عصر إعادة التأيُّن
«ماذا عليك لو انتحلت اسمًا سواه؟ ما قيمة الأسماء؟ هل يتغير الزهر الذي ندعوه وردًا إذا دعوناه بأسماءٍ أُخر؟» (ترجمة أحمد باكثير). يعتبر هذا الاقتباس واحدًا من أشهر مقاطع مسرحية «روميو وجولييت» لويليام شكسبير، والتي ربما تعتبر من أشهر مسرحياته على الإطلاق. تتحسر جولييت على حقيقة أنها وقعت في حب شاب من عائلة مونتاجيو التي تحتقرها عائلتُها آل كابوليت. وبينما كانت تقاوم مشاعرها، صاحت أن اسمه لا يعني شيئًا لها، ولو أنه كان يحمل أيَّ اسم آخر غير مونتاجيو، لما كان حبهما ممنوعًا، أو «سيئ الطالع».
أتفهَّم وجهة نظر جولييت. فهذا ما أشعر به تجاه عصر إعادة التأيُّن، وهو الموضوع البحثي الذي كرَّستُ له حياتي. النجوم الأولى. والثقوب السوداء المخفية. والعودة بالزمن إلى الوراء. كل هذه الاحتمالات تبدو رائعة. ولذا، فإن حقيقة أنها جميعًا تقع تحت موضوع أشمل يسمى «عصر إعادة التأيُّن» يعد أمرًا مخيبًا للآمال. يا له من اسم رهيب حقًّا. لقد استغرق الأمر مني عدة أشهر حتى أعتاد عليه، وثِق بي عندما أقول إن أحدًا لن يحضر محاضراتك العامة إذا اتخذت هذا الاسم عنوانًا لموضوع المحاضرة. يمكنك تغيير العنوان إلى «العصور المظلمة في حياة الكون والنجوم الأولى»، ولن تخسر شيئًا. والجملة هنا مجازية. ففي بداية مسيرتي المهنية، كان أقصى ما كنت أتقاضاه مقابل محاضرة عامة واحدة هو كعكة محلَّاة، وكنت أشعر بالامتنان لذلك.
إعادة التأيُّن
لقد قطعنا شوطًا طويلًا في بحثنا عن النجوم الأولى. وقد ألقينا نظرة قريبة باستخدام علم الآثار النجمي، ونظرة بعيدة، عند الاستفادة من إمكانات تلسكوب جيمس ويب الفضائي واختبارها إلى أقصى درجة. وبينما ننتظر تحقيق المزيد من النجاحات في هذه المجالات، يمكننا مواصلة البحث عن أدلة مشابهة لنتيجة تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي. ففي هذه التجربة أشار ارتفاع درجة حرارة غاز الهيدروجين الأولي المنتشر في الكون إلى تكوُّن النجوم الأولى: الفجر الكوني. ونطبق هذه الفكرة حاليًّا على حقب لاحقة ونستخدم نفس آلية النجوم الأولى في تسخين الهيدروجين، ومن ثَمَّ تأيُّنه، للاستدلال على وجودها وخصائصها. هناك ثلاث حقب تحدد تكوُّن النجوم الأولى وعمرها: العصور المظلمة، والفجر الكوني، وعصر إعادة التأيُّن. تبدأ العصور المظلمة عندما يندمج الغاز لتشكيل النجوم الأولى؛ أما الفجر الكوني فيبدأ عندما تستحث بعض تلك السحب الاندماجَ، وتتحوَّل من تلقاء نفسها إلى نجوم أولى؛ وأخيرًا يحدث عصر إعادة التأيُّن عندما تسخِّن النجومُ الأولى (والثقوب السوداء والمجرات) الكونَ وتؤيِّنه.
بعد الانفجار العظيم، أصبح الكون ساخنًا. وصار مليئًا بالبروتونات والفوتونات والإلكترونات المنفردة المتصادمة، ومن ثَمَّ لم يكن أي شيءٍ مستقرًّا. ومع توسُّع الكون وانخفاض درجة حرارته، انضمت الإلكترونات إلى البروتونات المنجرفة، لتكوِّن ذرات الهيدروجين. وأصبحت الفوتونات قادرة على التنقل دون عوائق. ومن ثَمَّ أصبح الكون شفافًا أمام الفوتونات، وأنتجَ ما يمكننا رصده بأدوات القياس الحالية على أنه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وإمعانًا في التوضيح، أتخيَّل صالة ركاب في محطة قطار أو ساحة مليئة بالبالغين (البروتونات) وأطفالهم المفرطي النشاط (الإلكترونات) وهم يركضون في كل الاتجاهات. كمتفرج، يكاد يكون من المستحيل لك (باعتبارك فوتونًا) أن تشق طريقك في خط مستقيم وصولًا إلى الجانب الآخر، دون تفادي الآخرين أو تحويل مسارك. ولكن، عندما يتولى الكبار زمام الأمور ويمسكون بيد كل طفل، يصبح من الأسهل بكثير المرور دون انحراف. كان الكون مليئًا بالغاز الأولي، الذي يتكوَّن في الغالب من ذرات الهيدروجين، بعد ٣٨٠ ألف سنة من الانفجار العظيم. عندما تكون الذرات في حالة تتوازن فيها الشحنات الكهربائية للجسيمات (سالبة للإلكترونات، موجبة للبروتونات)، حينها تكون الذرات متعادلة. الشحنة الكهربائية لذرة الهيدروجين متوازنة، وتتكون من بروتون واحد موجب الشحنة وإلكترون واحد سالب الشحنة. كان الكون المبكر مليئًا بالهيدروجين المتعادل. وعلى مدى بضع مئات الملايين من السنين فقط، كان هذا الهيدروجين يندمج لتشكيل النجوم الأولى أو يتأيَّن، أي يعود إلى مكوناته الأساسية من إلكترونات وبروتونات منفصلة. ونطلق على هذا التغيُّر في حالة الهيدروجين الكوني، من متعادل إلى متأين، اسم عصر إعادة التأيُّن، حيث يعود إلى الشكل الذي كان عليه في البداية وقت الانفجار العظيم. تشير كلمة «إعادة» في مصطلح إعادة التأيُّن إلى حالة التأيُّن السحيقة في أقدم العصور، عقب الانفجار العظيم مباشرةً.
بدأ عصر إعادة التأيُّن أيضًا عندما بدأ الكون في تكوين النجوم والمجرات. لقد كانت المجرات والثقوب السوداء والنجوم الأولى التي وجدت في كوننا هي المسئولة عن تغيير ذلك الغاز المحيط. يمكننا قلب ذلك رأسًا على عقب، والتساؤل عما إذا كان بإمكاننا استخدام الغاز لتقديم نظرة ثاقبة حول تلك الأجرام الأولى. كان عصر إعادة التأيُّن حقبة مليئة بالأحداث. وبحلول نهاية هذه الحقبة، كانت النجوم الأولى قد ماتت، وتشكَّلت المجرات الأولى، وكانت الثقوب السوداء الأولى تزداد ضخامة. ومن خلال اكتشاف تسخين النجوم الأولى للهيدروجين، مثلت عملية رصد الفجر الكوني من خلال تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي مرحلة إحماء (بكل ما تحمله الكلمة من معنًى) لحدث رئيسي أكثر تعقيدًا. حان الوقت لأن أكف عن الاختباء وراء العناوين الأخرى خشية نفور الجمهور، وأن أقدم بكل فخر ما يمكن أن يسهم به هذا العصر في تطوير فهمنا للضوء الأول. ولذا، مرحبًا بكم جميعًا في عصر إعادة التأيُّن.
تزايد الفقاعات واندماجها
على الرغم من أن الذرات تتكوَّن من أجزاءٍ منفصلة، وهي الإلكترونات والبروتونات وربما النيوترونات، فهي ليست بالأجزاء التي تميل إلى أن تتفكك بمجرد تكوينها. ويتطلب ذلك توفير طاقة، تشبه تلك الطاقة اللازمة لفصل مغناطيسَين قويين أحدهما عن الآخر. فالمغناطيسان لن يتحركا إذا استخدمت قدرًا ضئيلًا من الطاقة. لكن، عند توفير مزيد من الطاقة، سينفصل المغناطيسان. يتطلب ذلك توفير كمياتٍ مختلفة من الطاقة لإزالة إلكترونات مختلفة في ذرات مختلفة، وإن كانت متطلبات الطاقة هذه لا تختلف في حالة وجود ذرات من نوع واحد، مثل الهيدروجين. في حالة الهيدروجين، يستلزم الأمر طاقة قدرها ١٣٫٦ إلكترون فولت، أو ٠٫٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٢ جول، لفصل هذا الإلكترون المنفرد عن البروتون شريكه الوحيد، مما يؤدي إلى تأيُّنه. إذا رجعنا مرة أخرى إلى الطيف الكهرومغناطيسي، فإن الفوتونات ذات الأطوال الموجية الخاصة بالأشعة فوق البنفسجية والأطوال الموجية الأقصر هي الوحيدة التي تتمتع بطاقاتٍ مكافئة لتأيُّن ذرة هيدروجين. إنها طاقة صغيرة للغاية. يمكنني تأيين مائة مليار تريليون ذرة هيدروجين باستخدام الطاقة الموجودة في لوح واحد من شوكولاتة «مارس» الشهيرة. لكن الكون ضخم، وهناك الكثير من ذرات الهيدروجين اللازم تأيينها. ولا بد أن تأتي هذه الفوتونات من مكان ما، وكانت النجوم الأولى مراكز فعالة لإنتاج الفوتونات.
في البداية، يوجد الكثير من الهيدروجين المتعادل المحيط بالنجم لدرجة أن جميع فوتونات الأشعة فوق البنفسجية تُستخدَم في تأيُّن الهيدروجين المتعادل الموجود في المنطقة المجاورة مباشرة، في فقاعة صغيرة. عندما يتأيَّن هذا الهيدروجين، يمكن لفوتونات الأشعة فوق البنفسجية أن تنتقل لمسافة أبعد قبل أن تصطدم بذرة هيدروجين متعادلة، وبهذه الطريقة تتأيَّن تدريجيًّا أغلفة كروية أكبر فأكبر. وبمرور الوقت، تتشكل فقاعات من الهيدروجين المتأين حول كل مصدر تأيُّن. ويُستدَل بهذه الفقاعات على وجود النجوم الأولى؛ لكونها أكبر من النجوم نفسها وأكثر قابلية للرصد. تميل الفوتونات المنبعثة من النجوم الأولى إلى البقاء بالقرب منها، مما يؤدي إلى تأيُّن ذرات الهيدروجين الموجودة بالجوار. وهذا يخلق فقاعاتٍ كروية مدمَجة لطيفة. ونظرًا إلى ظهورها في مجموعة كبيرة من ذرات الهيدروجين المتعادل، نطلق على هذه الظاهرة اسم «نموذج الجبن السويسري».
مصادر الفوتونات: النجوم الأولى
مصادر الفوتونات: الكوازارات (النجوم الزائفة)
مصادر الفوتونات: المجرات
يوجد الكثير من النماذج المختلفة فيما يخصُّ عدد النجوم الأولى والثقوب السوداء، ومقدار الإشعاع الذي تنتجه، ومدة بقائها. والحقيقة هي أن كل هذه الظواهر بالطبع قدمت مساهماتٍ مختلفة في أوقات مختلفة. أحد النماذج الأكثر استحسانًا من وجهة نظري ما ساهمت به نجوم الجمهرة الثالثة بدرجة بسيطة في التأيُّن المسبق للكون قبل أن تسرِّع المجرات الأولى العملية، حيث كانت تلك النجوم الأولى قد ماتت. وعلى الرغم من محاولات الكون لمقاومة ذلك من خلال عمليات إعادة التركيب وجُزر الهيدروجين المتعادل، كانت تلك الكوازارات التي تشكَّلت حديثًا وإشعاع الأشعة السينية البعيد المدى الخاص بها كافيين لإتمام المهمة بأكملها. لكن هذه مجرد نظرية واحدة.
تضييق نطاق الاحتمالات المتعلقة بعصر إعادة التأيُّن
اكتشفتُ الآن وجود فأر في منزلي. لم أرَه بعينيَّ، لكنني أعلم بوجوده. في عيد الميلاد، قدَّمتُ لزوجي شوكولاتة على شكل سانتا كلوز، إلا أنني اكتشفتُ أن آثار تمزق صغيرة على الغلاف، والشوكولاتة التي بداخله مقروضة. كانت علامات الأسنان الصغيرة دليلًا في حد ذاتها، ولكنه لم يكن دليلًا قاطعًا نظرًا إلى وجود ثلاثة أطفال صغار في المنزل. لكن، كان هناك مزيد من الأدلة في الجزء السفلي من الكيس: فضلات فأر. وهكذا حُسِم الأمر. إن التوصل إلى استنتاجاتٍ أو إطلاق أحكام استنادًا إلى أدلة هو أمرٌ بديهي للغاية لدرجة أن أي احتمال آخر يبدو سخيفًا في الوقت الحاضر. هناك الكثير من الاحتمالات المميزة لشكل هذه الفقاعات المتأينة وكيفية تطورها واتساع نطاقها، ونحن بحاجة إلى تضييق نطاق الاحتمالات في ضوء الأدلة المتوفرة. إن الأمر أشبه بحل طلاسم قضية قتل كلاسيكية، ولكن بدلًا من أن يكون السؤال المطروح هو «مَن الجاني؟» فإنه هنا «ما السبب؟». هناك شيء ما أدى إلى تأيُّن الهيدروجين في الكون، ولكن ما هو؟ نحن بحاجة إلى مزيد من البيانات لتضييق نطاق نماذجنا العديدة.
العامل الأول: إشعاع الخلفية الكونية الميكروي
يمكننا تضييق نطاق المدة التي استغرقها عصر إعادة التأيُّن باستخدام إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. يتألف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي من الفوتونات المتبقية من الانفجار العظيم. بعد حوالي ٣٨٠ ألف سنة من الانفجار العظيم، أصبح بإمكانها فجأة التحرك بحرية عبر الكون حيث انخفضت درجة الحرارة بدرجة كافية، وأصبح تكوين الهيدروجين المتعادل ممكنًا، وأصبحت التصادمات نادرة. في مسيرة انتقال الفوتونات نحونا، تغيَّرت طاقة الفوتونات أثناء مقاومتها تمدُّد الكون، مما أدى إلى حدوث اختلافاتٍ متوقعة في درجات الحرارة، أكدتها عمليات رصد بنزياس وويلسون، وبعثاتٌ لاحقة مثل بعثة مستكشِف الخلفية الكونية، ومِسبار ويلكنسون لقياس التباين الميكروي وتلسكوب بلانك. بإمكان مِسبار ويلكنسون لقياس التباين الميكروي، وخليفته بلانك، رسم خرائط لإشعاعات الخلفية الكونية الميكروية في السماء بأكملها، وتوضح هذه الخرائط الانحرافات الصغيرة في درجة الحرارة الإجمالية. يعتمد شكل هذه الانحرافات وحجمها على عدد من العوامل الكونية مثل كمية المادة المظلمة الموجودة، ومدى تناثر الفوتونات بفِعل الإلكترونات الحرة في مسار رحلاتها نحونا. يحظى هذا العامل الأخير بأهمية قصوى لدينا، حيث إن عصر إعادة التأيُّن ليس إلا مصنعًا ضخمًا للإلكترونات الحرة. يمكننا الحصول على قياس لمدى تناثر الفوتونات من خلال النظر إلى الأشكال والأنماط التي تظهر بها في الخريطة.
تخيَّل فوتونًا يشق طريقه نحونا. إذا كان الكون مليئًا بالهيدروجين المتعادل لفترة طويلة، فلن تكون هناك إلكترونات حرة يمكن الاصطدام بها حتى أوقات لاحقة. ومن ثَمَّ، يتأخر حدوث إعادة التأيُّن في مثل هذا الكون. ولكن على النقيض من ذلك، في الكون الذي يحدث فيه عصر إعادة التأيُّن سريعًا، أو في مراحل مبكرة جدًّا من نشأة الكون، هناك متسع من الوقت للاصطدام مع الإلكترونات الحرة، مما يؤدي إلى حدوث تغيير ملحوظ في خريطة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. يمكننا محاكاة شكل خريطة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي في حالة وجود سيناريوهات مختلفة لإعادة التأيُّن، ثم مقارنتها بعمليات الرصد. ووفقًا لعمليات الرصد باستخدام تلسكوب بلانك، يتطابق إشعاع الخلفية الكونية الميكروي مع النماذج التي استغرق فيها الهيدروجين المتعادل ٥٠٠ مليون سنة فقط ليتأين تأيُّنًا كاملًا. فقد كانت عملية إعادة التأيُّن سريعة.
العامل الثاني: أطياف الكوازارات
يمكننا تحديد موعد انتهاء عصر إعادة التأيُّن من خلال النظر إلى الإشعاع المنبعث من الكوازارات. تصدر الكوازارات إشعاعًا يغطي نطاقًا كبيرًا من الأطوال الموجية ضمن الطيف الكهرومغناطيسي. تخيَّل أن الكوازار أصبح الآن على مسافة قريبة من كوننا الشديد التأيُّن. يمكن للإشعاع الصادر من الكوازار أن يصل إلينا دون عوائق، حيث لا توجد ذرات هيدروجين تمتص الفوتونات. وبهذا يمكننا رصد الطيف الكامل المنبعث. تخيَّل الآن أن الكوازار على مسافة بعيدة جدًّا، وأن الضوء الذي نراه كان أقدم بكثير وكان عليه أن يسافر عبر كون مختلف تمامًا، كون مليءٌ بالهيدروجين المتعادل أثناء عصر إعادة التأيُّن أو قبله. يعتبر الهيدروجين المتعادل ماصًّا ممتازًا للفوتونات؛ ينتج عن ذلك خط امتصاص، أو انخفاض طفيف في الطيف، حيث يمتص الهيدروجين الفوتونات عند طول موجي معين. كلما ابتعد الكوازار، طالت مدة مقاومة فوتوناته للهيدروجين المتعادل. تفقد هذه الفوتونات الطاقة أثناء انتقالها، وبالتالي فإن ما كان في الأصل فوتوناتٍ عالية الطاقة أصبح الآن يتمتع بطاقة/طول موجي يتوافق مع مستويات الطاقة لذرة هيدروجين. وتمتص ذرات الهيدروجين كل الفوتونات التي تمتلك ذلك المستوى من الطاقة، وينتج عن ذلك خط امتصاص آخر. كلما زادت نسبة تعادل الهيدروجين التي تواجه الفوتونات في طريقها إلينا، ظهرت خطوط امتصاص أكثر على طول الطيف، وينتج عن ذلك ظهور منطقة منخفضة الكثافة الطيفية عند اندماج خطوط الامتصاص، ويمكننا الإشارة إليها باسم المنخفض الطيفي.
عند رصد أطياف الكوازارات، نجد عمومًا أن المنخفضات الطيفية المتكوِّنة عن الاندماج التام لخطوط الامتصاص تكون أكبر في الكوازارات قبل إعادة التأيُّن أو خلالها؛ وذلك لأن الفوتونات تصادف هنا المزيدَ من سحب الهيدروجين المتعادل، مما يعني وجود المزيد من خطوط الامتصاص. هناك تغير سريع في تكوُّن المنخفضات الطيفية، مما يشير إلى حدوث تغير مفاجئ في محتوى الهيدروجين المتعادل في الكون. ويشير ذلك إلى أن الكون قد تأيَّن بسرعة بعد حوالي مليار سنة من الانفجار العظيم. ومن الواضح أيضًا أن بيئة الكوازارات ليست واحدة. فبعضها لديه منخفضات طيفية محددة المعالَم ومنتظمة، في حين أن البعض الآخر لديه منخفضات طيفية غير محددة المعالَم وغير منتظمة رغم أنها رُصدت على مسافاتٍ متساوية أو في أوقات متماثلة، مما يشير إلى وجود نسبة أقل من الهيدروجين المتعادل في ذلك الوقت في مكان بعينه. وهذا معناه أن عملية إعادة التأيُّن لم تحدث بقدر متساوٍ. ومن المتوقع ألا تتصرف النجوم الأولى والثقوب السوداء بطريقة متزامنة عبر الكون العملاق. ففي بعض أجزاء الكون كانت إعادة التأيُّن سريعة، بينما كانت أبطأ في أجزاءٍ أخرى. يوضح لنا نمط الشبكة الأساسي الذي نسجته المادة المظلمة أن هناك مناطق عالية الكثافة تشكَّل فيها الكثير من المجرات، وهناك أيضًا مناطق فارغة منخفضة الكثافة. ولا عجبَ أن عملية إعادة التأيُّن تسير وفق هذا المبدأ، حيث تتأين المناطق العالية الكثافة أولًا، تليها بعد ذلك المناطق المنخفضة الكثافة.
نحن نعلم من بيانات إشعاع الخلفية الكونية الميكروي أن إعادة التأيُّن كانت سريعة، حيث استغرقت حوالي ٥٠٠ مليون سنة فقط. ونعلم من بيانات الكوازارات أن عصر إعادة التأيُّن قد انتهى بعد مليار سنة من الانفجار العظيم. ونعلم من بيانات هابل أن المجرات الكبيرة لا يمكن أن تكون وحدها المسئولة عن تأيُّن الكون. توفر هذه البيانات عوامل قيِّمة لتضييق نطاق الاحتمالات في نماذج المحاكاة العديدة المتوفرة لدينا، التي تحتوي جميعها على عناصر مختلفة: نجوم الجمهرة الثالثة، وثنائيات الأشعة السينية، والمادة المظلمة الفانية، والكوازارات. إن رصد الفقاعات نفسها سيوفر العامل الأكثر قيمة في تضييق نطاق الاحتمالات، ويكشف لنا خصائص جميع مصادر التأيُّن هذه.
تُمثل فقاعات الهيدروجين المتأين دليلًا على وجود النجوم الأولى. كان شيرلوك هولمز معتادًا على استخدام عدسته المكبرة الموثوق بها لفحص الأدلة عن كثب، والكشف عن أدق التفاصيل التي قد تميط اللثام عن هوية الجاني. لا توجد لدينا عدسة مكبرة، أعني تلسكوبًا بصريًّا كبيرًا بما يكفي للنظر بعيدًا بما فيه الكفاية. وحتى لو كان لدينا تلسكوب بهذه المواصفات، فلن يكون ذا فائدة كبيرة عندما يكون الهيدروجين هو ما نحاول رصده وتتبعه. لقد ذكرنا الهيدروجين كثيرًا حتى الآن: فهو العنصر الأكثر شيوعًا في الكون (إذا نحينا المادة المظلمة جانبًا)، وهو المكوِّن الرئيسي للنجوم، الذي يغذي الاندماج ويوفر الحرارة والضوء. ومن المنطقي جدًّا أن يكون مفتاح اكتشاف النجوم الأولى هو الهيدروجين أيضًا. فالهيدروجين المتبقي المحيط بالنجوم الأولى يمنحنا نظرة ثاقبة حول هذا العصر بفضل التكنولوجيا المتوفرة لدينا الآن. ربما نكون قد تمكَّنا من معرفة تأثير النجوم الأولى على الهيدروجين المحيط، لكن كيف يساعدنا ذلك في اكتشافها؟ ففي نهاية المطاف، يمكنني التقاط صورة للهيدروجين على الأرض ولكن لن يظهر فيها أي شيء؛ لأن الهيدروجين غير مرئي. أو بمعنى أصح أطواله الموجية الضوئية غير مرئية. فالضوء عبارة عن طيف، وفي الأطوال الموجية الراديوية، يضيء الهيدروجين مثل شجرة عيد الميلاد.
علم الفلك الراديوي
يُعرف عن هذا الموضوع أنه يمثل تحديًا أكبر مقارنةً بمجالات علم الفلك الأخرى. لنأخذ مثالًا على ذلك تلسكوب هابل الفضائي، وهو على الأرجح أشهر تجربة معاصرة في مجال الفيزياء الفلكية. فهو تلسكوب براق ولامع، علاوةً على وجوده في الفضاء. إنه يشبه الطفل النشيط في المدرسة، الذي يجذب انتباه الآخرين واهتمامهم بكل سهولة. وهذا صحيحٌ تمامًا، فهو إنجاز رائع في مجال الهندسة البشرية. لقد سمع معظم الناس عن تلسكوب هابل الفضائي، وكانت الصحف تقدم تحديثات دورية عن مساعيه. وعندما تعطَّل لفترة وجيزة في أكتوبر ٢٠١٨، تصدَّر الخبر جميع الصحف وأدلى علماء الفلك في كل مكان بتصريحاتٍ عبر الإذاعة والتلفزيون لطمأنة جمهور المستمعين والمشاهدين بأن علم الفلك لم ينتهِ جراء ذلك. وعلى النقيض، يشبه علم الفلك الراديوي الطفل الهادئ الذي يستمتع بقضاء فترات راحته في غرفة السمعيات والبصريات، يعبث بوسائل التكنولوجيا القديمة. يُعَدُّ علم الفلك الراديوي (في الوقت الحالي) مجالًا أكثر واقعية من علم الفلك البصري؛ إذ يعتمد إلى حد كبير على العصي المعدنية في الحقول والصحاري، بدلًا من الغرف النظيفة اللامعة ومنصات إطلاق الصواريخ. ولكن ينبغي ألا ننحي علم الفلك الراديوي جانبًا باعتباره رفيقًا دون المستوى أو عتيق الطراز مقارنةً بعلم الفلك البصري. فعلم الفلك الراديوي، في رأيي، يمثل ذروة الهندسة البشرية والبحث العلمي. لقد روعي في تصميم البنية التحتية والحوسبة أن نتمكن باستخدام بعض العصي المعدنية في الحقول والصحاري من العودة بالزمن إلى الوراء ورصد النجوم الأولى. إذا قلنا إن علم الفلك هو سفر عبر الزمن، فإن علم الفلك البصري هو آلة «ديلوريان» للسفر عبر الزمن من فيلم «باك تو ذا فيوتشر» (العودة إلى المستقبل)، في حين أن علم الفلك الراديوي هو «تارديس» بالمسلسل التلفزيوني «دكتور هُو»؛ حيث يأخذاننا إلى أزمنة سحيقة وأماكن بعيدة في كوننا لا يمكن الوصول إليها بأي وسيلة أخرى.
خرج علم الفلك الراديوي إلى النور بعد فترة طويلة من ظهور علم الفلك البصري. يمكن القول بأن علم الفلك البصري كان موجودًا منذ أن استخدم البشر النجوم في الملاحة، والقمر بأطواره المختلفة في تقديم القرابين. نشأ علم الفلك الراديوي بطريقة أوضح، نتيجة للحرب العالمية الثانية واستخدام الرادار؛ وهي تقنية تنبعث فيها موجات الراديو عبر منطقة شاسعة بحيث ترتد مجددًا حال اصطدامها بأي جسم في نطاق تلك المنطقة. ويمكن لجهاز الاستقبال تحديد المسافة التي يبعدها الجسم عن طريق حساب الوقت الذي تستغرقه موجات الراديو في الارتداد. ومن خلال إنتاج هذه الحزمة العريضة من موجات الراديو، يمكن لمحطة الرادار اكتشاف الأجسام وتتبعها ضمن نطاق معين، على مسافة أبعد كثيرًا مما يمكن رؤيته بالعين المجردة. كان اختراع الرادار خلال الحرب العالمية الثانية نقطة تحوُّل رئيسية لصالح قوات الحلفاء. تمكَّنت محطات الرادار من تقديم تحذيراتٍ من الغارات الجوية على لندن، مما سمح لسكان لندن بالاحتماء في الملاجئ بمجرد ظهور تلك الإشارات على شاشة في محطة رادار ساحلية في كينت. كما استُخدِم الرادار كوسيلة لتسهيل شن الهجمات. في البداية، أراد الجيش تصميم «صندوق أسود»، وهو جهاز يطلق حزمة مركَّزة من موجات الراديو على طائرة معادية ويفجِّرها ببساطة في السماء. وقد ثبت عدم جدوى هذا الأمر، ووُجِّه الاهتمام إلى تصميم نظام رادار صغير بما يكفي لتركيبه في طائرة مقاتلة. يمكن لوحدات الرادار هذه أن تساعد الطيارين على التنقل بين التضاريس الوعرة، ومساعدتهم في شن هجماتٍ على أهدافهم بدقة. كما يمكنها مساعدتهم في البحث عن طائرات العدو ضمن نطاق معين، حتى تتمكن طائرات الاستطلاع من إصدار إنذار مبكر، وفي القتال الجوي، يمكن لشاشات الرادار التحذيرية تحذير الطيارين من وجود عدو أسفل منهم أو وراءهم. في عام ١٩٤٣، قضت الطائرات المجهَّزة بوحدات الرادار على التهديد الناجم عن الغواصات الألمانية في غضون ستة شهور فقط. وأصبح بإمكان طائرات الحلفاء تحديد موقع أي غواصة تطفو على سطح الماء في الظلام الدامس، دون الاضطرار إلى تشغيل الأضواء إلا في الثواني الأخيرة لتيسير عملية الاستهداف.
هناك قول مأثور كثيرًا ما يُستشهَد به في العلم، وهو أن «ما يعتبره أحدهم ضجيجًا، يعتبره آخرون كنزًا». أمضى لوفيل فترة الحرب في تحسين معدل انضغاط وحدات الرادار وقدرتها على اكتشاف مقاتلات العدو. لم يكن النظام مثاليًّا وكانت هناك إشارة مزعجة تتداخل مع أنظمة الرادار، وهو ضجيج كان يُعتقَد أنه يأتي من موجات الراديو التي تتفاعل مع الجزء المتأين من الغلاف الجوي العلوي، الأيونوسفير، الأمر الذي ينتج عنه زخات من الجسيمات. أمضى لوفيل حياته المهنية قبل الحرب محاولًا دراسة خصائص فيزياء الجسيمات من خلال فحص زخات الجسيمات هذه في المختبر، باستخدام جهاز يُسمى الغرفة السحابية. اعتبر لوفيل العمل في وحدات الرادار فرصة لاستخدام السماء كغرفة سحب عملاقة، واستخدام أنظمة الرادار للكشف عن زخات الجسيمات في السماء. عندما انتهت الحرب بدأ العمل. ولحسن حظه، كان هناك العديد من التقنيات التي تستخدم موجات الراديو في زمن الحرب، ومن ثَمَّ تمكَّن بسرعة من بناء هوائي بسيط في فناء الجامعة. وبالسرعة نفسها، أدرك أن حدود المدينة المكتظة بالسكان كانت مكانًا صاخبًا للغاية بحيث لا يمكن استقبال الإشارات القادمة من الكون الهادئ بوضوح. ولذا، توجَّه إلى أرض مهجورة جنوب مانشستر، وأظهرت الاختبارات الراديوية الأولية أن هذه الأرض وفَّرت بيئة مثالية خالية من الإشارات الراديوية، ومن ثَمَّ فهي مثالية لتقصي الأشعة الكونية. ومرة أخرى، ضبطَ معداته الراديوية وبدأ يستقبل الإشارة. سمع لوفيل نشازًا، لكنه لم يكن من مصدر أرضي هذه المرة، بل من الفضاء. في الواقع، سمع الكثير من الضجيج الذي لا يتناسب مع المعدل النظري لزخات الجسيمات؛ فقد سمع ١٠ أو ١٢ أزيزًا في الساعة على عكس العدد القليل المتوقع في الليلة الواحدة. اتضح أن لوفيل كان يرصد النيازك. وشهد بذلك مولد مجال جديد تمامًا. في السابق، كان الرادار يُستخدَم لإرسال الإشارات واستقبال صداها المرتد. أما في هذه اللحظة، ولأول مرة، أصبح في مقدورنا الاستماع إلى ما يقوله بقية الكون.
على الرغم من تشتت انتباهه بدراسة النيازك، لم ينسَ لوفيل مهمته الأصلية المتمثلة في اكتشاف مسارات تأيُّن الجسيمات التي تسقط على الغلاف الأيوني للأرض (الأيونوسفير). من الواضح أنه كان في حاجة إلى تلسكوب أكثر حساسية، ليس مجرد هوائي في حقل، بل سطح مكافئ ضخم من شأنه أن يركِّز نطاقًا أكبر من موجات الراديو على جهاز الاستقبال، مما يسمح لنا بالاستماع إلى إشارات أوضح وأقل ضجيجًا، أقل بكثير من ضجيج الشهب. وبالفعل بنى ذلك التلسكوب، الذي يُسمى الآن تلسكوب لوفيل، في مرصد جودريل بانك، ولا يزال يمثل إحدى أيقونات علم الفلك الراديوي فضلًا عن كونه إحدى أدواته الفعَّالة المستخدمة حتى الآن. وهو يضم مركزًا علميًّا رائعًا، بل مهرجانًا سنويًّا أيضًا للموسيقى والعلوم يسمى «بلو دوت» (النقطة الزرقاء) (تيمنًا بوصف كارل ساجان للأرض بأنها النقطة الزرقاء الشاحبة).
نحن بحاجة إلى طبق أكبر
يتمتع علم الفلك الراديوي بمكانة خاصة لدى المملكة المتحدة، ليس فقط لأننا، نحن البريطانيين، جزءٌ من قصة نشوئه، ولكن لسبب آخر محمود الدافع، وهو الطقس. يعرف أي شخص حالفه الحظ لينعم بزيارة جزرنا الجميلة أن الطقس لدينا غير مشجِّع بالمرة، حيث يشيع تكوُّن السحب وهطول الأمطار. يجد معظم الزملاء الدوليين العاملين في المملكة المتحدة أنفسهم في حيرة من أمرهم ووحيدين في مكاتبهم عندما تتعدى درجة الحرارة ٢٥ درجة مئوية، حيث يعلم البريطانيون الذين ولدوا في بريطانيا وترعرعوا فيها أن هذا اليوم مخصَّص بشكل غير رسمي لارتياد الشواطئ. يتمركز أكبر التلسكوبات البصرية في العالم في هاواي وتينيريفي وتشيلي؛ حيث تشتهر جميعها بالطقس المشمس ومن غير المرجح أن تحول السحب دون نجاح عمليات الرصد الباهظة الثمن التي تُجرى بها. وعليه، فإن المملكة المتحدة ليست مكانًا مثاليًّا لعلم الفلك البصري بوجه عام. لكن التلسكوبات الراديوية يمكنها الرصد في نطاق أكبر من الظروف الجوية المختلفة، مما يجعلها أداة مثالية للمملكة المتحدة.
يمثل تلسكوب لوفيل المرحلة الأولية في علم الفلك الراديوي المصمَّم لهذا الغرض ويؤكِّد على مبدأ عام وجيه يتمحور حول حقيقة أن الفضاء صاخب، وسماع الأصوات الهادئة يتطلب تلسكوبًا كبيرًا. للاستماع إلى إشارة من ١٣ مليار سنة مضت، إشارة صغيرة دفينة ضمن سيمفونية من الأصوات قادمة من كل المجرات الأخرى في الكون، سنحتاج إلى طبق كبير جدًّا. ألقِ نظرة سريعة على صور التلسكوب الذي يبلغ طوله ٩٠ مترًا (٣٠٠ قدم) في جرين بانك في ١٥ نوفمبر ١٩٨٨ (يمينًا) و١٦ نوفمبر ١٩٨٨ (يسارًا) في نهاية ملحق الصور. هل لاحظت المشكلة؟ توجد حدود هندسية معينة لأحجام هذه الهياكل الرائعة. لقد عمل تلسكوب جرين بانك لسنواتٍ عديدة، وساهم في التوصُّل إلى اكتشافاتٍ علمية مؤثرة. ولكن في نهاية المطاف، انهار التلسكوب بسبب مشكلة هيكلية؛ فكلما زاد حجم التلسكوب، زادت إمكانية تعرضه لمشاكل هيكلية. هل هذا يعني أن هناك حدًّا أساسيًّا لمدى صغر الإشارة التي يمكننا استقبالها، يتحدَّد في ضوء قدرتنا على بناء طبق كبير بما يكفي؟ لحسن حظنا ولصالح عمليات البحث عن النجوم الأولى، الجواب هو «لا».
قياس التداخل
عند تشغيل أغنية على هاتفك، يمكنك القيام بأحد أمرين. إما الاستماع من خلال مكبر الصوت أو الاستماع من خلال سماعات الأذن.
تتكوَّن مصفوفة الترددات المنخفضة من حوالي ٢٥٠٠ هوائي. ومن خلال الجمع ببراعة بين كل تلك الآلاف من الإشارات، يمكننا الاستماع إلى إشارة صغيرة قادمة من عصر إعادة التأيُّن. على أي حال، تلك كانت الخطة. لقد بدأ العمل في مصفوفة الترددات المنخفضة منذ عام ٢٠١١، ولكن حتى الآن لا تزال هذه الإشارة القادمة من النجوم الأولى تراوغنا. تُرى أين هي؟
الإشارة الإحصائية القادمة من النجوم
دعونا نفكِّر فيما نحاول اكتشافه. في الوضع المثالي، من المفترض أن نتمكَّن من إلقاء نظرة على رقعة من السماء بدرجة كافية من الحساسية تمكننا من الحصول على خرائط للفقاعات، أي صور للجبن السويسري. وبهذا يمكننا دراسة بنيتها وتحديد أي من عمليات المحاكاة العديدة لدينا بمكوناتها المتعددة تمثل «الحقيقة». لا يمكن تحقيق ذلك في ظل التكنولوجيا الحالية؛ لأننا لا نملك درجة الدقة الكافية (إلا أنه يمكنك مراجعة الفصل التالي لمعرفة الخطوات المستقبلية)، فنحن نبحث عمَّا نسميه إشارة إحصائية، بدلًا من الصورة.
يصدر الهيدروجين المتعادل فوتوناتٍ يبلغ طولها الموجي ٢١سم، إلا أن هذا الطول الموجي يزداد عندما تكافح الفوتونات تمدُّد الكون وتفقد الطاقة. ويصل الطول الموجي للفوتون المنبعث بعد ٤٠٠ مليون سنة من الانفجار العظيم إلى ٢٫٥ متر. أما الفوتون الذي انبعث بعد ذلك بقليل، أي بعد ٧٠٠ مليون سنة من الانفجار العظيم، فإن طوله الموجي يصل إلى، أو ينزاح نحو الأحمر بمقدار، ١٫٨ متر. يمكننا ضبط تلسكوبنا الراديوي لالتقاط طول موجي واحد فقط في كل مرة، مع أخذ عيناتٍ من الضوء المنبعث في أوقاتٍ مختلفة. وإذا أخذنا عينة بعد ٤٠٠ مليون سنة من الانفجار العظيم، فسنجد أن المجرات الأولى قد تشكَّلت للتو وتضخ ما يكفي من الفوتونات لتحفيز إعادة التأيُّن. وهذا يعني أن هناك الكثير من الهيدروجين المتعادل حولنا، وبالتالي يمكننا قياس الكثير من الإشعاع المنزاح نحو الأحمر الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم. لكن بعد ذلك، عندما يتأين الكون، تصبح الفوتونات التي تصل إلينا بطول موجي ١٫٨ متر أكثر ندرة، حيث يقل الهيدروجين المتعادل، ويقل بالتالي الإشعاع الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم. وهذا ما نسعى إلى كشفه بالتلسكوبات الحالية مثل مصفوفة الترددات المنخفضة؛ حيث نرصد إشارة تحمل الكثير من الإشعاع الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم، ثم لا شيء. ذبذبة يليها خط ثابت. ومع أنها مسألة بسيطة، فلم نتمكَّن من تحقيقها، سواء باستخدام مصفوفة الترددات المنخفضة، أو مصفوفة مورشيسون الواسعة المجال في أستراليا، أو المصفوفة الدقيقة لاستكشاف عصر إعادة التأيُّن في جنوب أفريقيا، أو التلسكوب الراديوي العملاق لرصد الموجات المترية في الهند.
الكون الصاخب
تكمن المشكلة في أن الكون صاخب للغاية. فالإشعاع الكهرومغناطيسي لا ينبعث من الهيدروجين المحيط بالنجوم الأولى فحسب. وهناك عمليات تجري في كل مجرة في الكون تنتج إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا. عندما نضبط التلسكوب الراديوي لدينا على الأرض، فنحن لا نستهدف الإشارات المنبعثة من النجوم الأولى فقط. بل نضبط التلسكوب على طول موجي محدد، ونلتقط أي إشعاع يصل إلينا بالطول الموجي نفسه، مما يؤدي إلى التشويش على الإشارة. ويوجد الكثير من هذه الضوضاء. يشبه الأمر إجراء محادثة هاتفية أثناء المشي بجوار مثقاب هوائي. تستمر الإلكترونات التي تتجول داخل مجرتنا في التسارع والتباطؤ بسبب تأثير المجالات المغناطيسية عليها. عندما تتباطأ، تنتج موجات راديوية، وهي عبارة عن إشعاع محدد يسمى «الإشعاع السنكروتروني». وهذا الإشعاع وحده يغمر إشارات النجوم الأولى بعدة آلاف من الإشارات. وهناك أيضًا إشارات راديوية من كل مجرة أخرى. إن الاستماع إلى إشاراتنا الصغيرة من بين كل هذه الضوضاء مهمة شاقة. نطلق على هذه المصادر الفلكية للضوضاء اسم «الإشارات المتداخلة». ومما يزيد الأمر سوءًا أن التلسكوب نفسه يصدر ضجيجًا. فالمعدات الكهربائية تنتج إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا، وبقدر ما يمكننا التخفيف من تأثيره، فإنه لا يمكننا منعه تمامًا. والضجيج الصادر عن المعدات نفسها يغمر إشارتنا بإشارات أقوى منها عشر مرات. لتوضيح الأمر، يمكنك التفكير كيف أن سكان مدينة جوثام يطلبون المساعدة من حاميهم الرجل الوطواط عن طريق تسليط ضوء على شكل وطواط في السماء. لحسن حظ مدينة جوثام، تحدث معظم الجرائم المروعة ليلًا، ولذا يستطيع بروس واين رؤية إشارته بسهولة وإيقاف أي مخطط كان من المقرر تنفيذه. ولكن إذا بدأ الجوكر مخططًا في منتصف النهار عندما تكون الشمس في كبد السماء، حينها لن تكون إشارة الوطواط واضحة، وبالتالي ستكون نسبة الإشارة إلى الضوضاء ضئيلة، وسينجح الجوكر. هذا يجعلك تتساءل: لماذا لا يملك بروس واين هاتفًا؟!
الحَدُّ من الإشارات المتداخلة
مع أن إشارة النجوم الأولى قد تكون أصغر بكثير من الإشارة القادمة من بقية الكون، فإنها تكون ذات شكل مختلف، مما يمنحنا فرصة لتمييزها. هَب أنك ضبطت جهاز الراديو لديك على محطة للموسيقى الكلاسيكية الهادئة، ولكنك تستاء عندما يتداخل تردد محطة راديو منافسة غير مرخصة مع تردد محطة الموسيقى الكلاسيكية. إذا كانت المحطة غير المرخصة تبث أيضًا موسيقى باخ وبيتهوفن، فسيكون من الصعب معرفة أي الإشارات هي الإشارة الأصلية وأيها الإشارة الدخيلة. ولكن إذا كان لدى المحطة غير المرخصة ولع بموسيقى الديث ميتال، فحينها حتى لو كانت إشارتها أعلى بكثير من إشارة المحطة الأصلية، فلا يزال بإمكانك التمييز بين المحطتَين بسهولة إلى حد ما. نحن نستخدم الفكرة نفسها لفصل إشارة النجوم الأولى عن بقية أصوات الكون، وذلك من خلال النظر في كيفية تغيُّر تلك الإشارات عند تغيير الطول الموجي لعمليات الرصد. إذا كنت معتادًا على ضبط راديو «إف إم»، فستعرف أن كل محطة بعينها تبث على نطاق من الترددات. على سبيل المثال، تُبث محطة «بي بي سي راديو ٢» على الترددات ٨٨–٩١ إف إم. بالمثل، يُبث الضجيج الصادر من مجرتنا وجميع المجرات الأخرى على نطاق أو طيف من الترددات (أو ما يعادل ذلك من حيث الطول الموجي). إذا استمعنا إلى الإشعاع السنكروتروني وغيَّرنا الطول الموجي ببطء، فسنسمع الأصوات نفسها ولكن بمستوى صوت مختلف؛ حيث يكون التغيير سلسًا عبر الطيف. ولكن إذا استمعنا إلى إشارة النجوم الأولى بالطريقة نفسها، فإننا نسمع أصواتًا مختلفة مع تغيير الطول الموجي. إذ تنمو فقاعات الهيدروجين المتأين وتندمج وتتحد من جديد، ومن ثَمَّ يكون الانبعاث الراديوي مختلفًا في كل مرة نلتقط فيها لقطة، ويكون التغيير عبر الطيف غير سلس ومتنافرًا. الأمر أشبه بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الديث ميتال في آنٍ واحد. لقد شكَّل فصل هذه الإشارات معظم مسيرتي البحثية حتى الآن. هناك العديد من الطرق المستخدمة لفصلها بنجاح بِناءً على أطيافها المتباينة الأشكال، ويتفوق بعضها على بعض في ظروف مختلفة، ولكن الحقيقة أنها جميعها ذات تأثير فعال. على الرغم من طبيعة المشكلة المعقدة، والكَمِّ الهائل من الإشارات المتداخلة مقارنة بإشارتنا الصغيرة، يمكننا إزالة الإشارات المتداخلة، ولكن مع وجود المزيد من العمل الذي يتعيَّن القيام به.
عند تطبيق هذه التقنيات، علينا توخي الحذر حتى لا نعلن عن اكتشاف إشارة ما وهي في الواقع مجرد ضوضاء أو مقدار ضئيل متبقٍ من الإشارات المتداخلة. ومن ثَمَّ، علينا الالتزام بالمنهجية القائمة على الأدلة، ثم نأخذ كل دليل في الاعتبار وندرسه بدقة. وهذا هو جوهر عملي اليومي المتمثل في تصميم وتطبيق اختباراتٍ تحليلية من شأنها أن تزيل الإشارات المتداخلة وتتيح لنا يومًا ما أن نكون واثقين بما اكتشفناه. لدينا الآن الكثير من البيانات، المقدَّرة بوحدات البيتابايت محفوظة على قرص صلب في انتظار إخضاعها للبحث والدراسة من أجل العثور على تلك الإشارة الأولى. لكنها لا تزال محفوظة هناك؛ لأن منهجيتنا ليست مضمونة بعد. وما يحدث أننا نأخذ عينة صغيرة من البيانات ونحاول مرارًا وتكرارًا تقليل تلك الإشارات المتداخلة، وتفادي هذا الضجيج، بأفضل ما في وسعنا. وندوِّن ملاحظاتٍ بنقاط الضعف الموجودة في الأساليب والطرق التي طبقناها ثم نجري عليها تحسينات، ونبدأ العملية برمتها من جديد.
الكون يفاجئنا دائمًا
عندما التقيتُ البروفيسور ليون كوبمانز، أحد الباحثين الرئيسيين في المشروع العلمي «عصر إعادة التأيُّن بعدسة مصفوفة الترددات المنخفضة»، في مكتبه في جرونينجن بهولندا، كان يعاني إرهاقًا شديدًا بسبب رحلته الجوية إلى أستراليا. كان علماء الفلك في مجال عصر إعادة التأيُّن قد نزلوا في جزيرة صغيرة قبالة ساحل كوينزلاند بأستراليا لمشاركة آخِر الأخبار حول أبحاثهم ومستجدات أخرى بشأن تجارب مثل مصفوفة مورشيسون الواسعة المجال، وتجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي، وبالطبع مصفوفة الترددات المنخفضة. تشتهر بعض المجالات العلمية (لن أحدد مجالًا بعينه) باحتدام التنافس بينها، حيث تشوبها أجواء متوترة ومؤتمرات صدامية، لكن في مجالي الأمر مختلف تمامًا. وعلى الرغم من أن معظمنا عضو في فريق تلسكوب أو آخر، فالمنافسة صحية تمامًا، ولا يعني ذلك خلو الأجواء من الانتقادات والأسئلة، ولكن غالبًا ما يتبع ذلك عرض بالمساعدة أو اقتراح حل عملي. مجالنا صغير وتربطنا علاقات وطيدة، وهو أمر جيد بالنظر إلى أننا ربما نتقابل مرتَين في السنة على أدنى تقدير لبقية حياتنا العملية. التقينا في مكتب كوبمانز، وهو من أواخر المكاتب المتبقية في المبنى التي تحتوي على سبورة. كانت السبورة مغطاة بالمعادلات، كما هو معتاد مع أي فيزيائي متفانٍ في عمله طَوال الوقت. كانت لديه أيضًا ساعة لاحظتُ على الفور أنها تحتوي على ١١ رقمًا فقط، و٥٥ دقيقة. ضحك وقال إن السبب في ذلك «أنكِ تشعرين دائمًا أن الوقت ينفد منكِ» لكونكِ أكاديمية، وبحسٍّ طريف أخبرني أنه لم يلحظْ أنها لم تكن مجرد ساعة عادية إلا بعد أسبوعَين من التدقيق فيها. إن الوسط الأكاديمي مجال مزدحم، وكوبمانز أكثر انشغالًا من معظم الأشخاص، فهو باحث رئيسي مساعِد في مشروع «عصر إعادة التأيُّن بعدسة مصفوفة الترددات المنخفضة»، ضمن فريق إدارة الجيل القادم من التلسكوبات الراديوية، ومصفوفة الكيلومتر المربع، كما أنه شارك في المسبار القمري المتمثل في المستكشف الهولندي-الصيني المنخفض التردد (سنشير إلى آخِر مثالَين في الفصل القادم). لقد عمل كوبمانز في مجال عصر إعادة التأيُّن منذ أن كانت مصفوفة الترددات المنخفضة مجرد فكرة، ويتذكر المحادثة التي دارت حينما قرروا رصد تلك الإشارة التي يبلغ طولها الموجي ٢١سم باستخدام التلسكوبات الراديوية. بلغ الحماس مَبلغه من جير دي بروين، الذي أشرف على رسالته للدكتوراه ثم أصبح بعد ذلك زميلًا له، وأراد أن يبدأ على الفور باستخدام تلسكوبات ويستربورك التي صُمِّمت في سبعينيات القرن العشرين، لكن كوبمانز كان دائمًا أكثر حذرًا، على حَدِّ تعبيره هو شخصيًّا. كان هذا المزيج من الحماس والحذر هو المحرك المثالي لمشروع «عصر إعادة التأيُّن بعدسة مصفوفة الترددات المنخفضة» الذي أوصله إلى الاكتشاف الأول. حسنًا، كنت أمزح؛ فنحن لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكنني كنت آمل أن نكون قد وصلنا بحلول الوقت الذي يُنشر فيه هذا الكتاب، وهذا مبرر كافٍ لاستخدامي تلك الجملة مؤقتًا حتى يتحقق الأمر فعليًّا. كان كوبمانز مختصًّا بدراسة التأثير القوي لعدسة الجاذبية، وعندما سألتُه عن سبب تغيير مجال اختصاصه إلى شيء مغاير تمامًا، قال: «حسنًا، هذا تحدٍّ، وأنا أحب التحدي!» كانت التحديات التي واجهتها مصفوفة الترددات المنخفضة، وأي مقياس تداخل لعصر إعادة التأيُّن، هائلة وغير متوقعة إلى حَدٍّ ما. وسادَ شعور بالتفاؤل عند اكتمال مشروع مصفوفة الترددات المنخفضة عام ٢٠١٢. حتى إنني نشرت في عام ٢٠١٣ أول بيانات عن عصر إعادة التأيُّن في أطروحتي البحثية، وكانت في الغالب عبارة عن ضوضاء وإشارات متداخلة وغير مترابطة، ولكنها بيانات على أي حال. ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من سبع سنوات، لم يتحقق أي اكتشاف. تعد هذه التجربة من أغرب التجارب؛ فنحن نقول إننا نبحث عن إشارة قد حصلنا عليها بالفعل. الإشارة موجودة، مدفونة في آلاف الساعات من البيانات التي رصدناها، وكل ما علينا هو إزالة الغبار عن تلك البيانات، طبقة تلو الأخرى، مع تبيُّن كل ذرة غبار نزيلها جيدًا خشية أن نزيل جزءًا من إشارتنا الحساسة دون قصد. سألتُ كوبمانز عمَّا إذا كان واثقًا من أننا سنحقق اكتشافًا باستخدام تلسكوبات الجيل الحالي. صمتَ قليلًا ثم قال: «عامل الإثارة موجود بكل تأكيد، ما زالت الإثارة موجودة، ولكنني أعتقد أننا نستند جميعًا الآن إلى أساس متين أكثر من أي وقت مضى … أعتقد أن ما نتعلمه هو كيفية القيام بذلك … هدفي الأول هو مجرد تحقيق اكتشاف، هذا هو هدفي الأول، والهدف الثاني هو … استيعاب أن الكون يفاجئنا دائمًا. ستكشف لنا البيانات ما يفعله الكون، ولن أتعجَّب إذا كان مختلفًا عن النماذج العديدة التي اقترحناها.»
على ذكر المفاجآت، سألتُه عن الأمر الذي يشغل بال كل الباحثين في عصر إعادة التأيُّن، وهو تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي. هل يثق بصحة نتائجها؟ وهنا أجابني: «أقول دائمًا إنني متشكك بنسبة ٩٠٪ ومتفائل بنسبة ١٠٪ … ولكن نسبة ١٠٪ هذه كانت كافية لبدء المتابعة والنظر في أحدث النتائج [المستقاة من تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي] … يبدو أن فيها شيئًا ما.» إن ضخامة المهمة التي تنتظرنا، وهي الكشف عن تلك الإشارة الصغيرة، تجعل من تبني مبدأ الشك منظورًا صحيًّا في هذا المجال، سواء فيما يتعلق بالعصور المظلمة أو بعصر إعادة التأيُّن. وكما هو الحال تمامًا مع تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي، فإن أي اكتشاف لعصر إعادة التأيُّن سيستلزم التحقق من صحته قبل أن نثق به ثقة عمياء، وربما يكون ذلك من خلال تجربة مختلفة تمامًا.
•••
عصر إعادة التأيُّن هو الفترة التي تأين فيها الهيدروجين المتعادل المنتشر في الكون بواسطة النجوم الأولى والمجرات والثقوب السوداء. ومن شأن قياس درجة التأيُّن في الكون في أوقات مختلفة أن يمنحنا فكرة عن الأشياء التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وكيف كانت تتصرف. ربما كانت المجرات الخافتة (القزمة) تهيمن على إنتاج الفوتونات المؤينة، مع مساهمات ضئيلة من الكوازارات ونجوم الجمهرة الثالثة. إن الهدف هو الرصد هذه المرة، والهيدروجين المتعادل هو الذي يمنحنا نافذة على ذلك. ينتج الهيدروجين المتعادل فوتونات طولها الموجي ٢١سم، ولكن هذا الطول الموجي يزداد إلى أطوال موجية راديوية أثناء رحلة الفوتون إلينا، ولذا علينا استخدام التلسكوبات الراديوية لرصدها. ولكي نرجع ١٣ مليار سنة إلى الوراء، نحتاج إلى تلسكوبات ضخمة، صمَّمناها من خلال ضم الكثير من الهوائيات معًا عبر القارات بطريقة تسمى «قياس التداخل». هناك العديد من التلسكوبات التي تعمل الآن، لكن الكون صاخب للغاية وسيستغرق الأمر بعض الوقت لاستبيان إشارات النجوم الأولى الصغيرة ورصدها من بين كل هذا الصخب والضجيج.
والسؤال هنا: متى سننتهي من التحقق من صحة بيانات مصفوفة الترددات المنخفضة؟ إنه سؤال جيد. في عام ٢٠١٠ اعتقدتُ أننا سنتمكن من التأكد من صحة الاكتشاف بحلول عام ٢٠١٣. والآن، أراهن على أن هذا سيحدث خلال الأعوام القليلة المقبلة. ولذا، من الأفضل أن أعود لإكمال عملي حتى تحين هذه اللحظة.
مراجع مفيدة
-
Furlanetto, S. et al. 2006. Cosmology at Low Frequencies: The 21 cm Transition and the High-Redshift Universe. Physics Reports, Volume 433, Issue 4–6, p. 181–301.
-
Loeb, A. 2010. How Did the First Stars and Galaxies Form? Princeton University Press, New Jersey, US.
-
Wise, J. 2019. An Introductory Review on Cosmic Reionization. Contemporary Physics 60, 2: 145–163.
-
Zaroubi, S. 2013. The Epoch of Reionization, the First Galaxies. Astrophysics and Space Science Library, vol. 3: 45.