الإيقاع بين الحياة والفن
في البدء كان الإيقاع.
حياتنا كلها غارقة في بحرٍ من الإيقاع لا ينقطع هديره؛ فالكون من حولنا تدور ظواهره في إيقاع منتظم، يظهر أوضح ما يكون في دورات الأفلاك، وظهور النجوم والكواكب واختفائها، وفي تلك «التموُّجات» التي تتميز بها ظواهر الحياة، وذلك النبض الكوني الذي لا يُعَد نبض قلوبنا — أعني دليل الحياة فينا — إلا صدًى داخليًّا له.
ومنذ أقدم العصور أثارت فكرة الإيقاع خيال الإنسان وحفَّزته على التأمُّل، فإذا به يأتي بالنظرية تلو النظرية لإثبات أن مسار الكون كله لا يعدو أن يكون إيقاعًا هائلًا ربما لم تكن حياة الإنسان بأسرها إلا نبضة واحدة من نبضاته، وإذا بفكرة «العود الأبدي» — أي المسار المتكرِّر للكون من البداية إلى النهاية وفقًا لنظامٍ ثابت يعود فيتردَّد مرات لا نهاية لها، كل مرة منها تمثِّل دورة كونية أو «سَنة كبرى» وتشابه الدورات الأخرى في كل شيء — تغدو واحدةً من أقدم النغمات المتكررة في الفكر البشري، ابتداءً من «أنكسمندريس» في العصر اليوناني القديم حتى «نيتشه» في عهدنا القريب.
إن الإيقاع حولنا في كل مكان يشهد عليه تعاقبُ الليل والنهار، وتكرار أوجه القمر، وتَتَابُع فصول السنة. وهو في داخل أجسامنا حقيقة لا تُنكَر تنظم بواسطتها شتَّى وظائفنا العضوية تنظيمًا دقيقًا محكمًا، وفقًا لفترات ودورات ثابتة، تؤكد لنا أن أعمق وظائف الحياة ذات طابع إيقاعي.
بل إن الإيقاع ليسود علاقات البشر كلما تجمعوا، نراه في تعاقب الأجيال، وفي التغيير الدوري لأذواق الناس وميولهم، بل يراه بعض المؤرخين ذوي النظرة الموسوعية الشاملة متمثلًا في دوراتٍ كبرى تمرُّ كل حضارة بشرية بمراحلها جميعًا على نحوٍ لا مهرب منه؛ فإذا تعامل الناس في مجال الاقتصاد، وجدوا أمامهم دورات اقتصادية يتناوب فيها الازدهار والكساد بنوع من الضرورة يكاد يكون محتومًا.
وإذا ما تركنا المجال الكوني الأكبر، والمجال البشري الأوسط، جانبًا، وتغلغلنا في أصغر دقائق المادة، وجدنا الإيقاع ماثلًا بوضوحٍ في سلوك نواة الذرة وجزيئاتها، وفي الموجات الكهربية بداخلها، وفي علاقة الخلية الحية بالبيئة المحيطة بها.
في كل شيء إذن هناك إيقاع، وفي كل مكان، وعلى جميع المستويات، تسلك الطبيعة مسلكًا متموِّجًا، وتعود من حيث بدأت في حلقات أو دورات تتشابه بدرجات متفاوتة، حتى لقد أكد فنان عظيم، ودارس متعمِّق للطبيعة مثل ليوناردو دافنشي أن كل صور الطبيعة إيقاعية متموِّجة، وأن الطبيعة الحقة لكل كائن إنما تتمثَّل في هذا الارتفاع والانخفاض الدوري الذي يقدِّمه لنا أنموذج الموجة.
ما الإيقاع؟
فما هو الإيقاع إذن؟ وما الدور الذي يقوم به في الموسيقى وغيرها من الفنون؟
هذا الإيقاع الذي يتمثَّل خارج الإنسان وداخله، والذي يعبِّر عن حاجة روحية وعن ضرورة مادية في الآن نفسه، هو عنصر نشعر به جميعًا ونتحدث عنه، وندرك أنه أول مظهر للحياة في الموسيقى، كما هو أول مظهر للحياة في الكائنات الحية عامةً. ولكن القول إن الإيقاع هو الذي يضفي على الموسيقى حياة واندفاعًا، لا يكفي لكي يقدِّم إلينا تعريفًا وافيًا. والحق أن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها لا لشيء إلا لكونها مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع. وعلى أية حال فلن نحاول الآن تقديم تعريف للإيقاع عامةً، بل إننا نود أن نستعرض بعض التعريفات التي اقتُرحت للإيقاع الموسيقي على وجه التخصيص لكي نستشف منها أهم العناصر التي يتألف منها، والتي تضفي عليه كل هذه الأهمية في كل فن موسيقي عرفته البشرية منذ أقدم العصور.
ولقد كان من الطبيعي أن يربط المفكِّرون في مختلف العصور بين الإيقاع والحركة؛ ذلك لأن الحياة التي تسري فينا، والتي تستمر خلال الزمان، إنما تتجلَّى في مجموعة متعاقبة من الحركات المنظمة تنظيمًا بديعًا، كنبضات القلب وتناوب الشهيق والزفير في التنفُّس، والمشية الثنائية الخطوات في الإنسان، والرباعية الخطوات في الحيوان؛ ففي كل هذه الظواهر الفسيولوجية يرتبط الإيقاع التلقائي الحي بالحركة ارتباطًا لا ينفصم، بل إن الحركة هي الظاهرة الأساسية في الكون بأسره، كما أدرك الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ فالحركة والتغيُّر في المكان والزمان هي عند الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أساس فهْم الكون والحياة معًا، ولا شيء في نظره يَثبت أو يستقر عند حال. ومن ثَمَّ فتناوب الإيقاع يسري في كل شيء. وكل مَن ألمَّ بقدْر من العلم عن سائر فلاسفة اليونان يعلم أن أفلاطون جعل الحركة مظهرًا أساسيًّا لعالم المحسوسات (على حين أن السكون هو المميز لعالم المعقولات)، وأن أرسطو قد اتخذ من الحركة نقطة بداية لتفسيره للعالم، ومدخلًا أساسيًّا إلى تعليل كل ظواهره. وحين ظهرت الأفكار الآلية الحديثة في الفلسفة، كان من الطبيعي أن تتخذ الحركة أساسًا لتفسير الحوادث الكونية، سواءً منها المادية والروحية.
وهكذا فإن قوام الإيقاع الموسيقي هو تلك الظاهرة التي رآها المفكرون، منذ أقدم العصور، كامنة في أساس كل تغيُّر يطرأ على الكون، وكل تجدُّد وتنوُّع في الحياة، فبفضل الإيقاع تصبح الموسيقى فنًّا للحركة.
•••
ولكن، هل تكفي فكرة الحركة لتعريف الإيقاع تعريفًا جامعًا يوضِّح طبيعته إيضاحًا كاملًا؟ الحق أن الحركة وحدها، وإن كانت هي القوة الدافعة لكل إيقاع، لا تكفي وحدها للكشف عن معناه؛ إذ إن الإيقاع ليس حركة فحسب، بل هو نوع معيَّن من الحركة، ولا يمكن أن يكون الانسياب المتدفق للحركة، دون ضبط أو تنظيم، هو الذي يمثِّل الطبيعة الكامنة للإيقاع؛ وعلى ذلك فلا بُدَّ من إضافة فكرة التنظيم لكي يزداد معنى الإيقاع وضوحًا في الأذهان.
وبالفعل نجد هذا المعنى واضحًا في أذهان المفكرين منذ أقدم العصور؛ فأفلاطون كان هو بدوره الذي عرَّف الإيقاع بأنه «تنظيم الحركة»؛ أي إنه بعد أن صرَّح بأن أصل الإيقاع حركة حيوية، أضاف إلى هذا العنصر الحيوي عنصرًا آخَر ذا طبيعة ذهنية أو عقلية، هو عنصر التنظيم، الذي هو طريقة تشكيل الحركة المتدفقة وصياغتها في قالب أو صورة محددة.
وقد ظل لفكرة التنظيم بدورها دورٌ أساسي في تعريف الإيقاع، بحيث اعترفت بأهميته أحدث التعريفات التي وُضعت للإيقاع، فقيل إن «الإيقاع مجموع من اللحظات الزمانية الموزَّعة وفقًا لترتيب معين»، وأن «الإيقاع هو النظام في توزيع مدد الزمان.»
ومع اعترافنا بالأهمية القصوى لعنصر التنظيم هذا، فمن الواجب أن نتساءل: فيمَ يتمثَّل هذا التنظيم، ومن أين جاء؟ إن في وسعنا التمييز بين نوعين من التنظيم: نوع نخلقه نحن، بإرادتنا الواعية، وتكون له في هذه الحالة طبيعة ذهنية خالصة، ونوع آخَر تقدِّمه إلينا الطبيعة والحياة ذاتهما، وهو تنظيم نخضع له ونقبله كما هو، وإن كنَّا أحيانًا نسيطر عليه في حدودٍ معينة. ومن أمثلة هذا النوع الأخير، مشية الإنسان؛ فهي بحكم الطبيعة تنظيم معيَّن لحركة الإنسان، لا نستطيع أن نغيِّر شيئًا من صورته الجوهرية، ولكنا نستطيع تعديل بعض تفاصيله، بدليل أن كل إنسان يمكنه أن يتحكَّم في مشيته ويعدلها — في حدود معينة — تبعًا للظروف.
وعلى أية حال فإن أفضل وسيلة لتعريف الإيقاع هي تلك التي تجمع بين عنصري الحركة والتنظيم معًا، بحيث تكون الحركة تعبيرًا عن العنصر المادي أو الحيوي في الإيقاع، والتنظيم تعبيرًا عن عنصره الذهني أو الروحي. وبهذا المعنى يكون الإيقاع جامعًا بين المادة والروح في مركَّب واحد، أو بين المجال العضوي والبيولوجي من جهة، والمجال الذهني الهندسي من جهة أخرى، في توافق وانسجام؛ فالإيقاع في أساسه حركة، ولكن هذه الحركة إذا ظلت حرة طليقة بلا تنظيم لا تكون إيقاعًا، بل لا بُدَّ ممن يسيطر عليها ويوجهها.
•••
ولكن أية حركة هي تلك الي ينظِّمها الإيقاع الموسيقي؟ أهي الحركة التي نألفها في حياتنا المعتادة حين ننتقل من موضعٍ إلى آخَر؛ أعني الحركة المكانية؟ لا شك في أن الإيقاع الموسيقي ينظِّم حركةً من نوعٍ آخر، لا شأن لها بالمكان أصلًا، بل هي حركة تتم خلال الزمان. وهكذا نجد لزامًا علينا أن نشرح فكرة ثالثة تكون عنصرًا أساسيًّا في فهْم الإيقاع، بل في فهْم الموسيقى ذاتها بوجه عام؛ وأعني بها فكرة الزمان.
والزمان هو لب الإيقاع الموسيقي، بل إن الإيقاع الموسيقي ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيرًا عن الزمان. والواقع أننا حين نعرِّف الإيقاع بأنه تنظيم للحركة خلال الزمان، إنما نعني بذلك أن الإيقاع يقوم بإدخال تنظيم معيَّن على ذلك السيل المتدفق من الحركة الزمانية، بحيث نشعر في الإيقاع بأننا نتحكم على نحوٍ ما في مجرى الزمان وننظمه، بدلًا من أن ننساب معه دون وعي.
ونحن نشعر جميعًا بالزمن الحي، أو بما يسميه برجسون بالديمومة، في مختلف جوانب حياتنا؛ ففي حياتنا العضوية نشعر بالزمان في تلك الأحوال الجسمية المتفاوتة التنظيم، والتي يُطلِق عليها البعض اسم «الساعة العضوية». وفي حياتنا الانفعالية نحس بانقضاء الزمان على نحوٍ متفاوت، تبعًا لأحوالنا الوجدانية المتباينة؛ فنفاد الصبر يطيل الزمان، بينما السعادة تقصِّره، وقد يضيع إحساسنا بالزمان تمامًا في حالات النشوة والوجد. هذا النوع من الزمان الانفعالي كثيرًا ما يتحكَّم في طريقة استجابتنا للموسيقى وتجاوبنا معها. ولما كانت الانفعالات بطبيعتها ذاتية تتفاوت تفاوتًا شديدًا تبعًا للأفراد، فإن إحساسنا بالزمان في الموسيقى يتفاوت بدوره تبعًا لدرجة حساسيتنا الانفعالية الخاصة، وقد يصل في حالة الاندماج التام، الذي يقترب من النشوة الصوفية، إلى فقدانٍ تامٍّ للوعي بانقضاء الزمان، سواء بالنسبة إلى المستمع حين يستغرق في الإنصات للحنٍ جميل أو إلى المؤلِّف أو العازف حين ينسى المشكلات الفنية (التكنيكية) التي تثيرها الموسيقى، ولا يستجيب إلا لوحي ألحانه.
هذا الاندماج التام في الأداء يكشف عن جانبٍ آخر من جوانب العلاقة بين الإيقاع الموسيقي والزمان؛ فعلى الرغم من أن الإيقاع هو الذي يُشعِر المرء بالزمان في الموسيقى، فمن الممكن، إذا استغرق فيه المرء استغراقًا تامًّا، أن يكون مؤديًا إلى نسيان الزمان لا إلى الإحساس به عن وعي. ولا يقتصر ذلك على القائم بالأداء فحسب، بل إن المستمع ذاته قد يندمج في النشوة الموسيقية إلى الحد الذي لا يعود يشعر معه بانقضاء الزمن. وهكذا يجمع الإيقاع الموسيقي في آنٍ واحد بين القدرة على تذكيرنا بالزمان، والقدرة على محو شعورنا بالزمان.
الإيقاع بين الموسيقى والفنون الأخرى
تتميَّز الموسيقى بأنها هي الفن الزماني بالمعنى الصحيح؛ فالزمان، كما قلنا من قبل، عنصر أساسي في تحديد طبيعة الإيقاع الموسيقي، وهو القالب الذي يُصاغ فيه اللحن الموسيقي بدوره. ومن هنا كان من المستحيل تصوُّر الموسيقى بلا زمان، ودون ذاكرة؛ فلو تخيلنا إنسانًا حُرم من قوة التذكُّر إلى حدِّ أنه لا يستطيع أن يربط لحظات ماضيه بحاضره، فإن مثل هذا الإنسان لن يستمتع بالموسيقى مهما بلغت درجة حساسيته؛ ذلك لأن فهْم الموسيقى يقتضي أساسًا أن يكون لدى المرء حدٌّ أدنى من الذاكرة، يتيح له أن يجمع لحظاتها المختلفة في وحدة واحدة، بحيث يتذكر الأجزاء السابقة من القطعة الموسيقية وهو يستمع إلى أجزائها الحاضرة، ولولا ذلك لفقدت وحدتها العضوية، ولما عادت تمثِّل شيئًا ذا معنًى بالنسبة إليه. ولا جدال في أن هذه القدرة على الربط بين الماضي والحاضر تتفاوت بحسب الاستعدادات الفردية، كما تتفاوت تبعًا لمقدار الخبرة والمران على الاستماع الموسيقي. ولكن هناك — كما أوضحنا — حدًّا أدنى من القدرة على التذكُّر بدونه يصبح التذوق الموسيقي مستحيلًا.
والفن الزماني بطبيعته أقرب إلى الطابع الذهني من الفن المكاني؛ لأن الذهن وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه الوظيفة الأساسية — وظيفة الربط بين الماضي والحاضر في العمل الفني الواحد — على النحو الكفيل بتكوين كلٍّ واحدٍ شاملٍ تزول فيه الفواصل الزمنية أو لا يعود لها تأثير في وحدة العمل الفني. من هنا كانت الموسيقى في نظر عدد غير قليل من الفنانين والمفكرين أقرب الفنون كلها إلى الطابع الروحي؛ إذ إن حاسة الاستماع بطبيعتها أقرب إلى الانطواء والذهنية، وأقوى صلةً بعالم الإنسان الداخلي الباطن، من بقية الحواس، فضلًا عن أن ما يُسمع في حالة الموسيقى توافقٌ صوتي خالص، وليس كلامًا لغويًّا محدَّد المعاني كذلك الذي نستمع إليه في الشعر.
الموسيقى والشعر والأدب
لعل هذه العبارة الأخيرة قد أوضحت للقارئ أن هناك صلةً من نوع خاص بين الموسيقى والشعر، ربما كانت أقوى من صلة الموسيقى بأي فن آخر؛ ذلك لأن الشعر بدوره فن زماني، والأداء فيه بدوره صوتي، ووسيلة تذوُّقه هي الاستماع، والإيقاع (أو الوزن) يقوم فيه بدور أساسي. كل ذلك يدفعنا إلى أن نحاول استطلاع العلاقة بين هذين الفنين بمزيد من التفصيل.
الحق أن العلاقة بين الموسيقى والشعر تبلغ من التشابك حدًّا أصبح من العسير معه أن يستقر الرأي حول مسألة تحديد أيهما يُرَدُّ إلى الآخر، وأيهما هو الأسبق؛ فهناك نظريات تؤكد أن اللغة (التي يُصاغ فيها الشعر) أسبق من الموسيقى، وأن أصل الموسيقى هو القدرة الصوتية اللغوية، وأن كل إيقاع لدينا يرتد آخِر الأمر إلى وقع الأصوات اللغوية. وهناك نظريات أخرى ترى أن الموسيقى هي أصل الإيقاعات جميعًا؛ لأنها لغة طبيعية لا تتقيد بقواعد اصطلاحية معينة، يسهل على الجميع فهْمها والتأثُّر بها، ومن ثَمَّ فإن إيقاعاتها هي التي صبغت إيقاعات اللغة بصبغتها الخاصة، وبالتالي فإن الوزن الشعري قد استمد قواعده، في البداية، من الموسيقى.
ومن الصعب إلى حدٍّ بعيد أن يستقر المرء على رأي قاطع يحدِّد به موقفه بين هاتين النظريتين، لا سيما وأن مثل هذا التحديد يقتضي الرجوع إلى ماضي البشرية السحيق، والبحث في الأصول الأولى للغة، وفي تلك التعبيرات الصوتية الأولى التي ربما كانت تجمع بين طبيعة اللغة البدائية وطبيعة الموسيقى في آنٍ واحد. ومن الجائز أن الاثنين معًا قد استُمدا من أصواتٍ كانت تستخدم نوعًا من النغم وسيلةً للتعبير عن إحساس معيَّن، قبل أن تتخذ اللغة صورتها الكلامية المألوفة. وربما كان هذا هو الأصل الذي تفرَّعت عنه اللغة، حين أصبحت الأصوات رموزًا لا تُقصد لذاتها، بل تستمد كل قيمتها من اصطلاح الناس عليها واتفاقهم على الربط بينها وبين الموضوعات التي ترمز إليها، كما تفرَّعت عنه الموسيقى من ناحية أخرى، حين أصبحت بعض الأصوات تُعَدُّ غاية في ذاتها، وتكتسب قيمتها من الطابع الكامن فيها، لا من علاقتها الرمزية بموضوعٍ خارج عنها.
على أننا لو شئنا أن نلتمس لهذه المشكلات حلًّا في ضوء المراحل التي يمر بها الإنسان منذ طفولته الأولى، لوجدنا أن الطفل يستطيع عادةً أن يتكلَّم قبل أن يغني — هذا إذا استثنينا تلك الأصوات التي ربما بدت نغمًا، والتي يُصدِرها الطفل قبل أن يتعلَّم الكلام (وهي قَطْعًا نغمٌ شجي في آذان والديه!). على أننا لو هبطنا في سُلَّم الحياة أبعد من ذلك، لوجدنا أن تغريد الطيور يُعَد تأييدًا للنظرية المضادة؛ إذ إنه دليل على أسبقية الموسيقى وإمكان وجودها قبل أن يوجد الكلام. وعلى أية حال فالمشكلة كما قلنا يستحيل حلُّها في ضوء المعلومات المتوافرة لدينا الآن، وربما كان الأجدر بنا أن نركِّز اهتمامنا على الوضع الحالي في العلاقة بين الموسيقى والشعر؛ ذلك لأن الارتباط بين الموسيقى والشعر، من حيث الإيقاع، وثيق إلى أبعد الحدود. بل إن الإيقاع الموسيقي ظلَّ خلال قرون طويلة مرتبطًا بإيقاع اللغة والشعر بحيث لم تكن هناك تفرقة نظرية بينهما، وكان الوزن الشعري أساسًا للإيقاع الموسيقي، وظهر ذلك بوضوح في الموسيقى اليونانية القديمة.
وصحيح أن الموسيقى قد تحرَّرت من وصاية الإيقاع الشعري فيما بعدُ، وأصبحت لها إيقاعاتها المستقلة، ومع ذلك فما زال تأثير الإيقاع الشعري واضحًا في الموسيقى وما زال من الممكن أن نَصِفَ الموسيقى بأنها إيقاع شعري، بغير كلام، وإن كانت الموسيقى بدورها تمارس تأثيرًا لا يمكن إنكاره في الشعر، بحيث أصبح يُنظر إلى «موسيقى الشعر» على أنها أهم العناصر المعبِّرة عن ماهيته.
ومن المعروف أن إيقاع اللغة الكلامية، والشعرية بوجهٍ خاص، كان له تأثيره الكبير في عددٍ غير قليل من الموسيقيين، ربما كان أشهرهم الموسيقي الروسي «موسورسكي»، الذي كان يستلهم قدْرًا غير قليل من ألحانه — ولا سيما في أغنياته والأوبرا المشهورة «بوريس جودونوف» — من إيقاعات اللغة وتنغيم أصواتها ووقعها وجرسها. أما تأثير الموسيقى على الشعر فلا يحتاج منا إلى إشارة خاصة؛ إذ إننا نعرف جميعًا أولئك الشعراء ذوي النزعة الموسيقية، الذين يغلب عندهم وقع الصوت على معناه، والذين استعانوا بما تثيره الأصوات من إيحاءات، سواء في رنينها وفي إيقاعاتها، فجعلوا من ذلك عنصرًا أساسيًّا في نقْل ما يريدونه من مشاعرَ وأحاسيسَ إلى أذهان قرائهم (أو على الأصح إلى آذان مستمعيهم).
ولقد كانت هذه الصلة الوثيقة بين الموسيقى والشعر هي التي أدَّت إلى امتزاجهما منذ أبعد العصور؛ فالفن الغنائي، الذي هو فنٌّ جامع بين الموسيقى والشعر، أقدُم من الفن الموسيقي الخالص، والصوت البشري — مصوغًا في القلب اللغوي — كان هو أداة التعبير عن المعاني الموسيقية قبل أن يُستعان بالآلات في أداء مهمة نقل المشاعر الموسيقية إلى نفوس الآخرين.
والواقع أن الغناء يؤدي وظيفةً مزدوجة في الموسيقى، فهو من جهةٍ يضفي على الموسيقى «الخالصة» معنًى محددًا مستمدًّا من اللغة المعتادة، ومن جهةٍ أخرى يؤكِّد عنصر الإيقاع بأن يضيف أوزان الشعر وإيقاع الكلمات إلى دقَّات النغم ونبض الأصوات. وربما كان هذا السبب الأخير هو أقوى العوامل التي أدَّت إلى دعم الروابط بين الموسيقى والكلمات، وهو الذي جعل الغناء فنًّا أقدمَ وأوغل في الماضي السحيق من الموسيقى الخالصة. على أن هذا الارتباط — كما هو معروف — ليس دليلًا على سذاجة الموسيقى أو بدائيتها، بل إنه لا يزال قائمًا في أرفع التجارِب الموسيقية العالمية، وما زال الشعر الملحَّن يحتل مكانته كفن رفيع في الأوبرا والأغنية الراقية ومختلف أنواع التأليف الموسيقي الذي يستعين بالأصوات البشرية. ومن الجدير بالذكر — في هذا الصدد أن أعظم البلاد تقدُّمًا في مجال الفن الموسيقي قد شهدت في الآونة الأخيرة محاولات للعودة إلى الأشكال الأولى للتآلف بين الصوت البشري والموسيقي؛ أعني تلك الأشكال السابقة على الكلمات اللغوية ذات المعنى؛ فقد ظهرت مؤلَّفات للموسيقى والصوت البشري، أو مجموعات الأصوات البشرية، يُستخدم فيها هذا الصوت في صورته النقية الخالصة؛ أي من حيث هو مجرَّد صيحات لا تعبِّر عن كلماتٍ معينة. وبرَّر مؤلفو هذا النوع من الموسيقى فكرتهم هذه بأنها تُعيد إلى الصوت وظيفته الطبيعية، وتستخدمه استخدامًا نقيًّا لا تشوبه شائبة من المعاني العقلية للغة. وبذلك يصبح الصوت البشري وسيلة من وسائل الموسيقى أو آلة من آلاتها، لها خصائصها التي تنفرد بها عن غيرها من الآلات، وتستغل إمكانات هذا الصوت إلى أقصى مدًى ممكن.
على أن من الضروري أن نتذكَّر أن التوحيد بين الموسيقى والكلمات ليس في معظم الأحيان اندماجًا كاملًا كهذا، بل يبدو أن الموسيقى، حتى حين ترتبط بالكلمات تسير في اتجاهها المستقل، ولا تتأثر كثيرًا بالكلمات أو تنبثق عنها انبثاقًا ضروريًّا. وحتى لو كان ذلك يحدث، فلن تكون النتيجة عملًا متكاملًا رفيعًا، بل إن الاندماج التام بين الموسيقى والشعر لا بُدَّ أن يتم على حساب الموسيقى نفسها، التي قد تنطفئ حرارتها نتيجة للاهتمام الزائد بالكلمات. وهكذا يمكن القول إن الشعر يسعى من جانبه إلى الاتحاد بالموسيقى، وأن هذا الاتحاد يضفي عليه قوة، ويزيد قدرته التعبيرية والتأثرية، على حين أن الموسيقى تسعى إلى الاستقلال عن الشعر وتهرب منه، وربما كان تاريخها كله محاولة للتخلص من التأثير المفرط للأدب.
الموسيقى والعمارة
إذا كنا قد قلنا من قبلُ إن الإيقاع يظهر أوضح ما يكون في الفنون الزمانية، كالموسيقى والشعر، فليس معنى ذلك أن الإيقاع لا وجود له في الفنون المكانية. صحيح أن الموسيقى والشعر، أو الأدب بوجه عام، هما الفنان الوحيدان اللذان يتميزان في جوهرهما بالتعاقب، وهما في ذلك على عكس التصوير والنحت والعمارة؛ لأن العمل الفني في هذه الفنون الأخيرة يؤثر فينا دفعة واحدة، بحيث يكون الجهد المطلوب من المشاهد فيها تحليليًّا، من الكل إلى الأجزاء. على حين أنه في الموسيقى جهد تركيبي، ينتقل من الأجزاء إلى الكل. كل هذا صحيح، ومع ذلك فإن تلك الفنون التي لا تُدرَك في زمان متعاقب، لها بدورها إيقاعها الخاص؛ ففي فن كالعمارة مثلًا، وهي نموذج الفن المكاني بمعناه الصحيح، نجد أنواعًا من التكرار أو التماثل أو توزيع المساحات والكتل بتوافق وانسجام، على نحوٍ يؤلِّف نوعًا خاصًّا من الإيقاع، حتى لقد وصف البعض الفن المعماري بعبارةٍ أصبحت منذ أن أُطلقت عليه مشهورة، هي أنه «موسيقى متجمدة».
ولو شئنا مثلًا لموسيقى معمارية، أو متأثرة في تركيبها بقواعد أشبه بقواعد المعمار، لما وجدنا أفضل من موسيقى «يوهان سباستيان باخ». صحيح أن الانتقال بين البناء الموسيقي والبناء المعماري انتقال مجازي قبل كل شيء، ولكن لا مفر للمرء من أن يذكر فن المعمار وهو يستمع إلى تلك الموسيقى ذات البنيان المتماسك المشيَّد بدقة وإحكام طابقًا فوق طابق. ومن الجدير بالملاحظة أن كثيرين ممن كتبوا تاريخ حياة باخ قد لاحظوا أنه لا بُدَّ أن يكون قد ألمَّ بمعلوماتٍ عميقة عن فن العمارة، وأنه كان يتحدَّث حديث العارف عن الخصائص الصوتية للكنائس والكاتدرائيات التي تُعزف موسيقاه فيها.
والواقع أن وظيفة العمارة، بالنسبة إلى الموسيقى، لا تقتصر على أن تضمن لها رنينًا صوتيًّا جيدًا، أو زخرفًا يخلق جوًّا ملائمًا لسماعها — كما هي الحال في الكاتدرائيات بالنسبة إلى القداس أو الأوراتوريو، والمسرح أو القاعة الموسيقية بالنسبة إلى الأوبرا أو السيمفونية — بل إن قوانين البناء الموسيقي تؤثِّر، على نحوٍ غير مباشر، في العمارة، مثلما يؤثِّر التركيب المعماري في بناء القطعة الموسيقية ذاتها. وقد لاحظ هيجل عن حقٍّ أن العمارة، على خلاف التصوير أو النحت، لا تستمد نماذجها مباشرةً من الواقع الخارجي، بل تستمد أشكالها من الخيال، وتشكِّلها وفقًا لقوانين الثقل الخاصة بها، وكذلك وفقًا لقواعد التماثل والتوافق الإيقاعي التي تشبِه ما نجده في الموسيقى. ومن جهةٍ أخرى فعندما تنفصل الموسيقى عن الشعر، تتخذ لنفسها بناءً معماريًّا واضحًا. وبعبارةٍ أخرى فإن الموسيقى كلما تحرَّرت من الأدب ازدادت اقترابًا من العمارة، وربما كانت طوال تاريخها تتأرجح بين هذين القطبين.
الموسيقى والتصوير
يُعَدُّ التصوير بدوره فنًّا مكانيًّا، ومع ذلك فإن للإيقاع دورَه في فن التصوير بدوره، وهو أمر لا يمكن أن تخطئه عينُ مَن تعمَّق فهْم هذا الفن؛ ذلك لأن الفنان يجعل من اللوحة قطعة من حياته، وينقل إليها نبض أحاسيسه ومشاعره. وصحيح أن الحركة تتخذ في التصوير طابعًا ساكنًا متجمدًا، ثابتًا في الزمان، ولكن هذه الحركة تكون لها صفة الحيوية الكامنة؛ أعني تلك الحيوية التي تنبثق ينابيعها أمام العين الفاحصة التي تندمج في العمل الفني، ولا تكتفي بالتطلُّع والمشاهدة السلبية فحسب.
بل إن المرء ليستطيع القول بوجود عنصر زماني معيَّن في التصوير؛ إذ إن النسب المكانية تكتسب قيمة زمانية حين تعمل بعض المساحات على اجتذاب العين مدة أطول من بعضها الآخر، وبذلك يكون في اللوحة نوعٌ من الحركة الصامتة التي يتمثَّل فيها بدورها الإيقاع.
على أن هذا ليس وجه الاتصال الوحيد بين الموسيقى والتصوير؛ فعلى الرغم من أن التصوير يبدو أبعد الفنون عن الموسيقى، فإن العلاقات الأكثر خفاءً هي التي تكون في كثير من الأحيان أوثق العلاقات، وفي استطاعة العلم أن يقدِّم إلينا أدلة هامة على نوع الصلة التي تجمع بين الموسيقى والتصوير.
إن إدراكاتنا السمعية والبصرية؛ أي الأصوات والألوان، تَنتُج عن ذبذبات تتفاوت درجة تردُّدها؛ فالذبذبات الصوتية التي تصدِم طبلة الأذن تتراوح بين ٣٢ و٧٢٠٠٠ ذبذبة في الثانية. وهذه الذبذبات ذاتها تؤثِّر في شبكة العين، وتُنْتِج ألوانًا تتغيَّر ما بين الأحمر والقرمزي حين يصبح ترددها ما بين ٤٨٣ و٧٠٨ «تريليونات». ومعنى ذلك أن هذين الفنَّيْن يختلفان تبعًا لتكويننا الفسيولوجي، لا تبعًا للمادة التي تكشف عنهما. وما الفارق بين الذبذبات السمعية والبصرية إلا فارق في الدرجة، بحيث يستطيع الخيال أن يتصوَّر كائنات لها قوة سمعية أكبر من قوتنا، تستطيع أن «تسمع» اللوحات التصويرية، وأخرى يمكنها أن «ترى» سيمفونياتنا!
ومن جهة أخرى، فمن الممكن أن نتصوَّر وجود نِسَبٍ رياضية معينة، بين درجات تردد الذبذبات التي تسبب الأصوات والألوان الملائمة لنا في آنٍ واحد. وبذلك تكون هناك علاقة خفية بين الصوت واللون، أو بين الموسيقى والتصوير. ومن هنا كانت تلك المحاولات المتعددة التي بذلها البعض لإيجاد صلة بين الفنيْن، ﻛ «الأرغن اللوني» مثلًا.
تلك، على أية حال، مقارنات قد لا تكون تفاصيلها — مهما بدت مقنعة — مقبولة لدى الجميع، ولكنها تدل على وحدة عميقة في المنبع الذي يستقي منه الفنان في جميع الميادين، ولا سيما الموسيقى والتصوير، وحيه وإلهامه.
الموسيقى والرقص
على أن هناك فنًّا آخر — يمكن أن يُعَد من بين الفنون المكانية — يحتل فيه الإيقاع الأهمية الأولى، بل يَعُدُّه البعض أقوى الفنون كلها ارتباطًا بالإيقاع، وأعني به الرقص. وكلنا نعرف تلك التسمية التي تُطلَق في بلادنا على أنواعٍ معينة من الرقص، وأعني بها تسمية «الرقص التوقيعي»، كما نعرف أن أول وأبسط مبادئ تعلمِ الرقص هو الإحساس بالإيقاع والتجاوب معه والانفعال به.
لقد كان الرقص مرتبطًا بالموسيقى منذ أقدم العصور، ولا يكاد يوجد حدٌّ فاصل بينهما في التجارِب الفنية لكثير من الجماعات البشرية التي تتسم حياتها بالبساطة؛ فدقُّ الطبول أو التصفيق بالأيدي، في الريف المصري مثلًا، يندُر أن يكون غاية في ذاته، بل هو في كل الأحيان تقريبًا وسيلةً إيقاعية لتنظيم حركات الرقص. بل إن الارتباط بين الموسيقى والرقص كان في بعض المجتمعات يتخذ مظهرًا مقدسًا؛ إذ كان جزءًا لا يتجزأ من صميم الشعائر الدينية التي تؤديها الشعوب البدائية تقربًا إلى الآلهة أو تمجيدًا للطبيعة. وما زلنا حتى اليوم نرى الزنوج في أمريكا يلجئون إلى الرقص المصحوب بالموسيقى أو بالغناء تعبيرًا عن مشاعرهم في أكثر المواقف جدية وأبعدها عن السطحية أو الاتجاه إلى الترفيه والتسلية، كما هي الحال في المظاهر التي تطالب بالحقوق المدنية، أو التي تحتج على التفرقة العنصرية أو على الفقر أو حرب فيتنام.
ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق بين الرقص والموسيقى كان الأقرب إلى الصواب أن نصفه بأنه فنٌّ مختلَط مشترك يجمع بين التعاقب الزماني والتشكيل المكاني؛ فهو لا يستطيع أن يوجد بدون الموسيقى، التي تملك قوة محرِّكة لا تُقاوم، وتدفع الجسم — بفضل إيقاعها — إلى تتبُّع مجراها والانقياد له. ولكن حركة الموسيقى بدورها تستمد من الرقص الذي يضفي عليها حيويتها وقوامها. بل إن من الباحثين مَن يرون أن الرقص كان، بالنسبة إلى الموسيقى الغربية، أحدَ عاملين كان لهما في تطورها أكبر الأثر. أما العامل الآخر فهو الكنيسة المسيحية. ومن الغريب، والجدير بالذكر، أن تأثير الرقص كان مضادًا لتأثير العقيدة المسيحية؛ إذ إن الأول أعطى الموسيقى جسدًا، والثانية أعطتها روحًا. ومن هنا كانت محاربة الكنيسة للرقص، حتى في داخل الموسيقى نفسها، ومحاولتها أن تجعل للموسيقى روحًا مستقلة عن جسمها الإيقاعي.
وفيما بين تلك التجارِب البدائية الساذجة، وذلك الفن الرفيع — فن الباليه — نجد الارتباط بين الرقص والموسيقى يتمثَّل بأوضح صورة في دقَّات الأرجل التي تُصاحب بها الأنغام ذات الإيقاع المنتظم، وفي تحرُّكات الأيدي وتمايل الجسم، التي يعبِّر بها المستمع عن انسجامه بالموسيقى وتجاوبه معها. وربما كان الأهم من ذلك حركات قائد الأوركسترا التي هي في شكلها الظاهر نوع من الرقص، ولكنها في باطنها موسيقى متحرِّكة في المكان، وفي صميمها إيقاع ولحن وتَوافق نغمي. إنها حركات جسمية ومادية، ولكنها تهفو إلى عالَم روحي خالص، ومن هنا كانت حلقة اتصال بين المادة والروح، ومحاولة للتعبير عن الماهية الروحية لفن نقي مجرَّد، عن طريق الجسم الملموس والمنظور. وهي أيضًا حلقة اتصال بين الإيقاع الزمني والمكاني؛ إذ إن إشارات اليد والجسم تتم في المكان، وتشغل حيزًا منه، ولكنها في الوقت ذاته تنظم مسرى الأنغام في الزمان وتنفذ إلى أعماق المعنى الباطن للموسيقى الذي لا يتصل بعالَم المكان والمادة من قريب ولا من بعيد.
•••
وهكذا يتبيَّن لنا من المقارنة السابقة مدى تعدُّد جوانب الموسيقى وتنوُّع علاقاتها بالفنون الأخرى، كما يكشف عنه الإيقاع في الموسيقى وفي سائر الفنون. إنها تتفق مع التصوير في إيقاع صامت يميِّز الأخير، وتخضع لنفس قواعد البناء التي يخضع لها فن المعمار، وتستعير من الرقص رشاقته وانتظام خطواته، وتكتسب من جرس الشعر لحنًا، فضلًا عن أنها تستلهم مواجد التصوف حينًا، وأحاسيس الجنس والجسد حينًا آخر. إنها، بالاختصار، تبدو محاولة كبرى لتحقيق الوحدة في الإنسان، وتصل في ذلك إلى أعماق في النفس لا يعرفها ولا يبلغها فنٌّ غيرها.
على أن هذه الروابط التي تجمع بين الموسيقى وسائر الفنون قد أصبحت، في الموسيقى العالمية، صفاتٍ باطنة تؤلِّف جزءًا لا يتجزأ من طبيعة هذا الفن العظيم، أو هي بعبارةٍ أخرى، روابط داخلية وليست روابط خارجية يستعير عن طريقها هذا الفنُّ خصائصَ يفتقر إليها من فنون غيره. وبهذا بلغت الموسيقى العالمية حدًّا من التعقُّد وتنوُّع الجوانب جعلها فنًّا مكتفيًا بذاته إلى حدٍّ بعيد. من أجل ذلك، ونتيجة لما تقتضيه من جهد وانتباه من السامع، كان من الصعب في نظر الكثيرين أن تتحد هذه الموسيقى المتكاملة المكتفية بذاتها مع أي فن آخَر من أجل خلق وحدة حقيقية؛ فهناك كثيرون لا يرضَون عن محاولات الإدماج الحالية بين الموسيقى وبين فنونٍ أخرى كالأوبرا والسينما والباليه؛ ذلك لأن الجانب البصري من العرض يشتِّت الذهن ويصرفه عن الموسيقى التي يستحيل أن تكون مجرد أداة للترفيه (إلا في أنواعٍ ﻛ «الأوبريت» الخفية مثلًا؛ حيث يستطيع المشاهد بسهولة أن يوزِّع انتباهه بين المرئي والمسموع) وربما لم تكن لدينا القوة الروحية التي تساعدنا على استيعاب فنٍّ قوامه تعبيرات متعددة وعميقة في آنٍ واحد. بل إن من الجائز ألا يكون التآزر بين حواسنا كاملًا إلى الحد الذي يسمح بأن تستمتع الأذن والعين معًا، وبقدْر متساوٍ من العمق، بالعرض الذي يجمع بين الموسيقى وبين التمثيل والغناء أو الرقص.
ومن هنا كان من حق المرء أن يتساءل (على المستوى النظري على الأقل): وما الداعي إلى هذا التآزر ما دامت الموسيقى تبعث فينا متعة كاملة؟ هل يستطيع أي فنٍّ آخر أن يضيف شيئًا، أو يزيد شيئًا، على التأثير الذي تُحدِثه سيمفونية كبيرة مثلًا؟ ألسنا نجد فيها عالمًا كاملًا يشتمل على كل عناصر المتعة الجمالية، حتى العنصر التشكيلي ذاته؟ وبعبارةٍ أخرى، فإذا كانت الدراما الإغريقية قد نجحت في الجمع بين العناصر الفنية كلها في مركَّب واحد، فهل يحتاج العصر الحديث إلى إحيائها في الوقت الذي تستطيع فيه الموسيقى وحدها أن توفِّق بين هذه العناصر؟ تلك مسألة كان للموسيقي الألماني الكبير «ريشارد فاجنر» فيها رأي خاص، ناقشناه في كتابٍ آخر من هذه السلسلة («ريشارد فاجنر»، المكتبة الثقافية، رقم ١٣٤، ص١٠٢–١١٧).
الإيقاع في التاريخ وبين الشعوب
إذا رجعنا في الزمان إلى المراحل القديمة للمدنية، وجدنا الإيقاع الموسيقي يرتبط بأصلين لكلٍّ منهما طبيعة تناقض طبيعة الآخر؛ فهو من جهةٍ يرتبط بالشعائر والطقوس الدينية، ويكون جزءًا لا يتجزأ من مظاهر العبادة أو من الطقوس السحرية التي تَحُلُّ محلها. وهو من جهةٍ أخرى يرتبط بأداء العمل الجسمي اليومي، وبالحركات الجسمية التي يؤديها الناس أثناء قيامهم بمختلف الأعمال المادية. وهكذا يتضافر الأصل الروحي مع الأصل المادي في تحديد منشأ الإيقاع منذ أقدم العصور.
ففي الشعوب الزنجية تنتشر آلات الإيقاع انتشارًا كبيرًا، بل هي في كثير من الأحيان تقوم وحدها بوظيفة الأداء الموسيقي المتكامل (فضلًا عما يؤديه الإيقاع في حياة الغابة من وظائف أخرى غير الوظيفة الموسيقية؛ إذ يُستخدم في التحذير والاتصال والاستنفار للقتال … إلخ). وحتى إذا ظهر في هذه الموسيقى لحنٌ فإن الغرض منه يكون عادةً تأكيد الإيقاع وإظهار مواضع القوة والضعف في دقاته، وربما ظهر اللحن من قلب الآلات الإيقاعية ذاتها، نتيجة لاختلاف خصائصها الصوتية، من حيث ارتفاع الصوت أو انخفاضه، وضيقه أو اتساعه.
ويتميَّز الإيقاع الزنجي بتغلغل جذوره في الأصول العضوية والحيوية للإنسان؛ فهو ليس إيقاعًا عقليًّا أو لحنيًّا كإيقاع الموسيقى الغربية. إنه وثيق الصلة بالحركات الجسمية التي تُؤدى في الطقوس وفي العمل وفي مختلف الوظائف الحيوية، وفي أعمال الحرب والهجوم والدفاع. وكما يتأثر الإيقاع بالحياة فإنه يؤثِّر من جانبه في الحياة؛ إذ إنه يثير استجابات جسمية قوية، وقد يصل تأثيره إلى حد النشوة التي ينسى فيها المرء فرديته ويندمج في الكل، أو في الطبيعة، اندماجًا كاملًا؛ فالإيقاع الزنجي منبِّه للحواس ومثير للخيال، وهو يجعل من الفرد مجرد عضو في جماعة تتملَّكها كلها النشوة المتدفقة. والحق أن المرء لن يكون مغاليًا إذا قال إن الجنس الزنجي يمثِّل، في عالمنا الحديث، مستودعًا للقوى الحيوية الأصيلة التي خبت جذوتها إلى حدٍّ بعيد في بقية الأجناس، وحسبنا على ذلك دليلان: امتيازهم في الموسيقى الإيقاعية، ولا سيما موسيقى الجاز، وتفوُّقهم المذهل في الألعاب الرياضية التي تقتضي جهدًا وطاقة جسمية جبارة؛ فاقتراب هذا الجنس من المنابع الأصيلة للطبيعة يشهد بأنه لا يزال يختزن من طاقة الحياة قدْرًا كبيرًا، وبأنه أقرب الأجناس البشرية إلى ذلك الينبوع المتدفِّق الذي يشارك به الإنسان في الطبيعة، ويندمج في مجراها النابض بالحياة.
ويمكن القول إن انتشار موسيقى الجاز في كثيرٍ من المجتمعات الغربية الحديثة إنما هو رد فعل على الابتعاد المفرط عن الأصول الحيوية — ذلك الابتعاد الذي حتَّمته حياة الإنسان المدنية، والبيئة الحضرية المصطنعة التي تسود المجتمعات المتقدمة في التصنيع؛ فليس من قبيل المصادفات أن يكون الجاز أوسع انتشارًا في أمثال هذه البيئات. وإذا كان التفسير الشائع لموسيقى الجاز هو أنها موسيقى سهلة، سطحية، خفيفة، تصلح للعامل المرهَق المكدود ليسرِّي بها عن نفسه في وقت فراغه بعد يوم عمل شاق؛ فإن هذا ليس إلا جزءًا من التعليل الكامن؛ إذ إن هذه الموسيقى هي في الوقت نفسه محاولة لتنبيه الحيوية والحس اللذين أصبحا خاملين في إنسان المجتمع الصناعي، وهي رد فعل على المبالغة في المعقولية المنظمة التي تباعد بين الإنسان وبين تلك الجذور الضاربة في أعماق الحياة.
أما في الشعوب الشرقية فإن للحن، إلى جانب الإيقاع، دورًا عظيم الأهمية. وإذا كان من الصعب أن نجمع بين الشعوب العربية والهندية والصينية واليابانية في وحدةٍ واحدة، ونصدِر على موسيقاها حكمًا عامًّا، فإنا نستطيع مع ذلك أن نحكم بأن هذه الموسيقى إيقاعية ولحنية في أساسها، وأنها لا تلجأ إلى عنصر الهارمونية الذي يكاد يكون وقفًا على الموسيقى الغربية منذ أوائل العصر الحديث أو أواخر العصر الوسيط.
وفي كثير من هذه الشعوب الشرقية يرتبط الإيقاع بالشعائر الدينية أوثق الارتباط، كما هي الحال في الهند وفي كثير من بلاد الشرق الأقصى، على حين أنه يرتبط عند بعضها بالرقص، كما هي الحال في الشرق العربي. وعلى حين أن الحركات الجسمية المصاحِبة للإيقاع تتخذ في الحالة الأولى مظهرًا روحيًّا صوفيًّا، فإنها في الحالة الثانية تتخذ مظهرًا جسديًّا واضحًا.
وأخيرًا، ففي الشعوب الغربية يزداد الإيقاع خفاءً وغموضًا، ويندمج اندماجًا وثيقًا بالكل المعقَّد الذي يكوِّنه اللحن والهارمونية. ومن هنا كان اصطباغه بطابعٍ عقلاني يبعُد به عن الحسية. ومع ذلك فإن موسيقِيي الغرب يحاولون، كما قلنا، أن يزيدوا من حيوية موسيقاهم باقتباس الإيقاعات الزنجية، وزيادة تنويع مقاماتها بالاقتراب من المقامات الشرقية، حتى أصبح البحث عن التجديد غايةً في ذاتها عند كثير من الموسيقيين المعاصرين أو أشباه المعاصرين.
•••
وفي وسعنا أن نتناول المسألة السابقة من زاويةٍ أخرى، هي زاوية الأهمية النسبية للإيقاع بين بقية عناصر الموسيقى؛ ذلك لأن الإيقاع يكوِّن مع اللحن، وكذلك مع الهارمونية في الموسيقى الغربية، وحدةً لا تنفصم. وإذا جاز لنا أن نمثِّل الإيقاع من حيث هو حركة حيوية بالخط ذي البُعد الواحد، فإن اللحن يُمثَّل بالمسطح ذي البعدين؛ إذ إن المسافات الصوتية، في ارتفاعها وانخفاضها، هي التي تحدِّد طبيعة اللحن، ومن ثَمَّ كان اللحن يتحدَّد على أساس نغمة القرار من جهة، والنغمة اللحنية التي تبتعد أو تقترب من نغمة القرار من جهة أخرى، وبهذا المعنى نقول إنه ذو بُعدين. أما الهارمونية أو التآلف الصوتي فلها ثلاثة أبعاد؛ لأنها تضيف إلى اللحن عنصر العمق؛ أي تزامن الأصوات المتآلفة وتناغمها في الوقت الواحد. وإذا كان اللحن الإيقاعي يعتمد على القوة الحيوية الدينامية في الإنسان، فإن اللحن يعتمد على حساسيته النفسية، على حين أن التآلف والتوافق يحتاج، بالإضافة إلى العنصرين السابقين، إلى تصوُّر ذهني للتناسُب بين الأصوات؛ أي إن الإيقاع أقرب العناصر الموسيقية إلى الحيوية والجسمية والحياة العضوية، والهارمونية أبعدُها عنها، وأقربها إلى حياة الإنسان الذهنية. الأول مرتبط أوثق الارتباط بالحركة المتوثبة، بينما الثاني — مأخوذًا على حدة — أقرب إلى السكون. أما اللحن فهو في كلا الحالين وسط بين هذا وذاك، وهو على الدوام معتمِد على حساسية الإنسان ومشاعره الوجدانية.
وأخيرًا، فبوسعنا أن نقوم بالمقارنة السابقة من زاوية ثالثة، فنقول إن الأزمنة التي يكون للجسم الإنساني فيها قدْره المعتَرف به هي تلك التي يزدهر فيها الإيقاع. وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى العصر اليوناني، الذي كانت فنونه تقدِّس جسم الإنسان وتصوِّره أبدع تصوير، وتكتشف عناصر الجمال والتوافق في تفاصيله وفي التناسق الذي يؤلِّفه؛ ففي هذا العصر كان للإيقاع المكانة العُليا في الموسيقى، بل يمكن القول إن الإيقاع كان هو الدعامة التي تقوم عليها وحدة الفنون، من موسيقى ورقص ودراما، في العصر اليوناني.
ولكن ظهور المسيحية أدَّى إلى فصم هذه الوحدة؛ إذ إن المسيحية غلَّبت النفس على الجسم، ورفضت الرقص الذي نظرت إليه على أنه فن جسمي ودنيوي، كما قلَّلت من قيمة الدراما بوجه عام، وبذلك قضت على الوحدة التي عرفتها الفنون في العصور القديمة. وأدَّى انتشار القيم الدينية، بعد ظهور المسيحية، إلى تغليب العنصر الأخلاقي على العنصر الجمالي، وتأكيد المضمون على حساب الشكل، والروح على حساب المادة.
ولقد وجدت المسيحية في الموسيقى وسيلةً للتأثير في النفس مباشرةً، دون تصوير مادي، فأخذت تعمل ببطء على أن تجعل منها فنًّا مستقلًّا عن الشعر والرقص، قادرًا على أن ينفذ إلى مجالاتٍ لا تنتمي إلى العالَم المحسوس ولا تعبِّر عنها كلمات اللغة اليومية، وفي نهاية الأمر أدخلت المسيحية الموسيقى في شعائرها وطقوسها، وبذلك اكتشفت أسمى دلالاتها، التي هي دلالة روحية في أساسها؛ فالموسيقى تصل مباشرةً إلى القلب، وأنغامها تبدو كما لو كانت تهبط من السماء، وتنفذ إلى أعماق النفس البشرية، وليس أدل على استعانة المسيحية بها في تحقيق أغراضها الخاصة، من أحد البابوات، وهو القديس جريجوري، قد خُلِّد اسمه في التاريخ بأن أعطى اسمه لأحد أنواع الغناء الشعائري.
وفي القرن الثالث عشر وقع أهم حدث في تاريخ الموسيقى الغربية، وهو إدخال الهارمونية، التي أضفت على الموسيقى بُعدًا جديدًا لم تعرفه في الأزمان السابقة، أو في غير الحضارة الغربية من الحضارات. والواقع أن التناسب كان عكسيًّا، في الفترة التي نتحدث عنها، بين الاهتمام بالإيقاع والاهتمام بالهارمونية؛ فقد ربطت الكنيسة، كما رأينا، بين الإيقاع وبين الجسد والحيوية الحسية (ولم تكن في ذلك مخطئة كل الخطأ)، واتجهت في مقابل ذلك إلى تأكيد العالم الباطن، وعنصر العمق في الإنسان. وهكذا يبدو أن روحانية الكنيسة مسئولة إلى حدٍّ بعيد عن اكتساب الموسيقى الغربية طابعها الهارموني المعروف.
وازداد هذا الاتجاه وضوحًا في العصور الحديثة، التي أُضيف فيها الاهتمام بالعقل إلى الاهتمام بالروح، والتي كوَّن الإنسان لنفسه فيها بيئة أغلبها صناعي، يبتعد بها عن منابع الطبيعة الأصلية، وكان لذلك أثره في الإقلال من ظهور الإيقاع، وزيادة الهارمونية عمقًا وتعقيدًا. وإذا كانت بعض ألوان الموسيقى الحديثة تعود إلى تأكيد الإيقاع، فما ذلك — كما قلنا — إلا محاولة من الإنسان الغربي للتخلُّص من ذهنيته المفرطة، وللرجوع — في لحظاتٍ قصار — إلى تلك المنابع الأولى التي كادت حضارة الإنسان الحديث أن تنساها.
ولا يعني عدم ظهور الإيقاع في هذه الموسيقى الحديثة أنه أصبح فيها عنصرًا ضئيل الشأن، بل إنه قد تحوَّل فيها إلى «إيقاعٍ مضمَر» — إن جاز التعبير — بعد أن كان ظاهرًا صريحًا، بل صارخًا في بعض الأحيان؛ فما زال الإيقاع ينظِّم حركة الموسيقى خلال الزمان، وما زال هو والهارمونية يكوِّنان جسد الموسيقى وروحها، أو عنصر الحركة وعنصر السكون فيها. ومن خلال التآلف بين هذين العنصرين، الاستاتيكي والديناميكي، المادي والروحي، تتقدَّم الموسيقى الغربية الحديثة وتغزو ميدانًا بعد ميدان، وتكشف عن أعماقٍ مجهولة في نفس الإنسان.
•••
بالإيقاع إذن تربطنا الموسيقى بالمنابع العميقة للحياة، وفي هذه الحقيقة ربما كان يكمن سرُّ ذلك التأثير الذي تمارسه الموسيقى في نفوسنا، بل في أجسامنا بدورها. أليس من الجائز أن يكون إيقاع الموسيقى حلقةَ اتصال بيننا وبين ذلك الإيقاع الكامن في أعماق الطبيعة والكون؟ أليس ذلك النبض الذي يسري في أرواحنا وأبداننا بفضل الإيقاع الموسيقي، انعكاسًا لنبض الحياة ذاتها في داخلنا؟ تلك على أية حال أسئلة يكفي أن يطرحها المرء دون أن يحاول تقديم إجابة قاطعة عنها؛ لأن الأصول الحيوية للفن ما زالت بعيدة عن متناول البحث العلمي الدقيق. وعلى أية حال فحسبنا أن نكون قد أكَّدنا الارتباط الوثيق بين الإيقاع في الموسيقى وإيقاع الحياة، وقدَّمنا لمحة عن ذلك النبض الخفي الذي يسري في الكائن الحي فيحركه ويبعث فيه قوة متجددة، ويسري في النفس البشرية فتستجيب له بكل مَلَكَاتها، وتتخذ استجابتها شكل مجموعة رائعة من نواتج الروح، ربما كانت أسمى ما استطاع به الإنسان أن يحقِّق لنفسه مكانة ترتفع به فوق سائر الكائنات.