الفصل الثاني
أين تقع نجوم الجمهرة الثالثة؟
عندما تعلمتُ كيفية التدحرج بمهارة تحت بوابة أمن
المتجر المتحركة كان ذلك في عام ١٩٩٧، أو ربما ١٩٩٨.
فقد اعتدتُ كلَّ سبتٍ على مدى عدة أشهر أن أنتظر أنا
ومجموعة من الأطفال خارج المتجر المحلي المتعدد الأقسام
الموجود لدينا. وكنا نركض جميعًا ما إن نسمع صوت فتح
البوابة، ونتدافع لنرى مَن يمكنه التدحرج أو الزحف تحت
البوابة قبل غيره. وبمجرد انتهاء هذا التحدي الأول، كنا
نقفز لأعلى، ونستدير إلى اليسار ونركض في المتجر بأقصى
سرعة، قاصدين قسم الألعاب. بجوار درج النقود مباشرةً،
كانت هناك سلة كبيرة من الخوص مليئة بدمى بيني بيبي.
كنا نأخذ كلَّ ما يمكننا أخذه، ونتخلص من الأشكال
الشائعة العديمة الفائدة، ونطلق صيحات البهجة المفعمة
بالإثارة عندما نجد ألعاب الدببة النادرة، مثل دب
«بريتانيا بيني بيبي» الثمين، وهو دمية محشوة لدب بُني
بسيط ومطرَّز على صدره علم المملكة المتحدة. ضرب من
الجنون، أليس كذلك؟ إنها فترة من حياتي لا أفتخر بها
كثيرًا. ولم أفتخر كثيرًا بالجانب الرأسمالي الذي
أظهرته عند بيع الدببة نفسها في السوق الخارجية مقابل
خمسة أضعاف ثمنها، مع الاحتفاظ بالدببة التي لم تكن
موجودة في مجموعتي. ولحسن حظي، كان والداي يدعمان هوسي
بلطف، ويسمحان لي بإنفاق أموالي (أو كسبها) كما يحلو
لي، ودون تدخل شخصي من جانبَيهما. وبعد عام أو نحوه،
تلاشت الضجة التي صاحبت دمية بيني بيبي (فيما عُرف
بفقاعة بيني بيبي)، مما جعل مجموعتي عديمة القيمة. لم
أتكبَّد خسارة كبيرة جراءَ ذلك، على عكس أولئك الذين
استثمروا آلاف الدولارات أو ما يزيد في الدمى المحشوة.
أنفقت إحدى الأُسر أكثر من ١٠٠ ألف دولار، بهدف استخدام
الأرباح لتغطية رسوم الدراسة الجامعية.
1 وأدت استراتيجية الشركة المصنعة في «وقف»
إنتاج تصميمات معينة في أوج شعبيتها إلى ظهور فقاعة
بيني بيبي، مما أدى إلى ندرة المعروض في مقابل زيادة
الطلب، وبالتالي ارتفاع أسعارها. لكل مجموعة من
المقتنيات عناصرها النادرة الفريدة من نوعها. إذا عثرت
على طابع بريد أصلي في ألبوم طوابع أجدادك، فقد تكسب
نصف مليون جنيه إسترليني. ومع ذلك، فإن الاستثمار ليس
سوى دافع واحد لجمع الأشياء واقتنائها. فهناك مَن
يجمعون الأشياء من أجل المتعة ليس إلَّا. كلُّ شخص لديه
عم يملك مجموعة من الضفادع، أو جدة لديها إبريق شاي
فريد من نوعه على كل رف. وإذا أمعنت البحث جيدًا، فسوف
تعثر على أفراد يجمعون أيَّ شيءٍ تقريبًا: أقماع المرور
التحذيرية، علب صفيح، دمى باربي، أدوات حك الظهر. في
ديفون، يمكنك الدفع مقابل التجول في أرجاء عدة أفدنة من
الأراضي الشجرية التي تحوي ما يزيد على ٢٠٠٠ تمثال من
تماثيل الأقزام. ففي اللحظة التي نقتني فيها شيئًا ما
ونمتلكه، تزداد قيمته بالنسبة إلينا؛ فنحن نكوِّن روابط
شبه فورية مع الأشياء ومن ثَمَّ نستنكف التخلي عنها.
قسِّم مجموعة اختبار إلى مجموعتَين وأعطِ كل مجموعة
منهما شيئًا مختلفًا (لا تهم ماهية هذا الشيء: نقود أو
تذكرة يانصيب، شوكولاتة أو كوب، كوبان مختلفان)؛ سوف
يعتزون بما أُعطي لهم، ويرفضون مقايضته.
2 يُطلق على هذا الأمر اسم تأثير الهبة.
فهناك شيء داخلنا يحتاج إلى فرز الأشياء وتصنيفها، ثم
اقتنائها والاحتفاظ بها. قال الفيزيائيُّ البريطاني
إرنست رذرفورد عبارته الشهيرة إن «العلم كله إما فيزياء
وإما جمع طوابع»، وذلك في تلميح ساخر إلى وجهة نظره
الرافضة، على سبيل المثال، لتصنيف علم الأحياء لمملكتَي
الحيوان والنبات إلى أنواع، وأجناس، وفصائل، وما إلى
ذلك. وفي هذه الحقبة نفسها، في أوائل القرن العشرين،
تصوَّر عالِم الفلك الأمريكي إدوين فروست نظامًا يقسِّم
النجوم إلى شُعب وطوائف، مقترحًا بذلك تأسيس مملكة
النجوم. لم نصل بعد إلى مستوى تعقيد الممالك الأحيائية،
ولكننا توصلنا إلى استنتاجاتٍ مبتكرة حول تكوين النجوم
عندما طبَّقنا عليها مبادئ التصنيف الحيوي.
تصنيف النجوم
عندما بدأنا في تصنيف العالَم من حولنا، بدأنا
ببساطة شديدة: نحن البشر بالأسفل، وكل ما عدا ذلك
هناك بالأعلى. لقد ترسخت الأهمية الثقافية لعلم
الفلك في دوره في الخرافات والأساطير. فالمصريون
القدماء كانوا يقدسون إله الشمس رع أكثر من بقية
الآلهة، ويصورونه على أنه خالق الحياة بكل أشكالها.
وفي القارة نفسها، يخشى شعب السان في صحراء
كالاهاري الشمسَ حيث يعتقدون أنها نذير شؤم وتجلب
الموت. ومن ثَمَّ، كانوا يلوذون بحياتهم من الحرارة
الحارقة عن طريق حفر أغوار غير عميقة في الرمال،
والتبول فيها، ثم الاستلقاء داخلها دون حركة وتغطية
أنفسهم بطبقة من الرمال والانتظار حتى انقضاء فترة
الحرارة الشديدة.
3 كانت مجموعات النجوم هي مستودع القصص
التي تهدف إلى التعليم أو التحذير أو حتى مجرد
الترفيه. ففي اليونان القديمة، كانت كوكبة الجوزاء
تمثل صيادًا عظيمًا، يطارد شقيقات الثريا السبع.
وفي إحدى أساطير شعب الإسكيمو، يمثل حزام كوكبة
الجوزاء زلَّاجة، تطارد دبًّا يمثله منكب
الجوزاء.
4 وفي أستراليا، اختُزل حزام كوكبة
الجوزاء إلى قِدر صغير، والخنجر إلى مقبض. وحتى في
وقتنا الحاضر، كثيرًا ما يُنسَب السبب في وقوع بعض
الأحداث أو الخيارات الحياتية إلى برج الشخص أو
تأثير اصطفاف الكواكب ومحاذاتها. وقد انفصلت
ممارساتُ علم التنجيم عن علم الفلك بوصفه حقلًا
معرفيًّا منذ فترة طويلة، وذلك عندما تبيَّن أنه لا
يوجد دليل على أن حركات الكواكب والنجوم يمكن أن
تؤثر في تصرفاتنا على المستوى الفردي.
نشأت المساعي العلمية لعلم الفلك من حاجتَين
بشريتَين، وهما حساب الوقت والملاحة. استخدِمَت
الشمس والقمر لقياس مرور الوقت في جميع الثقافات،
واسترشد البولينيزيون بظهور النجوم البعيدة
واختفائها للتنقل في المحيط الهادئ قبل وقت طويل من
حمل البحارة الأوروبيين أجهزة الأَسْطُرلاب والسدس
الفلكية. ومع أن رسم النجوم وتجميعها ورسم خرائط
لها قد بدأ منذ آلاف السنين، فإن تقسيمها إلى
مجموعات على أساس التكوين ودرجة الحرارة والحجم لم
يحدث إلا بعد ظهور التحليل الطيفي النجمي.
بدأت المحاولات الأولى لتصنيف النجوم علميًّا في
عام ١٨٦٣، حيث قسَّمها عالِم الفلك الإيطالي أنجيلو
سيكي إلى خمس مجموعات، أو إلى ما عُرِف بفئات سيكي،
اعتمادًا على شكل أطيافها. جُمعت بعض النجوم معًا
لكثرة خطوط الامتصاص في أطيافها، وجُمع البعض الآخر
معًا لقلة خطوط الامتصاص في أطيافه، أو لوجود خطوط
عريضة، وغير ذلك من أوجه تشابه أخرى. وكانت هذه
المجموعات تصنَّف بشكل عام حسب اللون: فطيف النجوم
الحمراء يبدو متشابهًا، بينما تتميز النجوم الزرقاء
بطيف مختلف.
شهدت تسعينيات القرن التاسع عشر عملية تصنيف
النجوم، ليس باستخدام أجهزة الكمبيوتر كما نعرفها،
ولكن عن طريق توظيف النساء، اللاتي أُطلق عليهن اسم
«مسئولات الإحصاء». سمحت عمالة النساء الرخيصة
لويليامينا بي فليمنج بالحصول على وظيفة مساعِدة
لعالِم الفيزياء الفلكية بجامعة هارفارد إدوارد سي
بيكرينج. قيَّمت فليمنج الأطياف النجمية وخصَّصت
لكل منها حرفًا وفقًا لقوة خطوط امتصاص الهيدروجين.
بدءُوا بتخصيص الحرف
A للنجوم التي
تحتوي على أكبر قدر من الهيدروجين، والحرف
B لتلك التي
تحتوي على كمية أقل نوعًا ما من الهيدروجين، وهكذا
حتى الحرف
Q. كان
هذا مرهقًا نوعًا ما، ولذلك أعادت مساعِدة بيكرينج
اللاحقة، آني جامب كانون، ترتيب النظام في عام ١٩٠١
وفقًا لدرجة الحرارة، ودمجت الفئات
المتشابهة.
5 وكانت تقوم مقام الكمبيوتر، حيث كانت
تصنِّف مئات النجوم في الساعة حتى أُعيد تنظيم
الفئات الأبجدية في النهاية إلى ١٠ فئات:
OBAFGKMRNS،
وهي الحروف الأولى لكلمات العبارة التالية:
Oh Be A Fine Girl Kiss Me
Right Now Sweetheart والتي
تعني «فلتكوني فتاة مطيعة ولتقبليني الآن يا
عزيزتي» وعادة ما يستخدمها علماءُ الفلك لتذكر هذه
الحروف. وتنقسم كل فئة من هذه الفئات إلى تقسيماتٍ
عددية أدق وفقًا لدرجة الحرارة، وبذلك تصبح شمسنا
نجمًا من الفئة
G2.
صنَّفت مسئولاتُ الإحصاء بجامعة هارفارد مئاتَ
الآلاف من الأطياف النجمية استنادًا إلى قوة خطوط
الامتصاص المرتبطة بالهيدروجين، وانتقلنا من مجرد
التعجب من النجوم إلى تصنيفها وكأنها مجموعة من
طوابع البريد. ومع ذلك، كان السبب العلمي وراء
تصنيف النجوم إلى مجموعاتٍ هكذا غير مؤكَّد. ومن
هنا طُرِح السؤال التالي: لماذا تكون للنجوم أنماط
مختلفة من خطوط الامتصاص؟ بغض النظر عن قوة الخطوط
المميزة، كان العلماء في أوائل القرن العشرين
واثقين من أن وجود الخطوط نفسها في كل طيف، وإن
اختلفت في قوتها، يشير إلى حقيقة أن جميع النجوم
تتكون من العناصر نفسها. علاوة على ذلك، لاحظ
العلماء أن وجود عناصر مثل الحديد يعكس تكوين
كوكبنا. وعندما لاحظ العلماءُ الخطوط الناتجة عن
ذرات المعادن في الأطياف الشمسية، استنتجوا أنه
نظرًا إلى وجود العناصر نفسها على الأرض وفي
الأطياف الشمسية، فلا بد أن الأجرام تتكون من
المادة نفسها. وعزوا اختلاف كثافة الخطوط إلى وجود
اختلاف في درجة الحرارة. وفي عام ١٩٢٥، كانت وجهة
نظرنا هي أنه إذا تعرضت الأرض لحرارة كافية، فستصدر
الطيف نفسه الذي تصدره الشمس. فالنجوم لم تكن في
نظرها سوى كواكب فائقة الحرارة. في ذلك العام، كتبت
سيسيليا باين-جابوشكين أطروحة دكتوراه تطرح وجهة
نظر مختلفة، أو بعبارة أدق، قدمت على استحياءٍ
دليلًا على أن هذا الرأي غير صحيح، قبل أن تشير إلى
أن الدليل محض خيال حتى إنه ربما يكون خاطئًا،
والواقع أنه ربما يكون من الأفضل تجاهل ذلك تمامًا.
ويُعَدُّ هذا مثالًا نادرًا على أطروحة دكتوراه
تمثل تحوُّلًا جذريًّا في الفهم، على الرغم من
تجاهلها في ذلك الوقت.
اتساع الأفق
كانت سيسيليا باين-جابوشكين، على حد قول العديد
من معاصريها، واحدة من أعظم علماء الفلك في القرن
العشرين، وأكثرهم إثارة للاهتمام، على حَدِّ تعبير
ابنتها، أنها كانت «حياكة مبدعة».
6 وُلِدَت باين-جابوشكين عام ١٩٠٠ في
ويندوفر، باكينجهامشير (على بُعد ٨٫٥٢
كيلومترات/٥٫٣ أميال فقط من مسقط رأسي)، وبدأ
اهتمامها بعلم الفلك في سن مبكرة. عندما رأت نيزكًا
في السماء وهي في الخامسة من عمرها، أعلنت عن نيتها
في أن تصبح عالِمة فلك، مشيرةً إلى أنه من الأفضل
لها أن تفعل ذلك بسرعة خشية نفاد الأبحاث عندما
تكبر. كان حبُّها الحقيقي الأول لعلم النبات، الذي
ورثته من عمتها الكبرى دورا، وكانت تقضي ساعات في
التجول عبر تلال تشيلترن، للتعرف على النباتات
النادرة، وفهرسة النباتات غير العادية والتفكير
بعمق في الأساس العلمي وراء التنوع المذهل
للنباتات. التحقت بكلية نيونهام في جامعة كامبريدج
بمنحة دراسية كاملة، بهدف متابعة اهتماماتها. ومع
ذلك، اتضح أنه لا يوجد مَن يحاكي عمق تفكيرها في
علم النبات، وسرعان ما أُصيبت بخيبة أمل بسبب
المنهج المقيد، وافتقار مقررها الدراسي إلى الحماس
والبحث وإعمال الذهن. ولذلك لم يكن من المستغرب أن
يتحوَّل اهتمامها نحو الفيزياء حيث كان العظماء مثل
رذرفورد يعيدون تعريف تكوين الكون، ويحددون ماهية
الذرة، ويتهامسون حول فكرة جديدة تسمى ميكانيكا
الكَم. كانت الفيزياء في ذلك الوقت علمًا
ديناميكيًّا سريع التطور، ومن ثَمَّ استهوتها
كغيرها فكرةُ الانضمام إلى كوكبة الفيزيائيين، ولو
لم يكن المرءُ قادرًا على التفكير بعمق في الكون
المادي، فالأولى له ألا يطرق بابه. وبالفعل لم يمضِ
وقتٌ طويل حتى بدأت باين-جابوشكين في دراسة المزيد
من العلوم الطبيعية.
كان الانتقال إلى هذا المجال الذي يهيمن عليه
الذكور في عشرينيات القرن الماضي أمرًا له تحدياته
الخاصة التي لا بد من التغلب عليها. وتذكَّرت أنها
كانت في كل مرة تدخل قاعة المحاضرات تسمع أصوات
الحاضرين وهم يضربون الأرض بأقدامهم تعبيرًا عن
استيائهم من انضمامها. ومن المُوهِن للعزيمة أنني
سمعتُ عالمةَ الفيزياء الفلكية من أيرلندا
الشمالية، جوسلين بيل بورنيل، تقول الشيء نفسه عن
الفترة التي قضتها في الجامعة في الستينيات. ومع
ذلك، ثابرت باين-جابوشكين، وتحملت غضب أحد محضِّري
المختبر العملي الذي صاح في النساء أن يخلعن
مشداتهن خشية أن تتداخل مع التجارب
الكهرومغناطيسية. ووسط كل هذه الظروف، حصلت على
تذكرة مجانية في اللحظة الأخيرة لحضور محاضرة لآرثر
إدينجتون عن رحلته إلى البرازيل من أجل مشاهدة كسوف
عام ١٩١٨ والتحقق من نظرية النسبية. وكان لمحاضرة
إدينجتون عن النسبية تأثير عميق في باين-جابوشكين.
كانت النتيجة هي تحوُّل كامل في تصوري عن
العالم … عندما عدتُ إلى غرفتي، وجدتُ أنني
أستطيع كتابة المحاضرة كلمة كلمة … ولمدة
ثلاث ليالٍ، على ما أعتقد، لم يغمض لي جفن.
لقد انقلب عالَمي رأسًا على عقب لدرجة أنني
شعرتُ بما يشبه الانهيار العصبي … لقد
اكتفيتُ من علم الأحياء، وكرَّستُ حياتي
للعلوم الطبيعية إلى الأبد.
يَرد ذكر حالات الكسوف مرارًا وتكرارًا في هذا
الكتاب نظرًا إلى قدرتها الفريدة على الإلهام، مع
أنها تحجب الشيءَ الذي نهدف إلى دراسته. فكسوف عام
١٩١٨ لم يقدم لنا تأكيدًا للنسبية فحسب، بل كان
سببًا في تخلي أحد أعظم العقول في علم الفلك عن
اهتمامه بالنباتات الموجودة على الأرض، والنظر إلى
النجوم، وإحداث ثورة في فهمنا للشمس.
قاد سعيُ باين-جابوشكين الدءُوب وراء دراسة علم
الفلك من جامعة كامبريدج إلى جامعة هارفارد في
الولايات المتحدة، عندما قيل لها إن فرص العمل في
إنجلترا غير متاحة لعالِمات الفلك، سواء أكُنَّ
يرتدين مشدًّا أم لا. كانت سيسيليا باين-جابوشكين
امرأة من عصر النهضة بحقٍّ، حيث كانت تتقن عدة
لغاتٍ سواء بدرجة عالية أو متوسطة من الطلاقة، وفي
ذلك اللغة الأيسلندية. وكانت بارعة في الموسيقى
الكلاسيكية، وأنشأت أوركسترا خاصة بها في مرصد
هارفارد عندما اكتشفت عدم وجود أوركسترا هناك. ربما
يُعزى هذا بدرجة كبيرة إلى تأثير جوستاف هولست،
الذي كان مدرسًا في مدرسة التحقت بها في سنوات
نشأتها الأولى. ومن الجدير بالذكر أنها حتى في
شغفها الموسيقي وجدت نفسها متأثرة بعلم الفلك، حيث
كان جوستاف هولست هو مؤلف أوركسترا «الكواكب» (ذا
بلانيتس).
لقد كانت مخلصة ودقيقة في كل ما تفعله. وعندما
سمعت بتعرُّض عالِم زميل لها للاضطهاد في ألمانيا،
ساعدته على الهروب إلى الولايات المتحدة. وعندما
طلبت حكومة الولايات المتحدة من الناس زراعة
المحاصيل الزراعية لصالح المجهود الحربي، لم تكتفِ
فقط بزرع القليل من البطاطس في حديقة منزلها
الخلفية؛ بل اشترت قطعة أرض صغيرة وزرعت الخضراوات،
وربَّت الديوك الرومي، وخلَّلت كل ما يمكن تخليله
وتبرعت بحوالي ٥٠ ألف بيضة من دجاجاتها خلال فترة
الحرب. فقد كانت سيسيليا باين-جابوشكين تنجز كل
شيءٍ على أكمل وجه.
كانت هذه الإنجازات والتصرفات غير التقليدية تبدو
ضئيلة بالمقارنة بإنجازاتها العلمية. فعادةً ما
تكون رسالة الدكتوراه برنامجًا تدريبيًّا يتضمن
الإلمام بالمعلومات كافة التي تخص مجالًا معينًا
وتطوير خبرتك فيه. انغمست باين-جابوشكين في رسالة
الدكتوراه بتفانٍ مميَّز، وعملت لأسابيع وشهور
متواصلة دون راحة، لدرجة أن والدتها أرسلت خطابًا
إلى المشرف على رسالة الدكتوراه تطلب منه إجبارها
على أخذ إجازة. واعتمدت باين-جابوشكين على العمل
الذي جرى تنفيذه سابقًا لإنشاء نظام لتصنيف النجوم.
كان إنجازها هو تطبيق نظريات جديدة حول حالات
تأيُّن الذرة على الأطياف النجمية. وقد أدركت أن
قوة خطوط الامتصاص لم تكن مؤشرًا مباشرًا على وفرة
العنصر، بل علامة على حالة تأيُّن العنصر. فالذرات
تتكون من نواة تحيط بها إلكترونات. عند التسخين أو
التعرض لضغط، يمكن أن تكسر الإلكترونات ارتباطها
بالنواة وتخلص منها في عملية تسمى التأيُّن. وستنتج
الذرة الناتجة، أي الأيون، خطوط امتصاص مختلفة عن
نظيرتها الأكثر اكتمالًا. ومن خلال تطبيق نظرية
التأين على الأطياف النجمية، تمكَّنتْ من إجراء
تقديراتٍ أكثر دقة للوفرة النسبية للعناصر
الكيميائية المختلفة الموجودة في النجوم. وبذلت
جهودًا مضنية لمدة عامَين للتحقق من الخطوط المميزة
الموجودة في الأطياف وفهم حالة التأين التي تشير
تلك الخطوط إلى وجود الذرة بها. وأظهرت نتائج
باين-جابوشكين أنه على الرغم من أن الشمس كانت
تحتوي على عناصر موجودة أيضًا على الأرض، مثل
الكربون والهيدروجين والهيليوم، كانت الوفرة
النسبية لهذه العناصر مختلفة تمامًا. فالنجوم كانت
تحتوي على هيدروجين أكثر بمليون مرة من نفحة
المعادن البسيطة التي أظهرتها نتائجها. وكان هذا
غريبًا جدًّا بالنسبة إلى علماء الفلك في عام ١٩٢٥،
لدرجة أنه على الرغم من كل الأدلة، قيل إن السبب
وراء ذلك هو سوء تطبيق النظرية على عملية الرصد.
وكان هنري راسل، عالِم فلك زميل، «مقتنعًا بوجود
خطأ خطير في النظرية الحالية. فمن الواضح أنه من
المستحيل أن يكون الهيدروجين أكثر وفرة بمليون مرة
من المعادن.» وثَّقت باين-جابوشكين النتائج وأضافت
بيانًا توضيحيًّا مفاده أن الوفرة النجمية
للهيدروجين والهيليوم «عالية على نحو غير محتمَل،
ويكاد يكون من المؤكَّد أنها ليست
حقيقية».
7
،8 وحتى مع البيان التوضيحي، أدى نشر مثل
هذه النتائج غير المتوقعة إلى الإضرار بسمعتها،
وذكر أحد رؤساء العمل المحتمَلين أنه لا يستطيع
النظر في توظيفها لسببَين، أولهما أنها امرأة،
وثانيهما أنه «شعر بخيبة أمل كبيرة» عند قراءة
ورقتها البحثية. ليس الغرض من هذا إلقاء اللوم على
راسل أو توبيخ باين-جابوشكين لعدم ثباتها على
موقفها. فخلال تلك الفترة، أثارت تلك النتائج
الحيرة، وحتى العلماء ذوو الرأي السديد يمكن أن
يتشتت انتباههم عن الأدلة عندما تتعارض تمامًا مع
نظرتهم المتأصلة إلى العالم. ولا يحتاج المرء سوى
النظر إلى عالِم الفيزياء الأشهر، ألبرت أينشتاين،
وملاحظة مدى تجنبه للاستنتاج القائل بأن الكون
يتمدَّد.
حوَّلت باين-جابوشكين تركيزها إلى أبحاث أخرى،
ولكن على مدى السنوات القليلة التالية ظهرت أدلة
تكميلية أخرى تدعم النتائج التي كانت قد توصلت
إليها. وفي غضون سنوات قليلة فقط، نشر راسل بحثًا
أعلن فيه أن النجوم تتكوَّن في الغالب من
الهيدروجين. من المؤسف أن باين-جابوشكين لم تحصل
إلا على القليل من الفضل مقابل عملها الرائد حول
هذا الموضوع في ذلك الوقت، ولم يكن هناك أي ذكر
لإصرار راسل على أن نتائجها ليست صحيحة. ووفقًا
لرواية ابنتها، لم تجمِّل باين-جابوشكين كلامها قط
ولم تتمكن من إخفاء مرارتها أو غيرتها جيدًا، وكانت
مشهورة بالتعبير عما تشعر به تجاه موقف ما، حيث
قالت:
كثيرًا ما يأتي الشباب إليَّ، ولا سيَّما
الإناث منهم، طلبًا للنصيحة. فها هي نصيحتي
إليكم، ويمكنكم تكييفها مع ظروفكم. لا تخُض
غمار مهنة علمية بحثًا عن الشهرة أو المال.
فهناك طرق أسهل وأفضل لتحقيق ذلك. ولا
تتولَّها إلا إذا لم يكن هناك شيء آخر
يرضيك؛ فربما يكون هذا الرضا هو الشيء
الوحيد الذي تحققه فيها. وستكون مكافأتك هي
اتساع الأفق أمامك كلما تقدَّمت خطوة في
أبحاثك. وإذا نلت تلك المكافأة فلن تطلب
غيرها.
9
وبفضل باين-جابوشكين وراسل، توصل عالَم الفلك إلى
حقيقة مفادها أن النجوم تتكوَّن في الغالب من
العنصر الأخف في الكون، وهو الهيدروجين.
صور عائلية
عند النظر إلى كيفية اختلاف لون النجم ولمعانه،
نجد أن النجوم تشكِّل مجموعات لطيفة ومتسقة تساعدنا
على فهمها ليس بوصفها كائناتٍ ساكنة ولكن بوصفها
كياناتٍ متطورة. يمثل مخطط هرتسبرونج-راسل (الذي
سمي بذلك تيمنًا بهنري راسل نفسه، ويُعرف اختصارًا
بمخطط إتش-آر) كل نجم بنقطة على رسم بياني حيث يحدد
لون النجم مكانه على الإحداثيات الأفقية، ويحدد
لمعانُ النجم مكانَه على الإحداثيات العمودية. إذا
اخترت مجموعة من النجوم ورسمت كل نجم على مخطط
هرتسبرونج-راسل، فستجد أن النجوم غير موزعة
بالتساوي عبر المخطط، بل تشكِّل مجموعات وخطوطًا
بدلًا من ذلك. والسبب في ذلك أننا عندما ننظر إلى
نظام نجمي، فإننا نرى الكثير من النجوم، جميعها في
مراحل مختلفة من حياتها. فلكل منها مراحل حياة
وسماتها قابلة للتقسيم إلى عائلات وأجيال. اشتهرت
باين-جابوشكين بالإشارة إلى نجوم معينة على أنها
أصدقاء لها وإضفاء طابع إنساني عليها؛ يمكنني فهم
السبب الذي دفعها إلى ذلك. فبالنظر إلى أي نظام
نجمي، فإنك في الواقع تلتقط لقطة لحظية لتطور هذا
النظام النجمي. ولأننا على دراية بكيفية تطور حياة
الإنسان، فعندما نلتقط صورة لعائلة كبيرة، فإننا
ندرك مَن الأعضاء الجُدد، ومَن كبار السن، ومَن
تربطهم صلة قرابة وثيقة. يمكننا تصنيف البشر إلى
مجموعاتٍ تقريبية: الرضع والأطفال والمراهقين
والشباب ومتوسطي العمر وكبار السن. ومع ذلك، عند
النظر إلى مجموعة من النجوم، يصعب علينا فهم أي
النجوم ربما يكون قد نشأ مع أي نجم آخر وأيها يمر
بمراحل عمره الأخيرة، ولكن تتضح الفئات العمرية
المختلفة على هيئة هذه المجموعات والمسارات
المختلفة التي تظهر على مخطط هرتسبرونج-راسل. يمثل
كل مسار ومجموعة مرحلة مختلفة من حياة النجوم. ومن
ثَمَّ، أرى أنه من الخطأ وصف النجم بأي طريقة
ثابتة. فالنجم كيان متطور، منذ لحظة الانهيار
الأولى في سحابة غازية، وحتى لحظة زواله العنيف في
كثير من الأحيان.
يخبرنا مخطط
هرتسبرونج-راسل عند أبسط مستوياته أن هناك نسقًا
أساسيًّا يمتد على نحو مائل عبر منتصف الرسم
البياني، حيث تقضي معظم النجوم ٩٠٪ من حياتها.
ويعتمد موقع النجم في النسق الأساسي على كتلة ذلك
النجم أو بشكل متكافئ درجة حرارته، حيث تقع شمسنا
في الثلث الأول من النسق الأساسي من ناحية الجزء
السفلي. وسيبقى نجم مثل شمسنا في النسق الأساسي
لحوالي ٩ مليارات سنة، مرَّ منها ما يقرب من ٤٫٦
مليارات سنة. ومن النسق الأساسي، يهاجر نجم متوسط
الكتلة إلى مرحلة العملاق الأحمر، ويتضخم حجمه
لدرجة أنه عندما تصل شمسنا إلى هذه المرحلة، فستكون
على وشك الوصول إلى مدار الأرض. ما يحدث بعد ذلك
يعتمد على كتلة النجم. فإذا كان النجم يقع بالقرب
من الحد الأدنى للمقياس، فسوف ينفد مصدر الطاقة
الخاص به ولن يتبقى سوى بقايا صغيرة تعرف باسم
القزم الأبيض. أما إذا كان على الجانب الأكثر
ضخامة، فسينفجر على شكل مستعر أعظم، حيث يدمر نفسه
ويطلق قدرًا كبيرًا من الطاقة يضاهي الطاقة التي
تصدر من جميع النجوم الأخرى في المجرة في انفجار
مفاجئ. وإذا نجا قلب النجم من الانفجار، فقد يستقر
في حالة من الخمول الدائم في صورة نجم نيوتروني،
وهو نجم ثقيل جدًّا تبلغ كتلته كتلة شمسَين
محشورتَين في مجال بحجم مدينة صغيرة. وإذا كانت
بقايا النجم الناجية ضخمة بدرجة كبيرة، فحينها
سينهار ما تبقى من النجم بالكامل، ويتشكل ثقب أسود.
إن السرعات التي تنتقل بها النجوم على طول هذه
المسارات تكون محكومة بكتلة النجم نفسه. فالنجوم
الأكبر حجمًا تحرق وقودها بمعدل أسرع، مما يؤدي إلى
قصر عمرها. وبالتالي، إذا رصدنا نظامًا قديمًا
جدًّا، فسنجد أن معظم النجوم الكبيرة الكتلة قد
تجاوزت حد الكتلة الكبيرة للنسق الأساسي، ودخلت في
مرحلة العملاق الأحمر أو أنهتها. تمامًا كما هو
الحال في صورتنا العائلية، فإذا رأينا واحدة بعد
مرور ٣٠ عامًا، فمن المرجح أن يكون بعض من أفراد
العائلة الأكبر سنًّا قد أصبحوا متقدمين في السن
أو، للأسف، لم يَعد لهم وجود في الصورة على
الإطلاق.
في عام ١٩٤٤، لاحظ فالتر بادي أن بإمكانه تقسيم
النجوم إلى نوعَين، لكل منهما مخططات
هرتسبرونج-راسل مختلفة جدًّا، اعتمادًا على مواقعها
في المجرة.
10،11 تتكون المجرة الحلزونية عادة من تجمع
نجمي في المركز، يعرف باسم «الانتفاخ»، بالإضافة
إلى «قرص» ذي هيكل على شكل ذراع حلزونية، و«هَالة»
مطوقة ذات بنية نجمية أكثر انتشارًا. وجدَ بادي أن
النجوم الموجودة في المناطق المحيطة بالشمس (أي قرص
المجرة) قد شكَّلت مخطط هرتسبرونج-راسل مختلفًا عن
مجموعات النجوم التي تقع بعيدًا في هالة درب
التبانة، وقد نشأت هذه المخططات أيضًا من البيانات
المستمدة من قرص مجرة أندروميدا وهالتها. كان بادي
أول من روَّج فكرة أن نجوم النوع الأول كانت شابة
وأن نجوم النوع الثاني كانت كبيرة في السن، من خلال
ملاحظة أن نجوم الهالة من النوع الثاني الأكبر
سنًّا قد تطورت خارج النسق الأساسي، مما أنتجَ مخطط
هرتسبرونج-راسل مختلفًا عما أنتجته نجوم النوع
الأول الأصغر سنًّا في القرص.
12 يبدو أن السمة الرئيسية المميزة للنجوم
في المجموعتَين هي عُمر خطوط المعادن وقوتها في
الطيف، ولكن لم يكن يتوفر فهم لهذا التقسيم بمعايير
علم الفيزياء.
لقد أقنعت أبحاثُ سيسيليا باين-جابوشكين المجتمعَ
العلمي أن الشمس تختلف في تركيبها عن الأرض
وتتكوَّن غالبًا من الهيدروجين. كان الوضع الجديد
حتى خمسينيات القرن العشرين هو أن مكونات الشمس،
على الرغم من اختلافها عن الأرض، كانت في ذلك الوقت
مثل أي نجم آخر. وفُهم خطأً أن اختلاف قوة الخطوط
في الأطياف المختلفة تنجم حصريًّا عن اختلاف درجات
حرارة النجوم. في خمسينيات القرن العشرين، اكتُشِفَ
نجم فقير بالمعادن لديه خطوط معادن باهتة وهنا
تعذَّر تفسير ذلك باختلاف درجة الحرارة وحدها
مقارنةً بالشمس. ونشأ مجال جديد تمامًا، يُسمى علم
الآثار النجمي، الذي سنناقشه بإسهاب في الفصل
السابع. أشارت خطوط المعادن الأضعف إلى محتوى معدني
داخلي أقل، وعند اقتران ذلك بالنظرية القائلة بوجود
مجموعتَين مختلفتَين من النجوم الصغيرة والكبيرة في
السن، فإن هذا يعني ضمنًا أن ما يحتويه الكون من
معادن قد زاد بمرور الوقت. فنجوم النوع الثاني
الأكبر سنًّا كانت أكثر فقرًا في المعادن من نجوم
النوع الأول الشابة. ولقد فهمنا لأول مرة أن هذه
المعادن الثقيلة أُنتجت داخل النجوم، وتنتشر في
الكون مع انفجار النجوم. وتتشكل النجوم الأصغر
سنًّا من غاز مشبع بالمعادن بالفعل، مما يمنحها
نسبة أعلى من محتوى المعادن. ولولا أن النجوم تنتج
الكربون والحديد والنيتروجين، لما كنا موجودين على
الإطلاق، أو كما قال عالِم الفيزياء الفلكية
الأمريكي كارل ساجان: «نحن مصنوعون من غبار
النجوم».
جماهِر النجوم
ما زلنا نستخدم هذَين النوعَين اليوم، باستثناء
أننا نشير إليهما بنجوم الجمهرة الأولى ونجوم
الجمهرة الثانية. نجوم الجمهرة الأولى هي نجوم شابة
غنية بالمعادن ويشيع وجودها في قرص المجرة. وتعتبر
شمسنا نجمًا من نجوم الجمهرة الأولى. أما نجوم
الجمهرة الثانية فهي نجوم أكبر سنًّا وفقيرة في
المعادن، وغالبًا ما توجد في صورة مجموعاتٍ في
الهالة التي تطوِّق مجرتنا، أو في التركيز المركزي
للنجوم، أو ما يسمى بالانتفاخ. على مدى النصف الأول
من القرن العشرين، تطوَّر فهمنا للنجوم بدءًا من
كونها كياناتٍ مشابهة للأرض، ثم كياناتٍ مشابهة
للشمس، وأخيرًا مجموعة متنوعة. فهناك نجوم مختلفة
الألوان والبنية والحجم والتكوين. وهناك نجوم صغيرة
في السن ونجوم كبيرة في السن، ونجوم شائعة وأخرى
نادرة. والنجم الأندر على الإطلاق هو ما نحتاج إليه
لإكمال مجموعتنا. خلال النصف الأخير من القرن
العشرين، أدرك علماء الفلك أن الانفجار العظيم لم
يكن هو المسئول الوحيد عن تكوين جميع العناصر التي
نراها حولنا، ولا بد أن النجوم كان لها دور في ذلك.
هذا الاستنتاج يحمل في طياته أيضًا حتمية أنه كان
هناك في بداية نشأة الكون غاز فقير في المعادن، أو
في حقيقة الأمر غاز يكاد يكون منعدم المعادن. ومن
ثَمَّ تعتبر نجوم الجمهرة الثالثة فئة النجوم التي
تشكَّلت من الغاز البدائي الخالي من المعادن. فهذه
هي النجوم الأولى، النجوم الخالية من المعادن،
ويُستخدم هذان المصطلحان على نحوٍ تبادلي في
الكتاب. كانت نجوم الجمهرة الثالثة، وأعتقد أنها لا
تزال كذلك، مفهومًا نظريًّا. فهي نتيجة منطقية
لملاحظاتنا وفهمنا للتطور الكيميائي للكون في
مراحله الأولى، لكننا لم نؤكد بعد صحة نظرياتنا
بعمليات الرصد. وقد ظل علماء الفلك يبحثون منذ أن
كان تصورهم مجرد فكرة، إلا أن النجوم قد نجحت حتى
الآن في التملص من عمليات الفحص.
•••
هناك مزحة في الأوساط الأكاديمية مفادها أنه إذا
كانت الورقة البحثية تتضمن سؤالًا في عنوانها، فلا
شيءَ يجبرك على إكمال القراءة لأن الإجابة ستكون
دائمًا بالنفي. في عام ١٩٨١، كان من الممكن أن ينشر
عالِم الفيزياء الفلكية الأمريكي هاورد بوند البحث
الذي أعدَّه بعنوان: «هل وجدنا نجوم الجمهرة
الثالثة؟» حيث ستكون الإجابة «لا». ولكنه، بدلًا من
ذلك، عنوَن ورقته البحثية ﺑ «أين تقع نجوم الجمهرة
الثالثة؟»
13 وهو سؤال لا يتطلب الإجابة بنعم أو لا،
بل يثير في ذهن القارئ حيرة محبطة. وكانت رسالة
الدكتوراه التي أعدها بوند تتمحور حول البحث عن
النجوم الخالية من المعادن. وعلى مر السنين، كان
يبحث في أكثر من نصف السماء عن أي نجوم تحتوي على
ما يقل عن ١ / ١٠٠٠ من مَعدنية الشمس، وهو تعريف
نجم الجمهرة الثالثة في ذلك الوقت. حقَّق الاستقصاء
الخاص به الكثيرَ، وعثر على بعض النجوم المثيرة
للاهتمام التي كانت تصل مَعدنيتها إلى ١ / ٥٠٠ من
معدنية الشمسية وأقل من ذلك … ولكن لم يكن عددها
كبيرًا. ولم يتجاوز أيٌّ منها حدود نجوم الجمهرة
الثالثة. لقد تحدَّثتُ إلى البروفيسور بوند مؤخرًا
وسألتُه عن مدى الاستياء الذي أثاره عنوان هذا
البحث:
لقد بحثتُ فيما يقرب من نصف السماء …
وأخيرًا كتبتُ ورقة بحثية تشير إلى أن هناك
بالفعل عددًا قليلًا جدًّا من النجوم ذات
[المَعدنية المنخفضة] … أتعلمين، لقد شعرتُ
بخيبة أمل لأنني بذلتُ كل هذا الجهد للعثور
على هذه النجوم؛ إذ كنت كمَن يبحث عن إبرة
في كومة قش. وكما تعلمين، كنت أحاول فقط أن
أوضح: «كيف يمكننا فهم هذا الأمر؟» … ربما
عندما بدأتُ كطالب ساذج، اعتقدتُ أن هذه
النجوم موجودة وربما لو ألقيتُ نظرة
باستخدام التقنية المناسبة لعثرتُ عليها،
ولذا ذهبتُ فعليًّا لألقي نظرة، لكن أين
هذه النجوم اللعينة؟ لم أعثر على شيء …
فكيف سأجد كل هذه النجوم المذهلة … وهي غير
موجودة بالفعل.
أخبرني بوند أن عنوان بحثه «أين تقع نجوم الجمهرة
الثالثة؟» كان اقتباسًا مباشرًا من مؤتمر حضره.
وكان أحد الحضور، عالِم الفيزياء الفلكية الأمريكي
إيفان كينج، قد قدَّم عرضًا تقديميًّا بعنوان
«الفضائح العلمية»، وكان لغز النجوم الأولى
المفقودة أحدَها. أحببتُ مصطلح «الفضائح العلمية»،
وكأن الكون متورط في عملية تواطؤ وتستر. ومع ذلك،
فهي بطريقة ما لعبة أُجبرنا فيها على لعب دور
المحقِّق. ففي علم الفلك، لا تنبع التحديات في كثير
من الأحيان من صعوبة العثور على إجابات؛ ففي نهاية
المطاف، النجوم والمجرات ليست صغيرة إلى هذا الحد.
فالإجابة واضحة للعيان، ولكنها موجودة وسط كمياتٍ
هائلة من البيانات، ومهمتنا هي استنباط أسطر
الأرقام القليلة، والانحرافات الحادثة في النظام،
التي تكشف عن موقعها.
يجري البحث عن النجوم الأولى بحماس بالغ اعتبارًا
من عام ٢٠٢٠. كانت أساليب بوند سليمة ولكنها
محدودة، ولم تكن قادرة إلا على استكشاف درجة سطوع
معينة، وبالتالي مسافة معينة. لدينا الآن طرق
يمكننا بها تعميق نطاق البحث، بحيث يشمل أيضًا
مجراتٍ أخرى. وإلى جانب البحث المباشر عن هذه
النجوم، لدينا أيضًا طرق لتتبع آثارها والكشف عن
تأثيرها على بيئاتها واستنتاج خصائصها. إن نجوم
الجمهرة الثالثة بمثابة دمى «بيني بيبي» النادرة
التي نفتقد وجودها على أرففنا، أو المكان الفارغ
لطابع «بيني بلاك» أصلي مفقود من مجموعة طوابع بريد
لدينا. وللعثور عليها، نحتاج إلى أفكار جديدة
وموارد وقدرة على التحمل.
ولذا، من الأفضل أن نبدأ من البداية.