محنة الموسيقى الغربية المعاصرة١
ما زالت الأعمال الموسيقية الكبرى الماضية تحتل الجزء الأكبر من برامج الحفلات الموسيقية الغربية، ويتكرَّر عزفها إلى الحد الذي يؤدي إلى الإضرار بها أحيانًا. ولكن إذا شكا المستمع من هذا التكرار، فلن يجد في الموسيقى المعاصرة ما يَحُلُّ محل الأعمال الماضية المجيدة. وهكذا يظل المستمع في معظم الأحيان مفتقرًا إلى شيء يجمع بين صفتي الجدة والجودة معًا، ويتعين عليه أن يقوم باختيارٍ غير حر يضطر فيه آسفًا إلى التضحية بإحدى هاتين الصفتين.
ذلك لأن الموسيقى الغربية المعاصرة التي تُقدَّم إلى المستمعين على أنها مجددة، لا معنى لها، في معظم الأحيان، بالنسبة إلى المستمعين الذين تُوجَّه إليهم هذه الموسيقى. والذي يحدث عادة هو أن هؤلاء يصفقون لها بعد انتهائها في أدب، ولكن سرعان ما ينسون عنها كل شيء، ولا يبقى في أذهانهم عنها إلا ما تردِّده فئة قليلة من دعاتها المتحمسين، الذين لا يفلحون أبدًا في إقناع الأغلبية الساحقة بوجهة نظرهم. وعلى قدْر ما يزداد اليوم عدد أولئك الذين يشتغلون بالتأليف الموسيقي، وتسود مئات الألوف من الصفحات ذات الأسطر الخماسية، فإن الإنتاج نفسه هزيل، وتكون نتيجة هذا الانتشار الكمي انحدارًا كيفيًّا يبدو أمرًا لا مفر منه.
فما هي علة هذا الوضع السائد في الموسيقى المعاصرة؟ إن السبب الأول هو تزايد انعزال الموسيقي «المجدِّد» عن الجمهور؛ فالمجدِّدون، من أصحاب التجارِب والمغامرات غير المألوفة في عالم النغم، يشعرون — صوابًا أو خطأ — بأنهم أقلية مضطهدة في مجتمعٍ لا يقدِّرهم، وينطقون لغة لا تتذوقها آذان مستمعيهم، حتى المثقفين منهم. وكلما اشتد لديهم هذا الشعور بالاضطهاد، دفعهم إلى المزيد من الإغراب في التأليف، ظانين أن افتقار الناس إلى فهْم أعمالهم دليلٌ على عظمة هذه الأعمال؛ إذ إن كبار الفنانين في الماضي كانوا، حسب اعتقادهم، لا يَلقَون عادةً من الجمهور إلا التجاهل (وهي قضية باطلة)، على حين أن الأجيال المقبلة هي وحدها التي ستقدِّر هؤلاء المجددين حق قدْرهم (وهو أمر بعيد الاحتمال).
وربما كان من أسباب هذا التباعُد بين الموسيقي المعاصر وبين جمهوره، تلك النظرة التقديسية التي ينظر الناس بها إلى النواحي الفنية أو التكنيكية في العمل الموسيقي، وهي نواحٍ تبدو سرًّا غامضًا لا يتقنه إلا أربابه. وهكذا ترى المثقفين أنفسهم لا يعلمون أن هذه النواحي التكنيكية يمكن أن تُلقَّن لأي شخص يبدي الاهتمام والاجتهاد الكافي، وأن تعلُّمها أسهل قطعًا من تعلُّم الرياضيات، ولا يقل سهولة عن تعلُّم قواعد النحو. وهذا أمر يضفي على مهنة التأليف الموسيقي هالة من القداسة ترفعها فوق مستوى النقد. وعلى حين أن التجديد في ميدان الأدب أمر لا يصعب على المثقفين عامةً تقديره، فإن التجديد في ميدان التأليف الموسيقي أمرٌ يشعر معظم المثقفين بنوعٍ من العجز إزاءه، ولا يدَّعون لأنفسهم القدرة على الحكم عليه. وهكذا يُنظر إلى المؤلفين الموسيقيين مهما فعلوا — نظرةً فيها شيء من القداسة، ويستغل هؤلاء هذا الموقف فيجعلون من أنفسهم ما يشبه جماعة سرية لا تحرص إلا على الاحتفاظ بمركزها الخاص، دون أن تعبأ على الإطلاق بتقديم شيء له قيمة لبقية البشر.
وهكذا أصبح المؤلِّف الموسيقي المعاصر يحسُّ بقدْر من الحرية يتيح له إلغاء كل القواعد التقليدية لمهنته، ووضع قواعدَ لنفسه بنفسه، وهو يرفض أن يدخل في منافسة مع كبار الفنانين السابقين، بل إنه يقضي جزءًا كبيرًا من حياته محاولًا إقناع الآخرين بأن هؤلاء الأخيرين لا يستحقون ما نالوه من الشهرة، أو أن شهرتهم ينبغي أن تسري على عصورهم وحدها، لا على عصرنا نحن. أما المستمع السيئ الحظ، فعليه أن يقبل هذه الأحكام صاغرًا؛ إذ إن ذلك الذي يصدرها ينطق لغة تعلو على فهْمه؛ فإذا ما شاء المستمع أن يثبت أنه من المثقفين حقًّا، أو أنه من «الطليعة»، فعليه أن يستمع بخشوع، ويصفِّق بحماسة سواء أكان يفهم أم لا يفهم، وعليه أن يكتم آراءه الحقيقية ولا يُسرُّ بها إلى أحد، حتى لا يُتَّهم بالجهل والتخلُّف. ونتيجة هذا كله أن الموسيقى الغربية المعاصرة تمر بفترةٍ حالكة الظلام في تاريخها، فترة مليئة بالأقزام حافلة بالتفاهة، حتى ليبلغ التشاؤم عند المرء حدًّا يتوهم معه أحيانًا أن عهد العمالقة قد انتهى إلى غير رجعة، وأن الموسيقى نفسها، بوصفها سيدة الفنون، توشك أن تنزل عن عرشها الرفيع في ذلك المجتمع.
ومن المعروف أن الموسيقي الألماني «أرنولد شونبرج» هو الذي فتح باب تلك الاتجاهات التي تُعَد الموسيقى المعاصرة امتدادًا لها، وربما لم يكن العالم في ذلك الوقت يدرك تمامًا مدى خطورة الاتجاه الذي بدأه شونبرج؛ فقد كان يعاصره مجموعة من أواخر الشخصيات الضخمة التي جمعت بين التجديد واحترام التقاليد، مثل ريشارد شتراوس، وسيبيليوس، ومالر، وبوتشيني، ومع ذلك فسرعان ما تعلَّق بشونبرج عدد من صغار المؤلفين الموسيقيين، الذين رأَوا في نظرياته الجديدة بشائر المستقبل في الفن الموسيقي، فشجَّعه ذلك على المضي في اتجاهه الجديد، ووضع تفاصيل نظامه الانقلابي في الموسيقى. وهكذا ظهرت «الطريقة الاثنا عشرية»، أو طريقة «الصف النغمي» أو «الطريقة التسلسلية». كان هذا الانقلاب يعني القضاء على اللحن النغمي بصفاته ومسافاته المعروفة (ومن هنا سُمِّي أيضًا بالنظام اللانغمي)، مع أن الموسيقى بمعناها الكلاسيكي إنما بُنيت على هذا التمييز.
ومن المؤكَّد أن من أسباب ترحيب الموسيقيين بهذا الاتجاه الجديد، أنه ألغى أيضًا الحد الفاصل بين العبقرية والتفاهة؛ فحين يصبح التأليف الموسيقي دراسة تجريبية أشبه بالتفاعلات الكيميائية التي تتم في أنابيب الاختبار، فعندئذٍ يستطيع الفنان القزم أن يتوارى خلف ستار «التجديد»، ويداري هزاله بالدخول في سباق مع «الطليعة» من الفنانين المخالفين من أمثاله، وهو سباق يتفوَّق فيه أشدهم إغرابًا، مهما كانت القيمة الذاتية لأعماله. وهكذا لم يكن النظام الجديد يقتضي موهبة أو عبقرية، بل كان يسفر عن نواتج لا لون لها ولا طعم ولا قوام، نواتج لا يستطيع السامع إليها — إذا استخدم ذوقه وحده — أن يحدِّد إن كان مؤلِّفها يصلح موسيقيًّا أم يصلح حدادًا!
ووجد النظام الجديد أنصارًا متحمسين له، كان لبعضهم شخصيته المستقلة، مثل «أنتون فيبرن» و«ألبان برج» و«باول هندمت» و«بيلا بارتوك»، غير أن هذه الشخصيات الهامة كانت تتميز بعدم التزامها النظام الجديد على الدوام؛ فهم لم يكونوا أتباعًا مخلصين تمامًا للنظام اللانغمي في التأليف. ولكن الغالبية الكبرى من أنصار هذا النظام الجديد كانوا أولئك الذين وجدوه أسهل وأيسر، واتخذوا منه ملجأً يلوذون به من ضعفهم وافتقارهم إلى الموهبة.
وظهرت في فرنسا مجموعة أخرى من الموسيقيين الذين أحرزوا شهرة دولية كبيرة، والذين كان كل همِّهم هو تحطيم التراث الألماني والإيطالي في التأليف الموسيقي، وهو تراث نَدِين له بأعمال رائعة ستظل لها قيمتها الباقية. وقد اشتهرت من هؤلاء الموسيقيين فئة أُطلق عليها اسم «الستة»، أبرزهم «داريوس ميلو» و«هونيجر» و«بولانك»، وانضم إليهم، في باريس، المهاجر الروسي الكبير «إيجور سترافنسكي». وكان هدف هذا الاتجاه هو القضاء على كل بقايا العصر الرومانتيكي، والتخلُّص بأي ثمن من تأثير ريشارد فاجنر، الذي كانوا يَعُدُّونه عدوهم الكبر. ووجد هؤلاء كُتَّابًا يتحدثون باسمهم، منهم «أندريه جِيد» و«جان كوكتو»، اللذان عدَّا نفسيهما داعيين أدبيين للاتجاه الفرنسي الجديد في الموسيقى. ولكن لنسأل أنفسنا: ما الذي تبقَّى لمؤلَّفات هؤلاء «الستة» من قيمةٍ في يومنا هذا؟ لقد كانت هذه المؤلَّفات عصرية حقًّا في وقتها، ولكن هل بقي منها اليوم شيء يستحق الذكر؟ إن العالم قد أوشك على نسيانهم وهم أحياء، فهل ستذكر لهم الأجيال التالية شيئًا؟
أما إيجور سترافنسكي فهو شخصية ضخمة تقف بمعزل عن الباقين. وهو أستاذ لا شك في فنه، غير أن لديه قدرة زئبقية على التقلُّب مع كل أسلوب جديد، وعلى تغيير جلْده كلما اقتضى ذوق العصر لونًا جديدًا. على أن أعظم أعماله، في رأي الكثير من النقاد، هي تلك التي تمَّت قبل أخذه بالطريقة التسلسلية في التأليف، حتى ليرى البعض أن دوره في تاريخ الموسيقى قد توقَّف عند الأعوام العشرين الأُوَل من هذا القرن، رغم أنه ما زال حيًّا إلى اليوم.
فإلى أين يؤدي بنا هذا كله؟ الأمر الذي لا شك فيه أن تغيير الأسلوب من أجل التغيير فحسب إنما هو هدف عقيم لا جدوى منه، فضلًا عن أنه يبعث الملل السريع في النفوس، وأكبر آفة يمكن أن تُصاب بها الموسيقى هي أن تغدو مملة.
ولقد حاول البعض تبرير هذه الموسيقى بأنها «تجريبية وتقدمية»، وهما لفظان لهما وقْع واحترام خاص في النفوس، ولكن إذا كانت التجريبية صفةً مستحبَّةً في العلم، وكانت التقدمية صفة مرغوبة في السياسة، فليس معنى ذلك أن الصفتين مطلوبتان دائمًا في الفن؛ فالأدب مثلًا — مع كل ما طرأ على مدارسه من تغيُّر — لم يُحدِث انقلابًا في أداته، وهي اللغة، بنفس المعنى الذي تُعَدُّ فيه الموسيقى المعاصرة انقلابية؛ إذ إن طريقة السرد قد لا تختلف في كتاب أدبي حديث عما كانت عليه أيام اليونانيين، هذا إذا استثنينا بعض اتجاهات «الطليعة» التي لا تلقى اهتمامًا من النقاد، والتي لا تكون المجرى الرئيسي للأدب المعاصر على الإطلاق؛ فالأدب، في عمومه، ما زال فنًّا صحيحًا، سليمًا، لا يقتصر على نقل تجديدات في «الصنعة» إلى القراء، وإنما ينقل معاني عميقة إلى جمهور كبير يقدِّره ويعرف كيف يستوعبه ويتذوقه. ورغم أن أداته، وهي اللغة، قديمةٌ قِدَم الإنسانية، وتراثها لا يتغيَّر إلا ببطء شديد، فإن الأدب يشق طريقه بنجاح دون حاجة إلى انقلابات أو إلى «تجارِب». وللموسيقى أيضًا تراثها، ولغتها الخاصة التي يمكن أن تؤدي نفس وظيفة اللغة في الأدب. ورغم كل ما يُبذل من محاولات للقضاء على هذا التراث، فقد أخذ الفنانون يزدادون إدراكًا لهذه الحقيقة الهامة، وهي أن من الخطأ القول بوجود طريقة جديدة تمامًا لكتابة الموسيقى، بل إن عددًا من أكبر الموسيقيين العالميين في الوقت الحاضر يشغلون أنفسهم بمحاولة إعادة كشف هذا التراث، ويَلقَون من جماهيرهم استجابة صادقة لجهودهم هذه. هؤلاء الموسيقيون لا يخشون منافسة التراث الماضي، ولا يُحجِمون عن تأليفٍ موسيقي يقبل المقارنة مع الأعمال الكبرى في هذا التراث.
- الأول: أن عددًا من أكبر الموسيقيين العالميين، في العالم الغربي، لا يؤمن بالتجديدات المتطرفة ويحاربها بقوة وعن وعي، ويمتنع عمدًا عن عزفها في كل حفلٍ يشرف عليه، ولا يكفُّ في كل مناسبة عن الحمْلة عليها ووصفها بأنها دجل واحتيال. ويكفينا أن نذكر في هذا الصدد اسمَي «بابلو كازالس» و«برونوفالتر» (قبل وفاة هذا الأخير)، لندرك أنَّ لهذا الرأي أنصارًا بين عمالقة الفن المعاصر. هؤلاء الفنانون يقومون، كلٌّ في مجاله الخاص، بنوعٍ من الرقابة الفنية لا يختلف كثيرًا عن تلك التي تُمارَس ضد التجديد المتطرف في بعض البلدان، ومع ذلك فإن أحدًا لا يشك في إخلاصهم للفن ومناصرتهم لحرية الفنان.
- والأمر الثاني: أن الموسيقى «المباحة» في هذه الحالة ليست تقليدية على الإطلاق؛ ففيها عناصر تجديدية لا شك فيها، وهي قطعًا تختلف اختلافًا كبيرًا عن الموسيقى الرومانتيكية التي شاعت في القرن التاسع عشر وامتدت، في حالات قليلة، إلى أوائل القرن العشرين. وبعبارة أخرى فالتجديد هنا لا يُحارَب لذاته، وإنما يرحَّب به إذا امتزج بالتراث الموسيقي الأصيل ليكوِّن معه مُركَّبًا ذا معنًى … أما إذا أصبح غايةً في ذاته، وإذا تحوَّل إلى تجارِب صوتية لا يُقصد منها إلا صك الآذان بكل ما هو غريب من الأصوات، فعندئذٍ يصبح الاعتراف به أمرًا يثير الشك والتساؤل.
- وأخيرًا: فالعبرة، كما يقولون، بالنتيجة. والنتيجة في حالة ترك الحبل على الغارب هي التخبط والتدهور والأصوات المنكَرة، وفي حالة وضع بعض الحدود والقيود على الجموح المتطرف هي التقدُّم الذي لا ينكره أي شخص له قدْر من الثقافة الموسيقية في العالم بأسره.
ولعل هذا كفيل بأن يثير في الأذهان الحاجة إلى تعديل بعض المفهومات الشائعة لمعاني الحرية والتقييد في الفن، عندما يثبت عمليًّا أن الحرية قد أدَّت إلى التدهور. وإذا كان من المسلَّم به أن التقييد، عندما يتطرف، يصل إلى حد خنق الفنان، وبذلك تكون له مساوئه المؤكدة، فإن المسألة التي تؤدي محنة الموسيقى الغربية المعاصرة إلى إثارتها بكل وضوح، هي أن الحرية المتطرفة قد تكون لها مساوئها أيضًا — وهذه مسألة تُعَدُّ هذه المحنة ذاتها مظهرًا عمليًّا ملموسًا لها.