الفصل الحادي عشر
المجهولات المجهولة
في العلم هناك
بديهيات معروفة (وهي الأمور التي تَعْلمها بالفعل)،
ومجهولات معروفة (وهي المجهولات التي تدري بأنها موجودة
ولكنها ما زالت مجهولة)، ومجهولات مجهولة (وهي
المجهولات التي لا تدري بوجودها من الأساس). إن معدلات
بيانات التلسكوبات الحديثة هائلة، والتحقق الآني من تلك
البيانات بحثًا عن وجود أي مفارقات يكاد يكون مستحيلًا.
ولكن إذا تمكَّنا من تخزين البيانات ومراجعتها لاحقًا،
فقد تنبثق المفاجآت في بعض الأحيان. تحتوي سجلات
التخزين الخاصة بهذه التلسكوبات الكبيرة على العديد من
الاكتشافات التي حققناها، على سبيل المثال التدفقات
الراديوية السريعة التي رصدها تلسكوب باركس.
1 والتدفقات الراديوية السريعة عبارة عن
نبضات راديوية ذات سطوع هائل، يُعتقَد أنها قادمة في
الأصل من خارج المجرة. يتطوَّر هذا المجال بسرعة كبيرة
لدرجة أن النموذج المُستحسَن لأصل التدفقات الراديوية
السريعة قد تغيَّر في كل مسودة لهذا الكتاب. ولا توجد
إجابة واضحة حتى الآن. لقد زاد معدل اكتشاف التدفقات
الراديوية السريعة عامًا بعد عام منذ اكتشافها في عام
٢٠٠٧، حيث مُشِّطت سجلات التخزين الأرشيفية حول العالم
بنجاح بحثًا عن أي تدفقات، ووُجِّهَت التلسكوبات للبحث
عن تدفقاتٍ جديدة. هناك معدل متوقع لأكثر من ١٠٠٠ تدفق
راديوي سريع يوميًّا عبر السماء بأكملها.
2 وهنا يُطرَح السؤال التالي: أنَّى لنا أن
نغفلها رغم عددها الكبير؟ ببساطة … لأننا لم نكن نبحث
عنها. لقد كانت من المجهولات المجهولة التي لم نكن نعلم
بوجودها من الأساس. وبينما كانت سجلات التلسكوبات
الراديوية العالمية تُمشَّط بحثًا عن التدفقات
الراديوية السريعة، عُثر على ظاهرة أخرى قصيرة مقتضبة.
وهذه الظاهرة أُطلِق عليها اسم البريتونات، وأشارت
البيانات إلى أنها نشأت داخل المجرة. وقد أدى ذلك إلى
إثارة حالة من الفوضى والارتباك في مجتمع الباحثين
المهتمين بالتدفقات الراديوية السريعة، حيث كان نوعا
الإشارة متشابهَين بما يكفي للتشكيك في فرضية أن يكون
مصدر التدفقات الراديوية السريعة من خارج المجرة. إلا
أن البريتونات لم تكن موجودة. وفي بحث جميل وطريف،
أوضحَ فريقٌ من العلماء أنه بعد النظر إلى البريتونات
عن كثب، «كشفت الاختبارات اللاحقة عن إمكانية توليد
البريتون عند تردد ١٫٤ جيجاهرتز عندما يُفتَح باب فرن
الميكروويف قبل انتهاء زمن الطهي مع وجود التلسكوب في
زاوية مناسبة بالنسبة إلى الإشارة. إن الانبعاثات
الراديوية التي تخرج من أفران الميكروويف أثناء مرحلة
إيقاف تشغيل الصمام المغناطيسي الإلكتروني (الماجنترون)
تفسِّر بدقة جميع الخصائص المرصودة لإشارات
البريتون.»
3 يا إلهي. لم يكن هذا اكتشافًا لكيان جديد
في الفيزياء الفلكية. بل كان الأمر أشبه بشخص في المنزل
المجاور شعر بالجوع بينما كان التلسكوب في مرحلة جمع
البيانات. وما يدرينا، فأيُّ شيءٍ يمكن أن يحدث مع
المجهولات المجهولة!
المجهولات المعروفة
لقد تمكَّنا من تغطية الكثير من البديهيات
والمجهولات المعروفة لنا. واتبعنا المسارات العديدة
للضوء الأول، سواء كان قادمًا من النجوم أو من
الثقوب السوداء أو المجرات. وأصبحت عمليات المحاكاة
متقدمة للغاية لدرجة أنه يمكننا الآن متابعة ولادة
النجوم الفردية في سحابة غازية متشظية، ومتابعة
عائلات بأكملها أثناء تشكُّلها أو اندماجها أو
تفرقها أو انفجارها. لم يكن أحد يتصور بلوغ هذا
المستوى من التركيز قبل عقد من الزمن، وقد أدى هذا
المستوى المتقدم من التفاصيل إلى الابتعاد عن
اعتقاد أن النجوم الأولى قد وُلِدت فرادى، وأنها
محكوم عليها بأن تبقى وحيدة طوال حياتها القصيرة.
فنحن نعلم الآن أنها على الأرجح قد تشكَّلت في
مجموعات، أو ثنائيات. وقد قادتنا عمليات المحاكاة
نفسها إلى إدراك أن نجوم الجمهرة الثالثة المنخفضة
الكتلة ربما تكوَّنت إلى جانب شقيقاتها ذات الكتلة
الكبرى، وربما لا تزال على قيد الحياة حتى يومنا
هذا في انتظار أن يكتشفها مَنْ يقتفي أثرها ويبحث
عنها. تصدَّى باحثو علم الآثار النجمي لهذا التحدي
وظلوا يسجلون أرقامًا قياسية جديدة لاكتشاف نجوم
تحتوي على نسب أقل من المعادن. ربما لم يتوصَّل
المجال إلى أي من النجوم الأولى بعد، لكنه توصَّل
إلى ثاني أفضل شيء، وهو نجم من الجيل الثاني. ومن
هذا النجم وحده يمكننا البدء في استنتاج تكوين
أسلافه الأصليين، ولا شك في أننا سوف نكتشف المزيد
بين مليارات النجوم في مجرتنا. وعند النظر بعيدًا
خارج مجرتنا، اكتشفنا أن العديد من المجرات القزمة
في المجموعة المحلية يمكن أن تكون مواقع مثالية
لممارسة علم الآثار النجمي خارج المجرة في المستقبل
بمجرد أن يتوفر لدينا تلسكوب قادر على مسح أكثر
النجوم خفوتًا في السماء بكفاءة.
بالإضافة إلى البحث عن النجوم الأولى بطريقة
مباشرة، استخدمنا طرقًا غير مباشرة، تشمل إجراء
عمليات تحليل تشريحية للجيل الأول من النجوم. قد
تعتقد أن موت النجم الأول يعني انعدام إمكانية
الرصد، لكن الأمر على خلاف ذلك تمامًا. فقد ماتت
النجوم الأولى بطرق دراماتيكية، إما عن طريق
المستعرات العظمى غير المستقرة الأزواج ذات السطوع
الفائق أو عن طريق انهيارها المباشر في الثقوب
السوداء، ومن ثَمَّ أمكن اكتشافها باستخدام
تلسكوباتٍ مثل تلسكوب جيمس ويب الفضائي أو هوائي
مقياس التداخل الليزري الفضائي. إن حياة النجوم
الأولى والثقوب السوداء وموتها لهما تأثير دائم على
البيئات المحيطة بها، وهو تأثير يمكننا قياسه
وتحليله للتعرف عليها.
هناك ثلاثة فصول رئيسية في عصر النجوم الأولى:
العصور المظلمة، والفجر الكوني، وعصر إعادة
التأيُّن. العصور المظلمة هي الفترة التي كان فيها
الكون مظلمًا وخاليًا من أي هيكل مرئي. كانت سحب
الغاز تندمج، ولكن بمجرد أن وصلت إلى درجة الانهيار
الكافية لبدء تفاعلات الاندماج، سطعَ الفجرُ
الكوني، مما جعل السماء ساطعة لأول مرة منذ مئات
الملايين من السنين. قاست تجربة رصد تأثير عصر
إعادة التأيُّن العالمي، التي تتكوَّن من طاولة
معدنية في صحراء أستراليا الغربية، درجة حرارة
الهيدروجين بعد ١٨٠ مليون سنة من الانفجار العظيم
وحددت نهاية العصور المظلمة وبداية الفجر الكوني.
ليس هذا فحسب، بل إنها قلبت فهمنا لتطوُّر الغاز في
الكون المبكر رأسًا على عقب. وجعلتنا نتساءل: هل
المادة المظلمة المشهورة بعدم التفاعل مع غيرها
تصطدم بطريقة أو بأخرى بالغاز وتبرده؟ أم أن هناك
تفسيرًا أكثر واقعية، مثل وجود إشارة غير مرغوب
فيها ناجمة عن تداخل مجهول المصدر؟ وفي كلتا
الحالتَين، فقد أُزيحَ الستار أخيرًا عن عصر لم
يُكتشَف من قبل.
إن عصر إعادة التأيُّن هو العصر الذي تكون فيه
تلك النجوم الأولى والثقوب السوداء والمجرات عديدة
وقوية بما يكفي لتأيين الهيدروجين المحيط بها،
وتكوين فقاعات من الهيدروجين المتأين. وينتج عن هذا
نمط الجبن السويسري في بحر الهيدروجين المتعادل،
الذي يمكننا رصده بسبب الإشعاع الذي يبلغ طوله
الموجي ٢١سم والذي ينبعث من الهيدروجين المتعادل.
كانت التلسكوبات الراديوية حول العالم ترصد موجات
الراديو وتراقبها منذ ذلك الوقت، لكن الضجيج الذي
تنتجه مجرتنا والمجرات الأخرى كان كفيلًا بأن يحجب
الإشارات. وبعد ما يقرب من عَقد من الزمن من تنظيف
البيانات، أصبحنا الآن قاب قوسَين أو أدنى من
الاكتشاف الأول. ومن خلال رصد كيفية تزايد هذه
الفقاعات واندماجها، يمكننا رسم صورة للنجوم غير
المرئية بداخلها؛ أي النجوم التي ماتت منذ مليارات
السنين. وباستخدام التلسكوبات الحالية، سنجري ما
يسمى بالكشف الإحصائي، وهو يتمحور حول تحديد الوقت
بدقة كما في تجربة رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن
العالمي، ولكن ليس تصوير الفقاعات الذي نطمح إلى
تحقيقه يومًا.
«ماذا بعد؟» هذا هو السؤال الذي طالما تردَّد على
ألسنة علماء الفلك. تطلَّب هذا الكَمُّ الهائل من
تجارب علم الفلك في العصر الحديث تخطيطًا وتفانيًا
على مدى عقود مضت، فبمجرد انطلاق إحدى البعثات،
يبدأ وضع الأساس للتجربة التالية والإعداد لها.
وبوصفنا علماء في الفيزياء الفلكية، دائمًا ما
نُضطر إلى التفكير في الخطوة التالية. ومع تلسكوبات
الجيل الحالي مثل مصفوفة الترددات المنخفضة وتجربة
رصد تأثير عصر إعادة التأيُّن العالمي، لا يمكننا
التعمق كثيرًا إلا في عصر إعادة التأيُّن والفجر
الكوني … أما العصور المظلمة، فإنها تكاد تكون
بعيدة المنال تمامًا. ويمكننا باستخدام التكنولوجيا
الأرضية المتقدمة وحدها إحرازُ مزيد من التقدم في
المراحل التي تلي عصر النجوم الأولى — الفجر الكوني
وعصر إعادة التأيُّن — لكننا سنحتاج إلى الاسترشاد
بالقمر فيما يخص العصور المظلمة.
مصفوفة الكيلومتر المربع
الخطوة التالية في هذا المجال هي بناء مصفوفة
الكيلومتر المربع.
4 لقد كنت محظوظة بما فيه الكفاية
للمشاركة في مصفوفة الكيلومتر المربع خلال مراحل
التصميم اللاحقة وشاهدتُ بنفسي ما استلزمه الأمر من
تنظيم وتعاون هائل استمر لسنواتٍ في جميع أنحاء
العالم لضمان استمرار حصولنا على بيانات جديدة
ونتائج جديدة وفهم جديد على مدى ٣٠ عامًا. سُميت
مصفوفة الكيلومتر المربع بهذا الاسم لأنها عبارة عن
تلسكوب راديوي (مصفوفة من الهوائيات) يغطي منطقة
رصد أو تجميع في السماء، تزيد مساحتها على كيلومتر
مربع. وهي تتألف من مجموعتَين من المعدات، تتكوَّن
الأولى من مصفوفة من الأطباق (مصفوفة الكيلومتر
المربع المتوسطة الترددات)، في حين تتكوَّن الثانية
من مجموعة من الهوائيات الثابتة مثل مصفوفة
الترددات المنخفضة (مصفوفة الكيلومتر المربع
المنخفضة الترددات). وبالإضافة إلى تقسيم التجربة
إلى مجموعتَين من الناحية التقنية، فقد قُسِّمت
جغرافيًّا بعد اتخاذ قرار في عام ٢٠١٢ بأن تشترك كل
من جنوب أفريقيا وأستراليا في استضافتها، على أن
يكون المقر الرئيسي في مانشستر بإنجلترا، أسفل
تلسكوب لوفيل.
ستقام مصفوفة الكيلومتر المربع المتوسطة الترددات
في جنوب أفريقيا، وتحديدًا داخل منطقة صحراء كارو.
وستتألف مما يقرب من ٢٠٠ طبق موزَّعة على مسافة تصل
إلى ١٥٠ كيلومترًا (٩٣ ميلًا)، وستُستخدَم في البحث
عن موجات الجاذبية، وتحسين فهمنا للنسبية العامة من
خلال البحث عن النجوم النابضة، بل ستمسح السماء
بحثًا عن علامات على وجود حياة خارج كوكب الأرض.
وعن نفسي، يستهويني الهدف العلمي الأخير بوجه خاص.
سيتحقق علماء الكيمياء الفلكية من المناطق المحيطة
بالكواكب في مراحل تكوُّنها بحثًا عن البصمة
الطيفية للَبِنات الحياة الأساسية؛ أي الأحماض
الأمينية.
5 ففي هذه المناطق الخارجية التي تحيط
بالكواكب أثناء تكوُّنها، يمكن أن تندمج هذه
اللبنات الأساسية في شكل مذنب، ومن ثَمَّ تنتقل
مكونات الحياة إلى كوكب صخري داخلي. هناك أيضًا
مقترح بالبحث عن مزيد من المؤشرات المباشرة للحياة
الذكية خارج كوكب الأرض من خلال البحث عن إشارات
الراديو التي قد تصدرها المجتمعات الذكية غير
الأرضية. وفي غضون ١٠٠٠ ساعة فقط من الرصد، تستطيع
مصفوفة الكيلومتر المربع مسح أقرب ١٠٠٠ نظام نجمي
بحثًا عن إشارات خافتة تشبه تلك الصادرة من رادار
المطار على كواكب تبعد عشرات السنين الضوئية. وفي
حال وجود إشارات تنبعث بالترددات الصحيحة، ستتمكَّن
مصفوفة الكيلومتر المربع من التقاط هذه الإشارات
بسهولة.
فيما يخص الفجر الكوني، ينصبُّ تركيزنا على
مصفوفة الكيلومتر المربع المنخفضة الترددات في
منطقة مورشيسون بصحراء أستراليا الغربية. إن مصفوفة
الكيلومتر المربع المنخفضة الترددات عبارة عن
مصفوفة هوائيات شبكية، مما يعني أنها تتكوَّن من
مجموعة كبيرة من الهوائيات الثابتة المتصلة، التي
لا يمكنها الدوران للتوجيه نحو السماء. وتعد
حاليًّا مصفوفة الترددات المنخفضة أكبر تلسكوب
راديوي متصل، حيث تتكوَّن التجربة الكاملة من عدة
آلاف من الهوائيات. في المقابل، تضم مصفوفة
الكيلومتر المربع ١٣١ ألف هوائي، يبعد كلٌّ منها عن
الآخر مسافة ٦٥ كيلومترًا (٤٠ ميلًا) كحد أقصى، وفي
مرحلة ثانية من التطوير سيصل هذا العدد إلى ما يقرب
من مليون هوائي. من المبادئ الأساسية لتصميم مصفوفة
الكيلومتر المربع تقليل عدد الأجزاء المتحركة في
التلسكوب لتقليل تكلفة النشر والصيانة. يمكنني أن
أشهد شخصيًّا على مدى سهولة نشر هذه الهوائيات، حيث
إن لدينا واحدًا في المنطقة المشتركة بمكتبي. عند
تسلُّمه، وجدنا معه إرشادات لضمان سرعة التركيب. من
الواضح أن (الافتقار إلى) المهارة اليدوية لدى
عالِم الفيزياء الفلكية المُعتمِد على النظريات لم
يُؤخَذ في الاعتبار. إذ استغرق أربعة منا بضعَ
ساعاتٍ في تركيبه. تتميز الهوائيات بأسعارها
الزهيدة للغاية أيضًا، حيث يبلغ سعرها حوالي ٢٠٠
يورو فقط، من دون الأجهزة الإلكترونية. لم نتأكد
بعد مما إذا كنا قد وصلنا إلى التصميم النهائي
للهوائي، لكنه يشبه بشكل عام شجرة عيد الميلاد، ومن
ثَمَّ نسميه هوائي شجرة عيد الميلاد (وبالتالي
نزينه في ديسمبر).
يمكن لمصفوفات الهوائيات الشبكية، مثل مصفوفة
الترددات المنخفضة ومصفوفة الكيلومتر المربع، إجراء
الرصد في اتجاهات مختلفة من خلال جمع إشارات
الهوائيات، بدلًا من توجيه الطبق. ويبين شكل
١١-١ مصدرَين مختلفين في الفيزياء
الفلكية يصدران إشعاعًا. يلتقط هوائيان هذا
الإشعاع، لكن الإشارة تصل إلى كل هوائي في وقت
مختلف عن الآخر. ويسمى الفرق بين زمن الوصول في
الحالتَين بالتأخير الزمني. يتغير التأخير الزمني
حسب مكان وجود المصدر في السماء. ولتوجيه مصفوفة
شبكية في اتجاه معين، عليك أن تحدد فقط الإشارات
ذات التأخير الزمني المكافئ للاتجاه الذي تريد
رصده. وبهذه الطريقة، يمكننا القول إن المصفوفة
يمكنها التحكم في اتجاهها (أو المنطقة التي ترصدها
في السماء). مع وجود ١٣١ ألف هوائي، فإن العملية
تكون معقدة للغاية وكمية البيانات التي تستقبلها
الهوائيات هائلة. تعمل مصفوفة الكيلومتر المربع على
الإسراع من التطورات التكنولوجية لمواكبة متطلبات
البيانات المتوقعة، وفي الوقت نفسه إصدار قائمة لا
حصر لها من الإحصاءات الفائقة. وسيعمل جهازان من
أجهزة الكمبيوتر الفائقة، أحدهما في أستراليا
والآخر في جنوب أفريقيا، على تسجيل كَمٍّ هائل من
البيانات يكفي لاستنفاد سعة مليون جهاز كمبيوتر
محمول سنويًّا. وكانت سرعة تدفق البيانات إلى
هوائيات مصفوفة الكيلومتر المربع المنخفضة الترددات
أسرع بمقدار ١٠٠ ألف مرة من سرعة النطاق العريض
المتوقعة في عام ٢٠٢٢. ماذا عن الكابلات الضوئية
التي تربط جميع الهوائيات بجهازَي الكمبيوتر
الفائقَين؟ هناك ما يكفي منها للالتفاف حول الأرض
مرتَين. تَعِد مصفوفة الكيلومتر المربع المنخفضة
الترددات بتقديم أداءٍ باهر. بدأ بناء المصفوفة
خلال عامَي ٢٠٢٠ و٢٠٢١، وبالتالي من المقرر أن تظهر
أولى الملاحظات المنبثقة عن عمليات الرصد العلمي في
عام ٢٠٢٧. إن مصفوفة الكيلومتر المربع هي التجربة
الثانية في مسيرتي المهنية، بعد مصفوفة الترددات
المنخفضة، وأتطلع بشغف إلى تدفق البيانات الأول
الذي سيغمر أنظمتنا. نحن الآن في وضع مميَّز بفضل
ما يتوفر لدينا من كم هائل من البيانات، ولكن الأمر
يستلزم منا اتخاذ قراراتٍ سريعة بشأن ما يجب
الاحتفاظ به وما يجب حذفه، حيث لا توجد مساحة تخزين
كافية للاحتفاظ بهذه البيانات كلها.
مع الجيل الحالي من التلسكوبات، مثل مصفوفة
الترددات المنخفضة ومصفوفة مورشيسون الواسعة
المجال، نطمح إلى تحقيق أول اكتشاف لعصر إعادة
التأيُّن؛ وهو قياس درجة حرارة الهيدروجين التي
تشير إلى تكوُّن الفقاعات المتأينة وتداخلها في
نهاية المطاف. وفي النهاية، تتأثر نتائج هذه
التجارب بعوامل كثيرة، مثل مقدار الضجيج المتداخل
مع الإشارة، والضجيج الصادر عن الجهاز نفسه،
والضجيج القادم من السماء. ويمكننا التغلب على هذا
الضجيج كلما زاد عدد عمليات الرصد التي نجريها أو
كلما زاد عدد الهوائيات المستخدمة في التلسكوب.
ولالتقاط صورة، لا بد أن تكون نسبة الإشارة إلى
الضجيج واحدًا صحيحًا أو أكثر؛ أي يجب أن تكون قوة
الإشارة متناسبة على الأقل مع مقدار الضجيج الصادر.
يصعب تحقيق ذلك الأمر باستخدام الجيل الحالي من
التلسكوبات، ولذا علينا أن نقنع بإجراء أول
استكشافاتٍ إحصائية من نوعها. ومع ذلك، في حالة
مصفوفة الكيلومتر المربع، التي تضم ١٣١ ألف هوائي،
فإن مستوى الضجيج يكون أقل بكثير حتى إن شرط «نسبة
الإشارة : الضجيج = ١» يمكن أن يتحقق تقريبًا بمجرد
تشغيل المصفوفة. سيتعين إجراء بعض التعديلات في
إعدادات التلسكوب، ولكن عندما يصبح جاهزًا للعمل في
أواخر العشرينيات من القرن الحادي والعشرين، يمكننا
أن نتوقع الحصول على صور واضحة للفقاعات. والمذهل
حقًّا في الأمر أننا سنتمكن من التقاط هذه الصور
على مدى فترة زمنية تقارب مليار عام، مما يتيح لنا
رسم خريطة لكيفية تطور الكون. إنه فيلم واقعي
لكوننا وهو ينمو على مدى مليار سنة، أمام أعيننا
مباشرة.
والسؤال هنا: كيف ستبدو تلك الفقاعات؟ حسنًا،
يعتمد الأمر على متغيراتٍ كثيرة، سواء فيما يتعلق
بالفيزياء الفلكية (العوامل المتعلقة بالغاز) أو
بالكون (العوامل المتعلقة بالمادة المظلمة وبنية
الكون). يمكننا التعرف على ما يوجد داخل الفقاعات
من خلال بحث أوجه التعاون مع التلسكوبات الأخرى.
على سبيل المثال، إذا تمكَّنا من دراسة جزء بعينه
من الكون باستخدام مصفوفة الكيلومتر المربع وأحد
التلسكوبات البصرية، فقد نتمكَّن من ربط فقاعات
راديوية محددة بالمجرات البصرية المرصودة، وكشف
العلاقة بين شكل الفقاعة وحجمها وما تحويه داخلها.
وسيؤثر أيضًا التوزيع الأساسي للمادة المظلمة في
مكان تكوُّن النجوم الأولى والثقوب السوداء. فكلما
زادت كثافة المادة المظلمة، زاد تأثير قوة جاذبيتها
على الغاز، وزادت احتمالية تكوُّن نجم. هذا يمنحنا
فرصة رائعة لاستخدام توزيع الفقاعات كوسيلة لتتبع
توزيع المادة المظلمة التي تشكَّلت منها البنية
الأساسية للكون القديم.
6 وسيتطلب ذلك ساعاتٍ عديدة من الرصد،
لكنه سيساهم كثيرًا في علم الكونيات. أما من منظور
الفيزياء الفلكية، فإن أشكال الفقاعات تتأثر كثيرًا
بالمكون الأساسي الذي تحويه داخلها والذي أدى إلى
تشكُّلها. فمن المرجح أن تكون فقاعات الكوازارات
(الثقوب السوداء) أكبر حجمًا وأكثر تباينًا في
الشكل من الفقاعات الكروية المنتظمة للمجرات التي
تشكِّل النجوم، ومن المرجح أن معظم الفقاعات التي
نراها تحوي داخلها العديد من المكونات الأساسية
التي تشكَّلت منها. وهذا يعني أن الفقاعات لا تحتوي
على نجم أو ثقب أسود واحد فحسب، بل تحتوي على
العديد من الثقوب السوداء و/أو النجوم داخل العديد
من المجرات. ويمكننا الاسترشاد بأشكال الفقاعات في
تحديد محتواها ومكوِّنها الأساسي.
في المرحلة الأولى من مصفوفة الكيلومتر المربع،
التي تتضمن ١٣١ ألف هوائي، سنغطي في رحلتها
الاستكشافية للكون الفترة ما بين ١٠٠ مليون سنة
ومليار سنة تقريبًا بعد الانفجار العظيم. تشمل هذه
الفترة عصر إعادة التأيُّن وبداية الفجر الكوني.
وفي المرحلة الثانية من المصفوفة، التي ستتضمن ما
يصل إلى مليون هوائي، سنغوص أكثر في أعماق الزمن
ونلتقط صورًا من العصور المظلمة. وحتى في المرحلة
الأولى، سنستكشف جزءًا كبيرًا من الكون المرئي. في
الوقت الحالي، تقتصر عمليات الرصد لدينا على
المناطق القريبة نسبيًّا من كوكب الأرض، كما في
حالة مسح المجرات، أو عمليات الرصد الأحادية
لاستكشاف المراحل الأولى من الكون، مثل إشعاع
الخلفية الكونية الميكروي. وقد أشار العلماء
المشاركون في مصفوفة الكيلومتر المربع إلى أنهم
الآن بصدد استخلاص العديد من الاستنتاجات الكونية
المستندة إلى هاتَين المجموعتَين من البيانات، وذلك
على افتراض «أنهما لم يتخللهما حدوث شيء
غريب».
7 من المثير للاهتمام أن استنتاجاتنا،
على سبيل المثال، بشأن مقدار المادة المظلمة
الموجودة في الكون وماهية سلوكها، تعتمد على مجموعة
بياناتٍ منقوصة وغير مكتملة. فالبيانات غير
المكتملة تؤدي إلى استنتاجاتٍ غير صحيحة. سترصد
مصفوفة الكيلومتر المربع أجزاءً أكبر من الكون
مقارنةً بما رُصِدَ من قبل، مما يجعل مصفوفة
الكيلومتر المربع المرصدَ الكوني المثالي للتحقق من
جميع النماذج الموجودة لدينا باستخدام مجموعة
بيانات أكبر بكثير، تغطي نطاقًا أكبر من حيث المكان
والزمان، على نحو غير مسبوق في علم الفلك.
رحلة ذهاب وعودة إلى القمر
تَعِد
مصفوفة الكيلومتر المربع بمستقبل باهر بسبب قدرتها
على تصوير الفقاعات واستكشاف الماضي وصولًا إلى
الفجر الكوني. إنَّ وضعها في منطقة كهذه، ذات كثافة
سكانية منخفضة وتداخل راديوي ضئيل، سيسهل علينا
الأمور بعض الشيء. حيث كنا نحتاج عادةً إلى بذل
الكثير من الجهد لإزالة الضوضاء البشرية الصادرة عن
الهواتف المحمولة وطواحين الهواء والطائرات
والراديو وما إلى ذلك. ولا يزال يتعيَّن علينا فعل
ذلك إلى حد ما، حتى في قلب الصحراء (فهناك موجات
راديو صادرة عن أفران الميكروويف!). وهذا مهم بوجه
خاص لعمليات الرصد المستقبلية للعصور المظلمة، وهي
الفترة التي سبقت ظهور النجوم الأولى؛ أي بعد ١٠٠
مليون سنة من الانفجار العظيم. ولرصد الضوء من هذه
المسافة السحيقة، يتعين علينا ضبط تلسكوباتنا
الراديوية على تردداتٍ منخفضة للغاية، تتراوح بين
٠٫١ ميجاهرتز و٣٠ ميجاهرتز، ويشكِّل هذا تحديًا في
حالة التلسكوبات الأرضية. فهناك طبقات من الغلاف
الجوي تعلو رءوسنا، وتُعرف الطبقة العليا باسم
الأيونوسفير. تتأين طبقة الأيونوسفير بفِعل الإشعاع
الشمسي، ويؤثر اضطراب الذرات داخلها كثيرًا على نقل
موجات الراديو. في حالة تلسكوبات مثل مصفوفة
الترددات المنخفضة ومصفوفة الكيلومتر المربع، يُبذل
الكثير من الجهد للتخفيف من تأثير الأيونوسفير على
البيانات المرصودة، لكن المشكلة تتطور باستمرار.
تتغير الأيونوسفير يومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة،
بسبب تقلب الرياح الشمسية التي تؤينها. ولن تسمح
بنقل موجات الراديو على الإطلاق عندما يقل ترددها
عن حد معين، ويمكن أن يصل هذا الحد الأدنى للتردد
إلى ١٠ ميجاهرتز، كما حدث تمامًا في العصور
المظلمة. ومن ثَمَّ، ترتد موجات الراديو التي يقل
ترددها عن هذا الحد من طبقة الأيونوسفير مباشرة،
إما عائدةً إلى الفضاء أو إلى الأرض، حسب المكان
الذي بدأت منه. يستخدم مهندسو الاتصالات اللاسلكية
هذا التأثير كطريقة فعَّالة لنقل إشارات الراديو
اللاسلكية عبر القارات عن طريق ارتداد الإشارات من
الغلاف الجوي. وهذا يعني أن تداخل الترددات
الراديوية الذي يحدث لترددات العصور المظلمة يمثل
مشكلة كبيرة، لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل
العثور على منطقة خالية من الموجات الراديوية في أي
مكان على الأرض. ولذلك علينا التوجه إلى
الفضاء!
لا أستطيع
التعبير عن مدى الإثارة التي يمثلها مفهوم البعثة
الفضائية لدى عالِم الفلك الراديوي. فقد اعتدنا أن
نراقب بتهكم غرف زملائنا النظيفة وعمليات إطلاق
الصواريخ، كل ذلك بينما نخرج هوائياتنا المسطحة
ونجهزها للانطلاق في رحلة إلى الصحراء على متن
شاحنة. ولذلك عندما سنحت الفرصة لعلماء الفلك
الراديوي، استغلوها استغلالًا كبيرًا. وكان من أبرز
الحلول المطروحة وضع مصفوفة راديو على الجانب
البعيد من القمر. يوفر القمر مكانًا مثاليًّا يمكن
الاختباء خلفه؛ لأن الجانب البعيد منه يظل دائمًا
هو الجانب «المظلم»، المحجوب دومًا عن الأرض. ويرجع
ذلك إلى ظاهرة تسمى التقييد المدِّي، حيث يتطابق
الزمن الذي يستغرقه القمر للدوران حول محوره مع
الزمن الذي يستغرقه القمر للدوران حول الأرض؛ ولذا
على الرغم من دوران القمر وحصول الجانب «المظلم»
على القدر نفسه من ضوء الشمس، فإننا لا نرى إلا
وجهًا واحدًا للقمر. ونظرًا إلى أن الجانب البعيد
من القمر محجوب عنا إلى الأبد، فستكون مصفوفة
الراديو الموضوعة عليه بعيدة تمامًا عن ضجيج الأرض.
تدور فكرة الولايات المتحدة في بناء مصفوفة الجانب
البعيد لإجراء استقصاءات علمية راديوية عن العصور
المظلمة والكواكب خارج النظام الشمسي
8 حول توزيع ١٢٨ هوائيًّا باستخدام مركبة
جوالة على مسافة تزيد على ١٠ كيلومترات (٦ أميال)،
أما في حالة الهوائيات القمرية المنخفضة التردد
المخصصة لعلم الفلك الراديوي (وهو الاسم الذي وضعه
الفريق نفسه المختص بمصفوفة الترددات المنخفضة)،
9 فستُشحن ٥٠ مركبة قمرية أو أكثر إلى
القمر، كل منها مزوَّد بهوائي. وعلى مسافة أقصاها
١٠ كيلومترات (٦٫٢١ أميال)، ستتحرك المركبات
الجوالة حتى تصل إلى التشكيل المطلوب للهوائيات.
تصوَّر أنك تنظر إلى القمر وتعرف أن هناك ٥٠ عربة
صغيرة تتجول على الجانب الآخر منه. من المثير
للاهتمام أن هناك بعثة صينية تسمى «تشانج آه» (اسم
إلهة القمر الصينية) قد اتخذت الخطوات الأولية في
مشروع الهوائيات القمرية المنخفضة التردد المخصصة
لعلم الفلك الراديوي. وتتميز بعثات «تشانج آه»
بأنها سلسلة من الجهود المتوالية. فقد نجحت بعثة
«تشانج آه» الأولى والثانية في دخول مدار القمر،
وتمكنت الثالثة من الهبوط بسلاسة على القمر (إذ لم
ينكسر أي شيء)، وحققت البعثة الرابعة أول هبوط آلي
بالكامل على الجانب البعيد من القمر في ٣ يناير
٢٠١٩. كان الهدف الرئيسي للمهمة هو استكشاف
جيولوجيا القمر من خلال الهبوط على واحدة من أعمق
وأكبر الفوهات في المجموعة الشمسية؛ وهي عميقة
جدًّا لدرجة أنها تخترق غلاف القمر. يُعتقَد أن
جيولوجيا الجانب البعيد من القمر تختلف عن الجانب
القريب، وهي قادرة على تزويدنا بمزيد من الأدلة حول
كيفية تشكُّل القمر في المراحل الأولى لمجموعتنا
الشمسية. ولكي يتواصل مسبار «تشانج آه» الرابع مع
الأرض، فإنه يعتمد على قمر صناعي لترحيل الإشارات
يطل على الجانب البعيد من القمر والأرض، عند النقطة
L2 التي تقع في
مجال جاذبية الأرض والقمر. يُطلق على هذا القمر
الصناعي اسم «تشويه تشياو»، أو «جسر العقعق»، في
إشارة إلى حكاية شعبية صينية عن عاشقَين يُنفيان
إلى جانبَين متقابلَين من درب التبانة ويتقابلان
لفترة وجيزة كل عام على جسر مصنوع من طيور العقعق.
تُجرى من خلال هذا القمر الصناعي تجربة تهدف إلى
تحديد خصائص تداخل الترددات الراديوية والضوضاء
الموجودة في خلفية القمر. يتكوَّن المستكشف
الهولندي-الصيني المنخفض التردد،
10 من ثلاثة هوائيات بطول ٥ أمتار (١٦
قدمًا) موضوعة على القمر الصناعي «تشويه تشياو».
وهي حاليًّا تسجل البيانات، وتنصت بشدة لسماع ما
يمكن سماعه على الجانب البعيد من القمر، لتحديد ما
إذا كان هادئًا بدرجة كافية لإجراء التجارب
المقترحة. إنها الخطوة الأولى في خارطة طريق تطمح
إلى إرسال فرقة من العربات الجوالة.
•••
هل سيتجه علم الفلك الراديوي المهتم بالفوتون
الذي يبلغ طوله الموجي ٢١سم إلى الفضاء في العقود
القليلة المقبلة؟ آملُ ذلك. فالتوجه نحو الفضاء هو
فرصتنا الحقيقية الوحيدة لاستكشاف العصور المظلمة.
والعصور المظلمة عامل أساسي في تعزيز فهمنا
للفيزياء الفلكية وعلم الكونيات، وذلك بوصفها تمثل
أنقى الفترات وأبسطها في تاريخ الكون. فقبل
التعقيدات التي طرأت على الكون بتكوُّن النجوم
والمجرات والكواكب، لم يكن هناك سوى كون هادئ مليء
بالمادة المظلمة والهيدروجين. ومن ثَمَّ، يمكننا
على سبيل المثال التوصل إلى توقعاتٍ دقيقة بشأن
حالة المادة المظلمة، وحتى لو انطوت توقعاتنا على
بعض الأخطاء، فذلك يشير إلى وجود ظواهر فيزيائية
تتعدى حدود النظريات الفيزيائية القياسية، مما
يستوجب وضع قوانين ونظريات فيزيائية جديدة.
تكمن أهمية علم الفلك الراديوي حاليًّا في كونه
يجمع بين الممارسات التقليدية البسيطة وأحدث
الأبحاث العلمية. فبينما نحن واقفون على أرض صلبة،
نضع الركائز الأساسية لبناء مصفوفاتٍ من الهوائيات
الضخمة في الأماكن النائية. ولكن البيانات التي
تجمعها هذه الهوائيات تفوق إمكانيات المعالجة في
تقنياتنا الحالية. ومن ثَمَّ، نسعى إلى تطوير
التقنيات الخاصة بكابلات الألياف الضوئية وتخزين
البيانات وأنظمة التبريد.
وفي حين أننا قصرنا نماذجنا الحالية على دراسة
الفجر الكوني وعصر إعادة التأيُّن، بعد عقود من
عمليات المحاكاة والحسابات، من المحتمل دائمًا أن
تنتفي صحة كل هذه النماذج. فيما يلي اقتباس لجزء من
المقترح العلمي لمصفوفة الكيلومتر المربع من عام
٢٠٠٤:
بالنظر إلى التجارب السابقة، نجد أن
تميُّز مصفوفة الكيلومتر المربع لا يكمن في
الأسئلة القديمة التي أُجيبَ عنها من قبل،
ولكنه يكمن في الأسئلة الجديدة التي تثيرها
أنماط جديدة من عمليات الرصد التي لن يتسنى
تنفيذها إلا من خلال مصفوفة الكيلومتر
المربع. فمصفوفة الكيلومتر المربع أداةٌ
لمستخدمين لم يُولَدوا بعد، ويقع على عاتق
مصمِّميها مسئولية إفساح المجال لاستكشاف
المجهول.
من المتوقع أن يبلغ العمر الافتراضي لمصفوفة
الكيلومتر المربع نحو ٥٠ عامًا، ومن ثَمَّ ستستمر
في أخذ القياسات لفترة طويلة بعد تقاعدي. ومن
المثير حقًّا أن الأشخاص الذين سيبرعون في استخدام
مصفوفة الكيلومتر المربع في نهاية عمرها الافتراضي
لم يُولَدوا بعد. وهم مَن سيجيبون عن الأسئلة التي
لم تخطر حتى على أذهاننا.
في محاضرة ألقيتُها خلال صيف عام ٢٠١٩، رفع طالب
في المرحلة الثانوية يده وسألني: «هل يُشعركِ علم
الكونيات بالإحباط؟» كان يشير بذلك إلى العناصر
التي تناولتُها في المحاضرة حيث سلَّطتُ الضوء على
حجمنا المتناهي الصغر وأعمارنا اللحظية، مقارنةً
بالكون العتيق المترامي الأطراف من حولنا. في بعض
الأحيان، قد يكون العمل في وظيفة تذكِّرك يوميًّا
بمدى ضآلتك وعدم أهميتك … أمرًا منهكًا ومستنفدًا
للطاقة. ومع ذلك، فإن علاقتي بعلم الكونيات كانت
إيجابية إلى حد كبير. فهو يجعلني أشعر بأنني
محظوظة. ذلك حيث أدرك مدى توازن الأحداث التي أفضت
إلى وجودنا، وعنصر المصادفة الذي ساعدنا في فهم
الكون بهذا القدر الذي عليه الحال الآن. لقد وصلت
مهارتنا إلى درجة أن قطعة صخرية تدور حول كوكبنا
أصبحت مدخلنا إلى فهم ماضينا السحيق؛ ذلك الماضي
الذي نحن على وشك رؤيته بأنفسنا. بطريقة ما، نجحنا
نحن البشر، رغم ما نوصف به من كوننا كائنات صغيرة
وضئيلة الأهمية، في وقف الصراع المحتدم بينهم لفترة
كافية لوضع خطة لإجراء تجربة تمتد لعقود. أشعر كما
لو أنني حصلتُ على تذاكر لحضور أعظم عرض في العالم.
وهذا ليس بالأمر المحبط على الإطلاق، بل هو أمر
مذهل. وقد حان الوقت للاستمتاع بالعرض.