مستقبل الموسيقى في مصر١
بلادنا تشهد اليوم نهضة فنية لا شك فيها. والمتتبِّع للجهود التي تُبذل في مختلف ميادين الفن يشعر لأول وهلة بذلك التحوُّل الهائل الذي طرأ على حياتنا الفنية، والذي نحاول به أن نعوِّض ما فاتنا خلال عهود الاستبداد المظلمة، ونلحق بركب الإنسانية في مجالٍ من أشرف مجالاتها.
ولست ممن يزعمون أن تجربتنا الفنية قد نضجت، وأننا اليوم نستطيع أن نباهي بفننا سائر أمم الأرض، ونَعُدُّ أنفسنا أندادًا لها جميعًا، كلا … فلا زال أمامنا الكثير من الجهد ومن المحاولات التي قد تنجح حينًا وتخفق أحيانًا. وليس ذلك راجعًا إلى قصور طبيعي فينا، أو إلى تفوُّق فطري في غيرنا، بل هو راجع إلى طبيعة الظروف التي أحاطت بتطورنا، وبتطورهم … فالعصور الحديثة في أمم الغرب بدأت منذ ما يقرب من خمسمائة عام، والعصور الحديثة في بلادنا الشرقية بدأت منذ ما يقرب من مائة عام، بل لا زال فينا مَن لم يتجاوز حتى اليوم مرحلة العصور الوسطى في تفكيره وفي نظرته إلى الحياة.
ومع ذلك فالفن عندنا يخطو — كما قلت — خطوات واسعة إلى الأمام، وشخصيتنا المستقلة قد بدأت تظهر في كثير من الفنون، وأصبح في وسعنا أن نتقدَّم بإنتاجنا إلى شعوب الأرض المستنيرة لنقول لها: هذه لوحة مصرية، أو هذا تمثال مصري، أو هذه مسرحية مصرية.
ولكنَّ فنًّا واحدًا تخلَّف عن الركْب، وظل مستواه في انحدار مستمر، بل متزايد، حتى اليوم، ولم ننتج فيه أي إنتاج نستطيع أن نفخر به، أو أن نَعُدُّه معبِّرًا عن مشاعرنا وأحاسيسنا … ذلك هو الفن الموسيقي.
أجل، فالموسيقى في بلادنا في محنة … وهذه المحنة تحسُّ بها قلة واعية متفتحة، ولكنها تكتم إحساسها هذا، وتكتفي بإشباع نهمِها إلى هذا الفن الرفيع من إنتاج عباقرة الأمم الأخرى، وتنفصل انفصالًا شبه تام عن متابعة أحوال هذا الفن في مصر.
والحق أن لهذه القلة الواعية بعض العذر في انفصالها وانعزالها هذا؛ فقد ابتُلينا في بلادنا بجماعةٍ من المنتمين إلى المجال الفني، نصَّب أفرادها أنفسهم مدافعين عن قضية الفن المصري، فلا يكاد يرتفع صوتٌ بالنقد، وبالدعوة إلى مزيد من النهوض، وإلى تجاوز الأوضاع البالية التي تسود بيننا، حتى يهب هؤلاء مدافعين عن كلِّ ما هو سائد ليبقى كما هو سائدًا، ومهاجمين للناقد بأساليبَ لها مظهر برَّاق، ولكنها في حقيقتها زائفة خدَّاعة، كالقول بأن الناقد يتأثَّر بالفن «الأجنبي»، وأن «وطنيتنا» تحتم علينا ألا نأخذ من الأساليب «الدخيلة» شيئًا؛ لهذا آثرت القلة الواعية الصمت، واكتفت بالسير في الطريق الذي اقتنعت بأنه هو الصحيح، تاركة الباقين على ما هم عليه.
ولكن من المحال أن تظل الأمور على هذا النحو، وأن يدوم هذا الازدواج الحاد بين أقلية واعية وأغلبية غير واعية، بل هذه الثنائية ذاتها أكبر خطر يصيب قضية الفن، وقضية الثقافة بوجه عام؛ فما قامت نهضة حقيقية إلا كانت المشاركة فيها عامة، وكل اتجاه أرستقراطي في الفن وفي الثقافة قد يأتي — من آنٍ لآخر — بإنتاج فردي رفيع، ولكنه لا يمكن أن يُسمَّى «نهضة» بالمعنى الصحيح؛ إذ إن كل نهضة لا بُدَّ أن تكون إنسانية، يشارك فيها أكبر قدْر ممكن من الناس. ومن هنا كانت الضرورة تقضي بالدعوة إلى محو هذه الثنائية، لا بأن تَقْبل الأقلية الواعية الأوضاع التي خُدِعت بها الأكثرية، بل بأن تنبهها إلى ما في هذه الأوضاع من أخطاء، وتشاركها في هذا السعي إلى النهوض على أسسٍ سليمة.
فما هي مظاهر محنة الموسيقى في مصر؟
للموسيقى — بوجه عام — لحظات ثلاث: لحظة التأليف، وذلك بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وهو يشمل تأليف الألحان وتأليف الكلمات معًا؛ ولحظة الأداء، وهو يشمل الأداء الصوتي في الغناء، والعزف على الآلات؛ ولحظة الاستماع. فالعلاقة الموسيقية إذن ثلاثية: بين المؤلف والقائم بالأداء والمستمع؛ فلنتحدث عن كل عنصر من عناصر هذه العلاقة على حدة.
«أما التأليف الموسيقي عندنا» فلا شك في انحدار مستواه، وأستطيع أن أقول مطمئنًّا إن الأكثرية من مؤلفينا الموسيقيين غير مثقفة فنيًّا. وقد يبدو هذا القول غريبًا، ولكن يكفي أن يدرك القارئ أن «العالِم» من مشاهير الملحنين هو مَن يعرف التدوين الموسيقي، وقراءة المدوَّنات (النوتة)، مع أن هذه من الأوليات التي يجيدها تلاميذ المدارس الابتدائية في البلاد المتقدمة! أمَّا الباقون، وهم كثيرون، فحتى هذه الأوَّليات لا يعرفونها.
ومن المؤسف حقًّا أن جهود هؤلاء المؤلفين الموسيقيين جميعًا لا تنصرف إلى التزوُّد بالعلم الصحيح، وحسبهم تلك الثروات الضخمة التي تنهال عليهم، ففيمَ الحاجة إلى العلم إذن، ما دامت الغاية قد تحقَّقت؟
قد يكون هذا الحكم قاسيًا، وقد تكون لهجته عنيفة، ولكني أقولها صراحة: إننا في حاجة إلى جيلٍ آخر من الموسيقيين، نحن في حاجة إلى جيلٍ من الموسيقيين «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، يقضي الواحد منهم سنوات طويلة من عمره في دراسةٍ شاقة مضنية، يجني ثمرتها في النهاية، ولا يتوقَّف عن تحصيل المزيد من العلم طوال حياته، مهما أصاب من نجاح … فالفنون اليوم لم تَعُد تلقائية، ولم تَعُد الفطرة السليمة تجدي فتيلًا إن لم تصحبها دراسة عميقة. والعلم قد تغلغل في كل نواحي حياة الإنسان، حتى في نتاج خياله … فمَن من موسيقيينا الحاليين أدرك ذلك؟ ومَن منهم عمل على تحقيق هذا الهدف؟
ويوم يظهر جيلٌ من الموسيقيين الدارسين الذين يستغلون الإمكانيات الواسعة للصوت إلى أقصى حدودها، يومئذٍ ستظهر الألحان العميقة المعبِّرة، وتتخلَّص الموسيقى من إسار الأغنية التي ظلت تخنقها وتكبِّلها بقيودها إلى اليوم، فتصبح فنًّا مستقلًّا يستطيع أن يقف على قدميه، لتُعبِّر أصواته وحدها عن شتَّى المشاعر والأحاسيس.
«أما عيوب الأداء في موسيقانا» فلا تقلُّ أبدًا عن عيوب التأليف؛ إذ إن الأمرين في الحق مرتبطان. ويوم توجد الموسيقى الرفيعة، فلا بُدَّ أن يرتفع الأداء إلى مستواها، أما حين تمضي الأمور بلا رقيب، وحين تنعدم المسئولية فستعم هذه الصفة الجميع!
فالعزف — أولًا — لم يبلغ أي مستوًى رفيع، ونستطيع أن نلمس ذلك بوضوح في الآلات المشتركة بيننا وبين سائر البلدان، مثل الكمان؛ فالفارق هائل بين عازفينا والعازفين العالميين، وعلى مَن ينكر ذلك أن يستمع إلى تسجيلاتهم، فإنه سيدرك عندئذٍ قيمة فضيلة التواضع! هذا عن العزف المنفرد، أما العزف الجماعي في الفِرَق الكبيرة، فلا شك أن هذا الفن لا زال عندنا في مراحله الأولى، وليس لدينا إلا القليلون مَن نستطيع أن نطمئن إلى تخصصهم فيه بالقدْر الكافي. وقد اعترف المسئولون عندنا بهذه الحقيقة لحسن الحظ، وشرعوا يسلكون الطريق الصحيح، طريق استقدام الخبراء من البلدان الأخرى ليعينونا فيما لا نحسن، وإيفاد البعثات إلى البلاد المتقدمة في هذا الميدان.
«أما الأداء الصوتي فأمره أعجب»: إن الأصوات في الغناء الشائع بيننا محدودة إلى أقصى حد، ومن المؤسف حقًّا أن يصف الكثيرون منا الغناء الغربي مثلًا بأنه «صراخ»، مع أن كلَّ ما في الأمر من فارق هو أن هذا «الصراخ» يستنفد كل إمكانيات الحنجرة البشرية، ويصل بها إلى آفاقٍ تعجز عن الوصول إليها الأصوات التي تردِّد أغانينا، والتي تكاد تنحصر كلها في طبقة «الكلام» المعتادة. ومعظم أصوات المغنين عندنا «ميكروفونية»؛ فليس فيها من القوة الطبيعية ما يمكِّنها من الوصول إلى الآذان إلا عن طريق مكبر الصوت. وأخيرًا فالغناء عندنا ارتجالي إلى حد بعيد، مع أن الصوت البشري قابل للتدريب الذي يضفي عليه مزيدًا من المرونة، بل القوة والامتداد، وهنا تعود ظاهرة الافتقار إلى الدراسة والعِلم مرة أخرى إلى الظهور!
•••
«ومشكلة الاستماع إلى الموسيقى» تستحق منَّا الانتباه بحق، فما حالتنا الذهنية حين نستمع إلى الموسيقى المصرية؟ إننا نستمع إليها ونحن نتسامر، أو خلال وجبات الطعام، أو قراءة الصحف، أو الحديث اليومي المتبادل … فما دلالة ذلك؟ المعنى الوحيد الذي تُفسَّر به هذه الظاهرة هو أن الفن الموسيقي لم يتغلغل فينا إلى الحد الذي يجعلنا نتفرغ له، ونتهيأ لتلقيه، فننصرف عن غيره من الشواغل. ولنا العذر في ذلك، فما بلغت الموسيقى التي نستمع إليها من العمق ما يجعلها جديرة بالاحترام والإنصات الخاشع، بل إن ضحالتها لا تترك لها في نفوسنا إلا مكانًا ضئيلًا، فلا تشغل من انتباهنا إلا قدْرًا، والقدْر الباقي تشغله معها شئون الحياة اليومية المعتادة!
على أن الموسيقى قادرة بحق على أن تشغل كل انتباهنا، وتملأ كل فراغات أنفسنا لو قُدِّمت إلينا في صورتها الكاملة. وإذن فالمستمع — المصري والشرقي بوجه عام — يفتقر إلى التجرِبة الموسيقية بكل أبعادها؛ أي إنه عاجز عن أن يتذوق فنًّا رفيعًا تذوقًا كاملًا، وسيظل هذا الميدان الضخم مجهولًا لديه حتى يُقدَّم إليه الإنتاج الذي يدفعه إلى أن يُحسِن الاستماع إليه.
ولست ممن يُحسِنون كتابة الأوصاف الشعرية والتعبير عن تفصيلاتها. ولكني لا أتوانى عن القول بأن للموسيقى رسالةً أخرى غير التسلية العابرة، وظيفة أخرى غير قتل الوقت، ومهمة أخرى غير الترويح عن النفس … إنها فن كامل تفيد منه النفس، وتتلقى منه معرفة تضيء طريق حياتنا، وهو يثير فينا مشاعر أكمل وأوسع بكثير من شعور «الطرب» الرخيص. لكن هذه التجرِبة العميقة التي يحس المرء خلالها بالخشوع غريبة عنا تمامًا؛ إذ ترتبط الموسيقى في أذهاننا على الدوام بصورة الإنتاج الهزيل الذي يُقدَّم إلينا، والذي يُمارَس في تجرِبة هزيلة مثله.
•••
وبعد، فقد يبدو للقارئ أنني تحدثت عن حاضر الموسيقى لا عن مستقبلها، ولكن لا شك في أن كل بحث منطقي للمستقبل يجب أن يُستمد من الحاضر لئلا يكون رجمًا بالغيب.
والكلمة التي ألخِّص فيها مستقبل الموسيقى في مصر، والتي يتوقف عليها هذا المستقبل بحق، هي «العلم». أجل، فلتكن دعوتنا من أجل وضع دعائم نهضة موسيقية في بلادنا، هي: المزيد من العلم! فبالعلم وحده يُقضى على الأدعياء، وتختفي كل المهازل الفنية التي تشيع في موسيقانا، من سطوٍ باسم الاقتباس، واستجداء لمعونة الغير باسم «التوزيع الموسيقي»، وجهل باسم «الفطرة السليمة» … وبالعلم وحده يظهر العازف المجيد، والمغني البارع، ومن ثَمَّ المستمع الواعي.
إننا نعيش في عصر العلم، وهذا الحكم العام ينطبق على كل مجالات الحياة البشرية، والفن ليس استثناءً من هذه القاعدة، بل لقد أصبح في أيامنا هذه أقوى دليل على صحَّتها.