الفصل الثالث

الانفجار الصغير

تبدأ قصتنا بحمامة أو اثنتَين. نحن نتعامل مع الحمام باعتباره مصدر إزعاج في المناطق الحَضرية، وهو يحتل المرتبة الأولى بين الطيور المؤذية في الولايات المتحدة. يوجد ما يقرب من ٤٠٠ مليون حمامة في العالم، أستطيع أن أرى ثمانية منها خارج نافذتي الآن. في موطن نشأتي، نشير إلى الحمام على أنه فئران ذات أجنحة، لكنه ليس غبيًّا كما تظن. وهناك عدد مذهل من الدراسات التي تدحض فكرة أن الحمام «أحمق». وهناك دلائل تشير إلى أن بإمكانه التمييز بين أعمال الفنانين المختلفين،1 والتعرف على الكلمات،2 والعَد إلى تسعة،3 حتى التمييز بين الأورام الحميدة والخبيثة في صور الأشعة.4 ومن السمات الإيجابية الأكثر شيوعًا للحمام هي قدرته على العودة إلى منزله، التي يمكن أن تؤدي إلى تسابق الحمام في طريقه إلى منزله بسرعة تصل إلى ٩٧كم/ساعة (٦٠ ميلًا في الساعة) على مسافات تصل إلى ١٦٠٩كم (١٠٠٠ ميل). في عام ٢٠١٩، بيعت حمامة سباق تُدعى أرماندو بأكثر من مليون جنيه إسترليني،5 وهذا دليل على حجم الإشادة بقدرات الحمام على التسابق. وقد اهتم مربو الحمام بصقل قدراته على العودة إلى المنزل بصورة انتقائية لآلاف السنين؛ لأنه لفترة طويلة قبل تويتر والهواتف المحمولة، كان الحمام أسرع وسيلة لنقل الرسائل. فنتائج الألعاب الأولمبية الأولى، وأخبار غزو يوليوس قيصر لبلاد الغال وهزيمة نابليون في واترلو، قد نُقلت جميعًا عن طريق الحمام.6 وفي الآونة الأخيرة، تسببت رسائل استخبارية حربية مهمة نقلها الحمام في إنقاذ الأرواح في جميع أنحاء أوروبا خلال الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، ولكن لم يخلُ الأمر من التضحية بالطيور. وقد لقي عشرون ألفًا من حمام الجيش حتفها في هاتَين الحربَين.7 فقد طارت الحمامة شير آمي، التي تعني بالعربية «الصديقة العزيزة»، مسافة ٤٠ كيلومترًا (٢٥ ميلًا) في عام ١٩١٨، على الرغم من إصابتها بالعمى وتعرضها لطلق ناري في الصدر، وإصابة إحدى ساقَيها إصابة بالغة. وعلى الرغم من سقوط حمامتَين أمامها، فقد نجحت في توصيل الرسالة التالية: «نحن على طول الطريق ٢٧٦٫٤ الموازي. مدفعيتنا تقصفنا بوابل من النيران. أوقفوا القصف بحق السماء.»، وهو ما أدى إلى إيقاف وابل من النيران الصديقة وساعد في إنقاذ حياة ١٩٤ رجلًا.8 مُنِحَت اثنتان وثلاثون حمامة في وقت الحرب، وأرواحًا باسلة مثل جي آي جو، وسامَ ديكين، وهو أرفع وسام يُعطى للحيوانات التي تخدم في الجيش. وهناك حمامة واحدة على الأقل، وهي ماري من مدينة إكستر، لديها نُصب تذكاري صغير خاص بها.9 لعلك تتساءل الآن عن هدفي من هذا كله؟ ما أقصده أنك أينما نظرت في أحداث التاريخ فستجد عادةً حمامة كان لها بالغ الأثر.

مادة عازلة بيضاء

في عام ١٩٦٤، كان عالِما الفلك الأمريكيان روبرت وودرو ويلسون وأرنو ألان بنزياس يتساءلان عما يجب فعله بشأن حمامتَين تعششان في هوائي بوقي مربع يبلغ طوله ٦ أمتار (٢٠ قدمًا). بُنيَّ الهوائي الموجود في مختبر «بل تليفون» في نيو جيرسي قبل خمس سنواتٍ ليكون بمثابة قناة اتصال بالأقمار الصناعية. وقد صمَّما شكل مخروط الآيس كريم الجانبي الغريب ليكون بمثابة حاجز أمام أي إشارة تنبعث من الأرض أو ترتد عنها، مما يضمن الحصول على قناة اتصال واضحة مع القمر الصناعي. وتتمتع موجات الراديو بالطول الموجي المناسب للانعكاس عن طبقة الأيونوسفير للأرض، وهي إحدى طبقات الغلاف الجوي العليا ومكوَّنة من جسيماتٍ مشحونة. وهذا يعني أننا نستطيع أن نجعلها ترتد عن عمد، ونوجهها نحو هوائي موجود على سطح الأرض. ويُعَدُّ هذا أمرًا رائعًا لأي شخص يستمع إلى محطة راديو ٤ في المرتفعات الاسكتلندية. ومع ذلك، فهو أمر غير مواتٍ لعلماء الفلك؛ لأن ما سيئُول إليه الأمر في نهاية المطاف أن أحدث حلقات المسلسل الدرامي «ذا أرتشيرز» (رماة الأسهم) ستغطي على الإشارة الفلكية المطلوبة وتحجبها. فالتركيز المحدود للهوائي على السماء جعل من الهوائي البوقي في بلدة هومديل جهازًا ممتازًا لإجراء عمليات الرصد الفلكية للسماء، دون أي تداخل أرضي.

قرر بنزياس وويلسون استخدام هوائي الاتصالات كتلسكوب راديوي استنادًا إلى أطروحة الدكتوراه الخاصة بويلسون، والتي افترضت نظريًّا وجود هالة خافتة من الغاز حول مجرة درب التبانة. لكن حتى ذلك الحين لم تكن لديه المعدات القادرة على قياس مثل هذه الخلفية الخافتة في مواجهة كل الإشارات الأرضية غير المفيدة. ولذا أجريا قياساتهما على تردد ١٤٢٠ ميجاهرتز؛ لأنه في حال وجود هالة من الهيدروجين، فمن المؤكد أنها ستصدر إشعاعًا عند هذا الطول الموجي. كان المستخدمون السابقون للهوائي البوقي في هومديل قد تركوه جاهزًا لاستقبال تردد قيمته ٤٠٨٠ ميجاهرتز. ومن قبيل المصادفة، ستكون هالة درب التبانة النظرية غير مرئية عند تلك الترددات. كان هذا طولًا موجيًّا غير متوقع لإجراء اختبار صفري للتلسكوب الخاص بهما؛ حيث شغَّلاه على تردد لا يُتوقع أن يستقبل عليه أي إشارة وتأكَّدا من أن القراءة صفر للتحقق من المعدات. وفي يونيو ١٩٦٤، وجَّها التلسكوب إلى السماء، وحسبا مصادر الإشارة المعروفة داخل الجهاز والسماء، وتوقَّعا العثور على قيمة صفرية. لكن حسبما قال ويلسون: «كان أحد أهدافنا قياس الحد الأدنى لسطوع السماء … وقد سار ذلك على نحو خاطئ للغاية».10
فبدلًا من القراءة الصفرية التي توقعها بنزياس وويلسون، حصلا على ٣,٥ درجة فوق الصفر المطلق؛ أي إن درجة الحرارة عند هذه الإشارة كانت ٣,٥ كلفن. ولاستبعاد المصادر التي قد يكون للإنسان دخل فيها، وجَّها التلسكوب إلى أكبر تجمع قريب للبشر، في مدينة نيويورك. فلو كانت هذه الإشارة ناجمة عَرَضًا عن أجهزة التلفزيون أو الراديو أو أي نشاط بشري آخر، فإن التركيز الأعلى لهذا النشاط سينتج إشارة أعلى في التلسكوب. لكن للأسف، ظلت الإشارة كما هي، ٣,٥ كلفن بغض النظر عن اتجاه التلسكوب. فحص العالِمان الأجزاء الداخلية للتلسكوب بحثًا عن مصدر هذه الإشارة المزعجة، لكن الإشارة ظلت موجودة؛ فقد كانت قادمة من كل حدب وصوب في السماء. تحضرني هنا لشيرلوك هولمز عبارة شهيرة يقول فيها: «عندما تستبعد المستحيل، فإن كل ما يتبقى هو حتمًا الحقيقة، مهما كان مستبعدًا».11 لقد جرَّب بنزياس وويلسون كل شيء واضح، ومن ثَمَّ فلا عجبَ أنهما بدآ بعد ذلك في النظر إلى ما هو غير محتمَل. ووجدا أن هناك حمامتَين استقرَّتا في أعماق بوق الهوائي بجوار صندوق المراقبة الساخن. وقد غلَّفتا الجزء الداخلي من الهوائي بما أشار إليه بنزياس بأدب على أنه «مادة عازلة بيضاء». أو كما نقول «فضلات حمام». تعمل الفضلات كمادة عازلة، وموصِّل رديء يمكن أن يسبب تداخلًا في الإشارة اللاسلكية. أثبت هذان الطائران أنهما عنيدان، ففي كل مرة كان بنزياس وويلسون يبحثان في منطقة جديدة من السماء، كان الهوائي بأكمله يدور، مما يؤدي إلى الإطاحة بالحمامتَين كما لو كانا يركبان أحد ألعاب الملاهي.12 فالمكان لم يكن مريحًا على الإطلاق ليقيما عشهما فيه ولكن يُقال إن الحمام يتزاوج مدى الحياة ولذا اعتبرا التلسكوب موطنهما.
وفقًا لويلسون، احتُجِزَ الطائران في صندوق، وشُحِنا إلى مربي حمام. نظر إليهما مربي الحمام، ووجد أنهما حمامتان غير مميزتَين، ولذا أطلق سراحهما.13 وما إن نُظِّفَت المادة العازلة البيضاء من الهوائي، حتى عادت الحمامتان إلى عش حبهما النظيف بعد يومَين. إن غريزة عودة الحمام إلى موطنه أمر عظيم حقًّا، أليس كذلك؟ يروي بنزياس ما حدث بعد ذلك قائلًا:
في النهاية، قررنا التخلص منهما بالرغم من أنني لم أكن سعيدًا بهذا القرار، لكننا وجدنا أخيرًا أن التصرف الأكثر إنسانية هو إحضار بندقية. أحضرنا بندقية، ومن مسافة قريبة جدًّا، قتلناهما فماتا على الفور. لذلك، لم أكن سعيدًا حيال هذا الأمر، ولكنه بدا التصرف الصحيح الذي ينبغي عمله. بدا وكأنه السبيل الوحيد لحل هذه الأزمة.14

إن دور هاتَين الحمامتَين في هذه القصة أسطوري جدًّا، حتى إنه يمكنك رؤية المصيدة التي استخدموها للإمساك بهما عند زيارة المتحف الوطني للطيران والفضاء في واشنطن العاصمة. كنت أعرف الجزء الأول من هذه القصة منذ أيام الدراسة الجامعية، وأثناء بحثي لتأليف هذا الكتاب أمضيتُ وقتًا في معرفة مصير الحمامتَين على أمل الحصول على نهاية سعيدة لهما. لكنها كانت على الأقل نهاية سريعة. نظَّف بنزياس وويلسون التلسكوب، وشغَّلاه، ومع أنه كان خاليًا من الحمام، فإن درجة حرارة الإشارة سجَّلت ٣,٥ كلفن مجددًا. وقد أكدا على مدى العام أن الإشارة ظلت كما هي خلال الدورات اليومية والموسمية. واستبعدا الإشارات المنبعثة من البشر والمعدات المُعطَّلة وبراز الحمام. إذن ما كان مصدر هذه الإشارة؟ اتضح أنه بينما كان بنزياس وويلسون يعتقدان أن الانفجار الصغير للبندقية سيحل مشاكلهما، فقد أدى في واقع الأمر إلى اكتشافهما بقايا إشعاع الانفجار العظيم.

الانفجار العظيم

الانفجار العظيم فكرة واضحة مفادها أن كل المادة في الكون قد سُحقت في ذات كثافة لا متناهية حتى انفجر الزمكان وانبعجَ نحو الخارج، فأدى ذلك بدوره إلى تمدُّد الكون الذي نعيش فيه اليوم. ليتني أستطيع تلخيص الأمر في جملة واحدة، ولكنه ليس بالفكرة التي يمكن للعقل البشري استيعابها بسهولة. فلا عجبَ أن يلقى الأمر معارضة شديدة من العقول العلمية المحترمة في ذلك الوقت. ومن وجهة نظري، وعلى غرار العديد من العلماء الآخرين، فالانفجار العظيم نظرية منافية للعقل لكنها مقنعة تمامًا في الوقت نفسه. فهو نظرية فُرضت على عقولنا المحدودة الثلاثية الأبعاد، غير القادرة على تصوُّر اللانهائية ولكنها قادرة على فهم الأدلة الدامغة. حتى أينشتاين نفسه كان يعاني من فكرة أن كوننا قد يكون أي شيءٍ آخر عدا أن يكون ساكنًا. وكما هو معروف، فقد غيَّر أينشتاين معادلات النسبية العامة التي وضعها لتشمل حدًّا إضافيًّا، وهو «الثابت الكَوْني»، لإيقاف التمدُّد الذي تقترحه معادلاته بطبيعة الحال، والحفاظ على كل شيء ثابتًا.15 لا عليك إذا كنت ترى أن فكرة الانفجار العظيم … سخيفة أو حتى بلا معنى. فقد كان أينشتاين نفسه يراها هكذا، لذا هوِّن على نفسك. وهنا يأتي السؤال التالي: لماذا يعتبر الانفجار العظيم مهمًّا في قصة النجوم الأولى؟

وبينما كنت أجلس في غرفة مكتبي على الأرض، محدِّقة في السماء، راودني سؤال منطقي يتوجب طرحه: هل كان هناك حقًّا نجم أول؟ فالكون يبدو من حولي منظَّمًا وغير متغيِّر. قد نستمتع بين الحين والآخر بكسوف الشمس، وستأتي أيام يظهر فيها كوكب الزهرة أكثر سطوعًا، وفي بعض الأحيان يعود مذنب هالي ليتابع آخر الأحداث. لكن على مدى عمر الإنسان، سيبدو الكون كما هو منذ بدايته وحتى نهايته. فهو يشبه إلى حَدٍّ ما ذلك الصيف الذي قضيته عندما كان عمرك ١٤ عامًا. هل تتذكره؟ ذلك الصيف الذي كنت تحضر فيه كل يوم كيسًا من الوجبات الخفيفة، وكتابًا، ونقودًا لشراء الحلويات، وكان أصدقاؤك ينتظرونك بدراجاتهم عند البوابة. وكنت تنثر فتات الخبز للحَمام، وتظن أن الوضع سيستمر هكذا إلى الأبد. ففي كون مليء بأطر زمنية لا يمكن تصورها، نجد — نحن البشر الضئيلين للغاية — أنفسنا نقضي إجازتنا الصيفية مرة أخرى. ولذا من الطبيعي أن نعتقد أن الكون اليوم هو نفسه الكون كما كان دائمًا وسيظل هكذا إلى الأبد — كون ساكن، غير متطوِّر. ومن هذا المنظور، لطالما كانت النجوم موجودة طوال الوقت، وبذلك أصبح السؤال عن متى انبثق النجم الأول إلى الوجود سؤالًا بلا معنى.

انزياح الضوء نحو الأحمر والأزرق

عندما تشاهد انفجارًا في أحد أفلام الحركة، يظهر الكثير من المؤثرات. ويتطاير الحطام إلى الخارج، وتشعر الشخصيات بالحرارة الناتجة عن الانفجار وتبتعد عن الضوء الساطع. في يوم هادئ على كوكب الأرض، لا تتوافق هذه المؤثرات مع الكون الآمن المتوقع الذي أعرفه، ولكن هذا لأنني أقارنه في ضوء أطر زمنية غير صحيحة. فأنا لا أشاهد الانفجار منذ بدايته وحتى نهايته، ولكنني أشاهد إطارًا واحدًا من هذا الفيلم خلال الإطار الزمني الخاص بحياتي. قد يبدو أن الأشياء لا تتغير؛ لأنه خلال حوالي ٨٠ عامًا لن يكون التمدد ملحوظًا. ولكنه موجود، ويمكننا قياسه. وإذا نظرنا إلى صورة لمجرة أندروميدا، بصرف النظر عن ذلك النجم العابر الذي أنهى حياته في انفجار ساطع، فستبدو في الغالب كما هي إذا التقطت الصورة بعد يومَين أو عامَين. يمكن لأي شخص أن يكون لديه تصوُّر مختلف لمدى سرعة تحرك شيءٍ ما اعتمادًا على البيئة المحيطة. فعند مشاهدة الطائرات وهي تقلع من المطار تبدو سريعة. لكن عند مشاهدة طائرة بعيدة في الأفق، تتراجع درجة ملاحظة هذه السرعة. ومن ثَمَّ، لا يمكننا تقدير حركات المجرات لأنها بعيدة جدًّا وكبيرة جدًّا، وإن كانت تتحرك.

يتميز كل نجم برمز شريطي مميز خاص به، أو ما يسمى بالطيف. يغطي الضوء الذي ينبعث من النجم نطاقًا واسعًا من الأطوال الموجية، وتوضح الفجوات الموجودة في ذلك الطيف، التي يُطلق عليها اسم خطوط الامتصاص، وجود عناصر كيميائية معينة في أغلفة النجم الجوية. وينطبق الشيء نفسه على المجرات ولكنها تحتوي كذلك على الكثير من الغبار والغاز بين النجمي، الذي يمتص أيضًا الأطوال الموجية للضوء. لنفترض أن هناك مجرة تحتوي في الغالب على نجوم الجمهرة الثالثة وعدد قليل من نجوم الجمهرة الأولى والثانية الأصغر سنًّا التي تحتوي على عناصر أثقل مثل الكربون. يكاد طيف تلك المجرة ألا يحتوي على أي خطوط خاصة بالمعادن، وإذا ظهرت أيٌّ من تلك الخطوط فستكون باهتة. أما المجرة الأصغر سنًّا، فستحتوي على الكثير من خطوط المعادن بسبب النسبة الأكبر من نجوم الجمهرتَين الأولى والثانية التي تحتوي على عناصر أثقل، وستتوافق خطوط الامتصاص مع الخطوط نفسها التي يمكننا اكتشافها من العناصر المشعة في مختبراتنا على الأرض.

يوجد في طيف مجرة أندروميدا خطوط امتصاص مميزة تتطابق مع عنصر الكالسيوم. وتشير الفجوات في طيف مجرة أندروميدا إلى وجود الكالسيوم بكمياتٍ كبيرة في التريليون نجم الموجودة بمجرة أندروميدا، وهو أمر غير مثير للاهتمام في حد ذاته. فلا بد أن يحتوي الطيف القادم من مجرة أندروميدا على خطوط امتصاص الكالسيوم بالأطوال الموجية نفسها التي ينتجها الكالسيوم المشع على الأرض. فالكالسيوم الموجود في إحدى المجرات هو الكالسيوم نفسه الموجود في أي مجرة أخرى. ولا تختلف مستويات الطاقة الموجودة في ذرات الكالسيوم اعتمادًا على موقع الذرة، ومن ثَمَّ ينبغي أيضًا ألا تختلف الأطوال الموجية للضوء الممتص. ومع ذلك، عندما ننظر إلى طيف مجرة أندروميدا، نجد أن خطوط الكالسيوم قد انحرفت عن مكانها المتوقع بمقدار بضعة أجزاء من المليار متر في الطول الموجي. ونظرًا إلى أن خطوط الامتصاص قد انحرفت إلى أطوال موجية أقصر مقارنةً بأطوالها الموجية على كوكب الأرض؛ أي انحرفت نحو الطرف الأزرق من الطيف الكهرومغناطيسي، فإننا نقول إنها قد تعرضت إلى انزياح أزرق. يبدو الأمر كما لو أن الكالسيوم الموجود في مجرة أندروميدا يمتص فوتونات ذات أطوال موجية مختلفة بعض الشيء، وأن الإلكترونات الموجودة في ذرة الكالسيوم مرتبة على نحو مختلف هناك، ولكن لماذا تختلف العناصر الكيميائية بهذا الشكل؟ حسنًا، إن قوانين الكيمياء لا تتغير، وإنما ما يتغير هو الكيفية التي نرى بها الضوء القادم من المجرة.

تخيَّل أننا أشعلنا نارًا. ألقِ فيها كلَّ ما تريد، تلك الكنزة المطرزة التي اعتقدت أنها ستبدو رائعة، صندوقًا عاديًّا يحتوي على مخلفات رفقاء سابقين، المسودات الخمس الأولى من كتابك … يا إلهي، لقد فقدت السيطرة على الحريق! بينما تشق سيارة الإطفاء طريقها إلى كومة الذكريات المريرة المشتعلة، أنصت جيدًا. عندما تقترب سيارة الإطفاء منا، تنبعث كلُّ موجة صوتية متعاقبة من مكان أقرب قليلًا إلينا. ونظرًا إلى تحرك سيارة الإطفاء نحونا، فإن الموجات الصوتية المنبعثة تستغرق وقتًا أقل للوصول إلى آذاننا، مما يزيد التردد الذي تصل به إلينا، ومن ثَمَّ نسمع صوتًا أعلى حِدَّة. ثم تتركنا سيارة الإسعاف بوجوه شاحبة وإحساس بالإحراج، ويزداد الوقت بين وصول الموجات الصوتية المتعاقبة إلى آذاننا. وينخفض التردد الملاحظ للموجات الصوتية وتقل حدة صفارة الإنذار. نطلق على هذه الظاهرة اسم تأثير دوبلر. فعندما تقترب سيارة الإطفاء أو تبتعد، لا يتغير أبدًا صوت صفارة الإنذار التي تصدره، ولكن طريقة إدراكنا له تتغير. تنتهج مجرة أندروميدا نهج سيارة الإطفاء، ولكنها تستخدم الضوء بدلًا من الصوت. فإذا كان مصدر الضوء يتحرك نحونا، فإن مقدمات الموجات تتراكم بعضها بجانب بعض ونقيس طولًا موجيًّا أصغر، ونحصل على ضوء أكثر زُرقة، ناجم عن انزياح الضوء نحو الأزرق. وعلى العكس من ذلك، إذا كان مصدر الضوء يتحرك بعيدًا عنا، فحينها تكون مقدمات الموجة أكثر تشتتًا، ونقيس ترددًا أقل، ونحصل على ضوء أحمر، ناجم عن انزياح الضوء نحو الأحمر. في حالة أندروميدا، تظهر خطوط امتصاص الكالسيوم عند أطوال موجية أكثر زُرقة من تلك التي نعرفها والتي ينتجها العنصر، مما يشير إلى أن مجرة أندروميدا تتحرك نحونا.

fig10
شكل ٣-١: تأثير دوبلر في موجات الضوء. يعرض الصف الأوسط طيفًا مبسطًا يحتوي على خطوط امتصاص وفقًا لما جرى رصده في المختبر. ينزاح طيف مجرة أندروميدا نحو الأزرق؛ لأنها تتحرك نحونا (الصف السفلي). معظم المجرات الأخرى تبتعد عنا، ولذا فإن أطيافها تنزاح نحو الأحمر (الصف العلوي).
في حالة سيارة الإطفاء، كلما زادت السرعة، أصبح التغيير في حدة الصوت أوضح؛ إذ تقترب سرعتها من جزء صغير من سرعة الصوت؛ أي ما يزيد على ٣٤٠م/ث. ينتقل الضوء بسرعة تقل قليلًا عن ٢٩٩,٧٩٢,٤٥٨م/ث. وهذا ما يفسِّر السبب في عدم ملاحظتنا لتغير لون ضوء المصباح الدوار فوق سيارة الإطفاء أثناء تحركها نحونا أو بعيدًا عنا. فسيارة الإطفاء ليست سريعة بما يكفي للحاق بموجات الضوء بأي طريقة ملموسة، ومن ثَمَّ لا يمكن ملاحظة التغير في الطول الموجي لأنه يكون طفيفًا. في حالة مجرة أندروميدا، تُظهِر الحسابات أن التحول الطفيف في الطول الموجي لخطوط امتصاص الكالسيوم يشير إلى أن المجرة الحلزونية العملاقة في مسار تصادم مع مجرتنا درب التبانة بسرعة تبلغ حوالي ١١٠كم/ث.16 وفي غضون بضعة مليارات من السنين، سوف تصطدم المجرتان، لكن من الجدير بالذكر أن التصادم لن ينتج عنه انفجار عنيف كما قد يتراءى لك. فالنجوم في المجرات يتباعد بعضها عن بعض (٥٠ تريليون كيلومتر في المتوسط)، مما يجعل احتمالية تصادم أي نجمَين منخفضة جدًّا. ومع ذلك، سيكون تشوُّه جاذبية المجرتَين عميقًا، وستندمجان لتشكيل مجرة إهليلجية عملاقة يشار إليها أحيانًا باسم ميلكوميدا (يا له من اسم فظيع، أليس كذلك؟!).

تمدُّد الكون

لقد أثبتنا أنه عندما نراقب المجرات، يمكننا معرفة ما إذا كانت تتحرك نحونا أم بعيدًا عنا. وعندما نجري قياساتٍ مماثلة للمجرات من حولنا، فإن الغالبية العظمى من أطياف المجرات الأخرى تنزاح نحو الأحمر، مما يعني أن المجرات تتحرك بعيدًا عنا. فهي جزءٌ من فضاء يتمدَّد طوال الوقت. وتعد مجرة أندروميدا استثناءً لهذه القاعدة، حيث تعمل الجاذبية القوية بين المجرتَين على انجذابهما معًا. يبدو أن كوننا غير مليء بالمجرات التي تتجول على نحو عشوائي مثل الحمام في ميدان ترفلجار، بل هو طريق عام ذو اتجاه واحد مخصص لتسابق الحمام. فالنمط واحد أيًّا كان الاتجاه الذي تنظر إليه: الغالبية العظمى من المجرات تسبح بعيدًا عن الأرض، مثل الحطام الناتج عن انفجار هائل. هناك شيء آخر مثير للاهتمام حول هذا الانزياح نحو الأحمر. كلما بعدت المجرة عنا، زادت السرعة التي تبتعد بها. كان الفلكي البلجيكي جورج لوميتر والفلكي الأمريكي إدوين هابل أول مَن اعترف بهذه العلاقة في أواخر عشرينيات القرن العشرين.17،18 وينص قانون هابل-لوميتر على أن السرعة التي تبتعد بها المجرات عنا تتناسب طرديًّا مع المسافة التي تبعدها: فكلما ابتعدت المجرة عن الأرض، زادت سرعتها.

عندما نعلم لأول وهلة أن كل شيءٍ يتحرك بعيدًا عنا، فمن السهل أن نستنتج أن ذلك معناه أننا في مركز الكون. ولإدراك السبب وراء عدم صحة هذه الفكرة، يمكننا أن نتخيل تغطية بالون مفرغ من الهواء بالملصقات. أثناء نفخ البالون، ستتحرك الملصقات بعيدًا. وأيًّا كان الملصق الذي تتَّبعه بعينَيك، فستبدو جميع الملصقات الأخرى كأنها تبتعد عنه، تمامًا مثل المجرات التي نرصدها. وستلاحظ كل مجرة في الكون أن غالبية المجرات الأخرى تبتعد عنها. ولذلك، فإن وهم المركزية هذا مشترك بين جميع المجرات، وبالطبع لا يمكن أن ينطبق عليها جميعًا. فإذا اتبعت أي ملصق، فستلاحظ أن الملصقات القريبة تبدو كأنها تتحرك إلى مسافة قصيرة. أما الملصقات البعيدة منذ البداية، فقد انتقلت إلى مسافة أبعد بكثير بسبب تمدُّد البالون فيما بينها. تقطع الملصقات القريبة والبعيدة هذه المسافة القصيرة أو الطويلة في الوقت نفسه، وبالتالي عند النظر إليها من الملصق الذي نتبعه فستبدو كأنها تتحرك بسرعاتٍ مختلفة. وتعتبر زيادة السرعة طرديًّا مع زيادة المسافة هي السمة المميزة لكيفية تصرف الأجسام أثناء التمدد. وقد كان تدفق المجرات بعيدًا عن الأرض، حسبما رصده تلسكوب هابل، أحد الأدلة الأولى على أن كوننا يتمدَّد. إذا رجعنا بالأحداث إلى الوراء، فإن الاستنتاج الطبيعي لتحرك كل شيءٍ بعيدًا هو أنه في الماضي كان كل شيء قريبًا جدًّا من بعضه. وقد أشارت الأدلة إلى حدوث انفجار عظيم. ولكن كان هناك فريق آخر من علماء الفلك لم يقتنعوا بذلك. ووجدوا أن نظرية تطوُّر الكون أمر مقيت، حتى لو كان بإمكانهم قبول حقيقة أنه يتمدَّد. وقد اعتقد علماء الفلك المؤيدون لنظرية الحالة الثابتة للكون أنه مع تمدُّد الكون، تملأ مادة جديدة الفجوات. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى الاستغناء عن فكرة أن المادة التي تتطاير الآن في كل اتجاه كانت قريبة جدًّا من بعضها وتشكِّل نقطة ذات كثافة لا متناهية. لم يتمكن علماء الفلك المؤيدون لنظرية الحالة الثابتة من تحديد مصدر هذه المادة الإضافية، ولم يتمكن علماء الفلك المؤيدون لنظرية الانفجار العظيم من معرفة سبب بدء كوننا كنقطة ذات كثافة لا متناهية. وكانت آراء كلا الفريقَين مقبولة في ذلك الوقت.

وُضِعَ أولُ مسمار في نعش نظرية الحالة الثابتة عندما أجرى عالِم الفلك الراديوي الإنجليزي مارتن رايل دراسة استقصائية عن المجرات في السماء. طبقًا لنظرية الانفجار العظيم في تفسير نشأة الكون، كانت المجرات الأقرب إلى الحاضر (من حيث المسافة والزمن) أكثر تباعدًا؛ لأنه كان هناك تمدُّد أكبر. وهذا يعني ظهور المزيد من المجرات في مجال رؤية معين كلما نظرت بعيدًا. وطبقًا لنظرية الحالة الثابتة، سيبقى عدد المجرات كما هو بغض النظر عن مدى العودة بالزمن أو المكان إلى الوراء؛ لأن النظرية تنص على وجود كون غير متطوِّر. فكلما نظر رايل بعيدًا، عاد بالزمن إلى الوراء، وزاد عدد المجرات التي أحصاها.19 ويعتبر هذا انتصارًا مدويًا لنظرية الانفجار العظيم. وبالنظر إلى المخاطر ومستوى الالتزام في كلا الفريقَين، لم يكن هذا كافيًا لإنهاء الجدال. وفي نهاية الأمر لم ينتهِ الجدال بين علماء الحالة الثابتة وعلماء الانفجار العظيم إلا بسبب السمة المميزة الثانية للانفجار، وهي إشعاع التوهج اللاحق.

إشعاع الخلفية الكونية الميكروي

بينما كان بنزياس وويلسون يحاولان اكتشاف الإشارة الغامضة، كان هناك أربعة علماء فلك يعدون هوائيًّا راديويًّا خاصًّا بهم، على بُعد ٦٠ كيلومترًا (٣٧ ميلًا) في جامعة برينستون. كان لديهم هدف واضح، وهو الكشف عن إشعاع الخلفية المتبقي من الانفجار العظيم. لقد أدرك بي جيمس بيبلز، وروبرت ديك، وبيتر رول، وديفيد ويلكنسون أن الكون في مراحله الأولى كان ساخنًا للغاية بعد الانفجار العظيم، كالحال تمامًا عند حدوث أي انفجار. وكان الكون في مراحله الأولى مليئًا بالإلكترونات والبروتونات والنيوترونات والفوتونات، كلٌّ عند درجة الحرارة نفسها، وفي حالة من التوازن الحراري. يمكن لجسم ما يتمتع بحالة من التوازن الحراري أن يبعث ضوءًا ذا أطوال موجية عبر الطيف الكهرومغناطيسي بكثافة لا تعتمد إلا على درجة حرارة ذلك الجسم. فإذا كان هناك انفجار عظيم، فحينها لا بد أن توجد بقايا إشعاع له الشكل الطيفي المميز للجسم الأسود، وهو ما رأيناه في شكل ١-٣. ومن ثَمَّ، فإن الخطوة الأولى هي العثور على أي إشارة على الإطلاق، بأي طول موجي، وتقع ضمن نطاق درجة الحرارة المتوقع. وقد بلغَ الأمر بكل من رول وويلكنسون أن قررا تصميم الهوائي عندما سمعا عن اكتشاف بنزياس وويلسون. وزار فريق جامعة برينستون بنزياس وويلسون للتحقق من المعدات والبيانات. لم يتمكن أي من بيبلز أو ديكي أو رول أو ويلكنسون من العثور على أي خطأ في الإعداد، وكما قال ديكي حينذاك: «حسنًا يا شباب، لقد سبقانا!» ووفقًا لبيبلز، صاح بنزياس قائلًا: «حسنًا، هذا يبعث على الارتياح. فعلى الأقل فهمنا ماهية هذا الشيء. والآن يمكننا أن ننحيه جانبًا ونمضي قدمًا في استكشافاتنا العلمية!»20
أُعلن عن هذا الاكتشاف في بحثَين نُشِرا عام ١٩٦٥، أحدهما من فريق نظرية برينستون،21 والآخر من بنزياس وويلسون.22 كان بحث بنزياس وويلسون متحفظًا في صياغته على نحو ملحوظ، حيث التزما بالنتائج التجريبية ولم يتجاوزا صفحة واحدة. لقد كان اكتشافًا على جانب مذهل من الأهمية في مسيرة فهمنا لعلم الكونيات، وبسببه فاز بنزياس وويلسون بجائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٧٨.‏23 وفي أكتوبر عام ٢٠١٩، فاز بيبلز أيضًا بجائزة نوبل «نظير الاكتشافات النظرية في علم الكونيات الفيزيائي»، وهو ما كان يُعزى في جزءٍ كبير منه إلى تنبُّئه بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي (سي إم بي).24 لقد اكتشفوا ما نعرفه الآن باسم إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، أو ما يُعرف بالإشعاع المتبقي من الانفجار العظيم. نشأ الكون مع الانفجار العظيم. وبدأت مراحل تطوره. وبدأ الزمن. وبدأت نشأة كل شيء، وفي ذلك النجوم.

يمثل قياس بنزياس وويلسون واحدة من نقاط البيانات على طيف الجسم الأسود المتوقع لإشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وقد تحوَّل الاهتمام إلى استكمال بقية الأطوال الموجية. وفي النهاية، تتسم تجربة بنزياس وويلسون بالمحدودية؛ لأنها كانت مَبنية على الأرض. ولم يتمكنا من إجراء قياساتها إلا عند ترددات منخفضة جدًّا، غير كافية للكشف عن طيف الجسم الأسود. وعلى الرغم من قدرة الفوتونات على التنقل عبر الغاز وبين المجرات دون أن يعوقها شيء عن المضي قدمًا في طريقها، فإنها تتوقف تمامًا عندما تصل إلى الأرض. وذلك لأن طاقة فوتون إشعاع الخلفية الكونية الميكروي أصبحت الآن منخفضة جدًّا بالقدر الذي يجعل الماء يمتصها بسهولة في الغلاف الجوي للأرض. ولكي ندرس إشعاع الخلفية الكونية الميكروي دراسةً وافية، علينا تجاوز الغلاف الجوي للأرض والتوجُّه إلى الفضاء. هناك ثلاث بعثات قامت بذلك حتى الآن: بعثة مستكشِف الخلفية الكونية (أُطلقت عام ١٩٨٩)، ومسبار ويلكنسون لقياس التباين الميكروي (٢٠٠١) وتلكسوب بلانك (٢٠٠٩)، حيث أخذت قياساتٍ عند ترددات متعددة وتأكدت من أن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي هو بالفعل طيف جسم أسود بدقة تصل إلى جزء واحد على الأقل من ١٠ آلاف. وأدت الانحرافات الصغيرة عن الطيف إلى تقلبات صغيرة في درجات الحرارة عبر السماء التقط تفاصيلها الدقيقة مسبارُ ويلكنسون لقياس التباين الميكروي وتلسكوبُ بلانك. تقدِّم هذه التقلبات معلوماتٍ بشأن بنية الكون عند النقطة التي انبعث عندها الإشعاع، بعد ٣٨٠ ألف سنة من الانفجار العظيم. وتحتوي البيانات أيضًا على أدلة حول حالة الكون منذ ذلك الحين، التي ستكون أساسية لبحثنا اللاحق عن تتبع آثار النجوم الأولى في الفصل العاشر.

المراحل الأولى للكون: التضخم

يمكننا الآن كتابة قصة عن نشأة الكون وتمهيد الطريق لاستكشاف تلك النجوم الأولى؛ تبدأ قصتنا كما يلي: منذ ١٣٫٨ مليار سنة، بدأ الكون، والزمكان نفسه، في التمدُّد من نقطة ذات كثافة لا متناهية. في البداية كان هذا التمدُّد مطردًا، خلال فترة يسميها علماءُ الكونيات «التضخم». يمكننا تصور تأثير النمو المطرد استنادًا إلى قصة هندية الأصل عن لعبة الشطرنج.25 في النسخة التي أعرفها، ينعم ملكٌ أناني يشعر بملل شديد بالولائم والحُليِّ والملابس المبهرجة بينما يتضوَّر شعبه جوعًا، ويقدمون محصول الأرز الذي يزرعونه على هيئة ضرائب. في أحد الأيام يقترب أحد الفلاحين من الملك ويقول إنه اخترع له لعبة تسمى الشطرنج. وينهمك الاثنان في اللعب، ويسأل الملكُ الفلاحَ تعبيرًا عن امتنانه له عما يود أن يأخذه على سبيل الهدية أو المكافأة. ويجيب الفلاح بأنه يود أن يضع الملك حبة أرز واحدة في أحد أركان لوحة الشطرنج. ثم يضع في المربع الثاني حبتَين وأربع في الثالث وثماني في الرابع، وهكذا، مضاعِفًا عدد حبات الأرز في كل مرة. على الرغم من استخفاف الملك بالطلب، صاحَ مناديًا على خدمه وطلبَ إحضار وعاءٍ من حبوب الأرز. ثم بدأت المهمة. مع نهاية الصف الأول، كان قد وضع ٢٥٥ حبة أرز وصاحَ طالبًا كيسًا من الأرز. ومع نهاية الصف الثاني، كان قد وضع ٦٥٥٣٥ حبة. وطلبَ المزيد من الأكياس وظلَّ يواصل تنفيذ المهمة حتى فرغ مطبخه ومخازنه من حبوب الأرز تمامًا. وفي النهاية نفدت حبوب الأرز، وطلبَ من خدمه جمع المزيد من الأرز من الأرض. وهنا أوضح له الفلاح أنه لا يوجد أرز في الأرض كلها، لأن الناس يتضورون جوعًا. لم يكن هدفه سوى لفت انتباه الملك إلى المجاعة، وكل ما كان يتمناه هو أن يتوقف الملك عن أخذ الأرز من شعبه. يوافق الملك متأسفًا على أفعاله، وتنتهي الحكاية، على أمل ألا تأتي حمامة وتأكل أيًّا من الحبوب المتناثرة هنا أو هناك لأنها قد تتسبَّب في كارثة. إنها قصة رائعة حقًّا. ولكنها ليست حقيقية؛ بل تعتبر من القصص الخيالية القديمة التي توارثت سردها الأجيال. ولو كان الملك انتهى من ملء لوحة الشطرنج تلك لبلغ عدد حبات الأرز التي استخدمها ١٨,٤٤٦,٧٤٤,٠٧٣,٧٠٩,٥٥١,٦١٥ حبة. لقد زاد عدد الحبات في كل مربع بما نطلق عليه معدل النمو الأُسي، وهو معدل النمو نفسه الذي مرَّ به الكون بعد الانفجار العظيم. فبعد الانفجار العظيم بجزءٍ صغير من الثانية تمدَّد الكون المبكر بعامل لا يقل عن ١٠٠ تريليون تريليون، قبل أن يستقر على تمدُّد أكثر استرخاءً. ويعد التضخم مجالًا بحثيًّا مفتوحًا ونشطًا إلى حد كبير، ولكنه يشكِّل، جنبًا إلى جنب مع الانفجار العظيم، ما نقبله بوصفه نموذجًا كونيًّا قياسيًّا.

المراحل الأولى للكون: التخليق النووي

سأبدأ هذا الجزء بسؤال: «هل هناك نجم أول؟» تخبرنا نظرية الانفجار العظيم أن لكل شيء بداية؛ لأن الكون نفسه له بداية. وقد تطرقنا إلى موضوعاتٍ مثل تضخم الكون والنقاط اللامتناهية الكثافة، ولذا يبدو أن أي سؤال في هذه المرحلة بديهي وغير مستبعد. ومن ثَم يمكننا التساؤل عما يلي: هل انبثق أول نجم بعد الانفجار العظيم بهيئته الكاملة؟ وهل تعتبر المجرات حطامًا حقيقيًّا ناجمًا عن انفجار هائل، وتضاءل حجمُها بطريقة ما لتتناسب مع النقطة اللامتناهية الكثافة ولكنها تضخَّمت حتى وصلت إلى حجمها الكامل اليوم؟

بعد ثوانٍ قليلة من الانفجار العظيم، كان الكون يحتوي في الأساس على الإشعاع ووحدات البناء الأساسية لكل ما تراه حولك، أو ما يُطلق عليه اسم الجسيمات دون الذرية، مثل البروتونات والنيوترونات. في هذه المراحل المبكرة، كانت العناصر المكونة للكون متماثلة في درجة حرارتها وفي حالة من التوازن الحراري. وقد تساوت نسب تكوين الذرات وتكسيرها، وظل كل شيء على حاله تقريبًا من حيث النسب. تخيَّل غرفة في روضة مليئة بالأطفال الصغار ومكعبات الليجو. قد يعزم نصف الأطفال على بناء الأبراج، في حين قد يعزم النصف الآخر على الجري في أرجاء الغرفة وتحطيم الأبراج. إذا كان جميع الأطفال مفرطي النشاط، فبمجرد أن يبني أحدهم برجًا بمجموعة من المكعبات، سيتحطم على الفور. وقد تصبح القطع جزءًا من أبراج أخرى … قبل أن تتحطم مرة أخرى. وفي أي وقت من الأوقات، سيوجد عدد معين من الأبراج، ولكن لن يدوم أي برج لفترة طويلة. في حالة التوازن الحراري، لا يتغير أبدًا عدد المكعبات (البروتونات والنيوترونات)، ولا يتغير أبدًا عدد الأطفال المفعمين بالحيوية (الإشعاع)، وعلى الرغم من أن عدد الأبراج قد يختلف في أي ثانية، فالوضع الفوضوي يحول دون أن يظل أي برج (ذرة) موجودًا لفترة طويلة للغاية على الإطلاق. ومن المؤكد أن الجو يكون حارًّا جدًّا بما لا يسمح بتكوُّن أي هياكل أكبر من الذرات، كالنجوم على سبيل المثال. وقد اعتدنا الحديث على نطاقاتٍ كبيرة من حيث المسافة والزمن، لدرجة أنه قد يكون من المفاجئ الحديث عن وتيرة المراحل الأولى للكون. فقد كانت الدقائق الثلاث الأولى من الكون مليئة بالأحداث لدرجة أنها استحقت أن يُفرد لها كتابٌ خاص يحمل العنوان نفسه، وهو كتاب «الدقائق الثلاث الأولى» لستيفن واينبرج.26 بعد حوالي ١٣٫٨٢ ثانية من الانفجار العظيم، انخفضت مستويات طاقة الكون، حيث تمدَّد الكون وانخفضت درجة حرارته بما يكفي للسماح بتراكم النوى. فالنوى هياكل تتألف من الجسيمات دون الذرية المتمثلة في البروتونات والنيوترونات. وتشكِّل النواة مع إلكترون واحد على الأقل ذرة، ولكن في المراحل الأولى للكون كان الجو حارًّا جدًّا بما لا يسمح للإلكترونات بالارتباط بالنواة. في قصتنا، يفقد الأطفال الصغار المفعمون بالنشاط طاقتهم وبالتالي تبدأ الأبراج تكبر قليلًا. كلما ازداد طول البرج، أصبح أقل استقرارًا، ويمكنني قول الشيء نفسه عن النوى المنخفضة الكتلة، وإن كان هذا التشبيه لا ينطبق على جميع عناصر الجدول الدوري. فعلى الرغم من إمكانية اندماج نوى الهيدروجين والهيليوم، لا يزال من الصعب للغاية اندماج أي شيء أكبر من ذلك. وبإمكان فوتون منخفض الطاقة تفتيت جزيئاتٍ متطايرة أثقل من الهيدروجين، تمامًا كما يستطيع طفل صغير كسول تحطيم برج طويل متأرجح أثناء مروره بجواره. عندما انتهى التخليق النووي (وهو المصطلح الذي يُطلق على تكوُّن النوى) بعد ٣ دقائق و٤٦ ثانية من الانفجار العظيم، استقر حوالي ٢٥٪ من الكتلة الطبيعية للكون في صورة هيليوم-٤، الذي تتكوَّن نواته من بروتونَين ونيوترونَين (سنتحدث عن الكتلة غير الطبيعية في الفصل الرابع). أما ما تبقى من الكتلة، وهو ٧٥٪، فقد تُرك على هيئة نوى هيدروجين (بروتونات)، مع حوالي ٠٫٠١٪ من الديوتيريوم، وهيليوم-٣ (نظير للهيليوم يتكوَّن من بروتونَين ونيوترون واحد)، وقليل من الليثيوم. وفي فترة زمنية وجيزة جدًّا، كان الكون قد أنهى عمله الشاق وأنتج كلَّ الهيدروجين والهيليوم اللازمَين لتكوين النجوم الأولى بعد مائة مليون سنة أو نحو ذلك.

بعد تلك الدقائق الأربع من العمل الشاق، ظلَّ الكون عبارة عن ساحة رقص مليئة بالنوى والإلكترونات والفوتونات، فوضوية للغاية بحيث لا يتوفر للفوتونات مسار واضح في أي مكان. كانت الفوتونات تتصادم مع الإلكترونات في كل مكان، وكانت مساراتها تبدو كأنها خط سير سكِّير مترنح. في حال أنك قُدت سيارتك على أحد الطرق في يوم شديد الحرارة، فربما تكون قد شاهدت سرابًا على الطريق السريع: وهو عبارة عن تذبذب للهواء فوق الطريق. يؤدي اختلاف درجة حرارة الهواء فوق الطريق إلى اختلاف مقدار الانكسار في الهواء، مما يؤدي إلى انحراف الفوتونات عن مساراتها المستقيمة وتشكيل الوهم البصري لطريق متذبذب أو غير موجود. فنحن لم نتمكَّن من رؤية أي شيء باستخدام الضوء قبل ٣٨٠ ألف سنة؛ لأن البيئة كانت شديدة التقلب مما حال دون السماح بانتقال الفوتونات إلى تلسكوباتنا في مساراتٍ خالية من العوائق. في هذه المرحلة، بعد حوالي ٣٨٠ ألف سنة من الانفجار العظيم، اتحدت الإلكترونات الحرة مع البروتونات الحرة، مما أدى إلى تكوين ذرات الهيدروجين في حدث يسمى «إعادة الاتحاد». ومع انخفاض عدد الإلكترونات الحرة، وجدت الفوتوناتُ نفسَها قادرة على التنقل بحرية لأول مرة، ويمكن القول بأن الكون أصبح شفافًا أمام الإشعاع. يتبع طيف هذه الفوتونات توزيع طيف الجسم الأسود. وهذا الإشعاع هو ما قاسه بنزياس وويلسون بالهوائي البوقي ببلدة هومديل. إن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي موجود في كل مكان؛ لأنه انتشر في كل جزء من الكون الصغير الساخن عندما انفجر من نقطة لا متناهية الكثافة. وكان من الممكن أن يصبح الكون أكبر بكثير، لكن الإشعاع، أو بقايا الإشعاع، لا يزال ينتشر فيه. ولا تزال الفوتونات التي نقيسها اليوم تحتفظ بطيف الجسم الأسود، وهو التوزيع الدقيق الذي كنا نتوقعه إذا بدأ الكون بانفجار عظيم. إن إشعاع الخلفية الكونية الميكروي موجود، تمامًا مثلما كان في عام ١٩٦٤، ولا يزال يُرصَد كتداخل من هوائيات الراديو. إذا كنت تتذكر أيام التلفزيون التناظري، فإن بعض التشويش الذي كان يظهر في القنوات غير مضبوطة التردد كان إشعاعًا من الانفجار العظيم.

•••

يهدف هذا الفصل إلى تفسير النظرية القائلة بوجود نجوم أولى يتعيَّن البحث عنها. وقد استشهدنا بدليلَين رئيسيين على نظرية الانفجار العظيم هما: حركة المجرات المرتدة من حولنا، واكتشاف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وباستخدام خطوط الامتصاص المعروفة التي تنتجها بعضُ العناصر الكيميائية، يمكننا قياس سرعة المجرات واتجاه حركتها من حولنا. ويمكننا ملاحظة أن ضوءها جميعًا دون استثناءٍ ينزاح نحو الأحمر، مما يشير إلى أن المجرات تتحرك بعيدًا عنا، الأمر الذي يكشف عن التمدُّد الضمني للكون. وعلى مدى عقود، تمكَّنا أيضًا من تحديد آثار الإشعاع الناتج عن الانفجار العظيم، حتى نتمكَّن من إعادة إنتاج طيف الجسم الأسود المتوقَّع، والأكثر من ذلك، اكتشاف الانحرافات الصغيرة في درجات الحرارة عبر السماء. لقد عزَّز هذا الدليل من نظرية الانفجار العظيم وجعلها غير قابلة للدحض من الناحية العملية في أذهان معظم العلماء. يمكننا استخدام هذه النظرية للتوصل إلى استنتاجات حول حالة الكون في مراحله الأولى، ومنها أنه لم يكن من الممكن أن يتشكَّل أي شيء أثقل بكثير من الهيليوم؛ وذلك لأن الكون كان يتسم بدرجة عالية من الحرارة والفوضى. فالنجوم الأولى لم تنبثق بهيئتها الكاملة بعد الانفجار العظيم، بل كان عليها أن تتشكَّل لاحقًا من عناصر قليلة جدًّا، هي الهيدروجين والهيليوم فقط.

بعد أن أصبح الكون شفافًا أمام الإشعاع، استقر لفترة طويلة جدًّا. ولو أن أي شخص عاشَ في المراحل الأولى من الكون، فإنه كان سيجده مملًّا ومظلمًا وخاليًا من الأحداث؛ حيث هدأت كل هذه الفوضى مع تمدُّد الكون. وسوف تمر مائة مليون سنة أو أكثر قبل أن يحدث شيءٌ جدير بالملاحظة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤