الفصل الرابع

سحابة غاز محظوظة

في أعماق الجزر الجنوبية لليابان تقع مدينة ناها، عاصمة محافظة أوكيناوا. في كل عام، يُغلق أحد الطرق السريعة في «بلاد الشمس المشرقة» لبسط حبل طوله ١٨٣ مترًا (٦٠٠ قدم)، وقطره عدة أقدام ويضاهي في وزنه وزن ٣٠ سيارة.1 ويمسك ١٥ ألف مشارك بحبال جانبية أصغر حجمًا، منسوجة في الحبل الأكبر ومبسوطة على طول الطريق بزاوية ٩٠ درجة. تعتبر لعبة شد الحبل بين فِرق شرق اليابان وغربها حدثًا احتفاليًّا، يعبر فيه المشاركون والمتفرجون عن رغبتهم في أن تعم السعادة والسلام والازدهار والصحة. مع إطلاق جرس بدء السباق، يبدأ صراع شرس؛ حيث يفوز الفريق الذي ينجح في سحب الحبل نحوه بمقدار ٥ أمتار (١٦ قدمًا) خلال نصف ساعة. واعتبارًا من أكتوبر ٢٠١٩، احتل فريق الشرق المركز الأول في تاريخ الحدث، مع ١٦ فوزًا و١٤ خسارة و١٦ تعادلًا.2 يمكن لأي شخص المشاركة في المسابقة ما دام وصل إلى هناك في وقت مبكر بما يكفي (حيث يحضر المسابقة إجمالًا ما يقرب من ٢٨٠ ألف شخص)، مما يجعل من هذا الحدث فرصة ممتازة لقياس الاحتمالات الإحصائية والقوة البدنية. إذا كانت الفرق المشاركة فرقًا مدربة، فستكون النتائج متباينة وغير متوقعة، ولكن مع وجود فرق مكوَّنة من ٧٥٠٠ فرد تتألف من مجموعاتٍ عشوائية من النساء والرجال والأطفال، فمن المرجح أن تكون الفرق متساوية من حيث الكفاءة. فقوة تحمل الحشد تعادل قوة تحمل الشخص الرياضي المدرب تدريبًا عاليًا أو قوة جنود قاعدة أوكيناوا العسكرية. ولذلك، من المتوقع رؤية نتائج أكثر توافقًا في حالة وجود فرق متكافئة، وهذا بالضبط ما حدث حيث فاز فريق الشرق ١٦ مرة، وخسر أمام فريق الغرب ١٤ مرة، وتعادل معه ١٦ مرة.

عند التفكير في تكوُّن النجوم، لا يسعني إلا أن أفكِّر في لعبة شد الحبل على نطاق فلكي. كانت الفوتونات حرة الحركة بعد الانفجار العظيم بحوالي ٣٨٠ ألف سنة، وشكَّلت إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، كما قرأنا في الفصل السابق. وقد استقر الكون بعد سنواته الأولى المضطربة وأصبح مخزنًا للعناصر الخفيفة في توسُّع مطرد. وفي جميع أنحاء الكون، شكَّلت هذه المكونات سحبًا ذات أحجام ودرجات حرارة مختلفة. ولكي يتكون نجم ما، لا بد أن تكون الظروف في سحابة الغاز مناسبة تمامًا. إنه صراع متكافئ القوى للغاية لدرجة أن الحدث يمكن أن يستمر لمليارات السنين. لكن إعلان التعادل ليس خيارًا في هذه الحالة. يتمتع أحد الفريقَين — وهو الجاذبية — بقوة تحمُّل لا نهائية، ومع أن الضغط المعاكس الناتج عن التفاعلات النووية الداخلية يبعث على الاستقرار، فإن الوقود النووي سوف ينفد في النهاية. وسيتداعى النجم مع ضغط الجاذبية الذي لا هوادة فيه. يمكننا تعريف النجم بأدق المصطلحات العلمية وأبسطها بأنه جرم سماوي تحول مستوياتُ الضغط الناتجة عن التفاعلات النووية الداخلية دون انهياره بفِعل الجاذبية. لكن، في الواقع، النجم هو مجرد سحابة غاز محظوظة للغاية.

تزويد النجوم بالطاقة: الانكماش بفِعل الجاذبية

دعونا نقدم المتسابق الأول لدينا. الجاذبية هي إحدى القوى الأربع الأساسية في الكون. أما القوى الأخرى، فهي القوى التي تتحكم في التفاعلات النووية والقوة الكهرومغناطيسية التي تعمل بين الجسيمات المشحونة، وتتفاوت من حيث القوة والضعف. الجاذبية عبارة عن قوة جاذبة توجد بين أي جسمَين لهما كتلة. كلما زادت كتلة الجسم، زادت قوة الجاذبية التي يؤثر بها في الأجسام الأخرى. في الاستخدام اليومي، نميل إلى استخدام كلمة «ضخم» للإشارة إلى شيء كبير الحجم، ولكن من الناحية العلمية يتعلق الأمر بكمية المادة التي يتكوَّن منها جسم ما بصرف النظر عن حجمه. على سبيل المثال، تزيد كتلة الكرة الزجاجية الصغيرة (بِلي الأطفال) عن كتلة كرة البينج بونج، مع أنها أصغر حجمًا. تشكَّلت سحابة الغاز في بداية الكون من مجموعة من ذرات الهيدروجين الطليقة، وربما كانت تصاحبها ذرة أثقل منها مثل ذرة الهيليوم. إذا تتبعنا إحدى ذرات الهيدروجين في هذه السحابة، فسنجد أنها تتعرض لجاذبية ضعيفة من كل ذرة أخرى في السحابة. وسوف تلغي قوى الجاذبية هذه تأثير بعضها على بعض حتى تشعر الذرة بقوة كلية تجذبها نحو مركز كتلة السحابة. إذا كانت الذرة تتحرك بسرعة منخفضة، فإنها يكون لديها ما نطلق عليه «طاقة حركية منخفضة». وهذا يعني أنها لا تملك الطاقة اللازمة لمقاومة قوة الجاذبية تلك، تمامًا مثلما لا يملك الإنسان الطاقة اللازمة لمقاومة جاذبية الأرض والانطلاق إلى القمر. ولذلك، تقترب الذرة من مركز السحابة. تتمتع الذرة ذات الطاقة الحركية الكبيرة بكمية طاقة كافية لمقاومة قوة الجاذبية تلك ويمكنها الاستمرار في طريقها والإفلات من السحابة. إذا لم تتمكن معظم الذرات من مقاومة قوة الجاذبية الكلية للسحابة، فإننا نقول إن السحابة عبارة عن نظام مقيَّد بفِعل الجاذبية. وعلى النقيض، إذا كانت معظم الذرات تتمتع بقدر كبير من الطاقة الحركية ويمكنها الإفلات من قوة الجاذبية، فإننا نقول إن السحابة غير مقيَّدة بفِعل الجاذبية. ومن غير المرجَّح أن تظل على هيئتها كسحابة لفترة طويلة.

يمكننا تعميق فهمنا لتأثيرات الجاذبية من خلال التفكير في التسارع والطاقة. فعند تطبيق قوة على جسم ساكن، فإنه يتحرك. ويؤدي ذلك إلى تغيير في السرعة أو التسارع. على سبيل المثال، يبلغ التسارع الناجم عن الجاذبية الأرضية ٩٫٨١ م٢/ث. وهذا يعني أنه في غياب العوامل المعقدة مثل مقاومة الرياح، فإن الجسم الذي يسقط من ارتفاع فوق سطح الأرض سيتسارع نحو الأرض مكتسِبًا سرعة تبلغ ٩٫٨١ أمتار في الثانية، كل ثانية. وكلما زاد تسارع الجسم، زادت القوة التي يتعرض لها. دعونا نتخيل ظهور حوت فجأة على ارتفاع عدة أميال فوق سطح الأرض كما فعل دوجلاس آدامز في كتابه «دليل المسافر إلى المجرة».3 «هذا ليس مكانًا طبيعيًّا يمكن أن يأهله الحوت، ولم يكن لدى هذا المخلوق البريء المسكين سوى القليل من الوقت للتأقلم مع هويته كحوت قبل أن يضطر إلى التصالح مع حقيقة أنه لم يعد حوتًا بعد الآن.» الحوت الساكن دون حركة الذي يظهر على ارتفاع كيلومتر واحد (٠٫٦٢ ميل) فوق الأرض سيجد نفسه يخضع لقوة جاذبية الأرض، وسيتسارع نحو الأرض، ويصطدم بها بسرعة تبلغ حوالي ١٤٠ مترًا في الثانية، أو ٣١٠ أميال في الساعة. وإذا أجرينا التجربة نفسها (مع حوت آخر) فوق سطح الشمس الأضخم بكثير، حيث تبلغ قوة الجاذبية حوالي ٢٧٤ م٢/ث، فإن الحوت سيواجه حينها مصيرًا محمومًا بسرعة تزيد كثيرًا عن ٧٤٠م/ث. ومع ذلك، لنصدق القول، لن توجد أرضٌ يرتطم بها، وإنما ما يشبه نقطة تبخر … ولكن في كلتا الحالتَين سيحدث ذلك بسرعة كبيرة. تعمل الجاذبية على تسارع الأجسام بالقدر نفسه، ومن ثَم، بتجاهل مقاومة الرياح، إذا أسقطت مطرقة وريشة في اللحظة نفسها، فسوف تصطدمان بالأرض في آنٍ واحد. يصعب فعل ذلك على الأرض؛ لأن مقاومة الرياح ستتآمر ضد مساحة سطح الريشة الأكبر لإبطاء سرعتها مقارنة بسرعة المطرقة. أجرت وكالة ناسا، التي كانت على استعداد دائمًا لإجراء مثل هذه التجارب الممتعة، هذه التجربة على القمر عام ١٩٧١،‏4 وبمشاهدة الفيديو، يمكنك ملاحظة أن الريشة والمطرقة تسقطان بالفعل على سطح القمر في الوقت نفسه.*
يمكننا أن نرى العلاقة بين القوة والتسارع … ولكن ماذا عن الطاقة؟ عندما تنتج حركة عن قوة الجسم، فإن طاقته تتغير. قد يكتسب الجسم طاقة حركية (متحركة) ويتحرك بمعدل أسرع؛ وقد يكتسب ارتفاعًا، فيؤدي ذلك إلى اكتسابه طاقة وضع الجاذبية. وقد يقاوم قوة الاحتكاك، ويفقد الطاقة الحركية ويكتسب طاقة حرارية (الطاقة التي تنشأ عندما تتحرك الذرات والجزيئات بمعدل أسرع بسبب ارتفاع درجة الحرارة) مع ارتفاع درجة حرارة سطح التلامس. ولذلك، يتعين على المشاركين في لعبة شد الحبل العملاقة في مدينة ناها، البالغ عددهم ١٥ ألف مشارك، أن يبذلوا قدرًا هائلًا من الطاقة في شد الحبل. فهم سيفقدون بعض الطاقة الكيميائية المخزنة من وجبة الإفطار على شكل طاقة حرارية، حيث ترتفع حرارة عضلاتهم مع زيادة الجهد المبذول. وستُنقَل بعض الطاقة إلى الحبل، مما يؤدي إلى تشوُّه شكله وشحنه بكمية صغيرة من الطاقة المرنة. وفي لعبة شد الحبل، يمكن أن يكون عدم مراعاة عملية انتقال تلك الطاقة المرنة الأخيرة خطأً فادحًا. وتكتسب الأربطة المرنة «مرونتها» بسبب ما لديها من قدرة كبيرة على تخزين الطاقة المرنة: فعندما تتشوَّه، تستخدم كل تلك الطاقة المخزنة لتعود أدراجها. وعندما يُستخدَم حبل غير مناسب في لعبة شد الحبل، يمكن أن يحدث ارتداد مماثل. على سبيل المثال، يمكن لحبل النايلون تخزين كمية كبيرة من الطاقة المرنة. وفي حال تعرض الحبل لمستوى ضغط كافٍ، أثناء لعبة شد الحبل على سبيل المثال، فسيطلق الحبل كل تلك الطاقة عند ارتداده مرة أخرى. في عام ١٩٩٧ في تايوان، استخدم ١٦٠٠ مشارك حبلًا من النايلون يبلغ سُمكه ٥سم (بوصتَين) في لعبة شد الحبل. ونظرًا إلى عدم ملاءمة هذا الحبل للمهمة، انقطع الحبل وارتد، مما أدى إلى قطع ذراع اثنَين من المشاركين.5 أما حبل مدينة ناها، فهو مصنوع من قش الأرز ومجدول بحيث إنه عندما انقطع الحبل بالفعل أثناء اللعب لأول مرة في عام ٢٠١٩ لم يُبلغ عن وقوع أي إصاباتٍ وانتهت المباراة بالتعادل.6
في الكون المادي، لا بد من الحفاظ على الطاقة: فالطاقة لا تُفنى ولا تُستحدَث من العَدَم، ولكن يمكن فقط تحويلها من صورة إلى أخرى. ولذا يُعَدُّ قانون حفظ الطاقة ضروريًّا ليس فقط لفهم كيف تتشكَّل النجوم، بل لمعرفة كيف تنجو ثم تموت في النهاية. كما أنه يفسِّر هلاك الحوت بسرعة فائقة. فالحوت الذي كان يحوم عاليًا فوق سطح الكوكب، كان يتمتع بقدر كبير مما نسميه طاقة وضع الجاذبية. ولكي يرتفع الحوت فوق سطح الأرض بمقدار كيلومتر واحد، لا بد من توفير كمية كبيرة جدًّا من الطاقة لمقاومة الجاذبية. فكِّر في مقدار الطاقة التي تحتاج إليها للقفز سنتيمترًا واحدًا عن سطح الأرض. فكِّر الآن في مقدار الطاقة التي تحتاج إليها للقفز مسافة ٢٠سم (٨ بوصات) عن سطح الأرض. إذا كنت تريد القفز مسافة مترَين (٦٫٥ أقدام) عن سطح الأرض، فستحتاج إلى طاقة خارجية، على سبيل المثال من شخص آخر يستخدم طاقته المخزنة لرفعك أثناء القفز. طوال المدة التي تستغرقها في القفز، أنت تقاوم قوة الجاذبية الخاصة بالأرض. عند الوصول إلى أبعد نقطة أثناء قفزتك، تتحوَّل كل تلك الطاقة الكيميائية الموجودة في ساقَيك إلى طاقة وضع الجاذبية، التي تتحوَّل بعد ذلك إلى طاقة حركية عندما تعود إلى سطح الأرض. عندما يظهر الحوت على ارتفاع كيلومتر واحد فوق سطح الأرض، يكتسب طاقة وضع الجاذبية حسب موقعه فوق الأرض. وعندما يسقط الحوت، تتحوَّل طاقة وضع الجاذبية إلى طاقة حركية؛ حيث يتحرك الحوت على نحو متسارع … حتى يرتطم بسطح الأرض. إن طاقة وضع الجاذبية التي اكتسبها الحوت في بداية هذه التجربة ستتحول بالكامل تقريبًا إلى طاقة حركية. وفي الظروف المثالية، سيكون التحول كليًّا، لكن ما يحدث في واقع الأمر أن الحوت سيتعرض لمقاومة الهواء، مما يؤدي إلى الاحتكاك بالجزيئات الموجودة في الغلاف الجوي المحيط، وهو ما يتسبب بدوره في زيادة درجة حرارة تلك الجزيئات بمعدل طفيف جدًّا وتحويل جزء من طاقة وضع الجاذبية إلى طاقة حرارية. عند تغيير طاقة أحد عناصر النظام، عن طريق زيادة ارتفاع جسم ما فوق سطح الأرض على سبيل المثال، فلا بد من توفير الطاقة اللازمة لذلك من مكان ما. وعلى النقيض، إذا قلَّ ارتفاع جسم ما، وقلَّ بالتبعية مقدار طاقة وضع الجاذبية فيه، فلا بد أن تنتقل هذه الطاقة إلى مكان ما؛ فلا يمكن أن تختفي ببساطة.

عندما تنكمش سحابة ذرات الهيدروجين لدينا تحت تأثير قوى الجاذبية مجتمعةً، فإن طاقة وضع الجاذبية الخاصة بها تتناقص. وتقترب كل ذرة من مركز السحابة، كأنها حوت صغير يندفع نحو الأرض. تتسارع الذرات نحو المركز وتحتك بعضها ببعض بشكل أكبر، مما يؤدي إلى توليد الكثير من الطاقة الحرارية. تزداد سرعة تحرك الذرات والجزيئات، وتزداد طاقتها الحركية ونفقد بعض الطاقة في صورة طاقة إشعاعية: حيث تهرب الفوتونات من السحابة، مُصدرة ضوءًا وحرارة. يمثل هذا الأمر مرحلة النجوم الأولى؛ أي مرحلة النجم الجنين. إنها بدايات تكوُّن النجوم، لكننا لم نصل إلى هذه المرحلة بشكل كامل بعد.

لكن مهلًا … أليست النجوم معروفة بأنها تصدر حرارة وضوءًا؟ هل هذا يعني أننا صنعنا نجمًا بالفعل بمجرد تعريض سحابة من الهيدروجين لتأثير الجاذبية؟ في أوائل القرن العشرين، عندما كان علماء الفلك يحاولون معرفة السبب الذي يجعل الشمس تشرق، اقترحوا فكرة أن الانكماش الجذبي وحده هو المسئول عن الحرارة والضوء المنبعثَين من الشمس. وهنا يظهر السؤال التالي: إذا أطلقت سحابة طاقة على شكل ضوء وحرارة أثناء انكماشها، فهل هذا يحدِّد ماهية النجوم؟ المشكلة في هذه الفكرة هي أن الانهيار يحدث بسرعة كبيرة للغاية. ولا يمكن للشمس أن تطلق الطاقة بهذه الطريقة إلا لعشرات الملايين من السنين قبل أن تصل إلى مرحلة لا يمكنها الانكماش بعدها. 7 وهذه فترة طويلة ولكنها أقصر بكثير من أن تتوافق مع الأدلة الجيولوجية التي تثبت أن عُمر الأرض، ومن ثَم الشمس، يبلغ مليارات السنين.

تُعَدُّ حتى الآن لعبة شد الحبل التي تحدثنا عنها أحادية الجانب إلى حد كبير. فالجاذبية تدفع بلا هوادة إلى الأسفل، وتضغط الهيدروجين. وفي حالة سُحُب الغاز غير المحظوظة، يتزايد مستوى ضغط الغاز على نحو لا يمكن مقاومته، وتتبدَّد سحابة الغاز. ويستمر الانهيار في حالة تلك السحب التي بإمكانها أن تنهار، وتنبعث منها الحرارة والضوء؛ ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو مجمل القصة فحسب، وإلا لكانت الشمس قد توقفت عن إصدار الضوء بعد ١٠ ملايين سنة من نشأتها. فالضغط يأخذ في الازدياد في مركز السحابة حتى تصبح الذرات نشطة بما يكفي لبدء نوع جديد من التفاعل.

تزويد النجوم بالطاقة: الاحتراق

سواءٌ كنا نتحدث عن بداية الكون أو عن الوقت الحاضر، فإن المكون الرئيسي للنجوم هو الهيدروجين. إنه أخف عنصر في الوجود، ويتكوَّن في صورته المعتادة من بروتون واحد وإلكترون واحد فقط. والهيدروجين عنصر عادي تمامًا: فهو عديم الرائحة واللون والطعم، وغير سام، بل إنه متوفر بكثرة. فمن السهل العثور عليه على الأرض، على الرغم من جاهزيته لتكوين روابط مع ذرات أخرى، حيث يوجد غالبًا ضمن مركباتٍ أكبر؛ فهو يمثل، على سبيل المثال، الذرة H في H2O (جزيء الماء). ولكن الواقع أن ذرات الهيدروجين تعزف عن العمل بمفردها، ولذلك تقترن بغيرها من الذرات بسهولة، لتشكِّل الهيدروجين الجزيئي، H2، المكوَّن من ذرتَي هيدروجين مقترنتَين معًا. وحتى عند اقتران ذرة الهيدروجين بأخرى، ومضاعفة كتلتها نتيجة لذلك، يكون الهيدروجين الجزيئي خفيفًا جدًّا ويفيد كثيرًا في طفو الأشياء. ومع ذلك، فإن أهميته كوسيلة مساعدة في الطفو تقابلها قابليته المميزة للاشتعال. ومن المعروف أن منطاد الركاب الألماني المشئوم، هيندنبورج، اشتعلت فيه النيران عندما وصل إلى الأرض فوق نيو جيرسي في ٦ مايو ١٩٣٧.8 ولا يزال سبب الكارثة محل خلاف، ولكن من وجهات النظر الرائدة أن شرارة الكهرباء الساكنة الناجمة عن تثبيت حبال الهبوط تسببت في اشتعال كمية صغيرة من الهيدروجين المسرب. وامتد هذا الحريق بعد ذلك إلى القماش الذي كان يغطي هيكل المنطاد السميك الصلب. لقي ستة وثلاثون شخصًا مصرعهم، ويتعجب المرء عند مطالعة الصور كيف نجا الركَّاب الستون الآخرون. لم يكن المنطاد هيندنبورج أول منطاد يتعرض للاشتعال، لكن هذه الحادثة أخافت الناس بدرجة كافية لوقف رحلات المنطاد التجارية إلى الأبد، على الرغم من توفر بديل للغاز أكثر أمانًا. وصل المنطاد المذكور في الفصل الأول «يو إس إس لوس أنجلوس» إلى الولايات المتحدة قادمًا من ألمانيا مملوءًا بالهيدروجين ولكن جرى تغييره بسرعة عند التوصُّل إلى الهيليوم.9 تحتوي نواة الهيليوم على بروتونَين ونيوترونَين. ومن الصعب العثور عليه في الأرض، وبالتالي فهو مكلِّف. وتؤدي الكتلة الأكبر للهيليوم (التي تعادل أربعة أمثال كتلة الهيدروجين) إلى كونه أقل طفوًا مقارنةً بالهيدروجين. لكن الفارق بسيط، حيث إن الهيليوم يطفو مثل الهيدروجين بنسبة ٩٣٪ تقريبًا. وفي ظل الظروف الجوية المعتدلة، يمكن لمتر مكعب واحد من الهيدروجين (٣٥ قدمًا مكعبة) أن يرفع ما يزيد بحوالي ٩٠ جرامًا مقارنةً بما يمكن أن يرفعه المقدار نفسه من الهيليوم. قد لا يبدو هذا فرقًا كبيرًا، ولكن عند تطبيقه على نطاق أكبر بحجم المنطاد هيندنبورج، فهذا يعني ترك حمولة تبلغ عشرات الآلاف من الأرطال (أي جميع الركاب) على الأرض، مما يجعل المنظور التجاري للمشروع مَعيبًا. وعلى الرغم من أن التركيزات العالية من الهيدروجين تميل إلى الانفجار، فإن قابلية الاشتعال هذه لا تزال غير كافية لتفسير الطاقة المنبعثة من الشمس. وعلى أي حال، فإنك لكي تحرق شيئًا تحتاج إلى الأكسجين، والأكسجين نادر في كون يتكوَّن في معظمه من الهيدروجين والهيليوم. وإذا نظرنا إلى أحد مصادر الطاقة الرئيسية لدينا، وهو الفحم، فيمكننا افتراض أنه إذا كانت شمسنا عبارة عن كومة من الفحم المحترق الذي تنبعث منه طاقة بالمعدل الحالي، فسوف ينفد الوقود خلال ٦٣٠٠ عام فقط.10 ومن الواضح أن الشمس لا تبدو ببساطة أنها تحترق. لكن الهيدروجين يمكن أن يفعل شيئًا أكثر كارثيةً من مجرد الاحتراق؛ حيث بإمكانه الاندماج.

تزويد النجوم بالطاقة: الاندماج النووي

على مسافةٍ تفوق ١٠٠٠ كيلومتر (٦٢١ ميلًا) شمال مدينة ناها، لا تزال توجد مدينتا ناجازاكي وهيروشيما في اليابان. ونظرًا إلى الأحداث المروعة والصادمة المرتبطة بهاتين المدينتَين، ما عليك سوى سماع هذين الاسمين مرة واحدة لتتذكرهما إلى الأبد. ففي يومَي السادس والتاسع من أغسطس عام ١٩٤٥، سقطت قنبلتان نوويتان أُطلق عليهما اسم «فات مان» (الرجل البدين) و«ليتل بوي» (الصبي الضئيل) على المدينتَين، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ١٠٠ ألف شخص على الفور. وعلى مدى الأشهر التالية لذلك، لقي المزيد الأشخاص حتفهم جراء الأمراض الناجمة عن التعرض للإشعاع وما خلَّفه ذلك من حروق وإصابات أخرى ذات صلة. وقد دمرت القنبلتان المدينتَين تمامًا، وسوَّتهما بالأرض في مساحة يبلغ نصف قطرها ١٫٦ كيلومتر (ميل واحد) من موقع إسقاط القنبلتَين. عندما انفجرت القنبلتان، أطلقتا كمية هائلة من الإشعاع الحراري والضوء المتعدد الأطوال الموجية. في وقت لاحق، قال أحد الطيارين الذين شهدوا إلقاء قنبلة هيروشيما: «… لم تتحمل أعيننا هذا الضوء الساطع وكان الجزء العلوي من سحابة الفطر تلك هو الأكثر رعبًا، ولكنه أيضًا كان أجمل شيء يمكن أن يراه المرء في حياته. يبدو أن جميع ألوان قوس قزح كانت تنبعث منها.»11 من الصعب استيعاب أن أصغر شيء على الإطلاق، وهو الذرة، قد أصدر هذه الطاقة المدمرة الواسعة النطاق.
fig11
شكل ٤-١: الاندماج النجمي. يسود تفاعل بروتون-بروتون المتسلسل في النجوم الحديثة التي تقل كتلتها عن ١٣٠٪ من كتلة الشمس، وفي النجوم الأولى بسبب نقص المعادن.

تعمل القنابل الذرية على مفهوم الانشطار النووي (أي «الانقسام»)، وتستخدم الوقود الذي يشتمل على نظائر. والنظائر هي ذرات عنصر ما ويكون لها نفس عدد البروتونات، ولكن عدد نيوترونات مختلف. فالديوتيريوم أحد نظائر الهيدروجين، وتتكوَّن نواته من بروتون واحد ونيوترون واحد. والتريتيوم نظير آخر للهيدروجين ويحتوي على بروتون واحد ونيوترونَين. إن نظائر الذرات شائعة جدًّا، ولكن الهيدروجين فقط هو الذي تحمل نظائره أسماءً مختلفة. أما نظائر العناصر الأخرى، فنشير إليها باستخدام رقم يعبر عن إجمالي عدد البروتونات والنيوترونات (ما يُطلق عليه العدد الكتلي). على سبيل المثال، يحتوي الكربون-١٢ على ستة بروتونات وستة نيوترونات، بينما يحتوي الكربون-١٤ على ستة بروتونات وثمانية نيوترونات. يقع الاختيار على الوقود النووي، مثل اليورانيوم-٢٣٥ أو البلوتونيوم-٢٣٩، بسبب عدم استقرار نواته. فإذا اصطدم نيوترون بذرة يورانيوم-٢٣٥ بسرعة كافية، فستنقسم الذرة. وينتج عن ذلك ذرات أصغر حجمًا، تسمى شظايا الانشطار، فضلًا عن ثلاثة نيوترونات إضافية وكمية هائلة من الطاقة. تؤدي هذه النيوترونات إلى انقسام المزيد من اليورانيوم، وهو ما يؤدي بدوره إلى إطلاق مزيد من الطاقة والنيوترونات، وهكذا دواليك. ويستمر هذا التفاعل المتسلسل حتى يخرج النظام عن نطاق السيطرة وتنطلق كمياتٌ هائلة من طاقة الانفجار.

fig12
شكل ٤-٢: لعبة شد الحبل في النجوم. ينكمش النجم بسبب قوة الجاذبية الناجمة عن كتلته. بينما توفر التفاعلات النووية في قلب النجم الطاقة، والأهم من ذلك، الضغط الذي يعمل على الدفع إلى الخارج.
يُعَدُّ السلاح النووي الحراري، أو القنبلة الهيدروجينية، النسخة الأحدث من القنابل الذرية التي أُطلقت خلال الحرب العالمية الثانية. تتميز القنبلة الهيدروجينية بمرحلة إضافية إلى جانب المرحلة الانشطارية، من أجل توليد المزيد من القوة التدميرية. فالقنابل الهيدروجينية تشعل المواد الانشطارية مثل اليورانيوم المخصَّب بالقرب من بعض الوقود الاندماجي مثل الديوتيريوم والتريتيوم. وتضغط الطاقة الناتجة عن التفاعل الانشطاري الوقود الاندماجي وتسخِّنه حتى يندمج وينبعث عنصر أثقل، هو الهيليوم. وتكون الكتلة الكلية للذرات الناتجة عن التفاعلات الاندماجية والانشطارية أصغر من الكتلة الكلية للذرات الأصلية. وفي كل من عمليتَي الانشطار والاندماج، يؤدي فقدان الكتلة إلى إطلاق كمية كبيرة من الطاقة، وفي مقدور أينشتاين أن يوضح لنا السبب. تخبرنا أشهر معادلات أينشتاين، التي ربما تكون في الواقع المعادلة الأشهر على الإطلاق، أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، ط = ك × س٢. وسرعة الضوء التي نعرفها تكون قيمتها كبيرة: ٣٠٠ مليون م/ث. ويؤدي فقدان جزء صغير من الكتلة إلى إطلاق كمية هائلة من الطاقة.
إن علم الاندماج النووي في النجوم هو نفسه علم الأسلحة النووية الحرارية، باستثناء أن النجوم تبدأ في الغالب بذرات هيدروجين، وبالتالي يتعيَّن عليها أولًا إنتاج الديوتيريوم والتريتيوم. يعد تفاعل بروتون-بروتون المتسلسل،12 عملية الاندماج السائدة في النجوم مثل الشمس وكذلك النجوم الأولى. في النجوم الحالية التي تزيد كتلتها عن حوالي ١٫٣ من كتلة الشمس، تحدث عملية اندماج أخرى بسبب المعادن مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين. لا تصل النجوم ذات الكتلة المنخفضة إلى درجات حرارة عالية بما يكفي لتحفيز حدوث هذه العملية، وفي النجوم الأولى التي كانت تخلو من المعادن لم يكن ذلك خيارًا مطروحًا على الإطلاق، نظرًا إلى الغياب التام لهذه العناصر الثقيلة.
يؤدي اندماج الهيدروجين لتكوين الهيليوم إلى خسارة الكتلة كليًّا، وإطلاق ما يعادلها على هيئة طاقة. فكتلة نواة الهيليوم أخف بحوالي ٠٫٧٪ من كتلة البروتونات الأربعة. وهذا فرق بسيط ويعادل فقط ٤٠٠٠ جزء في المليار من جول واحد من الطاقة. وتقريبًا للفكرة، يمدك قالب واحد من الشوكولاتة ﺑ ١٠٠ ألف جول. ومع أن الاندماج الواحد يطلق طاقة أقل بكثير من قالب الشوكولاتة، فإن كمية الهيدروجين الهائلة الموجودة في الشمس تعني أن ٦٠٠ مليار كيلوجرام من الهيدروجين تتحول في كل ثانية إلى ٥٩٦ مليار كيلوجرام من الهيليوم. وبالتالي، ففي كل ثانية، تحوِّل الشمس ٤ مليارات كيلوجرام من الكتلة إلى طاقة،13 وما زال يتبقى الكثير منها. إذا أردنا تحويل ١٠٪ فقط من هيدروجين الشمس إلى هيليوم، فسننتج طاقة تكفي لأن تشرق الشمس لمدة ١٠ مليارات سنة.14 تعتبر تفاعلات الهيدروجين الاندماجية أكثر من كافية لتفسير الطاقة التي تنتجها الشمس. والأهم من ذلك أن الطاقة الناتجة عن هذه التفاعلات تحافظ على الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة في قلب الشمس، مما يؤدي إلى اندفاع الذرات بسرعة عالية وتوليد ضغط حراري وإشعاعي يمكن أن يقاوم قوة الجاذبية، ويوقف الانهيار. ثم يبدو الأمر كأن متسابقًا ثانيًا قد التقط الحبل، وهو ضغط الغاز. وبهذا يكون لدينا الآن فريقان متنافسان في لعبة شد الحبل، على الرغم من أن الأمر في حالة النجوم أشبه بلعبة دفع الحبل: فالجاذبية تدفع إلى الداخل وضغط الغاز يدفع إلى الخارج.

هل هناك ما يسمى بالقنبلة النجمية؟

استنادًا إلى ما سبق، فإن النجوم بمثابة أسلحة نووية حرارية عملاقة. أمر مثير للقلق، أليس كذلك؟ على الأرض، يمكننا التحكم في التفاعلات الانشطارية في المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة. ويتحقق ذلك باستخدام السموم النيوترونية، وهي مواد شديدة الامتصاص للنيوترونات وتضمن أن نيوترونًا واحدًا فقط من النيوترونات الثلاثة المنبعثة في تفاعل الانشطار يمضي قدمًا لإحداث تفاعل آخر. تساعد هذه الطريقة في السيطرة على التفاعل المتسلسل. لكنه أمر غير مؤكَّد النجاح دائمًا. وتعتبر كارثة فوكوشيما في اليابان مثالًا على احتمالية فقد السيطرة. في الحادي عشر من مارس عام ٢٠١١، وقع زلزال بقوة ٩٫٠ درجات على مقياس ريختر قبالة ساحل المحيط الهادئ في اليابان. وأسفر الزلزال عن إغلاق المفاعلات تماشيًا مع إجراءات السلامة. ولكن حتى بعد إغلاق المفاعلات، تظل هناك كمية هائلة من الحرارة المتبقية، تتبدد عن طريق ضخ سائل تبريد حول قلب المفاعل. ونظرًا إلى حدوث مشاكل في شبكة الكهرباء عقب الزلزال، كان لا بد من ضخ سائل التبريد باستخدام مولدات الديزل الاحتياطية. لكن هذا الإجراء لم يجدِ لمدة طويلة، حيث اجتاح تسونامي المحطةَ، وأغرق المولدات. وبسبب عدم وجود أي سائل تبريد جديد، أخذت درجة حرارة القلب في الارتفاع الشديد، مما تسبب في انصهار ثلاثة مفاعلات نووية. وانصهر الوقود النووي بسبب درجات الحرارة المرتفعة، مما أدى إلى اختراق منطقة الاحتواء وحدوث تسرب خطير للإشعاع إلى مياه البحر والمنطقة المحيطة. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت درجات الحرارة بمعدلات جنونية لدرجة أن جزيئات الماء انفصلت عن الهيدروجين في بخار سائل التبريد، مما أدى إلى تكوُّن هيدروجين عالي التركيز انفجر بعد ذلك، تمامًا مثلما تفعل التركيزات العالية من الهيدروجين القابل للاشتعال. استغرق الأمر وقتًا طويلًا وجهودًا مُضنية من أجل احتواء الأزمة الناجمة عن كارثة فوكوشيما: ولم تكن هناك توقعات أن تبدأ عملية إزالة آثار الوقود النووي المشع المنصهر حتى عام ٢٠٢١.15 وبشكل عام، تُعد الطاقة النووية وسيلة آمنة وخاضعة للرقابة لتوليد الطاقة، وحتى في حال وقوع كارثة، لا تنشأ عنها تفاعلات متسلسلة لا يمكن التحكم فيها، مثل تلك التفاعلات التي تحدث عند استخدام الأسلحة النووية، والتفاعلات التي تحدث بشكل طبيعي داخل الشمس. ومن حسن الحظ أن الشمس تلعب دور منطقة الاحتواء الخاصة بها، وذلك لأن التفاعلات النووية تحدث فقط في قلبها. فالكتلة الهائلة للشمس وضغط الجاذبية الذي تمارسه الطبقات الخارجية للشمس على قلب الشمس يحولان دون إطلاق كمية كبيرة من الطاقة بمعدلات سريعة لا يمكن السيطرة عليها، تمامًا كما هو الحال على الأرض: إذا ألقى شخص ما نفسه على قنبلة يدوية، فمن غير المرجح أن ينجو، لكن الانفجار الناتج سيكون أكثر احتواءً بكثير، ومن المحتمَل أن ينقذ حياة جميع الموجودين في المنطقة المجاورة.

يُعَدُّ تحفيز هذا الاندماج المتحكَّم فيه بمثابة الكأس المقدسة للفيزياء النووية. ففي حين أن اليورانيوم والنظائر الانشطارية الأخرى نادرة، فإن الهيدروجين رخيص ومتوفر، وينتج الاندماج النووي نفاياتٍ أقل إشعاعًا. إذا توصَّلنا إلى طريقة لتوفير ضغط الجاذبية المذهل الذي يحفِّز حدوث الاندماج، فسيكون لدينا مصدر طاقة شبه مجاني لدعم البشرية. ويُعَدُّ هذا الأمر محاكاة للظروف الفيزيائية الموجودة في قلب النجوم.

حالة النجوم

كان من المفترض أن تفنى الشمس منذ فترة طويلة ولا تتمكَّن من البقاء. فهناك خاصيتان للشمس تتناقضان تناقضًا مباشرًا. فدرجة حرارة الشمس المرتفعة تشير إلى أنها على الأرجح مكوَّنة من غاز. والغازات تميل إلى أن تكون ذات كثافات منخفضة للغاية، حيث الكثافة هي مقدار الكتلة الموجودة ضمن حجم محدد. وبالتالي، فإن مكعبًّا طوله متر واحد (٣٫٢٨ أقدام) ومملوء بالماء يبلغ وزنه ١٠٠٠كجم (٢٢٠٤٫٦ رطل)، حيث تبلغ كثافة الماء ١٠٠٠كجم/م٣. ويبلغ وزن مكعب مماثل مصنوع من الخشب ٧٠٠كجم (١٥٤٣ رطلًا)، حيث تبلغ كثافة الخشب ٧٠٠كجم/م٣، بينما تبلغ كثافة الخرسانة حوالي ٢٤٠٠كجم/م٣. تتميز الغازات بكثافة أقل بكثير، حيث تبلغ كثافة الهيدروجين ٠٫٠٩كجم/م٣، عند مستويات الضغط ودرجات الحرارة العادية على الأرض، على سبيل المثال. عندما نفكِّر في كتلة الشمس وحجمها، نجد أن متوسط الكثافة هو ١٤٠٠كجم/م٣. يشير هذا إلى أن الشمس ليست غازية، ومع ذلك فإن درجات الحرارة التي يطرحها الطيفُ الشمسي مرتفعة للغاية بحيث لا يمكن لمعظم المواد أن تظل في الحالة الصلبة أو السائلة. كان اكتشاف هاتَين الخاصيتَين بالشمس أشبه بلمس مكعب من الثلج واكتشاف أن درجة حرارته أعلى مما في حالة البخار. ومع ذلك، تواصل الشمسُ وجودها بعنادٍ وإصرار.

عند التفكير في حالات المادة، فستتذكر حتمًا أن ما تعلمته عنها هو أن للمادة ثلاث حالات: الصلبة والسائلة والغازية. ويخبرونك أن المواد الصلبة تحتفظ بشكلها وحجمها، مثل الثلج؛ أما السوائل فتأخذ شكل الوعاء الموضوعة فيه، مثل ماء الصنبور؛ والغازات تملأ حيز الوعاء بالكامل، كما نرى مع البخار. لكن هناك حالة رابعة تسمى البلازما، وهي حالة معظم المواد المعروفة في كوننا (باستثناء المادة المظلمة، كما سنرى في الفصل الخامس). ظلت البلازما لفترة طويلة غير قابلة للرصد بسهولة على الأرض؛ لأن وجودها يتطلب درجات حرارة عالية للغاية أو مجالات كهرومغناطيسية قوية. ويُعَدُّ البرق أحد الاستثناءات الشائعة، حيث يمثل عمود بلازما يمتد من السحاب إلى الأرض.

في الشمس، تكون درجات الحرارة مرتفعة جدًّا لدرجة أن الإلكترونات السالبة الشحنة داخل الذرات تنفصل عن النواة الموجبة الشحنة، مما ينتج غازًا من الجسيمات المشحونة، يُعرف باسم البلازما. سيأخذ هذا الغاز المشحون كهربائيًّا شكل الحاوية التي يشغلها، إلا أن الجزيئات لا تكون حرة الحركة تمامًا بحيث تتجول مثلما هو الحال مع الغاز المتعادل؛ وعوضًا عن ذلك، تنجذب الجسيمات المختلفة الشحنة بعضها إلى بعض. ويكون الأمر أشبه بغاز يتكوَّن من مغناطيساتٍ صغيرة، في حالة تجاذب وتنافر إلى الأبد. وهذا يعني أن كثافة البلازما أعلى من كثافة الغاز العادي وتكون بطريقة أو أخرى ذات تدفق أو شكل مرن (كلمة «بلازما» مشتقة من كلمة يونانية قديمة تعني مادة قابلة للتشكُّل). تتوافق حالة البلازما مع كل من درجات الحرارة والكثافة المرصودة على الشمس، حيث لا يزال بإمكان البلازما أن تتصرف مثل الغازات عند معدلات كثافة عادةً ما تكون كبيرة بما يكفي للإشارة إلى وجود سائل.

أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الاندماج النووي على الأرض هو الوصول إلى درجات حرارة تصل إلى ١٥٠ مليون درجة مئوية من أجل تسخين البلازما بدرجة تكفي لحدوث الاندماج. لكننا لا نملك طاقة وضع الجاذبية الخاصة بالشمس، ومن ثَم تستخدم حاليًّا الطرق المستخدمة لتسخين البلازما كمياتٍ أكبر من الطاقة مقارنةً بالطاقة الناتجة عن الاندماج. ومع ذلك، يبدو مستقبل الاندماج مشرقًا بالنظر إلى أساليب التسخين المتزايدة الكفاءة الموجودة حاليًّا وتأسيس أول منشأة اندماج نووي على نطاق تجاري، وهو المفاعل التجريبي النووي الحراري الدولي (المعروف اختصارًا بمفاعل إيتير)16 في جنوب فرنسا.

ولادة نجم

هكذا أصبح لدينا أخيرًا نجم، يتناغم ضغطه مع قوى جاذبيته. ولكن لم يكن من السهل الوصول إلى هذه النقطة. فالعديد من السحب الغازية لم تصل مطلقًا إلى درجة الحرارة أو الكتلة المناسبة لموازنة قوى الجاذبية والضغط. يحدد هذا التوازن بدقة أي نوع من السحب هو النوع المحظوظ الذي سيسطع لمليارات السنين. يصل الحد الأدنى للكتلة إلى حوالي ٨٪ من كتلة الشمس، وهذه النسبة محددة جيدًا لأننا نعرف الكثير عن الطاقات اللازمة لإحداث اندماج نووي. قد تبدأ سحب الغاز الأصغر من حد الكتلة هذا في الانهيار، ولكن ببساطة لا يوجد ضغط كافٍ في مركز النجم لدمج ذرات الهيدروجين معًا. وبقدر ما يبدو الأمر واعدًا، فإن هذا النجم الأولي يخفق في إتمام مهمته ليصبح نجمًا فاشلًا، أو ما نسميه بالقزم البُني. والأقزام البُنية أكبر من أن تُسمى كواكب، وأصغر من أن تُسمى نجومًا، وتشير الأبحاث الحديثة إلى أنه قد يكون هناك ما يصل إلى قزم بُني واحد لكل نجمَين «حقيقيين» في درب التبانة.17 وهذا يعني وجود الكثير من السحب غير المحظوظة. فهي تتوهج في البداية بسبب الطاقة الصادرة بفِعل الانكماش الناتج عن الجاذبية، ثم تُترك لتبرد ويخفت سطوعها، وتستقر على هذه الحالة إلى الأبد.

لا يزال الحد الأقصى لكتلة النجوم موضوعًا مفتوحًا لمزيد من النقاش، لا سيَّما فيما يتعلق بالنجوم الأولى. فمن الناحية النظرية، كلما كان حجم النجم أكبر، ازداد تفاوت الضغط الإشعاعي في مركز النجم. والنجوم تحتوي على كميات كبيرة من الطاقة لدرجة تجعلها غير مستقرة، ويمكن أن يتسبب تغيُّر بسيط في الطاقة، ناجم على سبيل المثال عن تراكم سحابة غاز مجاورة، في حدوث تغييرات كبيرة في التوازن بين ضغط الجاذبية وضغط الإشعاع. ومن الناحية العملية، كلما زاد حجم النجم، زادت احتمالية ظهور ميول اضطراب عليه عند تعرضه لضغط، مثل أن يتمدَّد ويتلاشى فجأة أو ينهار فجأة. ولأن هذا السلوك لا يمكن التنبؤ به، فلا توجد قاعدة سريعة لتحديد الحد الأقصى لكتلة النجم، ولكن عندما ندرس النجوم من حولنا، نجد أنه من النادر العثور على نجوم تزيد كتلتها عن كتلة الشمس بمقدار ٥٠ مرة. لكن فيما يخص النجوم الأولى، فهناك سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأن الحد الأقصى للكتلة كان من الممكن أن يصبح أكثر استقرارًا عما نجده في تكوين النجوم الحالية. فالبيئة النقية التي تكوَّنت فيها النجوم الأولى أدت بطبيعة الحال إلى ظهور نجوم أكبر بكثير، ربما أكبر مئات المرات من كتلة الشمس، كما سنرى في الفصل السادس.

•••

تنشأ النجوم نتيجة تفاعُل شديد التوازن بين القوى المختلفة من جاذبية وضغط ودرجة حرارة، وهناك العديد من سحب الغاز التي أخفقت في توفير الظروف المناسبة لتكوُّن النجوم. في المراحل الأولى، تؤدي قوة الجاذبية المشتركة لسحابة من الذرات إلى تكثيفها. إذا لم تكن السحابة بدرجة الحرارة أو الحجم المناسبَين، فإن الطاقة الحركية للذرات سوف تتغلب بسهولة على قوة الجاذبية الأولية، مما يؤدي إلى تشتت الذرات. ولكن، إذا كانت الطاقة الحركية منخفضة بما فيه الكفاية، فسوف تستمر السحابة في التكثُّف، وتطلق الطاقة الحرارية والإشعاعية مع استمرار تناقص طاقة وضع الجاذبية. وإذا كانت السحابة ضخمة بما فيه الكفاية، فإن الضغط الداخلي سوف يحفِّز حدوث الاندماج النووي. وستندمج ذرتان من الهيدروجين معًا لتكوين ذرة أقل كتلة، مما يؤدي إلى إطلاق كمية هائلة من الطاقة. وتصبح هذه الطاقة أكثر من كافية لتفسير إنتاج الحرارة والضوء في النجوم، لكن الوقود لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.

يحول ضغطُ التفاعلات النووية دون الزوال الحتمي للنجم، مما يؤخِّر موعد انهياره. وتستمر هذه المهلة لفترة طويلة. فهناك كمية هائلة من الهيدروجين الذي يمكن أن يشتعل في النجم، وبما أن درجة الحرارة ترتفع في المركز، يمكن حدوث تفاعلات نووية أكثر تعقيدًا واحدًا تلو الآخر عند الوصول إلى الطاقة المطلوبة. يواصل النجم تحويل الهيدروجين إلى هيليوم بوتيرة منتظمة من خلال الاندماج، مما يحول دون انهياره ويساعد على إنتاج الضوء والحرارة التي نراها عندما ننظر إلى شمسنا. ولمئات الملايين من السنين أو ربما مليارات السنين، يمكن أن تسود النجم حالة من التوازن، حيث يكون كلا فريقَي شد الحبل في تناغم وانسجام. لكن لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر؛ لأن الجاذبية لا تكل ولا تمل أبدًا. وتواصل عملها باستمرار، وتكثِّف مجهودها الموجَّه إلى انهيار النجم. وعلى الرغم من وجود كميات كبيرة من الهيدروجين تكفي لإمداد ضغط الاندماج النووي المضاد بالوقود، فهي كميات محدودة. ويومًا ما ستنفد وستنتصر الجاذبية. في لعبة شد الحبل بين النجوم، لا يوجد سوى فريق واحد جدير بالثقة من بداية المسابقة وحتى نهايتها.

هوامش

* يتعين على رواد الفضاء أن يخضعوا لسنوات من التدريب، فضلًا عن شغلهم مناصب مرموقة غالبًا ما تكون في مجال القوات العسكرية. ومع ذلك، لا يزال بعضهم يحتفظ بروح الدعابة ويفاجئ الناس على كوكب الأرض. كان آلان شيبرد أول أمريكي يسافر إلى الفضاء، وفي عام ١٩٧١ أصبح الوحيد الذي لعب الجولف على سطح القمر. وباستخدام رأس مضرب متصل بإحدى أدوات جمع العينات العلمية، ضرب كرتَي جولف لمسافة قصيرة. ومع أن جاذبية القمر منخفضة بما يكفي لجعل لعبة الجولف على القمر رياضة واسعة النطاق، كان نطاق الحركة الذي تسمح به بدلته الفضائية صغيرًا، مما أدى إلى قصر الضربات التي يوجهها. في البعثة نفسها، أبولو ١٤، أجرى طيار مركبة الهبوط على القمر إدجار ميتشل تجربته الخاصة، في سرية بعيدًا عن قائده شيبرد ووحدة مراقبة البعثة. أرسل ميتشل صورًا ذهنية لأشكال عشوائية إلى أربعة زملاء على الأرض شاركوه تنفيذ التجربة، لإثبات وجود قوى ذهنية خارقة. لكن الأمر لم يفلح لأسباب عدة، أهمها أن أولئك الموجودين على الأرض نسوا ضبط الأوقات المحددة مسبقًا نظرًا إلى تأخر موعد الانطلاق.
في تجربتي الذهنية مع الحوت، أطلقتُ لفكري العِنان؛ حيث جعلت الحوت يبدو ببساطة مشبعًا بطاقة وضع الجاذبية.
كلمة «هيدروجين» مشتقة من كلمة يونانية تعني «مكوِّن الماء»، وقد أطلق عليه أنطوان لافوازييه هذا الاسم عام ١٧٨٣ نظرًا إلى الطريقة التي يكوِّن بها الهيدروجين جزيء الماء (H2O) عند اتحاده مع الأكسجين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤