الفصل الأول
فوق قوس قزح
في يناير ١٩٢٥، عاد ملَّاح البحرية الأمريكية ألفين
بيترسون إلى داخل المنطاد الآلي وأدرك أن خدَّيه وذقنه
وأصابعه قد أصيبت بقضمة الصقيع.
1 لم يلحظ بيترسون هذا من قبل؛ لأنه كان
مشغولًا للغاية حيث كان واقفًا أعلى المنطاد المحلِّق
على ارتفاع ٢٠٠ متر (٦٥٠ قدمًا)، ليدير بثباتٍ كاميرا
تصوير أفلام لتصوير أول فيلم عن كسوف الشمس. كان
المنطاد «يو إس إس لوس أنجلوس» أكبر منطاد آلي على
الإطلاق، وقد صُنع في ألمانيا ضمن مجموعة التعويضات
الخاصة بالحرب العالمية الأولى. واستخدمه العلماء في
هذه الرحلة الخاصة. أسفل المنطاد «يو إس إس لوس أنجلوس»
بكثير، وقفت مجموعات صغيرة من ممثلي شركة إديسون على
أسطح المباني السكنية في مانهاتن.
2 كانوا يرتدون معاطف طويلة وقبعات فيدورا،
ووجوههم جامدة كالحجارة من شدة التركيز، وكأنهم يترقبون
حدوث أمر جلل. في كل مجموعة، رصد شخص واحد الكسوف ولاحظ
الدرجة التي حجبَ بها القمرُ الشمسَ، وما إذا كانت
الحجب الكلي الكامل قد تحقَّق. وكفحص ثانوي، كان موظفٌ
آخر يراقب الأرض لتحديد ما إذا كانوا يقفون في ظل القمر
أم لا. وفي الشوارع بالأسفل، كان علماء الفلك الهواة
وتلاميذ المدارس يملئون استبياناتٍ توضح بالتفصيل ما
يرونه.
3 وقد أُنفقت موارد هائلة لرصد هذا الكسوف،
بدءًا من استئجار مركبات الجيش وحتى تجنيد عامة الناس
للعمل متطوعين في خدمة البحث العلمي. وقد نُظِّمت هذه
المشاركة الواسعة النطاق لتحسين نماذج حركة القمر،
وليشهد أكبر عدد ممكن ذلك الجزء من الشمس الذي لا يظهر
إلا أثناء الكسوف. أثناء تحرك القمر أمام قرص الشمس،
كان هناك شخص واحد يقف فوق المنطاد الآلي وكان بذلك
أقرب شخص إلى الشمس. وقفَ ألفين بيترسون وحيدًا في
الظلام ليكون بذلك أفضل مَن في مقدوره رؤية الطبقة
الخارجية للشمس، التي تُسمى بالإكليل، وهي تُومض في
الأفق. عادةً ما يكون الإكليل (وهي كلمة يعادلها في
اللغة الإنجليزية كلمة
Corona المشتقة من
الكلمة اللاتينية
Crown
بمعنى «تاج»)، خفيًّا لأن القرص المركزي للشمس يفوقه
سطوعًا بفارق كبير. وقد أشارت حالات الكسوف السابقة إلى
أن الإكليل يحتوي على عنصر كيميائي جديد يسمى
الكورونيوم،
4 وقد أتاحَ كسوف عام ١٩٢٥ الفرصة لدراسته
باستفاضة أكثر. ومع ذلك، إذا فحصت النسخة المدمجة من
الجدول الدوري في القرن الحادي والعشرين، فستلاحظ أنه
لا يتضمن عنصر الكورونيوم. وهنا سيدور في ذهنك السؤال
التالي: ماذا حدث؟
كسوف الشمس واكتشافاته
لمشاهدة الكسوف الكلي للشمس، يجب أن يكون القمر
في المكان المناسب بين الأرض والشمس وفقًا للراصد.
يميل مستوى مدار القمر (وهو المسار الذي يمر به
القمر أثناء دورانه حول الأرض) حوالي ٥ درجات
مقارنة بمدار الشمس، وهو الاسم الذي نطلقه على
مستوى مدار الأرض حول الشمس. فلو كان أحدهما في
محاذاة الآخر، لكان بإمكان أي شخص على الأرض رصد
حدوث الكسوف الكلي للشمس مرة كل شهر. ولكن في
الواقع لا يمر القمر عبر مستوى مدار الأرض حول
الشمس، عند وقوعه بينهما، إلا مرتَين في السنة فقط.
وثمة عامل آخر يزيد الأمور تعقيدًا وهو مكان وجود
القمر في مداره، حيث إن مداره إهليلجي وليس
دائريًّا. ولتخيُّل ذلك، حاول مَدَّ إبهامك والنظر
إليه بعين واحدة مع غلق الأخرى. عندما تحرك إبهامك
بعيدًا عنك، فإنه يحجب مساحة أصغر من الخلفية.
وبالمثل، إذا كان القمر في أبعد نقطة من مداره عن
الأرض أثناء تحركه أمام الشمس، فسيظهر القمر صغيرًا
جدًّا، وبذلك لن يحدث كسوف كلي وتظهر خلف القمر
حلقة من النار: وهذا ما يُطلق عليه اسم الكسوف
الحلقي.
إذا مرَّ القمر عبر مدار الشمس، وأصبح في موقع
وسط ما بين الشمس والأرض، وكان حجمه الزاوي مناسبًا
لحجب الشمس، ففي هذه الحالة يحدث كسوف كلي للشمس
ويجتاز الظل الناتج جزءًا طويلًا ورفيعًا من الأرض
أثناء دورانها. ومع أخذ هذا كله في الاعتبار، يحدث
الكسوف الكلي للشمس في مكان ما على الأرض كل ١٨
شهرًا تقريبًا. وسيشهد الموقع الواحد على كوكب
الأرض كسوفًا كليًّا للشمس بمعدل مرة واحدة كل ٣٧٥
عامًا تقريبًا.
5 وسيشهد خسوفَ القمر، حيث يمر القمر في
ظل الأرض بحيث تكون الأرض بين الشمس والقمر، نسبةٌ
أكبر بكثير من الأشخاص في كل مرة يحدث فيها. ويعود
ذلك إلى أن ظل الأرض على القمر يكون أوسع نطاقًا من
ظل القمر على الأرض، ومن ثَم يتمكَّن كل شخص على
جانب الأرض الذي يخيم عليه الظلام من رؤية خسوف
القمر عند حدوثه.
في الماضي، كان الناس يستقبلون الكسوف بخوف، حيث
كانت ندرة حدوثه تشكِّل بيئة خصبة للتأويلات
الغريبة والغامضة. قد تكون هذه الظاهرة نادرة
الحدوث، لكن دوران الأرض والقمر كان معروفًا لدى
البعض منذ زمن طويل، مما أتاح الفرصة للتنبؤ بحدوث
الكسوف لعدة قرون. في عام ١٥٠٤، عندما رسا
المستكشِف الإيطالي كريستوفر كولومبوس في جامايكا،
كان يواجه تمردًا على متن سفينته بعد أن امتنع
السكان المحليون عن إرسال العطايا من الطعام
والإمدادات التي أُرغموا عليها بالإكراه.
6 أخبر كولومبوس الزعماء المحليين أن
الرب غاضب منهم بسبب امتناعهم عن إرسال الطعام
وتنبأ (مستعينًا بجداوله الفلكية) أنه عما قريب
سيتجلى هذا الغضب من خلال القمر. عندما حدث خسوف
القمر كما كان متوقعًا، عادوا إلى إرسال العطايا.
من أروع المحاولات وأكثرها مثابرةً للتنبؤ بحدوث
الكسوف هي آلة أنتيكيثيرا التي صُنعت منذ أكثر من
٢٠٠٠ عام في اليونان القديمة.
7 تتكوَّن آلة أنتيكيثيرا من أكثر من ٣٠
ترسًا، ويُعتقد أنها كانت أول كمبيوتر تناظري. كانت
التروس تعمل معًا لتحاكي حركات القمر والأرض
والتنبؤ بالموعد الذي يصبح فيه كل منهما محاذيًا
للآخر بما يؤدي إلى حدوث الكسوف. لم تكن الآلة
مثالية، حيث يتطلب الأمر فهمًا متطورًا للجاذبية من
أجل التوصل إلى التنبؤات العالية الدقة التي يمكن
تحقيقها اليوم، ولكنها كانت محاولة مذهلة في ذلك
الوقت. تخيَّل كيف بُنيَت الآلة بشق الأنفس وكيف
أنهم كانوا ينتظرون حدوث الكسوف للتحقق من
تنبؤاتهم، ثم يضيفون ترسًا آخر لتعديلها، وينتظرون
حتى الكسوف التالي. فالتوصل إلى فهم لظاهرة الكسوف
هو مسألة تتطلب بالأساس كثيرًا من الصبر والترقب.
أضاف علماء الفلك على مر السنين مزيدًا من
التعقيدات إلى النماذج الرياضية التي تتَّبع حركة
القمر والأرض والشمس والكواكب الأخرى في المجموعة
الشمسية. فحتى تأثير الجاذبية الضئيل لكوكب المشتري
البعيد يمكن أن يؤثر في توقيت حدوث الكسوف الشمسي.
وقد أجرى عالِم الفلك الإنجليزي إدموند هالي واحدة
من المحاولات الأولى الرائدة والموثَّقة للتنبؤ
بالكسوف الكلي للشمس في عام ١٧١٥.
8 وقد اكتسب هالي مزيدًا من الشهرة
لاستخدامه قوانين نيوتن للجاذبية في حساب دورية
المذنب الذي يحمل اسمه. وفي عام ١٧١٥، استخدم
القوانين نفسها في التنبؤ بحدوث الكسوف محدِّدًا
هامش خطأ أربع دقائق فقط. وبحلول أواخر القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تمكَّن العلماء
من تقليل هذا الهامش في تقديرات حدوث الكسوف إلى
نصف دقيقة فقط.
في عام ١٩٢٥، عندما نزل موظفو شركة إديسون عن
أسطح المنازل في مانهاتن، أبلغوا البروفيسور إرنست
براون في جامعة ييل بنتائجهم.
9 واكتشفَ أن مَن وقفوا شمال شارع رقم ٩٦
رأوا الكسوف الكلي، في حين أن مَن كانوا في نهاية
الشارع لم يروه، ومن ثَمَّ حدَّد بدقة حافة ظل
القمر وفقًا لعرض الشارع. واتخذ براون كذلك ترتيبات
لقياس سرعة ظل القمر وكان لديه عمَّال تلغراف على
طول مسار الظل لإرسال برقيات إلى مختبرات «بل
تليفون» في مانهاتن على الفور بمجرد تأكدهم من بدء
الكسوف الكلي. وبوصول الإشارات اللاسلكية من
المحطات المنتشرة في جميع أنحاء الولاية، استخدم
براون التوقيتات في إثبات أن الظل يتحرك بسرعة
مذهلة تبلغ ٥٦٣٣ كيلومترًا في الساعة (٣٥٠٠ ميل في
الساعة). وهكذا كان إرنست براون يختبر نموذجه
الجديد للتنبؤ بالكسوف. وظلت نظرية هيل-براون
العملية الحسابية الأكثر تعقيدًا حتى الآن، وقد
تنبأت بكسوف الشمس عام ١٩٢٥ بهامش خطأ مقداره أربع
ثوانٍ. ومن الغريب أن صحيفة نيويورك تايمز قد أضفت
مسحةً سلبية على هذا النجاح بأن صاغت عنوانها
الرئيسي كالتالي: «تأخَّر الكسوفُ ٤ ثوانٍ، لكن
العرض كان رائعًا».
10
أصبحت تعقيدات المجموعة الشمسية مفهومة الآن
لدرجة أن أجهزة الكمبيوتر يمكنها التنبؤ بالكسوف
بهامش خطأ مقداره ثانية واحدة، وهو مستوى دقة من
غير المرجَّح أن يتحسَّن. ولا يُعزى هذا الركود في
مستوى الدقة إلى الحاجة إلى أجهزة كمبيوتر أفضل، أو
إلى وضع نظريات معقدة أخرى، أو إلى وقوف مزيد من
الرجال الواجمين على الأسطح. فالمعدل الذي تدور به
الأرض، المقدَّر بحوالي ٢٣ ساعة و٥٦ دقيقة و٤ ثوانٍ
لكل دورة، يتباطأ بسبب تأثير الكبح الناجم عن قوة
جاذبية القمر. وبالتالي، سيصبح اليوم أطول في
المستقبل، ولا يمكننا التنبؤ بمقدار الزيادة
الحادثة في طول اليوم؛ لأن المعدل يتناقص على نحو
عشوائي. وبالنظر إلى بطء وتيرة هذا التغيير، فإن
توقعاتنا ستكون صحيحة بهامش خطأ مقداره ثانية واحدة
لمدة ١٠٠٠ عام أو نحو ذلك.
من النادر أن يرى أي إنسان كسوف الشمس الكلي،
ولذلك فمن غير المستغرب أن نظل نتعامل معه على أنه
أمرٌ مثير يسترعي الدهشة والإعجاب، وأن يجوب مطاردو
الكسوف أنحاء العالم المختلفة طمعًا في مشاهدته.
وينعكس هذا الاهتمام الشديد داخل المجتمع العلمي
أيضًا، وإن كان هذا لا يرجع إلى ما يخفيه القمر، بل
ما يكشفه.
بعد مرور ٩٢ عامًا على وقوف ألفين بيترسون
متجمدًا أعلى المنطاد، شاهد علماء الفيزياء الفلكية
اللقطات في دفءٍ وثير من داخل طائرتَين تابعتَين
إلى الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا)
كانتا تتعقبان ظل القمر. إن استخدام الطائرات في
مطاردة الكسوف وتعقبه ليس بالأمر الجديد. فقد
انطلقت خمسٌ وعشرون طائرة إلى جانب «يو إس إس لوس
أنجلوس» في عام ١٩٢٥، ولكنها لم تحصل على أي لقطاتٍ
مفيدة بسبب الاهتزازات الميكانيكية داخلها. وكان
الرسام هوارد بتلر صاحب واحدة من أوضح الرسومات
التي سجلت الإكليل خلال كسوف عام ١٩٢٥. فقد اعتلى
سطح أحد المنازل في ولاية كونيتيكت، ورسم الشواظ
الشمسية (وهي نتوءات غازية تمتد خارج الشمس) وسجَّل
الألوان ليرسم لوحة دقيقة قدر الإمكان لاحقًا. وقد
تحسَّنت تقنيات التصوير الجوي والفوتوغرافي لدينا
منذ ذلك الحين، الأمر الذي أسعد علماء الفيزياء
الفلكية الذين يكرهون الظروف الجوية القاسية. وكان
«الكسوف الأمريكي العظيم» الذي حدث في ٢١ أغسطس
٢٠١٧ هو أول كسوف كلي للشمس يمكن مشاهدته عبر البر
الرئيسي للولايات المتحدة منذ ما يقرب من ١٠٠ عام.
وقد حلَّقت طائرات ناسا النفاثة على ارتفاع ١٥٢٤٠
مترًا (٥٠ ألف قدم)،
11 أي أعلى بحوالي ٥٠٪ من معظم الطائرات
التجارية، لتجنب بخار الماء، الذي يشوِّه صور
الفضاء تمامًا مثلما تحجب الشبورة أو الضباب الصور
الفوتوغرافية على الأرض. تتباين سرعة دوران القمر
حول الأرض وسرعة دوران الأرض حول الشمس في
مداريهما، وبالتالي تتباين مع كل كسوف سرعة الظل
وطول الفترة الزمنية التي نشهد فيها الكسوف الكلي.
وفيما يتعلق بالكسوف الأمريكي لعام ٢٠١٧، فإن
الراصد المستقر على الأرض سيشهد الكسوف الكلي لمدة
دقيقتَين ونصف
فقط.
*
ورغبة في الحصول على أكبر قدر ممكن من البيانات،
طاردت الطائرتان النفاثتان ظل القمر أثناء اجتيازه
ولايات ميزوري وتينيسي وإلينوي الأمريكية. وقد
مكَّن هذا العلماءَ من دراسة الإكليل لمدة تقرب من
ثماني دقائق. في عام ٢٠١٧، لم يكن الهدف هو البحث
عن عنصر الكورونيوم، بل محاولة فهم شيءٍ غير منطقي
بشأن الشمس. فقد اتضح أن الإكليل الخافت المحيِّر
أكثر سخونةً بكثير من الشمس نفسها. تبلغ درجة حرارة
مركز النجم حيث يحدث الاندماج النووي حوالي ٢٧
مليون درجة فهرنهايت، بما يعادل ١٥ مليون درجة
مئوية، وتنخفض درجة الحرارة كلما ابتعدت عن المركز
بحيث تبلغ درجة حرارة السطح المرئي، أو «الغلاف
الضوئي»، للشمس حوالي ٩٩٠٠ درجة فهرنهايت، بما
يعادل ٥٥٠٠ درجة مئوية. بعد ذلك، وعلى ارتفاع ٢١٠٠
كيلومتر (١٣٠٠ ميل) فوق سطح الشمس، يرفع الإكليل
درجة الحرارة مرة أخرى إلى مليونَي درجة فهرنهايت
أو أكثر. لماذا؟ وكيف؟ هذا أمر غريب، يشبه ما يحدث
عندما يضبط شخصٌ مقيم في نيويورك الفرنَ الخاص به
على ٤٠٠ درجة فهرنهايت، أي ما يعادل ٢٠٠ درجة
مئوية، ثم يدرك أنه أحرق قطة شخص ما في ألاباما.
والواقع أن مشكلة ارتفاع درجة حرارة
الإكليل
12
،13 لم تُحل بعد، وقد أتاح هذا الكسوف
للعلماء فرصة نادرة لدراسة الإكليل بدقة عالية
لفترة طويلة. لقد كانوا يأملون في معرفة السبب وراء
هذه الحرارة العالية، على غرار أسلافهم عندما
شاهدوا لقطات ألفين بيترسون وتساءلوا عن ماهية
الكورونيوم. ففي الماضي والحاضر على حدٍّ سواء،
يقدم لنا كسوف الشمس فرصة لتجاوز واحدة من العقبات
الكبرى التي تعترض مسيرة علم الطاقة الشمسية، وهي
الشمس نفسها.
الأطوال الموجية للضوء
ماذا سترسم إذا طلبتُ منك رسم الشمس؟ أراهن أنك
سترسم أو تتخيل شيئًا مثل دائرة محاطة بخطوط مشعة
(يشار إليها في اللغة الإنجليزية، وتحديدًا في لغة
الرسوم المتحركة، بكلمة
Solrads التي
تعني «أشعة الشمس»)، وهو نفسه ما كنت تفعله عندما
كنت طفلًا. فالشمس من أول الأشياء التي نتعلم
رسمها، لكن قدرتنا على تصورها لم تتحسَّن كثيرًا،
وهذا أمر مفهوم لأننا لا نستطيع النظر إليها
مباشرةً دون تعريض بصرنا للخطر. وبرسم الخطوط
الممتدة من القرص المركزي نثبت وجود الشمس ونشاطها
وأهميتها لنا. فحتى لدى أقدم الحضارات وأصغر
الأطفال، معروف أن الشمس تمنحنا الضوء والدفء، وعلى
نحو جوهري، تمنحنا الحياة.
إن الضوء هو الوسيلة الرئيسية التي ندرك من
خلالها العالَم، ولكن من الصعب تحديد ماهيته.
يمكننا التفكير فيه باعتباره إشعاعًا ينتقل على شكل
موجة، والمسافة بين القمم في تلك الموجة تُسمى
بالطول الموجي. يشكِّل الضوء سلسلة متصلة من
الأطوال الموجية المختلفة التي تسمى الطيف
الكهرومغناطيسي.
لقد اعتدنا على استخدام الأطوال الموجية المختلفة
للضوء في حياتنا اليومية، ولكننا قد لا ندرك دائمًا
أنها ضوء. يُعد الضوء ذو الطول الموجي الطويل
للغاية، أو ما يسمى بموجات الراديو اللاسلكية،
مفيدًا لنقل المعلومات عبر مسافاتٍ طويلة. على سبيل
المثال، تتيح لنا موجات الراديو اللاسلكية الاستماع
إلى الأخبار الوطنية عبر المذياع، ربما أثناء
استخدامنا لأفران الميكروويف لطهي وجبة غداءٍ
سريعة. وإذا سمعنا أخبارًا عن هروب نمر وفتحنا
التلفزيون، فقد نشاهد لقطات من مروحيات الشرطة وهي
تستخدم الأشعة تحت الحمراء لتعقب النمر أثناء تسلله
إلى حديقتنا. وإذا تعرضنا لسقوط شديد أثناء
اندفاعنا لإغلاق أبواب الفناء، فإننا نتوقع استخدام
الأشعة السينية لفحص أي كسر قد يُشتَبه فيه … وليس
فقط من خلال إلقاء نظرة سريعة باستخدام مصباح يصدر
ضوءًا مرئيًّا. إن الجزء الصغير من الطيف الذي نشير
إليه في الحياة اليومية باسم «الضوء» ما هو إلا
الجزء المرئي الذي تكيَّفت أعيننا معه، ونستخدم
كلمة «اللون» للتحدث عن الأطوال الموجية المحددة في
هذا الجزء الصغير.
عالِم الفيزياء الإنجليزي إسحاق نيوتن هو أول مَن
أدرك أن الضوء يتكوَّن من ألوان مختلفة. ففي عام
١٦٦٦، وضعَ منشورًا زجاجيًّا بمحاذاة شعاع من ضوء
الشمس ولاحظ انبعاث قوس قزح من الجانب الآخر من
المنشور.
14 ولأن المجال لا يتسع في الكتاب لعرض
رسوماتٍ توضيحية، كل ما عليك هو البحث عن غلاف
ألبوم «الجانب المظلم من القمر» (ذا دارك سايد أوف
ذا مون) لفرقة بينك فلويد. وقد لوحِظ من قبل كيف أن
أي منشور ينتج ألوانًا مختلفة عند وضعه في مواجهة
أشعة الشمس، وكذلك الحال مع أي قطعة من زجاج مكسور.
وكانت المفاجأة أنه عندما ركَّز نيوتن الضوء على
جدار بعيد، أصبح قوس قزح مستطيلَ الشكل وانبعثت منه
الألوان المختلفة. وحتى هذه اللحظة، كان الافتراض
السائد هو أن السبب وراء تأثير قوس قزح هو المنشور
الذي يعكس اللون بطريقة ما. وضعَ نيوتن منشورًا
ثانيًا أمام أحد الألوان المنبعثة من الضوء
المنقسم. وعندما عكس هذا المنشور اللون نفسه ولكن
دون الألوان الأخرى التي كان من المفترض أن يعكسها،
أثبتَ نيوتن أن السبب في إنتاج قوس قزح ليس
المنشور. كما أثبت إمكانية تقسيم الضوء إلى ألوان
مختلفة.
لا يقتصر الأمر في تجربة مثل تجربة المنشور على
انقسام الضوء المرئي فحسب. فقد صنع عالِم الفلك
الألماني البريطاني ويليام
هيرشل
†
منشورًا يشبه منشور نيوتن لقياس درجة حرارة ألوان
الضوء المرئي، ولكن أعلى قراءة سجَّلها كانت في
الحيز أعلى الضوء الأحمر؛ أي أعلى قوس قزح. وأطلق
على هذه الأشعة الضوئية غير المرئية اسم «الأشعة
الحرارية»،
15 لكننا نعرفها الآن بتسمية أدق بالأشعة
تحت الحمراء.
لقد وصفتُ الضوء حتى الآن بأنه موجة، لكن هذا
مجرد نصف الحقيقة فقط. في بعض الأحيان يُفهم الضوء
على نحو أفضل باعتباره جسيمًا. قد يبدو هذا غريبًا،
لكنها ظاهرة تُعرف باسم ازدواجية الموجة والجسيم،
وهي إحدى النتائج المترتبة على ميكانيكا الكَمِّ.
فنحن نطلق على الجسيمات المكوِّنة للضوء اسم
«الفوتونات». وقد أثبت عالِم الفيزياء الألماني
ألبرت أينشتاين أن الطول الموجي للضوء يعادل
فوتونًا يحمل كمية معينة من الطاقة.
16 وكلما كان الطول الموجي أقصر، زادت
طاقة الفوتون. وفي ظني أن نيوتن كان سيسعد كثيرًا
بهذا الأمر؛ لأنه أصرَّ طَوال مسيرته العلمية على
أن الضوء «جسيمي»، أي مكوَّن من جسيمات. ومع أن
أدلة نيوتن كانت تفتقر إلى الصحة إلى حد كبير،
فإنني متأكدة من أنه ما كان ليتردد في إعلان
انتصاره رغم ذلك.
وعلى صعيد التطور، أفادنا كثيرًا التكيُّف مع
رؤية الضوء المرئي لأنه سمح لنا بتقييم البيئات من
حيث المعيشة أو التهديدات الخطرة. وعلى الرغم من أن
الرؤية بالأشعة تحت الحمراء كانت ستفيد في تتبع
النمور وسط الأشجار المتشابكة، لم تكن الطفرة
الجينية/التحور الجيني المسئول عن هذا الأمر قد حدث
بعد لدى النمور. وتوجد أمثلة في حيوانات أخرى تتمتع
بأساليب أغرب وأكثر استثنائية في التكيف البصري،
فيما هو أشبه بالرؤية بالأشعة السينية لدى سوبرمان.
على سبيل المثال، بعض الثعابين لديها «فتحات صغيرة»
في وجهها تحتوي على غشاء يتيح لها رصد الأشعة تحت
الحمراء.
17 ويسمح لها هذا برؤية الضوء المرئي
بأعينها، وكذلك الحصول على صورة بالأشعة تحت
الحمراء لفريستها في الليل. ويرد مثال آخر في حيوان
الرنة، الذي يتمتع بعيون تتكيف لمعالجة الضوء فوق
البنفسجي.
18 ففي القطب الشمالي، ينخفض الضوء
المرئي، ولكن الثلج يعكس الكثير من الضوء فوق
البنفسجي، مما يسمح للرنة بتتبع بول
المفترس/الفريسة وتحديد مكان نبات الأُشنة الذي
يمثل مصدر غذائها
الرئيسي
‡
في علم الفيزياء الفلكية، نستخدم الأطوال الموجية
المختلفة للضوء لتمييز العناصر المتباينة التي
يتألف منها الكون. فعلى الرغم من تفوق الضوء المرئي
في إنتاج صور مذهلة للمجرات، فإن الأشعة السينية
وأشعة الراديو اللاسلكية مناسبتان تمامًا للكشف عن
الثقوب السوداء المخفية. تأمل صورة
٣ لمجرة «قنطورس أ»، المعروضة
في ملحق الصور بنهاية الكتاب. على اليمين، تظهر
المجرة كما رُصدت عند استخدام الضوء المرئي. وعلى
اليسار، توجد صورة مركبة للمجرة المرئية نفسها،
ولكن مع إضافة ملاحظات الرصد الراديوية. ومن خلال
الرصد باستخدام أطوال موجية مختلفة من الضوء،
اكتشفنا مجرة أكبر بكثير مما كنا نتصوَّر. والأكثر
إثارة في الأمر أننا اكتشفنا ما يثبت وجود ثقب أسود
في المركز من خلال رصد تلك النتوءات المستديرة
العملاقة من المواد المنبثقة. تنتج النتوءات
المستديرة الراديوية عن جزء صغير من الغاز المتناثر
حول الثقب الأسود والذي يخرج على شكل نفثات كبيرة
من الجسيمات. ولو كنا رصدنا «قنطورس أ» باستخدام
أطوال موجية مرئية، فما كان الثقب الأسود ليبدو
بهذا الوضوح البالغ، في حين أننا في حال استخدام
الأشعة الراديوية سنكون كمَن يرى لافتة أمامه على
شكل سهم مكتوب عليها «الثقب الأسود في هذا
الاتجاه».
قياس درجة حرارة النجوم
لنعد إلى اللوحة التي رسمناها للشمس كي نلوِّنها.
إننا غالبًا ما نرسم الشمس باللون الأصفر، ولكن،
كما نعلم من إسحاق نيوتن وويليام هيرشل وبينك
فلويد، يتألف ضوء الشمس من نطاق كامل من الأطوال
الموجية المختلفة. ويمثل نطاق الأطوال الموجية
للضوء المنبعث من أحد النجوم رمزًا شريطيًّا فريدًا
لذلك النجم، أي طيفًا نجميًّا، وتتميز الأنواع
المتماثلة من النجوم بأن لها طيفًا متماثلًا. يوضح
الطيف الشمسي أن الشمس تشع نطاقًا من الأطوال
الموجية، لكن العين البشرية لا تستطيع أن ترى منه
إلا ٤٠٪ فقط. ويصل الطيف الشمسي إلى ذروته في الطول
الموجي للونَين الأزرق والأخضر في الطيف
الكهرومغناطيسي، ومن ثَمَّ فإن الضوء الأصفر ليس
الضوء الأكثر شيوعًا المنبعث من الشمس. ولكننا لا
نرى شمسًا خضراء في السماء لسببَين. أولًا، تلك
الذروة في اللونَين الأزرق والأخضر ليست الطول
الموجي الوحيد المنبعث، والضوء الذي نستقبله هو
مزيج من تلك الأطوال الموجية المختلفة، في حركته
مقتربًا من الضوء الأبيض. ثانيًا، يشتِّت الغلاف
الجوي للأرض الضوءَ مثلما تبعثر ماكينات الألعاب
العملاتَ المعدنية، حيث يعيد توجيه الضوء في
اتجاهاتٍ عشوائية. وكلما كان الطول الموجي أقصر (أي
كلما اقترب الضوء إلى الأزرق)، زاد تشتت الضوء.
وفيما يتعلق بأشعة الشمس، يعني هذا أن الغلاف الجوي
يشتت الضوء كلما أصبح أزرق في جميع الاتجاهات، مما
يجعلنا نراه من جميع الاتجاهات ويجعل السماء تبدو
أمامنا زرقاء اللون. ومع تشتت جزء الطيف الأقرب إلى
اللون الأزرق، يبقى الجزءان الأحمر والأصفر من ضوء
الشمس، مما يجعل الشمس تبدو صفراء أكثر. وعند غروب
الشمس، عندما تكون الشمس على مستوًى منخفض، ويقطع
الضوء مسافة أطول عبر الغلاف الجوي ويتشتت الضوء
الأصفر على نحو ملحوظ، تظهر الشمس باللون البرتقالي
المحمر. وبالمثل، يفسِّر تشتت ضوء الشمس في الغلاف
الجوي سبب إطلاق اسم «القمر الدموي» أحيانًا على
خسوف القمر. فعندما يمر ضوء الشمس عبر الغلاف الجوي
للأرض، فإنه يشتت فعليًّا كل الأطوال الموجية
الأقصر، تاركًا فقط الأطوال الموجية الحمراء الأطول
لتنطلق وتنعكس على القمر وصولًا إلى أعيننا.
يمكننا استخدام
الشكل العام لطيف الجسم الأسود لقياس درجة حرارة أي
نجم. فأشكال الأطياف النجمية تشبه إلى حد كبير
منحنيات تسمى منحنيات الجسم الأسود. و«الجسم
الأسود» هو جسم مثالي يمتص كل الإشعاعات الساقطة
عليه ويصدرها في شكل طيف مستمر أو «سلسلة متصلة»،
وكأنه في ذلك شخص يستمع إلى وجهات نظر مختلفة، ثم
ينطق بتفاهات لا نهاية لها لإرضاء الجميع. ونظرًا
إلى أن الشمس ليس لديها سطح صلب لتشتيت الإشعاع
الساقط عليها، فإنها تمتص بالفعل الغالبية العظمى
من الإشعاع الساقط، وكما رأينا فإنها تصدر الضوء
عبر الطيف الكهرومغناطيسي. وبما أنه يمكننا تشبيه
الشمس — وجميع النجوم — بالأجسام السوداء، فيمكننا
استخدام قانون الجسم الأسود الذي ينص على أن الطيف
المتصل المنبعث يعتمد فقط على درجة الحرارة.
ويمكننا من خلال قياس طيف النجم مقارنته بمنحنيات
الجسم الأسود المعروفة وتحديد منحنى درجة الحرارة
الذي يطابقه. وإذا طبَّقنا ذلك على الشمس، فسنجد أن
الغلاف الضوئي للشمس تبلغ درجة حرارته حوالي ٥٨٠٠
كلفن.§
خطوط امتصاص الكورونيوم
يبدو طيف الجسم الأسود للشمس كخط متصل، غير
متقطع، ولكن إذا نظرت عن كثب، فسترى أنه يتكوَّن في
الواقع من الكثير من النقاط الفردية. إن ظهور الطيف
كسلسلة متصلة ملائم جدًّا لمقارنته بمنحنيات الجسم
الأسود وتقدير درجات حرارة سطح النجوم، ولكن توجد
طريقة أكثر شيوعًا نميل إلى استخدامها في النظر إلى
الأطياف، وهي النظر إليها كما لو كنا ننظر إلى هذا
المنحنى من أعلى، فنحصل بذلك على ما يشبه شكل الرمز
الشريطي. تعرض صورة الطيف الشمسي وهي صورة
٨ في ملحق الصور بنهاية
الكتاب، رصدًا عالي الدقة للطول الموجي للجزء
المرئي من الطيف الشمسي. تنشأ الخطوط المظلمة، التي
يطلق عليها اسم خطوط الامتصاص، عن امتصاص الذرات
الموجودة في المنطقة الخارجية للشمس لتلك الأطوال
الموجية للضوء عند خروجها من أعماق الشمس. تمتص
ذرات عنصر معين الضوء عند أطوال موجية محددة جدًّا
تتعلق بمستويات الطاقة التي تستطيع الإلكترونات
شغلها داخل تلك الذرة. وتختلف هذه الفجوات في
مستويات الطاقة بين العناصر، ومن ثَمَّ تتباين
أيضًا الأطوال الموجية للضوء الممتص وخطوط الامتصاص
الناتجة المميزة لكل عنصر.
يمكننا على الأرض تعريض عنصر كيميائي محدد، مثل
الهيدروجين، للإشعاع لمعرفة الأطوال الموجية التي
سيفضل امتصاصها، وبالتالي خطوط الامتصاص التي
ستنبعث في الطيف. ويمكننا بعد ذلك النظر إلى طيف
نجم ما، ومن خلال معرفة الأطوال الموجية التي
امتُصت، يمكننا مضاهاتها بمجموعة التجارب التي
أجريناها على جميع العناصر الكيميائية المعروفة
واستنتاج الذرات الموجودة في الشمس، إن كانت معروفة
على الإطلاق. عندما لاحظ عالِم الفلك الإنجليزي
نورمان لوكير وجود خط امتصاص غير محدد في طيف الشمس
عام ١٨٦٨،
19 أطلق على العنصر المسئول عن ذلك الذي
لم يكن معروفًا سابقًا اسم الهيليوم، تيمنًا باسم
إله الشمس الإغريقي هيليوس. وقد اكتُشِفَ الهيليوم
على الأرض بعد مرور ٢٧ عامًا آخر.
يبدو الطيف الشمسي أثناء الكسوف مختلفًا تمامًا،
ولأن القرص الرئيسي للشمس محجوب، فإننا لا نرى سوى
الضوء الصادر من الإكليل. عندما نظر العلماء لأول
مرة إلى الطيف الإكليلي أثناء كسوف الشمس في ٧
أغسطس ١٨٦٩، وجدوا خط امتصاص قويًّا بطول موجي يبلغ
٥٣٠٫٣ نانومتر، لا يتوافق مع أي من التجارب التي
أجروها على الأرض: لم يُنتِج أيُّ عنصر معروف خط
امتصاص بهذا الطول الموجي. وفي نهاية المطاف، كان
من المفترض أن يشير هذا إلى عنصر جديد في الغلاف
الجوي للشمس، أطلقوا عليه اسم «كورونيوم». استمرت
الأبحاث على هذا العنصر لعقود من الزمن، وكان هذا
هو أحد الأسباب التي جعلت ألفين بيترسون يقف على
قمة المنطاد في عام ١٩٢٥، حيث تجمدت أصابعه، من أجل
أن يعزز فهمنا لهذا العنصر الجديد. ولم يُكتشَف حتى
ثلاثينيات القرن العشرين أن ظهور خط الامتصاص هذا
لم يكن يُعزى إلى وجود عنصر جديد على الإطلاق،
ولكنه كان شكلًا مختلفًا من عنصر الحديد المعروف
سلفًا. يحتوي الحديد عادةً على ٢٦ إلكترونًا ويرتبط
بمجموعة معروفة من خطوط الامتصاص. إذا انتزعنا
بعضًا من تلك الإلكترونات (حيث نكون بصدد تأيين
الحديد)، حينها ستتغير خطوط الامتصاص تلك. كان خط
الامتصاص المرتبط بعنصر الكورونيوم الوهمي مطابقًا
لخط الامتصاص الذي تنتجه ذرة الحديد التي انتزِع
منها ١٣ إلكترونًا. إن انتزاع الإلكترونات ليس مهمة
سهلة ويتطلَّب درجات حرارة عالية جدًّا لتوليد
تصادمات عالية الطاقة لها القدرة على طرد
الإلكترونات. يتطلب انتزاع ١٣ إلكترونًا درجات
حرارة عالية جدًّا، مما يشير إلى أن درجة حرارة
الإكليل تبلغ ملايين الكلفن مقارنة بدرجة حرارة
الغلاف الضوئي البارد نسبيًّا التي تبلغ ٥٨٠٠ كلفن.
ومن ثَمَّ تزداد درجة حرارة الشمس بالفعل عند
المغامرة والاقتراب من الإكليل، وهو وضع غير بديهي
على الإطلاق. وربما تكون درجات الحرارة المرتفعة
ناتجة عن مجالات مغناطيسية معقدة تقذف بعنف جسيمات
مشحونة من الغلاف الضوئي إلى الإكليل، أو ربما
انفجارات تشبه القنابل تسمى التوهجات النانوية تقذف
الحرارة إلى الغلاف الجوي. وعلى الرغم من تقليص عدد
النظريات، فما زالت مشكلة ارتفاع درجة حرارة
الإكليل معضلة غير محسومة.
•••
ربما يخيب ظنك عندما تعلم أنني لم أتمكن من حل
مشكلة ارتفاع درجة حرارة الإكليل على نحو فعَّال
ومُرْضٍ. فمن المزعج حقًّا عدم معرفة الإجابة. بل
إنه أمر مثير للدهشة أيضًا بالنظر إلى الموارد التي
نمتلكها. فقد طوَّرنا مسابير سافرت إلى الفضاء
الخارجي، ويستطيع تلسكوب هابل أن يرصد جيدًا ما هو
أبعد من مجرة درب التبانة وحتى العديد من المجرات
الأخرى. نعي كيف تطوَّر كوننا، بدءًا من نظرية
نشوئه الراسخة، وهي الانفجار العظيم. ومع ذلك، ما
زلنا نبذل قصارى جهدنا للاستفادة من كل مفهوم من
المفاهيم العلمية التي نستطيع الحصول عليها من كسوف
كلي مدته سبع دقائق وكأننا في سباق مع الزمن،
تمامًا مثلما كان يفعل العلماء في عام ١٩٢٥، وإن
كان ذلك يحدث الآن بوسائل تكنولوجية أكثر تقدمًا.
فمن ناحية، نثري معرفتنا (حيث اكتشفنا أن الإكليل
لا يحتوي على عنصر غير مألوف؛ بل كل ما في الأمر
أنه ساخن جدًّا!)، ومن ثَمَّ تزداد أسئلتنا من
ناحية أخرى (انتظر، كيف ترتفع درجة حرارته إلى هذه
الدرجة؟!). سأعترف بأن مشكلة ارتفاع درجة حرارة
الإكليل كانت جديدة إلى حد ما بالنسبة إليَّ في وقت
الكسوف الأمريكي العظيم. ولكوني عالمة فيزياء فلكية
أدرس النجوم الأولى، لم يخطر ببالي مطلقًا أن أُولي
اهتمامًا كبيرًا بأقرب نجم، وهو الشمس، التي نراها
من الأرض والتي يمكن إخضاعها للتنبؤ. فقد اعتبرتُ
أنه أمر مفروغ منه أن نكون قد أمطنا اللثام عن كل
ما يتعلق بها نظرًا إلى قربها. وانبهرتُ وسعدتُ
باكتشاف أنه لا تزال هناك أسرار دفعتنا إلى
الاستفادة من ظاهرتَي المصادفة المطلقة لمجموعتنا
الشمسية: وهما الكسوف والخسوف.
إنها مصادفة مذهلة أن يغطي القمر قرص الشمس، مثل
غطاء العدسة، خلال كسوف الشمس الكلي. وبمحض
المصادفة يتساوى الحجم الزاوي للشمس والقمر في
السماء. فالحجم الزاوي لجسم ما يعتمد على حجم الشيء
ومدى بُعده. تخيَّل أننا ننظر إلى أبقار. إذا
لاحظنا أن البقرة اللُّعبة، الأصغر بعشر مراتٍ من
البقرة الحقيقية، تبدو بحجم البقرة الحقيقية نفسه،
فإننا نعلم أن البقرة الحقيقية يجب أن تكون عشر
مراتٍ أبعد. وفي حالتنا، نلاحظ أن الشمس والقمر
متماثلان في الحجم الزاوي. لكن الشمس أبعد من القمر
بحوالي ٤٠٠ مرة، ولكنها أيضًا أكبر من القمر بحوالي
٤٠٠ مرة، لذا يبدو وكأن لهما الحجم الزاوي نفسه.
وما يزيد من أهمية الكسوف والخسوف هو أن لهما تاريخ
انتهاء. فقد ذكرتُ سابقًا أن قوة جاذبية القمر
تُعرِّض الأرض لتأثير الكبح. ويؤثر هذا في قدرتنا
على التنبؤ بالكسوف والخسوف؛ لأنه يبطئ معدل دوران
الأرض على نحو غير متوقع مع مرور الوقت. والتأثير
الآخر لهذا هو ابتعاد القمر عن الأرض بحوالي ٤سم
(٥,١ بوصة) سنويًّا … أي إن البقرة اللُّعبة تبتعد،
مما يفسد وهم تماثل الحجم. ولذا فإن الكسوف الكلي
للشمس الذي نستمتع به اليوم لن يستمر إلى الأبد،
وإذا تواجد أي بشر بعد حوالي ٦٥٠ مليون سنة من
الآن، فلن يشاهدوا سوى الكسوف الجزئي. ولكن، ما زال
ذلك احتمالًا بعيدًا، فبالنظر إلى أن أسلافنا البشر
لم يظهروا على الأرض إلا منذ بضعة ملايين من السنين
فقط، فربما تتطوَّر قدرتنا على رؤية الأشعة السينية
وبهذا سنرى الكون بطريقة تجعل الكسوف أمرًا غير ذي
أهمية.
نحن الآن في زمن لا نقتصر فيه على مجرد انتظار
حدوث الكسوف التالي. فهناك، على سبيل المثال، جهاز
رصد الإكليل، وهو جهاز تلسكوبي ملحق يحجب جزءًا
كبيرًا من الغلاف الضوئي. وبعد عام بقليل من الكسوف
الأمريكي الكبير، أطلقت وكالة ناسا بعثة جديدة غير
مسبوقة تسمى مسبار باركر الشمسي.
20 وعلى مدى سبع سنوات، شق هذا المسبار
طريقه نحو الشمس، ليصل إلى مسافة ٣٫٨ ملايين ميل من
سطحها، وهي منطقة لم تُستكشَف من قبل. قد لا يبدو
هذا قريبًا جدًّا، ولكن كما رأينا، فإن سطح الشمس
لا يمثل «حافة» النجم. فالإكليل يمتد بعيدًا في
الفضاء ومن الصعب تحديد نهاية له. ويتدفق من الغلاف
الجوي الساخن العالي الطاقة تيارٌ من الجسيمات يسمى
الرياح الشمسية، التي تطوِّق الكواكب الثمانية في
مجموعتنا الشمسية. وهذا يعني أنه على الرغم من أن
قلب الشمس الساخن بعيد، فإننا على الأرض نعيش داخل
غلافها الجوي. كان على الرياح الشمسية التي تصل
إلينا على الأرض أن تقطع على مدى عدة أيام ما يزيد
على ٩٣ مليون ميل، مما أدى إلى تشوهها وتغيُّرها
بسبب جميع الجزيئات الأخرى في الطريق. وهذا يجعل
دراسة الإكليل الداخلي أشبه ما يكون بمراقبة الطيور
عبر ضباب كثيف من مسافة ١٠٠ متر (٣٢٨ قدمًا).
ولاستيعاب الأمر، علينا الاقتراب من الضباب والوقوف
على مسافة أربعة أمتار (١٣ قدمًا) فقط. سيلتقط
مسبار باركر صورًا عالية الدقة ويرصد تلك التوهجات
النانوية المراوغة وخطوط المجال المغناطيسي، مما
يساعد العلماء على فهم الكيفية التي يمكن بها
لنجمنا أن يصل إلى درجات الحرارة العالية هذه
بعيدًا عن مصدر الحرارة الداخلي. ومن المثير
للاهتمام أنه نظرًا إلى وجود مسبار باركر بالقرب من
الشمس، فقد شهد أيضًا أحداثًا مثل التوهجات الشمسية
على الشمس قبل أن نشاهدها نحن على الأرض. يرصد
مسبار باركر التوهج الشمسي بعد ٢٠ ثانية من حدوثه
فعليًّا، بينما يراه من الأرض بعد ثماني دقائق
كاملة، وذلك بسبب سرعة الضوء المحدودة.
سرعة الضوء المحدودة
توصَّل عالم الفلك الدنماركي أولي رومر إلى حقيقة
أن الضوء لا ينتقل بسرعة لا نهائية، وذلك من خلال
مراقبته الكسوف والخسوف. كان من بين الأسئلة
العلمية الملحة خلال القرن السابع عشر السؤال حول
كيفية تحديد خط الطول (قياس موقع نقطة على سطح
الأرض شرقًا أو غربًا بالدرجات) عند الإبحار في
أعالي البحار. فنحن نعلم أن الأرض تكمل دورة كاملة
حول نفسها (٣٦٠ درجة) خلال ٢٤ ساعة، ولذلك إذا عرفت
الفارق الزمني بين نقطتَين، فيمكنك تحديد الفارق
الطولي أيضًا. في زمننا الحالي، نلاحظ أنه عند
تشغيل أجهزة الكمبيوتر المحمولة، فإن الوقت بها
يتزامن تلقائيًّا مع المكان الذي سافرنا إليه في
العالم. ولكن كيف كانوا يحسبون فارق التوقيت في
القرن السابع عشر؟ كان المطلوب هو وقوع حدث في
أوقات متوقعة من اليوم. ربما تكون على دراية
بالمشهد في بداية فيلم «ماري بوبينز» الذي أنتجته
شركة ديزني، حيث يطلق الجار الغريب الأطوار مدفعَه
كل يوم في تمام السادسة مساءً. وأي شخص على مقربة
من شارع تشيري تري سيعرف عندما يسمع ذلك الصوت أنها
السادسة مساءً، على الأقل وفقًا لساعة الرائد. وقد
اقترح عالِم الفلك الإيطالي جاليليو جاليلي فكرة
مماثلة على نطاق أوسع بكثير. لقد كان بحاجة إلى حدث
يمكن رؤيته من أي مكان على الأرض، ومن ثَمَّ نظر
إلى السماء ووجد مثالًا على ذلك الحدث في نظام كوكب
المشتري (النظام الذي يشمل كوكب المشتري وأقماره).
أثناء دوران أقمار كوكب المشتري حوله، كانت تختفي
عن الأنظار عند مرورها خلفه. وعندما يُكمِل القمر
دورته، يخرج من خلف كوكب المشتري، وهو الحدث
المعروف باسم الظهور. ونظرًا إلى أن الأقمار تدور
حول المشتري بانتظام، فقد أدرك جاليليو أنه من خلال
مراقبة أوقات ظهورها ستصبح لديك ساعة
سماوية،
21 أي مدفع بين كوكبي. كانت هذه الفكرة
صعبة التنفيذ على سفينة متحركة في ذلك الوقت، ولكن
في عام ١٦٦٨، نشر عالِم الفلك الإيطالي جيوفاني
دومينيكو كاسيني جداوله الخاصة بحركات أقمار كوكب
المشتري، حيث قدَّم جدولًا زمنيًّا يستطيع الناس
ضبط ساعاتهم وفقًا له. على سبيل المثال، يمكن
للبحارة الاستعانة بهذا الجدول وتوقع ظهور القمر
آيو يوم ١٠ نوفمبر في وقت الظهيرة، كما لوحِظ في
نابولي. ومن ثَمَّ، فقد عرفتَ أنك عندما تشهد ظهور
هذا القمر من أي مكان في العالم، فإن هذا معناه أنه
وقت الظهيرة في نابولي. يمكنك بعد ذلك تحديد فارق
التوقيت، وبالتالي خط الطول، من خلال مقارنة وقت
ظهور قمر كوكب المشتري بوقت الظهيرة في مكان وجودك
(أي الوقت الذي تكون فيه الشمس في أعلى نقطة في كبد
السماء). في البداية بدت كل التوقعات صحيحة، بفارق
نصف دقيقة على الأقل، ولكن مع مرور العام بدأ آيو
يتأخر عن الظهور بحوالي ١٠ دقائق عن الموعد
المتوقع. وأشار كاسيني إلى أن السبب وراء ذلك هو
إما سرعة الضوء المحدودة وإما حدوث اختلاف في قطر
المشتري. واستقر كاسيني نفسه على الرأي الأخير، أو
على الأقل عارضَ الرأي الآخر، لكن زميله أولي رومر
كان من أنصار الرأي الأول.
لفهم السبب وراء صحة رأي رومر، انظر إلى مخطط
نظام كوكب
المشتري-الشمس-الأرض
في شكل
١-٥. خلف المشتري، يوجد
مخروط الظل يدخله آيو ويخرج منه أثناء دورانه حول
المشتري. وبالرصد من النقطة (أ)، ترى ظهور آيو عند
النقطة (ﺟ) في وقت معين، على سبيل المثال في
الظهيرة. وفي اليوم التالي، يبدو أن القمر لا يزال
يظهر في هذا الوقت المحدد تقريبًا، ولنقل الساعة
١٢:٠١ ظهرًا. ولكن عند القياس في وقت لاحق، أثناء
حركة الأرض في مدارها إلى النقطة (ب)، يظهر القمر
بعد عدة دقائق من الموعد المتوقع. أدركَ رومر أنه
بسبب زيادة المسافة بين نظام كوكب المشتري والأرض،
كان على الضوء القادم من آيو أن يجتاز مسافة أطول.
في الشكل، كانت المسافة بين النقطة (ﺟ) والنقطة (ب)
أطول بكثير من المسافة بين النقطة (ﺟ) والنقطة (أ).
ولذلك لو كانت سرعة الضوء لا نهائية، فلن يُحدث ذلك
فارقًا؛ لأن الضوء سيجتاز أي مسافة على الفور. ولكن
اتضح من تأخر ظهور القمر أن الضوء استغرق وقتًا
أطول كلما ازدادت المسافة التي يقطعها. فسرعة الضوء
محدودة، ولكنها ليست بطيئة. وفي الحياة اليومية
نعتبرها سرعة لحظية. بلغت سرعة الضوء التي أشارت
إليها أبحاث رومر بشأن ظهور قمر كوكب المشتري
٢١٢,٠٠٠,٠٠٠م/ث (متر في الثانية).
23،24 كانت هذه سرعة فائقة على شكل لا يمكن
تصوُّره في ذلك الوقت (ولا تزال كذلك)، ولكنها
قريبة جدًّا إلى ما يمكننا قياسه الآن في مختبر على
الأرض، وقيمته ٢٩٩,٧٩٢,٤٥٨م/ث بالضبط. عندما نلاحظ
أن صديقًا يلوح من الجانب الآخر من الشارع، فإننا
نعلم أنه يمكننا التلويح له قبل أن ينطلق بعيدًا
نظرًا إلى وجود مسافة صغيرة بيننا بالمقياس البشري.
فنحن نرى صديقنا يلوح ولكن بعد الحدث الفعلي،
بتأخير لا يتعدى ٠٫٠٠٠٠٠٠٠٣ ثانية فقط، ومن ثَمَّ
فإن حدث التلويح لحظي من منظور أعيننا. ولكن عندما
نصعد إلى المقياس السماوي، نجد أن صديقنا الذي يعيش
الآن على قمر المشتري آيو يمكنه التلويح لنا، لكننا
لن نرى ذلك إلا بعد مرور نصف ساعة (وبحلول ذلك
الوقت، سيعتقد أننا وقحون لعدم التلويح له).
ونظرًا إلى سرعة انتقال الضوء المحدودة، فكلما
بعدت المسافة بيننا وبين الشيء الذي نراه، فإن ما
نراه يكون قد مضى على زمن حدوثه الفعلي وقتٌ أطول.
فعندما ننظر إلى سطح الشمس، يبلغ عمر التوهج الشمسي
الذي نراه ثماني
دقائق.∥
وعندما ننظر إلى واحد من أقرب النجوم إلينا، وهو
ألفا سنتوري، نجد أن عمر الضوء يزيد على أربع
سنوات. وما قادني إلى هذه الحقيقة المذهلة أنه إذا
كان الباحثون الفضائيون يراقبون الأرض بالفعل في
نظام أندروميدا، فهذا يعني أنهم لا يشاهدوننا ونحن
نركِّب لعبة «جبل الفضاء». وبدلًا من ذلك، يسجلون
أن هذه الصخرة الثالثة التي تلي النجم المتوسط تئوي
أنواعًا مثل بارانثروبوس إثيوبيكس وأسترالوبيثيكوس
أفريكانوس، وهما نوعان من أسلاف البشر القدماء عاشا
قبل ما يزيد على ٢٫٥ مليون سنة. فمجرة أندروميدا
بعيدة جدًّا لدرجة أننا نراها بالشكل الذي كانت
عليه قبل ٢٫٥ مليون سنة، والعكس صحيح. ومع وجود
مسافات أكبر، يصبح الضوء بوابة للنظر إلى
الماضي.
نحن في الواقع على دراية بهذا المفهوم لأنه يحدث
في حياتنا العادية. ففي كل مرة تسمع فيها صوتَ
الرعد في إحدى ليالي الصيف الحارة، ما تسمعه يكون
حدثًا وقع بالفعل قبل ثوانٍ في الغلاف الجوي.
وعندما تكون السحابة الرعدية فوقك مباشرة، فقد يبدو
وكأنك تسمع صوت الرعد في الوقت نفسه الذي ترى فيه
البرق. ومع ابتعاد السحابة، تصبح المسافة التي
يقطعها الصوت والضوء أطول، لكن الضوء يكون أسرع
بمليون مرة تقريبًا، لذلك هناك تأخير متزايد بين
رؤية البرق وسماع الرعد. يمكننا أيضًا أن نتساءل
عما كان سيحدث لو كانت سرعة الضوء أبطأ بكثير. إذا
غطى الضوء مترًا واحدًا فقط (حوالي ٣ أقدام) في بضع
ثوانٍ، فيمكننا أن ننظر إلى القمر الآن ونرى نيل
أرمسترونج وهو يخطو خطواته الأولى عليه من أجل
البشرية. قد يبدو الأمر ضربًا من الخيال، ولكننا
نستفيد من هذه الخاصية بالمقاييس الكونية. ونبني
تلسكوبًا لرصد الإشارات التي استغرقت ١٣ مليار سنة
للوصول إلى الأرض. وتعتبر هذه إحدى الطرق التي
نقتفي بها أثر النجوم الأولى، من خلال العودة
بالزمن إلى الوراء، لمشاهدتها وهي تتشكَّل وتعيش
وتموت.
•••
يتمحوَّر هذا الفصل مثلما اتضح حول الضوء وغيابه.
تشكِّل أنواعُ الضوء العديدة الطيفَ
الكهرومغناطيسي، وهو سلسلة متصلة من الأطوال
الموجية بدءًا من أشعة الراديو اللاسلكية، مرورًا
بالأشعة المرئية، ووصولًا إلى أشعة جاما. يمكن
استخدام هذه الأطوال الموجية المختلفة للضوء للكشف
عن عناصر الكون المختلفة، تمامًا كما تُستخدمَ
الأشعة السينية للكشف عمَّا بداخل الإنسان. ويمكن
الكشف عما يدور بباطن النجوم من خلال نمط الضوء
الذي تصدره، أي طيفها النجمي. وتكشف شدة الطيف عن
درجة حرارة النجوم. كما يكشف النمط الطيفي للخطوط
المظلمة عن العناصر الكيميائية التي تمتص الفوتونات
في الغلاف الجوي النجمي، مما ينتج عنه وجود خطوط
امتصاص مظلمة في الأطياف. قد تبدو السرعة التي
ينتقل بها الضوء كبيرة، ولكن في المسافات الفلكية،
تؤدي هذه السرعة المحدودة إلى تأخير في الوقت.
فالشمس التي نراها هي الشمس كما كانت منذ ثماني
دقائق. ومن ثَمَّ، لرؤية النجوم الأولى، قد نحتاج
إلى النظر لمسافاتٍ بعيدة جدًّا يستغرق الضوء ١٣
مليار سنة للوصول إلينا. وهذا يتطلَّب إلقاء نظرة
على مناطق بعيدة حجمها أكبر بكثير من حجم مجموعتنا
الشمسية، بعيدًا عن أطراف مجرتنا، بل أبعد من
المجموعة المحلية من المجرات، انطلاقًا إلى أعماق
الكون.
كنت أتصفح كتابًا في مكتبة جامعتي منذ فترة
ورأيتُ إهداءً غريبًا. في عام ١٩٦٤، نشر عالِم
الفيزياء الفلكية جورج جاموف كتابه المعنوَن «نجم
اسمه الشمس».
25 وكتبَ فيه: «من الطبيعي أن أهدي كتابي
الجديد إلى ذكرى الكتاب القديم»، وكان يقصد هنا
كتابه «الذي عفَّى عليه الزمن على نحو ميئوس منه»،
الذي نُشِرَ قبل ٢٤ عامًا فقط. وتماشيًا مع هذا
الإهداء، وبعد استكشاف الخلفية الكامنة وراء أقرب
نجم لنا والوقوف على حقيقة ما نعرفه ومقداره، علينا
الآن أن نمضي قدمًا ونجهِّز أنفسنا لمواجهة ما لم
نرَه من قبل.
هوامش
*
في واقع الأمر هذه هي مدة الكسوف الكلي
نفسها لعام ١٩٢٥. وقد حدث أطول كسوف في
القرن الحادي والعشرين قبالة ساحل جنوب
شرق آسيا في ٢٢ يوليو ٢٠٠٩، واستمر
لمدة ست دقائق ونصف. وحتى أقصر فترات
الكسوف لديها القدرة على إثارة الدهشة
والإعجاب، على غرار ما عرضته فيرجينيا
وولف في مذكراتها عن الكسوف الذي استمر
٢٤ ثانية في ٢٩ يونيو ١٩٢٧ في شمال
إنجلترا: «… فجأة اختفى الضوء. لقد
سقطنا. لقد انطفأ واندثر. لم يكن هناك
لون … لقد شهدنا موت
العالَم.»
26
†
وبالمناسبة، هناك عالِم فلك آخر لم
يمانع برودة الجو. فقد كتبت أخته
كارولين هيرشل، التي عيَّنها مساعدة له
على غير رغبتها في البداية، عن تجمد
تنورتها تمامًا،
27 أثناء أدائها لأعمالها.
ولكنها في نهاية المطاف لم تكن تهتم
بالبرد كثيرًا لأنها عثرت أخيرًا على
شغفها فيما تفعله؛ إذ كانت تود أن تصبح
أول عالِمة تحصل على أجر مقابل عملها
وفازت بالميدالية الذهبية المرموقة
للجمعية الفلكية الملكية في عام ١٨٢٨،
في وقت لم يكن يُسمَح فيه للنساء حتى
بحضور الاجتماعات.
‡
وهكذا فإنك إذا فكَّرت في الأمر،
فستلاحظ أنه بمساعدة رودولف سيتمكَّن
بابا نويل من التعرف على النقود
المزيفة، بل حتى اقتفاء أثر كميات
ضئيلة من الكوكايين والأمفيتامينات.
ويعتبر هذا بُعدًا جديدًا مزعجًا لبابا
نويل لمعرفة ما إن كنت مشاغبًا أم
لطيفًا.
§
الكلفن هو وحدة قياس لدرجة الحرارة مثل
الفهرنهايت أو الدرجة المئوية.
ونستخدمه لأننا لا نحب الخوض في مسألة
درجات الحرارة السالبة في الفيزياء
الفلكية، ومن ثَمَّ نحدد صفر كلفن على
أنها أبرد درجة حرارة ممكنة، ونطلق
عليها اسم الصفر المطلق، أي ما يعادل
−٢٧٣٫١٥ درجة مئوية. وللتحويل من
الكلفن إلى الدرجة المئوية، كل ما عليك
هو طرح ٢٧٣٫١٥ كلفن.
∥
الجزء الداخلي من الشمس عبارة عن كتلة
شديدة الاضطراب من الجسيمات المستثارة،
وقد يستغرق الفوتون مئات الآلاف من
السنين ليشق طريقه من قلب الشمس إلى
سطحها.
28 ومن الجدير بالذكر أنه على
الرغم من أن الضوء قد غادر الغلاف
الضوئي منذ ثماني دقائق، فالواقع أنه
قد غادر قلب الشمس منذ فترة أطول
كثيرًا: منذ حوالي ٥٠٫٠٠٠٫٠٠٠٫٠٠٨
دقيقة.