لا بُدَّ من تعلُّمه عن الغير، ومع ذلك فقد وصلت في العزف إلى مرحلةٍ أَعُدُّها، وسط هذه الظروف، مرحلة متقدمة إلى حدٍّ بعيد.
ولم يكنْ من الصعب أن أنتقل من هذه المرحلة العملية إلى مرحلة معرفة بعض الأسس النظرية للعلم الموسيقي؛ ففي هذا العام نفسه أصبحتُ أجيد قراءة المدونة (النوتة) الموسيقية، بعد أن تلقيت إرشادات من زميل لي في المدرسة، ما زلت أذكر فضله عليَّ حتى اليوم. كان هذا الزميل — وهو من إندونيسيا — يمدني ببعض المدوَّنات، ويوضِّح لي الأسس العامة لقراءتها. وكنت أشعر بإعجاب شديد، مقرون بدهشة بالغة، وأنا أراه يحوِّل هذه البقع السوداء المتناثرة على سطور المدونة الخمسة إلى أنغام جميلة. ولم يمضِ وقت طويل حتى وجدت نفسي قادرًا على ممارسة هذا السحر العجيب، بعد أن عكفت ببيتي أيامًا ركَّزت فيها كل جهدي على مدونات معينة، حتى استطعت أن أستخلص ألحانها بدقة وإتقان. وكان شغفي بالنتيجة التي وصلت إليها هائلًا؛ إذ كنت كمن يكتشف كنزًا جديدًا نفيسًا من بين سطور كل مدونة تقع بين يديَّ.
ومنذ ذلك الحين، كان «مصروفي» كله يضيع على شراء هذه المدوَّنات، وكنت أنتظر أول الشهر بصبر نافد، لأسرع إلى محل «بابازيان» وأشتري منه مدونة أو اثنتين، وما زلت أحتفظ بمجموعة المدوَّنات التي اشتريتها في فترة «الأزمة» هذه. ولكني كنت في البداية أشعر بخيبة الأمل لأن التدوين كان في معظم الأحيان صالحًا لآلة البيانو، فعلَّمت نفسي كيف أحوِّل ما هو مكتوب للبيانو بحيث يصلح للعزف على الماندولين (أو للفيولينة أيضًا؛ لأن ترتيب الأوتار واحد)، بل كنت أحوِّل المقام أحيانًا، حين كنت أجده من النوع الذي تكثر فيه علامات «البيمول»، وهو مصدر مضايقة وصعوبة بالنسبة إلى عازفي الماندولين والفيولينة يعرفها كل خبير فيهما. وحين اختفت من السوق، في وقتٍ ما، كراساتُ الموسيقى ذات الأسطر الخمسة (أو ربما ارتفع سعرها ارتفاعًا باهظًا)، قمت بتسطير كراسة كبيرة كاملة، دوَّنت فيها مجموعة من الألحان بعد تحويل مقامها بطريقة تتناسب مع الآلة التي أعزف عليها، وما زلت أحتفظ بهذه الكراسة التي تمثِّل بدورها جانبًا طريفًا من تجارِبي الموسيقية خلال الفترة الوسطى من سني مراهقتي.
•••
على أن هذه التجارِب لم تكن، حتى ذلك الحين، تمثل انتقالًا حاسمًا من النظام النغمي الذي عوَّدتني عليه الأغنيات المصرية الشائعة منذ طفولتي؛ إذ كانت كلها تتم من خلال بُعد واحد فقط، هو البُعد اللحني، ولم أكن قد تفتحت بعدُ على عالم البوليفونية، أو تعدُّد الأصوات في الوقت الواحد. وكانت التجرِبة التي اهتديت فيها إلى هذا العالم بسيطة غاية البساطة، عميقة غاية العُمق؛ ففي أحد الأيام، بعد انتهاء اليوم الدراسي، كان أحد زملائي من أصحاب الهوايات الموسيقية يعزف فالس «الدانوب الأزرق»، وكان عزفه ضعيفًا، ولكنه كان يحاول أداء كلِّ ما في المدونة الموسيقية من أنغام هارمونية. وبرغم تعثُّره وتردُّده في العزف، فقد كان أداؤه للأعمدة الصوتية (الكوردات) سليمًا، وكان هذا كافيًا لكي أشعر لأول مرة، عن قُرْب، بإحساسات موسيقية جديدة كل الجِدة، أثارها التآلف النغمي الذي لم أكن حتى ذلك الحين قد جرَّبته تجرِبة مباشرة. وبرغم بساطة هذه التجرِبة وقِصر مدتها، فما زلت أذكر التأثير العجيب الذي تركته في نفسي؛ ففي طريق عودتي الطويل من المدرسة إلى البيت، كنت أشعر طوال الوقت كما لو كنت أمشي فوق السحاب، وكانت تنتابني رجفة ورعدة كلما تذكَّرت تلك التجمعات الصوتية الرائعة التي يُحدثها التآلف النغمي، وكانت تلك بالنسبة إليَّ تجرِبة فريدة من ناحيتين؛ فهي بداية الدخول إلى عالَم جديد من الأصوات الموسيقية، مختلف عن ذلك العالم المألوف في البيئة الموسيقية الشرقية ذات الخطوط اللحنية البسيطة الواحدة — أي إنها بداية شعور بالانفصال عن البيئة المحيطة، وبالرغبة في تجاوز ما تقدِّمه هذه البيئة في ميدان الفن الموسيقي. وهي من جهة أخرى تمثِّل أول إحساس بتلك الإثارة العجيبة التي تبعثها الموسيقى، لا في الروح وحدها، بل في الجسم بدوره؛ فالرجفة والرعدة رد فعل عضوي أو فسيولوجي تستطيع الموسيقى، بقدرتها الفريدة، أن تثيره في الجسم إذا كان فيه من الحساسية ما يسمح له بالتناغم معها، فليست النشوة الموسيقية شعورًا نفسيًّا أو روحيًّا فحسب، بل قد تكون لها مظاهر جسمية أيضًا، كأن تسري في الجسم — خلال أوقات الحر القائظ — قشعريرة أشبه بتلك التي يبعثها البرد الشديد في الأوصال. ولست أعلم لهذه الظاهرة تعليلًا، ولا أظن أن العِلم بدوره يمكنه في الوقت الراهن أن يأتي لها بتفسير، ولكنها — بالنسبة إليَّ على الأقل — ظاهرة مجربة ليست قليلة الحدوث.
كانت تلك إذن هي البداية البسيطة، والعميقة، لدخولي عالم التوافق الصوتي، وسعيي إلى تجارِب في عالم الموسيقى لم يكن في وسع البيئة المحيطة بي أن تقدمها إليَّ. وبالتالي كانت تلك بداية شعور ﺑ «الاغتراب» عن الجو الموسيقي السائد في بلادنا، إن جاز لي أن أستعير هذا التعبير من مجال الفلسفة وعلم الاجتماع. ولم يكن هذا الانفصال مفاجئًا، بل حدث بتدرُّج وبطء في البداية ثم ازداد سرعةً فيما بعد، حتى جاء الوقت الذي أصبح فيه تامًّا. وبعبارة أخرى فقد كانت أذني في البداية تتقبل نوعَي الموسيقى، المحلي والعالمي، بنوعٍ من التعايش غير المستقر، ثم أخذ هذا التعايش يتحوَّل بالتدريج إلى طغيانٍ للموسيقى العالمية على الموسيقى المحلية. ولم يمضِ وقت طويل حتى حلَّت الأولى محل الثانية حلولًا تامًّا لا رجعة فيه.
وقد يجد الكثيرون أن فكرة استبعاد الموسيقى العالمية للموسيقى المحلية استبعادًا كاملًا هي فكرة لا تبعث على الارتياح، وقد يفسِّرها البعض بأنها نوعٌ من التعالي أو التظاهر بالثقافة. ولست أنكر أن الكثيرين ممن يزعمون هذا الزعم هم بالفعل متظاهرون ومدَّعون، ولكنني الآن بصدد وصف تجربتي الشخصية، ولست أملك إلا أن أقرِّر بصدق تامٍّ أنني حالما تمكنت من استيعاب الموسيقى العالمية وتذوقها، لم يَعُد في تجربتي مجال لتلك الموسيقى التي نسمعها في إذاعاتنا المحلية، فضلًا عن أن عملية الاستبعاد هذه لم تستغرق وقتًا طويلًا، بل إنني، لكي أكون أمينًا بحق، أذهب إلى أن هذه الموسيقى أصبح لها، بعد اعتيادي الموسيقى العالمية، تأثيرٌ عضوي من نوعٍ مضاد لذلك الذي تحدَّثت عنه منذ قليل؛ فكثير من الألحان المحلية، بما فيها من رتابة وسيرٍ على وتيرة واحدة، ومن دوران في دائرة ضيقة من الأصوات المتقاربة المتدرجة، تبعث في رأسي دوارًا حقيقيًّا، لا مجرد ملل نفسي. ولعل هذا يفسر كراهيتي الشديدة للراديو الترانزستور، الذي أَعُدُّه أفظع اختراع ابتُليَت به البشرية؛ إذ إن في وسع جهاز واحد «قد الكف» بين يدي جار منسجم، أن ينغِّص عليَّ ساعات كاملة من حياتي، دون أن يكون في استطاعتي أن أشرح متاعبي أو أشكوها لأحد. وأيًّا كان حكم القارئ على هذا الكلام، فليأخذه على الأقل من باب الاعترافات الشخصية، وليست كل الاعترافات الصادقة — كما نعلم جميعًا — مُرْضية للجميع.
المهم في الأمر أننا إذا سمعنا مَن يقول إنه كفَّ عن الاستمتاع بموسيقانا المحلية، وأنه أصبح يجد متعته الوحيدة في الموسيقى العالمية، فلا ينبغي أن نسارع بالحكم عليه بالتحذلق، قد يكون متحذلقًا بالفعل، ولكن هناك مَن يقولون ذلك بصدق وإخلاص. وكل ما أستطيع أن أؤكده هو أن انتقالي من تلك البداية التي كنت فيها أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة وأستطيع التقاط أبسط خطأ تفصيلي في أدائها، إلى المرحلة التي أصبحت فيها أتجنَّب هذه الألحان بأي ثمن، كان انتقالًا طبيعيًّا ليس فيه أدنى أثر للافتعال. أما أولئك الذين لا يتصورون ذلك، ويتهمون كل اعتراف بالتصنُّع أو الادعاء، ويظنون أن الإعجاب بالموسيقى العالمية لا يعدو أن يكون تظاهرًا ﺑ «الفرنجة» يقوم به أناس معقدو النفوس — وهو حُكمٌ شائع يصدره أشخاص منهم مَن يحتلون مناصب رفيعة في ميادين الآداب والفنون — فلا أملك إلا أن أقول عنهم إنهم لم يمروا بالتجرِبة الموسيقية على حقيقتها، وأن من المستحيل وجود جسور للتفاهم حين يكون الأمر متعلقًا بتجارِبَ يمر بها شخص ولا يمر بها شخص آخر.
•••
على أن أفضل مصادر الاستماع في الفترة التي سبقت دخولي الجامعة، كانت محطة الإذاعة الخاصة بالجيوش المتحالفة المرابطة في مصر في أواخر الحرب العالمية الثانية، وأظن أنها كانت في معسكر «كبريت»؛ فقد كانت هذه المحطة تقدم برامج من الموسيقى الكلاسيكية، وفي أحيانٍ غير قليلة كان يسبق الإذاعة شرح موجز بالإنجليزية لظروف تأليف القطعة المذاعة وتحليل لبنائها الفني. وقد أفادتني هذه الشروح فائدة كبرى في تعميق فهْمي لما أسمع، وفي تكوين أساس ثقافي لتجربتي الموسيقية. وما زالت هذه هي الحسنة الوحيدة التي أذكرها لتلك الفترة التي كانت فيها جيوش الحلفاء ترتع في شوارع القاهرة وتنشر فيها قيم الانحلال التي لا ينبغي أن يتوقَّع المرء شيئًا سواها من جنودٍ جاءوا من شتَّى آفاق الأرض، ينتظر كلٌّ منهم الموت في أي ساعة.
•••
ومنذ دخولي الجامعة أخذ نصيب الممارسة، في تجربتي الموسيقية، يقلُّ تدريجًا، بينما ازداد نصيب الاستماع الواعي، وكان السبب الرئيسي في ذلك بطبيعة الحال انهماكي في الدراسة والقراءة العلمية خلال فترة الدراسة الجامعية وبعدها. ولم تكن هذه الدراسة تحول بيني وبين سماع الموسيقى، بل كان من المألوف أن أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الجادة خلال مطالعتي لكتاب، وأعتقد أنني كنت أستطيع أن أجمع، دون تعارض، بين هذين النشاطين في آنٍ واحد، مع إعطاء كلٍّ منهما حقه. ومع ذلك فإن مصادر الاستماع كانت في ذلك الحين محدودة؛ إذ كانت الموسيقى الكلاسيكية محرَّمة في إذاعاتنا المحلية، وكانت إذاعة الجيوش المتحالفة قد أغلقت أبوابها بانتهاء الحرب، ولم تكن قد افتُتحت بعدُ مكتبات الفنون التي تسمع فيها الآن جميع ألوان الموسيقى العالمية (كانت سني دراستي الجامعية بين عامي ١٩٤٥م و١٩٤٩م)، وكان من أهم مصادر ثقافتي الموسيقية عندئذٍ، جمعية الموسيقى الكلاسيكية بكلية الآداب، التي كان يشرف عليها الدكتور لويس عوض، والتي كنت من أصغر أعضائها المواظبين في ذلك الحين. وأذكر أنني حين كنت أسمع من صديقٍ لي عن شخصٍ لديه مجموعة جيدة من الأسطوانات، كنت أسعى إلى التعرُّف عليه وزيارته لكي أستمع إلى ما عنده، ولكن لم يكن ذلك بالحل الموفق نظرًا إلى طبيعتي التي تنفر من تكرار التردُّد على بيوت الغير.
ولم يكن تذوقي لأعمال الموسيقيين العالميين متساويًا في البداية. وأذكر أنني بدأتُ — كالغالبية العظمى من الشبان المصريين الذين يتذوقون الموسيقى الكلاسيكية — بالإعجاب الشديد بأعمال ريمسكي كورساكوف، مثل شهرزاد، والديك الذهبي، وبغيره من الموسيقيين الروس المشهورين، مثل بورودين، وتشايكوفسكي (الكابريشيو الإيطالية)، وافتتاحات روسيني (حلاق أشبيلية). وحين انتقلت إلى سماع السيمفونيات، كانت سيمفونيات تشايكوفسكي هي الأقرب إلى فهْمي في البداية، وربما كان ذلك راجعًا إلى الطابع القريب إلى الشرق، الذي تتسم به كل موسيقى روسية، حتى لو كان مؤلفها ممن اعتادوا أن يولُّوا وجوههم شطر الغرب، مثل تشايكوفسكي، كما أنه قد يكون راجعًا إلى أن الطابع العصبي الانفعالي الحسي الذي تتميز به ألحان تشايكوفسكي وإيقاعاته، ملائم إلى حدٍّ بعيد لنفسية المراهقين. أما بيتهوفن فكنت أتذوَّق بعض سيمفونياته (الخامسة والسابعة) منذ البداية، ومنها انتقلت في مرحلة المراهقة المتأخرة إلى بقية السيمفونيات. وكانت السيمفونية التاسعة، وما زالت، عالَمًا كاملًا من المتعة الخالصة في نظري، وكان أول استماع لها تجرِبة فريدة، تميزت عن كلِّ ما عداها بأن سحرها لم يكن يقل بتكرار السماع، بل كانت تتكشف لي في ذلك العمل العظيم أبعاد جديدة كلما ازددت تعمقًا فيه. ومع بيتهوفن، جاء موتسارت، ومندلسون، وشوبان، وبرامز، وكل الفترة الرومانتيكية.
لعلني قد أسهبت قليلًا في وصف هذا المشهد الذي كان مألوفًا في وقت نشأتي، ولكن عذري في ذلك هو الرغبة في إيضاح الهوة السحيقة بين العزف الشرقي على البيانو (وهو في نظري من أفظع التجارِب الموسيقية وأسخفها)، وبين العزف الغربي الكلاسيكي على هذه الآلة ذات التاريخ المجيد، وتلك الهوة هي في رأيي أهم أسباب الصعوبة التي يجدها كثير من متذوقي الموسيقى العالمية، ولا سيما في المراحل الأولى من تجربتهم الموسيقية، في فهْم الأعمال المؤلَّفة للبيانو فهْمًا عميقًا كاملًا.
•••
وأما صعوبة تذوُّق الأصوات البشرية في الغناء العربي فترجع بدورها إلى عاداتٍ معينة للاستماع تكوَّنت لدى الأذن الشرقية نتيجة لطُرق الغناء الشائعة بيننا؛ ففي طريقة الغناء الشرقية نجد لكلمات الأغنية أهمية لا تقل عن أهمية اللحن، وقد تفوقها في كثير من الأحيان. وأول ما يحرص عليه الملحن والمغني هو أن يكون كل حرف وكل مقطع واضحًا سليمًا، حتى ينقل المعنى إلى ذهن المستمع، وفي معظم الأحيان يتم ذلك على حساب الصوت البشري ذاته؛ أعني أن المغني يحرص على نقل كلام الأغنية أكثر مما يحرص على إظهار الإمكانات الكامنة في صوته (إن كان لها وجود). ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تبدو طريقة الغناء الغربية «صراخًا» في نظر المستمع الشرقي؛ إذ إن جهد المغني في حالة الغناء الغربي ينصبُّ على تحقيق كل ما في الصوت البشري من إمكانات، لا على توصيل الكلمات إلى المستمعين. وكثير من الغربيين لا يفهمون كلمات الغناء الذي يسمعونه، بل لا يستطيعون تمييزه حتى إن كان بلغتهم الأصلية. كذلك فإن الملحن يستخدم الصوت البشري أداة أشبه ما تكون بالآلة الموسيقية من حيث استخلاص كل ما ينطوي عليه هذا الصوت من قدرات لحنية وتعبيرية. أما الكلمات فليس لها في الغناء شأنٌ كبير، ويكفي أن نقول إن موضوعات معظم الأوبرات من السذاجة والسطحية بحيث لا يمكن أن يُقْنع أحد بالقيمة الدرامية لكلماتها، وحتى في الحالات التي تكون فيها الكلمات ذات قيمة شعرية رفيعة، كبعض أغنيات شوبرت وهوجو فولف، تجد الناس لا يُعجَبون بالأغنية لكلماتها، بل من أجل ألحانها، وإذا تعيَّن عليهم الاختيار بين أغنيتين إحداهما تتميز بأشعار رفيعة ولحن متوسط القيمة، والأخرى ذات كلمات تافهة ولحن جميل، فإنهم لا يترددون في تفضيل الثانية، بل إن المحاولة التي بذلها ريشارد فاجنر من أجل ابتداع «فن متكامل» يجمع بين جمال الكلمة وجمال النغم، لم تنجح إلا بفضل روعة موسيقاه، بينما لا يعبأ مستمعوه كثيرًا بأشعاره أو بموضوعاته الدرامية.
فالفارق إذن كبير بين وظيفة الصوت البشري في الغناء الشرقي وفي الغناء الغربي، والطابع الطليق المتحرر الذي يتسم به الغناء الغربي، والذي يجعله قادرًا في تحقيق كل ما ينطوي عليه صوت الإنسان من إمكانات، هو الذي يجعله يبدو «صراخًا» في نظر المستمع الشرقي. ومن هنا كان تذوق الغناء في الموسيقى العالمية من المراحل المتأخرة في التجارِب الموسيقية لمعظم المستمعين الشرقيين، بل إني أعرف الكثيرين ممن اكتسبوا خبرة غير قليلة في الاستماع الموسيقي، لا يطيقون الاستماع إلى الغناء الغربي. وتلك على أية حال مسألة تذوُّق وتعوُّد، ولكني أستطيع أن أقول، من واقع أحاسيسي الخاصة، إن التجرِبة الموسيقية تكتسب قدْرًا كبيرًا من الثراء إذا أُضيف إلى عناصرها صوت بوريس كريستوف وهو يغني ألحان «موسورسكي»، وصوت «يوسي بيورلنج» وهو يغني لفيردي، وصوت «إليزابيث شفارتسكويف» وهي تغني لشوبرت أو سيبيليوس. والمهم في الأمر أن يعتاد المرء سماع صوت المغني دون أن يعبأ كثيرًا بعدم فهْمه لكلمات الأغنية. وأود في هذا الصدد أن أدلي باعترافٍ قد يبدو في نظر البعض غريبًا: وهو أنني لا أحاول مطلقًا عندما أستمع إلى تسجيلٍ لإحدى الأوبرات، أو لمجموعة من الأغاني، أن أتتبع الكلمات مع اللحن، بالرغم من أن هذه الكلمات مكتوبة أمامي وفي متناول يدي مع كل أسطوانة. صحيح أنني أعرف موضوع الأوبرا في مجموعه، ولكني لا أحاول أبدًا أن أتابع تفاصيل هذا الموضوع خلال استماعي للأوبرا؛ اعتقادًا مني بأن عملية التتبع هذه تشوِّه التجرِبة الموسيقية، ورغبةً في الاستمتاع بهذه التجرِبة خالصة من كل عنصر ذهني غريب عنها. وقد أكون مخطئًا في موقفي هذا، ولكن هذا هو المسلك الذي أتبعه حيال الغناء الغربي، ولا أظن أن استمتاعي بهذا الغناء قد نقص لطريقتي هذه في تذوُّقه.
وإذا كنت قد تحدثت بالتفصيل عن هذه المراحل المختلفة في تذوق الموسيقى العالمية، فإن من بين الأهداف التي أرمي إليها من هذا الحديث المفصَّل، ضرورةَ مراعاة هذه المراحل في أي برنامج للتذوق الموسيقي يُوضع في بلادنا ذات التقاليد الشرقية؛ فلا معنَى على الإطلاق للبدء في هذا البرنامج بسماع «موسيقى الغرفة» أو سوناتات البيانو، أو أغاني الأوبرا، بل إن البدء بالسيمفونيات والكونشرتات المشهورة قد يكون هو ذاته بداية غير صحيحة. والأفضل أن نراعي ذوق المستمع الشرقي، فنقدِّم إليه في البداية قِطَعًا روسية بسيطة، لكورساكوف وخاتشاتوريان وتشايكوفسكي. وهذا ما يحدث بالفعل عند الكثيرين، غير أنهم يتوقفون للأسف عن هذا الحد، ويرفضون كل ما يتجاوز هذه المرحلة، ولكن من واجب كل مَن يقوم بتعليم التذوق الموسيقي أن يستغل في مستمعيه حب هذه الألحان ذات الطابع الشرقي، لينبههم بالتدريج إلى عناصرها الأخرى، ولا سيما العناصر البوليفونية فيها، ويتدرَّج بهم صعودًا نحو أنواعٍ أكثر تعقيدًا وتجريدًا. ومن الحائز أن المستمع الياباني أو الصيني، أو المستمع الأفريقي الأسود، يحتاج إلى طريقة أخرى في التعليم، يتدرَّج فيها على نحوٍ مخالف تبعًا لعاداته الخاصة في الاستماع. ولكَم يكون من المفيد أن يجري بحث تجريبي يقارن بين تدرُّج قدرة المستمعين المنتمين إلى حضارات مختلفة على التذوق، ومدى الصعوبة التي تلقاها كل فئة في استيعاب الأنواع الموسيقية المختلفة. ولكن مثل هذا البحث، على قدْر علمي، ما زال ينتظر مَن يقوم به.
ومن أهم الأمور في نظري، في أي برنامج سليم للتذوق، أن يسعى المرء بالتدريج إلى الإقلال من ربط الموسيقى بقصص أو موضوعات واقعية، حتى يتدرَّب المستمع على ممارسة التجرِبة الموسيقية خالصة؛ فقد يكون من المفيد في البداية رواية حكايات عن المناسبات التي أُلِّفت فيها القطعة الموسيقية، وربط كل جزء من أجزائها بانفعالٍ أحسَّ به المؤلف، أو بتجرِبة عاطفية مر بها، أو بحادث معيَّن أثَّر في نفسه — كل ذلك قد يكون مفيدًا في البداية من أجل اجتذاب انتباه المستمع غير المدرَّب، ولكن الاستمرار في هذا الاتجاه يكوِّن لدى المستمع عادات سيئة، وربما جعل الارتباطات الأدبية أو الانفعالية أو التاريخية تغلب لديه على الاستمتاع بالأنغام ذاتها، فتكون النتيجة أن يخلق للألحان بخياله ارتباطاتٍ مصطنعة، ويعجز عن تذوُّق الأعمال التي لا تقبل بطبيعتها تفسيرًا موضوعيًّا من هذا النوع.
ولأعد بعد هذا الاستطراد «التعليمي» الطويل لأتابع تطوُّر تجربتي مع الموسيقى، فأشير إلى أن الفرصة قد أُتيحت لي، ولأول مرة، لمشاهدة عروض كاملة للأوبرا في صيف عام ١٩٤٩م، حين سافرت في رحلة إلى باريس بعد تخرُّجي في الجامعة مباشرةً، ضمن وفد من مدرِّسي اللغة الفرنسية المصريين الذين أوفدتهم الحكومة الفرنسية في دراسة صيفية على نفقتها الخاصة، وتمكَّن البروفسور «جان جرنييه» من أن «يحشرني» وسطهم مع أني لم أكن في ذلك الحين إلا «طالب وظيفة» انقضى على تخرُّجه شهر واحد! ومن بين الليالي الثلاثين التي قضيتها في تلك الرحلة الممتعة في باريس، أمضيت ست ليالٍ على الأقل في دار الأوبرا؛ حيث أُتيحت لي فرصة مشاهدة بعض درامات فاجنر وأوبرات فردي و«لولي». وكانت التجرِبة بالنسبة إليَّ رائعة غاية الروعة، لا سيما وأن الأداء كان ممتازًا، فضلًا عن أن الإخراج المسرحي كان عظيمًا بحق. ولست أستطيع أن أعبِّر عمَّا كنت أشعر به من سعادة ونشوة وأنا أهبط سلالم دار الأوبرا المشهورة في باريس بعد عرضٍ أستمتع فيه لأول مرة بروائع الأوبرات العالمية، بعد أن كانت أسعار تذاكر دار الأوبرا الباهظة في مصر تحول على نحوٍ قاطع بيني وبين مشاهدة أي عرض موسيقي عالمي خلال فترة دراستي.
وخلال السنوات السبع التي أعقبت ذلك، وهي فترة كان يشغلني فيها العمل العلمي من أجل التحضير لدرجتَي الماجستير والدكتوراه، كانت تجرِبتي في الموسيقى تكاد تكون مقتصرة على الاستماع إلى الإذاعات، وقراءة بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية من آنٍ لآخر. على أن كثيرًا من الأفكار كانت تختمر في ذهني عن الموسيقى العالمية وعن نواحي الضعف في موسيقانا المحلية. وقد قمت بصياغة هذه الأفكار في أول عملٍ تأليفي أنجزته في ميدان الموسيقى، وهو كتاب صغير بعنوان «التعبير الموسيقي» (مكتبة مصر، ١٩٥٦م)، ولم تكن صفحات هذا الكتاب تتجاوز المائة إلا قليلًا، ومع ذلك فقد أحسست بالارتياح حين وجدته قد لقي ترحيبًا من القراء والمعلقين، بالرغم من أن الآراء التي عرضتها فيه، ولا سيما ما يتعلَّق منها بالموسيقى الشرقية، كانت مكتوبة بلهجة نقدية شديدة. ومع ذلك فقد استلفت نظري أن معظم مَن كتبوا عنه لم يتعرَّضوا للجوانب النقدية التي حاولت فيها أن أشرح عيوب الموسيقى الشرقية على أسسٍ موضوعية علمية، مع أن هذه الجوانب دون غيرها هي التي كنت أود أن أعرضها لاختبار الباحثين.
•••
وكان أهم الأحداث التي أدَّت إلى تعميق تجربتي الموسيقية هي سفري إلى الولايات المتحدة، وإقامتي بمدينة نيويورك؛ حيث كنت أعمل بمقر الأمم المتحدة خلال خمسة أعوام كاملة من ١٩٥٧م إلى ١٩٦٢م؛ فمدينة نيويورك هذه بلا شك عاصمة العروض الفنية، والموسيقية على الأخص، في العالم، لا لأن أهلها أشد حساسية من غيرهم في مجال الفن الموسيقي، بل لأنهم أقْدَر على جلب أعظم العازفين وقُواد الأوركسترا في جميع أنحاء العالم؛ ولأن الفنان المشهور الذي يقدِّم فيها عرضًا، يستطيع أن يضمن جمهورًا غنيًّا يتهافت على حجز مقاعد حفلاته كلها مقدمًا، مهما يبلغ ارتفاع الأسعار.
ولن أتحدَّث عن فِرَق الباليه العالمية التي لم يكن ينقطع مجيئها في كل موسم، أو عن مجموعات الرقص الشعبي التي كانت تَفِد من كل أنحاء العالم، بل سأقتصر في حديثي على الفن الموسيقي والغنائي وحده، وهو الفن الذي نلتُ منه خلال إقامتي الطويلة هذه أعظم قسط من المتعة ومن الثقافة والمعرفة. ولقد تمكَّنت بمجرد حضوري من الحصول على اشتراك موسمي في أشهر قاعات الموسيقى الأمريكية في ذلك الحين، وهي «كارنيجي هول»، وهو ما ينبغي أن يُعَد «ضربة حظ» رائعة؛ إذ إن قائمة انتظار الحصول على اشتراك للموسم الموسيقي الكامل تضم ألوفًا ينتظرون سنوات طويلة قبل أن يحصلوا على ما يريدون. ولعل اسم الهيئة الدولية التي كنت أعمل بها كان له دوره في «ضربة الحظ» هذه. وعلى أية حال فإن حضوري بانتظام لحفلات السبت المسائية في هذه القاعة الموسيقية الكبرى، لمدة خمس سنوات كاملة، أتاح لي فرصة نادرة للتعرُّف على أرفع أنواع الموسيقى، وأعظم الموسيقيين وقواد الأوركسترا في مختلف بلاد العالم، معرفة مباشرة … وما زلت، بعد هذا الوقت الطويل، أشعر بحنينٍ جارف إلى تلك الأيام التي يغادر فيها المرء قاعة الموسيقى في «الشارع السابع»، وقد امتلأت روحه بنشوةٍ لا تُوصَف، ليستقبله البرد والثلج في شتاء نيويورك القارس، فيزيد البرد من متعة الروح، ويضفي على التجرِبة الموسيقية إطارًا أثيريًّا رائعًا.
ولقد كانت الفترة التي تردَّدت فيها على قاعة «كارنيجي» آخر أيام مجد هذه القاعة المشهورة؛ ففي نفس العام الذي غادرت فيه الولايات المتحدة (١٩٦٢م) كان قد تم بناء قاعة أخرى أحدث وأفخم وأكبر من «مركز لينكولن» (لينكولن سنتر) للفنون، وهو مشروع ضخم كان قد بدأ منذ سنوات، وتكلَّف عشرات الملايين من الدولارات، لبناء قاعة موسيقية ودار للأوبرا، ومسرح للباليه وكونسرفتوار؛ أعني مدينة فنون كاملة، على أحدث طراز. ونظرًا إلى كوني مشتركًا قديمًا في قاعة كارنيجي فقد حجزت لي إدارة المركز الجديد مقعدًا لاشتراكٍ موسمي في القاعة الجديدة بدورها، ولكن حلول موعد عودتي إلى الوطن حال بيني وبين حضور الافتتاح العظيم. وكان من أشق اللحظات على نفسي تلك التي كتبت فيها خطاب اعتذار عن قبول المقعد المحجوز، الذي كان المئات دون شك ينتظرونه في لهفة.
ولعل أروع الظواهر التي شهدتها في قاعة كارنيجي، ما كان يتجلَّى فيها بوضوح من قدرة الفن على تجاوز الحواجز الأيديولوجية والتقريب بين البشر على أساس إنساني يعلو على كل الخلافات السياسية والمنازعات الدولية؛ فمن آنٍ لآخر كانت القاعة تستضيف فنانًا مشهورًا من الفنانين السوفيت، وكان الاستقبال الذي يلقاه الفنان في البداية، ثم التصفيق والتكريم الذي يُودَّع به في النهاية، ظاهرة مؤثرة بحق، ولا سيما في بلدٍ يتشبع أهله بدعاية الحرب الباردة التي تسري في عقولهم مسرى الدم في جسم الإنسان، وتطفح صحفه وأجهزة إعلامه بمظاهر الكراهية العدوانية للخصم السياسي، ولا يعرف عن هذا الخصم سوى أنه عدو لدود يريد أن «يدفنه». برغم كل هذه المظاهر، وبرغم أن نسبةً عالية من رواد قاعة الموسيقى الكبرى هم من أصحاب الموارد المرتفعة، والمصالح «الرأسمالية» الواضحة، فقد كان هذا كله يذوب أمام روعة الفن، وينسى الجميع الوطن الذي ينتمون إليه، أو النظام الاجتماعي الذي يمثِّله الفنان، ولا يتذكرون سوى أنهم أمام إنسان عظيم، يقدِّم إليهم أروع وأسمى متعة للروح.
هناك شاهدت «ليونيد كوجان» عازف الفيولينة السوفيتي العظيم، بشعره الأسود الغزير ووجهه الأسمر وملامحه التي تكاد تكون شرقية صميمة، وهو يقف بثبات رائع أمام جمهور غريب ليقدِّم إليه عزفًا فريدًا في نوعه لأشهر الكونشرتات العالمية. وهناك شاهدت عميد عازفي الفيولينة السوفيت، «دافيد أويستراخ» الذي ربما عدَّه البعض أعظم عازفي الفينولينة في العالم. منظره لا يوحي على الإطلاق بأن هناك فنانًا نادر المثال من وراء هذه القامة القصيرة البدينة، وهذه الملامح السمحة وكأن صاحبها «خباز» طيب القلب. وحين يمسك بالفيولينة تكاد تتعجَّب كيف ستتمكَّن هذه الأصابع السمينة القصيرة من أن تعبِّر عن التفاصيل النغمية الدقيقة على الأوتار، أو تلاحق سرعة العزف اللاهثة، لا سيما وأن عهدنا بعازف الفيولينة — وبالفنان عامةً — أن يكون ذا أيدٍ نحيلة وأصابع رشيقة طويلة. ولكن ما إن يبدأ العزف، حتى ينسى المرء كل شيء، بل ينسى أن في الأمر أية صعوبة؛ إذ إن أصعب الأنغام تصدر عنه وكأنه لا يبذل أي مجهود، ودون أن يظهر في عزفه أي أثر للتوتر، ولا يشعر المستمع إلا بالآلة الصغيرة وهي تغني، وكأن أصواتها تحيط به من كل جانب، وتملأ كل فراغ القاعة الفسيحة.
وعلى ذكر الأمم المتحدة، فقد كانت للمنظمة الدولية الكبرى بدورها حفلاتها الموسيقية التي تنظِّمها في مناسباتها المختلفة، ولا سيما في عيدها السنوي، وكان كبار الفنانين العالميين المستوطنين في أمريكا يتطوعون للاشتراك في هذه الحفلات دون مقابل؛ مشاركة منهم في أداء هذه الرسالة الإنسانية للمنظمة العالمية. وأذكر من الفنانين الذين شهدتهم في هذه الحفلات، عازف الفيولينة العظيم «ياشا هايفتز»، الذي يحيط به الجلال منذ لحظة دخوله القاعة حتى انصرافه عنها وسط تهليل المستمعين، وكان بمشيته عرج خفيف، لا أدري إن كان دائمًا أم مؤقتًا، ولكن أحد الحاضرين أكد لي أن أصل هذا العرج يرجع إلى أيام زيارة هذا الفنان (وهو يهودي) لإسرائيل؛ إذ انتقد الأوضاع فيها وسخِر من حياة أهلها، فضربوه «علقة» أحدثت به هذه العاهة — وهي رواية أشك جدًّا في صحتها! وعلى أية حال فإن كل ضربة قوس من هذا الفنان الذي أذهل العالَم بعزفه منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره، كانت تنم عن خبرة وحساسية نادرة، وكان رنين الفيولينة «الستراديفاريوس» التي يعزف عليها رائعًا بحق. ولولا مسحة من الروح التجارية تجلَّت في بعض تسجيلاته المتعجلة خلال السنوات العشر الأخيرة، لظل على الدوام يحتل مع دافيد أويستراخ — أعلى قمم العزف على الفيولينة في العصر الذي نعيش فيه.
ويذكِّرني «ياشا هايفتز» بعازفٍ آخر من أساطين الفيولينة شاهدته مرة واحدة، هو «يهودي مينوهين»، واسمه يغني، بالطبع، عن معرفة أصله، ولكنه بدوره من اليهود خصوم إسرائيل، وأبوه من الكُتَّاب المشهورين الذين انتقدوا سياسة هذا البلد وأسلوب حياته. وقد كان هذا العازف ملء الأسماع والأبصار في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من هذا القرن، وكان «طفلًا معجزًا» بكلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، ولكنه انصرف في الأغلب إلى قيادة الأوركسترا في الآونة الأخيرة برغم أنه لم يزل في أوج نضوجه، ولست أدري لذلك سببًا سوى أن عازفين آخرين أشد منه تحمُّسًا لبلد «الشعب المختار» قد رُفعوا إلى القمة، مثل إيزاك (إسحاق) ستيرن وناثان ميلستين (والسين في الاسمين الأخيرين تُنطق في أصلها الألماني شينًا، ولكن التأمرك جرَّدها مما يغطيها من النقط).
•••
ولعل القارئ يظن أن للاعتبارات السياسية أو القومية دخلًا في حكمي على جدارة قائد الأوركسترا هذا بمنصبه، ولكن حقيقة الأمر أن الكثيرين من المحايدين سياسيًّا، بل من الأمريكيين الخُلَّص، لم يكونوا مقتنعين بكفاءة برنستين. وكان من أبرز العوامل التي تقلِّل من قدْره أمام الجمهور، حركاته المضحكة أثناء قيادته للأوركسترا؛ فمن حق كل قائد للأوركسترا أن ينفعل بالموسيقى التي يؤديها، ولكن هذا الانفعال لا ينبغي أن يصل أبدًا إلى حد الابتذال، ولقد كان برنستين يتراقص بوسطه حينًا، وبكتفيه حينًا آخر، بطريقة تحسُده عليها «عوالم» شارع محمد علي. وأنا لا أقول ذلك مبالغة أو تشنيعًا، وإنما أصف ما شاهدته بالفعل، ولم يكن في أدائه الموسيقي، على أية حال، أيُّ عنصر غير عادي، يبرر شغله للمنصب الذي كان يحتله قبل سنوات غير طويلة «أرتورو توسكانيني» العظيم. ولكنه، في مقابل ذلك، كان «يحج» إلى إسرائيل بانتظام، وفي أول زيارة له إلى «أرض الميعاد» سجد على الأرض، بمجرد هبوطه من سُلَّم الطائرة، وقبَّل التراب، والتُقطت له عندئذٍ مئات الصور والأفلام، وسرعان ما كانت جميع أجهزة الإعلام الأمريكية تذيع على الملايين ذلك المشهد العجيب.
•••
على أن هذه الشوائب، التي ربما كانت أمرًا لا مفر منه في مدينةٍ لها تكوين مدينة نيويورك، لا تقلل بحال من المتعة التي يستطيع كل متذوق للفن أن يكتسبها عندما يقيم في بلدٍ يجتذب، كالمغناطيس، كلَّ فنان ناجح مرموق من جميع أرجاء العالم، فضلًا عن أولئك الذين استوطنوا المدينة، وهجروا بلادهم الأصلية منذ عشرات السنين.
وإني لأذكر، من بين أعظم مَن شاهدت من الفنانين الضيوف، قائد الأوركسترا المشهور «هربرت فون كارايان»، إمبراطور الموسيقى الأوركسترالية في القارة الأوروبية بلا منازع. وما أعظم الفارق بين هذا النمساوي العريق وبين صاحبنا «برنستين» القائد الدائم لأوركسترا «نيويورك فيلهارمونيك». لقد استطاع «فون كارايان» أن يضفي على القاعة بأسرها، بعازفيها ومتسمعيها معًا، جوًّا من المهابة والجلال لم أشهد مثله في أي حفل موسيقي حضرته. لم يكن يسرف في إشاراته إلى الأوركسترا، ولكن كل حركة من حركاته القليلة كانت لها دلالتها البالغة، حتى لأكاد أقول إن المرء يستطيع التعرُّف على اللحن من حركات أصابعه وذراعيه، حتى لو لم يكن يسمع منه شيئًا، وكان في شخصيته عنصر واضح من الوقار والقدرة على السيطرة وكسب الاحترام، وقد استقبله الجمهور وودَّعه بعاصفةٍ من التصفيق لا تشهدها القاعات الموسيقية إلا في أحداثها الكبرى.
ومن العازفين المستوطنين الذين يصعب أن ينساهم المرء، عازف الفينولينة الكبير «جوزيف زيجيتي» الذي كان شيخًا مسنًّا عند مشاهدتي له في عام ١٩٥٩م، ولكنه كان لا يزال ذلك الفنان الشديد الحساسية، القوي الشخصية، الذي يعرفه الجميع من تسجيلاته المشهورة. والحق أن لدى زيجيتي قدرة فريدة على أن يضفي طابعه المستقل الخاص على كل قطعة يعزفها. وأسلوبه في العزف من تلك الأساليب التي تستطيع الأذن الخبيرة أن تميِّزها دون عناء؛ إذ إنه، برغم قِدَم عهده بالموسيقى العالمية، ما زال يحتفظ بآثارٍ من طريقة عزف موسيقى الغجر (التسيجان) التي تشتهر بها بلاده الأصلية، المجر. وبرغم أن طريقته في العزف تبدو في نظر البعض خشنة متحشرجة إلى حدٍّ ما، فإني لا أستطيع أن أنكر إعجابي الشديد بأصالة هذا الفنان وقدْرته الفريدة على أن يضفي في كل مرة شيئًا جديدًا حتى على أوسع المؤلَّفات الموسيقية ذيوعًا وأكثرها تكرارًا في قوائم البرامج.
•••
ولست أود أن أطيل الحديث عن المصادر الأخرى لتجربتي الموسيقية خلال إقامتي في الولايات المتحدة؛ إذ إن الحديث عن الأوبرا ليس في كل الأحوال حديثًا شائقًا في نظر القارئ الشرقي، حتى لو كان من عشاق الموسيقى العالمية، وحسبي أن أقول إنني استمتعت في دار «المتروبوليتان» للأوبرا بسماع عددٍ من الفنانين العالميين، منهم ريناتا تيبالدي، السوبرانو ذات الجسم الممتلئ والملامح التي تشع بروح الأمومة، وماريا كالاس اليونانية العصبية المزاج، ذات الصوت الأنثوي الدافئ، وجورج لندن صاحب الصوت «الباص» الفخم، الذي كان ينتظره عندئذٍ مستقبل زاهر. أما أصوات التينور فكانت هناك أزمة عامة فيها خلال تلك الفترة، وأظن أن هذه الأزمة ما زالت قائمة إلى اليوم؛ إذ لم يظهر بعد «بنيامينو جيلي» (الإيطالي) في الأربعينيات، ثم «يوسي بيورلنج» (النرويجي) في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، صوت من أصوات «التينور» يسد الفراغ الذي تركه كبار الفنانين في العصر الذهبي لهذا الصوت خلال النصف الأول من هذا القرن.
ومن الذكريات الطريفة التي أذكرها من دار أوبرا «المتروبوليتان»، أن مغنية روسية مشهورة — لا أذكر اسمها — حضرت لأداء بعض حفلات الأوبرا، ولم تكن تجيد اللغات الأخرى اللازمة في غناء الأوبرات، ولا سيما الإيطالية، وكانت الأوبرا التي شاهدتها تؤديها هي «مدام بترفلاي»، وقد أدَّتها بطريقة غريبة حقًّا؛ إذ كان جميع المغنين الآخرين يغنُّون بالإيطالية، بينما ترد هي عليهم بالروسية، ولم يكن في هذا الاختلاف اللغوي أي إقلال من متعة النغم، وكان واضحًا أن الجمهور معجبٌ كل الإعجاب بصوتها القوي ومقدرتها على التحكُّم في طبقات هذا الصوت. ومع ذلك ففي إحدى اللحظات الدرامية في الأوبرا كان التينور يغني، وعندما جاء دورها في الرد قالت: «نييت» (ومعناها بالروسية: لا)، فدوَّت أرجاء القاعة بالضحك. أما سبب الضحك (وهو ظاهرة نادرة بين جمهور الأوبرا، ولا سيما في المواقف الدرامية)، فهو أن كلمة «نييت» هذه هي نفسها التي يستخدمها المندوب السوفييتي في مجلس الأمن كلما استخدم حق الفيتو — وما أكثر ما يستخدمه — وهي كلمة أصبحت مشهورة ومكروهة لدى الأمريكيين؛ لأنها طالما أطاحت بخططٍ تريد حكومتهم أن تفرضها على المنظمة العالمية!
•••
وما دمتُ في معرض الحديث عن الجمهور الأمريكي، فمن الواجب أن أذكر أن عشاق الموسيقى العالمية فيه أقلية، بل هم أقلية ضئيلة إذا قيسوا بنسبتهم في بعض البلاد الأوروبية. والحق أن أنضج شعوب العالم لا تنطوي إلا على نسبة محدودة من محبي هذا النوع من الموسيقى. ومن الخطأ أن يظن البعض أن هناك شعوبًا يتذوق كل أفرادها الموسيقى الكلاسيكية، وكل ما في الأمر أن النِّسَب تتفاوت تبعًا لمدى ارتفاع مستوى الثقافة العامة لدى الشعب. ومن المؤكد أن هناك، حتى من بين أولئك الذين يُحسَبون ضمن عشاق الموسيقى العالمية بين الأمريكيين، عددًا غير قليل يواظب على حضور حفلاتها حبًّا في الظهور وادعاءً للثقافة والتعمُّق فحسب. وأذكر أن جاري في حفلات «كارنيجي هول» كان ينام بعد بدء العزف بقليل في معظم الحفلات، وأنه في المرات التي كان يصيبه فيها «الأرق» كان يُخرِج من جيبه ورقًا وقلمًا ويقوم خلال العزف بعمليات حسابية لا أوَّل لها ولا آخر — ومن الواضح أن أحواله المالية كانت أهم لديه بكثير من سماع الموسيقى النادرة التي تتجاوب في أرجاء القاعة. وهناك جارٌ آخر علمت منه أنه مشترك منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، استمع مرة إلى برنامج للموسيقى المعاصرة يتضمن قطعةً لمؤلِّف أمريكي اسمه «وليام شومان» فسألني متعجبًا بعد انتهائها: كيف يعزفون قطعة من موسيقى القرن التاسع عشر لشومان في حفلٍ مخصَّص للموسيقى المعاصرة؟ وكان السؤال غاية في الغباء؛ إذ إن الفرْق بين أسلوب روبرت شومان، الفنان الألماني المشهور في العصر الرومانتيكي، وبين الأسلوب المعاصر لشومان الأمريكي، فارق لا يحتاج المرء إلى أية خبرة لكي يدركه على الفور، حتى لو لم يكن قد عرف من قبلُ بوجود «شومان» آخَر في تاريخ الموسيقى الأمريكية. وبطبيعة الحال لا يحق للمرء أن يُصدِر حكمًا عامًّا على أساس حالات فردية كهذه، ولكن الملاحظ بالفعل أن حب التظاهر بالثقافة — وهو تعويضي منتشر بين أوساط الأثرياء — يدفع عددًا غير قليل من الناس إلى حضور الحفلات الموسيقية بانتظام، كما لو كانوا يؤدون طقسًا من الطقوس أو فرضًا من الفروض التي لا يكون المرء بدونها معدودًا في زمرة المثقفين.
•••
وبرغم أن الموسيقى الكلاسيكية تحتاج بطبيعتها إلى أن تُسمع بصوت مرتفع؛ حتى تستبين للأذن أصوات كل الآلات، الظاهرة منها والخفية؛ وحتى يتسنَّى تمييز الأجزاء الهادئة التي ينخفض الصوت فيها انخفاضًا شديدًا. وبرغم أن الشعب الأمريكي لا يقف في الصف الأول بين الشعوب الناضجة ثقافيًّا وخلقيًّا، فإني لا أذكر أنني سمعت مرة واحدة صوتَ موسيقى يعلو من داخل البيوت إلى الشارع أو إلى آذان الجيران. صحيح أن هناك أماكن تُسمع فيها موسيقى صاخبة، ولكنها أماكن مقفلة يدخلها مَن يرغبون في الصخب، أما في الأماكن العامة، أو في البيوت، فلا أثر لضجيج الإذاعات على الإطلاق. ولعل القراء قد شاهدوا في الأفلام منظر الفتاة المراهقة التي تمسك بالترانزستور وتلصقه بأذنها وتسير متراقصة على أنغامه دون أن يشاركها في سماعه أحد؛ هذا ما يفعله مخترعو الترانزستور. أما عندنا، فإنه يغزو البيوت من نوافذها في أحلى ساعات النوم، ويجلجل في السيارات العامة والقطارات، بل ويتسلل إلى مكاتب الموظفين لكي يضيف عاملًا آخَر إلى عوامل تعطيل الإنتاج.
•••
ولعل أفضل ما اكتسبته من سفرتي التي أطلت عنها الحديث، مجموعة الأسطوانات المختارة التي اقتنيتها، وجهاز الأداء الذي ينقل إليَّ أنغامها. ولست أدَّعي أن لدي كلَّ ما أريد من التسجيلات (وهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك؟) ولكني حاولت أن أكوِّن لنفسي مجموعة كبيرة متوازنة من التسجيلات تغطي كافة فترات الموسيقى واتجاهاتها وأنواعها.
مع هذه التسجيلات أقضي اليوم — كلما سمحت المشاغل — أجمل الأوقات التي تتيح للمرء أن ينسى ضغط الحياة وتوترها ومدَّها وجَزْرها، لينتقل لحظاتٍ قصارًا إلى عالَم التوافق والصفاء وسكينة النفس وشفافية الروح. ولست أعني بذلك أنني ممن يتخذون الموسيقى وسيلة للهروب من مشكلات الحياة أو التخفيف منها، وإن كانت قادرة على ذلك بالفعل، فكثيرًا ما تكون الموسيقى وسيلة لحشد طاقة الإنسان الروحية على نحوٍ يستطيع معه أن يواجه مشكلاته بعزم أصدق وشجاعة أعظم. غير أني لا أميل، على وجه العموم، إلى أن أجعل من الموسيقى وسيلةً لغاية أخرى، أيًّا كان جلال هذه الغاية وشرفها، وحسبي من التجرِبة الموسيقية أن تكون غاية في ذاتها، فإن كانت هذه التجرِبة تبعث في النفس طاقات روحية لا عهد للإنسان بها في حياته اليومية المألوفة، فإن أمثال هذه التأثيرات لا تعبِّر عن لب التجرِبة الموسيقية، وهي بالنسبة إلى هذه التجرِبة نتيجة عارضة غير مقصودة، ولن يجد المرء، لكي يعبِّر عن ماهية هذه التجرِبة، إلا أن يلجأ إلى تعبيرات شعرية صوفية لا تقدِّم ولا تؤخِّر، وإن كانت هي كل ما في متناول أيدينا إذا شئنا أن نتحدث عن عالم التآلف النغمي الفريد. وعلى مَن شاء أن يعرف كنهَ هذا العالم أن يمرَّ بالتجرِبة ويبذل الجهد. وكل ما أستطيع أن أؤكده له أنه لن يندم على ما فعل.
•••
وأحسَب أن هناك مسألتين لو كنت قد استطعت نقلهما إلى ذهن القارئ لكانت هذه الذكريات الموسيقية، قد حققت قدْرًا كبيرًا مما هدفتُ بها إليه. أولى هاتين المسألتين أنه لا توجد لدى أي مستمع، شرقيًّا كان أم غربيًّا، مناعةٌ ضد الموسيقى العالمية، وأن في استطاعة كل إنسان مرهف الحس، أيًّا كان المجتمع الذي ينتمي إليه، أن يمر بتجرِبة تذوُّق هذا اللون من الموسيقى وينمِّيها في نفسه، وعندئذٍ سيدرك أن الفن الموسيقي قادر على أن يقدِّم إليه ما هو أروع وأعمق بكثير من الألحان السطحية التي يكتفي بها المرء لو اقتصر على الاستماع التلقائي الضحل للموسيقى اليومية المألوفة.
أما المسألة الثانية فهي أن الموهبة الموسيقية شيء نادر لا ينبغي أن يضيع سُدًى، ومن الواجب كلما بدت تباشيرها أن تبادر الأسرة والدولة إلى تعهُّدها ورعايتها وتنميتها. والحق أن الإحساس الذي يغلب عليَّ، كلما رجعت بذهني إلى ذكرياتي في عالم الموسيقى، هو الإحساس بفرصٍ شاعت وإمكانات لم تتحقَّق، وتجارِب لم تعرف طريقها إلى الاكتمال — وهو إحساس لا أود أن يتكرر في نفوس الأجيال الجديدة من أبنائنا.
وعلى أية حال، فإن هذه الذكريات، وربما هذا الكتاب بأسره، يسودها طابع «الاغتراب»؛ لأنها كلها مبنية على تجرِبةٍ غير شائعة وغير مألوفة في مجتمعنا. ولكن هذا لا يعني أنها لم تُكتب إلا لأصحاب التجارِب المماثلة، إنها، على عكس ذلك، موجَّهة إلى الجميع، مستهدفة أن تشجع البعض منهم على خوض هذه التجرِبة الشائقة، وأن تُقنِع البعض الآخر بأن يقف من أصحاب هذه التجرِبة موقف الفهْم والوعي وسعة الأفق، ويدرك — نظريًّا على الأقل — أن للفن أبعادًا لا ينبغي بالضرورة أن تكون هي نفس الأبعاد التي ألِفها وارتاح إليها. وأيًّا كان الحكم الذي ينتهي إليه القارئ بعد قراءته لهذه الصفحات فحسبي أن يعلم أنني نقلت إليه، بصدق وأمانة، صفحة من حياتي، وجانبًا أعتز به من جوانب نفسي.